أما الإبداع من كل ميدان … وإما التبعية
مقتطف وموقف [1]
مقدمة:
كان بودنا أن “نقتطف” المقال كله، لنضعه أمام قرائنا الثلاثمائة الذين لا نحسب أنهم قراء فصول، فقد كان بهذه الدراسة من الأمل والتحدى والوضوح ما يستأهل الوقوف فالحركة فالاستمرار، وهذا هو ما وصلنا “فى الوقت المناسب” ونحن نفكر فى التوقف.
ثم اننا شعرنا بوحدة هذا “العقل الواعى” بقدر صدقه، فقلنا نقف معه، ونقف منه، ونقف به، لعلنا نكسر وحدته فنؤنسه مثلما آنسنا، فلا شك أن هذا “الوجود المتقشف” هو عملة نادرة هذه الأيام، ولكنها – والحمد الله كثيرا – موجودة، ثم نقتطف ما نتفق معه، وما نتحفظ تجاهه، لتكون حركة، وليكون “وعيا مشاركا” :
المستوى الأول : موافقات
“تحديات” 4 “اما الابداع فى كل ميدان .. واما التبعية”
مق (1) “ان حضارة الغرب حضارة مختلفة، وعدوانية، ونحن حضارة وليدة بسبيل التكوين ..”
(مو) * أما أن حضارة الغرب مختلفة، فهى مختلفة (وان كنت احسب (أو آمل) أن يكون الكاتب قد قصد الحضارة المادية الأحدث بصورتيها الغربية (الأمريكية – غرب أوربا) والشرقية (روسيا – شرق أوربا).
وأما أنها عدوانية، فهى كذلك، بكل أنواع العدوان : الظاهر : بالاحتلال العسكرى والاعلام الترفيهى والتحذير الاستهلاكى والتكبيل بالديون .. الخ والعدوان الخفى : باحتكار طرق التفكير، وفرض مناهج البحث، وتحديد مستوى اللذائذ، والايهام بقدسية التراث، والالهاء بالدين الساكن … وكل ذلك يخدم عدوانيتها الهادفة الى “سحق كل ما ليس كذلك”.
مق ([2]) “… لا ابداع بغير ارادة ..
….. مستوى ارادة الرؤية الجديدة الجذرية شمولا …، (ثم) ارادة رفض الوضوح الكاذب، فعلى الابداع الفلسفى المصرى أن يصر على رفض ما هو فى أعين الأكثرين، بل فى أعين الجميع، وضوح كالشمس، من نحو واحدية الحضارة، ووحدة العصر، ووحدة العقل، وضرورة الخضوع للغرب (وأى أخذ بأفكار الحضارة الغربية وقيمها، والتعلق بها أى تعلق، هو خضوع للغرب مهما حاول المسفسطون..”.
(ثم يفصل المقال ذلك (ص 24 (وهو يعدد الأخطاء والأوهام : (1) وهم أن الانسانية كيان قائم (2) أو أن العقل واحد (3) أوأن العصر واحد …. الخ).
(مو) ونقف أمام تعبير “الابداع الفلسفى المصرى” آملين حزانى دون تعليق، كما نقف أمام الاستدراك “بل فى أعين الجميع”، لنتأكد من وحدة صاحب هذه الرؤية رغم الأمل الملح، ونتفق مع هذه التحذيرات الواعية، وندعو لقياس كل محاولات تحديث التراث بهذا المقياس، اذ نشاركه ملاحظة أن غاية آمال معظم التخصصات (بما ذلك تفسير القرآن) كادت تصبح هى محاولة اثبات أننا “نحن أيضا كذلك” أو أننا قد سبقناكم (للغرب) الى “ذلك”، وكأن هذا الــ “ذلك” هو الحقيقة الوحيدة الباقية والثابتة والرائدة .. الخ، ولابد من التنبيه هنا الى محاولات “زكى نجيب محمود” الوصول الى تسوية سلمية نحسب أنها أضرت أكثر مما نفعت، لأنه اضطر اضطرارا أن يشق وجودنا الى “علم” (هو غربى بالضرورة، ويشمل الفكرأيضا!!) ودين (أو وجدان) : ندركه بوسيلة أخرى، غير العقل وغير التفكير .. الخ، وقد ارتاح الناس لهذه التسوية رغم سطحيتها وخطورتها لكن هذا المقال يدعونا الى بداية مختلفة تماما، اذ لابد من موقف آخر، واقتحام آخر، بترتيب آخر، حتى نكتشف معارفنا بكلية جذرية، وليس بحسابات القص واللصق.
مق (3) “… اذا صرفنا النظر عن بديل ينادى به قوم تبلدت حاستهم التاريخية، وكادوا أن يكونوا قد فقدوا صلتهم بعالم الواقع، وهو بديل الذوبان فى المحاولات الماضوية، فلا يكون أمامنا الا بديلان : أما الابداع فى كل ميدان، وأما التبعية للغرب، تبعية مطلقة ودائمة..”
(مو) وقد كنا نشك كثيرا فى وظيفة الترويج لهذه الجماعات الدينية ، حتىحسبنا أن وظيفتها “هكذا” هى فى نهاية النهاية تعميق لأشكال التبعية، فاذا تعودنا التبعية وسكون الوجود، فليس مهما بعد ذلك من نتبع، لأننا اذا استهلكنا قديمنا اتباعا (كما هو دون أن نبدعه) وهو هالك لا محالة باختيار الزمن، فسوف نواصل ممارسة تبعية اعتدناها، فنعود نتبعهم حرفيا، بعد أن كنا نتبعهم عكسا (بوهم أنا نتدين فى الاتجاه العكسى وهو نفس الاتجاه مع تغير اللون) ونحن لا نعمم ذلك على كل الانتفاضات الاسلامية المواكبة، بل أن أكبر صيحة اسلامية حديثة فى ايران تحتاج نظرة أعمق من الدعايات المروجة، والمضادة على حد سواء، اذ لابد أن فى هذه الموجة شيئا أعمق بكل مقياس، هذا الشئ هو الذى جعل هؤلاء القوم “يستمرون” هكذا فى مواجهة العالم كله، وقد لمحت بعض معالمه فى رفض “موسوى” زيارة قبر أتاتورك، وقيامه بزيارة “جلال الدين الرومى” (علما بأن أغلب أهل السنة يكفرون الأخير، وابن عربى (بالمرة) وأنا لا أتصور أن ثمة استمرار الا بهذا الشئ الأصيل، وسط وبرغم حمامات الدم وهيراركية البشر “آيات أو أرواح الله”، وكل ما أريد أن أنبه اليه هنا هو حقيقة “الاختلاف النوعى” الذى تفتقده جماعاتنا الدينية التى لا تعد – بهذه الصورة – الوجه الآخر للحضارة الغربية، أوالأداة السرية للتسليم فى النهاية للغرب … ولكن عزت قرنى حين يضع الأمر – متحديا – هكذا “… اما الابداع فى كل ميدان، واما التبعية للغرب، تبعية مطلقة ودائمة “حين يضعه هكذا فانه لا يستثنى ميدان الدين – بداهة – من ذلك،
(وهذا ما يقرره صراحة فى المقتطف التالى)
مق (4) “… فأن دعاوى “تحديث التراث” واكتشاف مذاهب معاصرة غربية، فى نصوص من التراث، واعادة التفسير العصرى المزعوم …. كل ذلك زيف وجهد عقيم، يقوده اما جهل مقيم أو مكر عظيم”.
(مو) لا نملك الا الشكر بالموافقة الفاعلة اليقظة المسئولة (كما أسلفنا)
المستوى الثانى : تحفظات
مق (5) “…. وينطبق على الابداع المبدأ المهم الذى تقول صيغته :
الكل أو لا شئ، وهو ما يعبر عنه بصفة الكلية، مأخوذة بهذا المعنى، فالابداع الحقيقى يمس الميدان كله بالضرورة، فلا تتصور شاعرا مبدعا حينا ومقلدا أحيانا، أو فيلسوفا مبدعا فى جانب وتابعا فى جوانب، ولا مجتمعا خالقا فى ميدان وتابعا لأسياده فىميادين”
(مو) ونحن نتحفظ قليلا أو كثيرا ضد هذه المقولة، اللهم الا اذا كنا قد اسأنا الفهم، ذلك أن حاجتنا للابداع، ودعوتنا الى الابداع فى كل ميدان (ومن كل فرد كائنا من كان) لا تتفق مع هذا التعميم الذى يبدو وثقانيا، فالشاعر المبدع قد يهمد ابداعه احيانا ويتقد أحيانا، وقد يبدع قصيدة واحدة كلية حقيقية طوال حياته، كذلك الفيلسوف يتراوح ابداعه مع تراوح نبضه الحيوى، وظروف تحديات وجوده، والفرص المتاحة … الخ، وقس على ذلك ونحن نقدر اندفاعة الكاتب المخلصة، لكننا نذكره بما استشهد به، ونتمادى لنزعم أن عثمان أمين – مثلا – كان يخف ابداعه (الكلى الجذرى) كلما اقترب من محظورات مقدسة.
ونحن نتصور أن موقفا أكثر تسامحا – مع الالتزام المبدئى المطلق – هو قادر على أن يلتقط ارهاصات الابداع الفردية من هنا وهناك، وهو يضع فى الاعتبار صعوبات البدايات وسحق المختلف، وحين نتخطى – مجتمعين – الحد الأدنى للوجود النوعى المتميز، قد يصح أن نطلق هذا التعميم على المجتمع ككل وليس على فرد بذاته.
ولعلنا نلتمس للمفكر النابه عذرا آخر، اذ نتصور أن تمسكه بهذه الاندفاعة “الكل أولا شئ” هو يرجع اساسا الى اصراره على الموقف الاساسى من قضية الابداع، بمعنى : اما أن نبدع أو لا نبدع، أى أنه ليس هناك حل وسط بين الانبعاث المختلف نوعيا، وبين التقليد والتبعية (فى الجوهر وليس فى الأدوات).
مق (6) “…… ومنها (الشروط المنهجية) … رفض كلمة الفلسفة ذاتها، مادامت سوف تؤدى بنا الى وهم واحدية العقل والثقافة، واستخدام تعبير الأصوليات بدلا منها”.
(مو) ولابد من وقفة هنا أمام هذا الاقتراح الشجاع، فاذا كانت كلمة “فلسفة” قد امتهنت حتى ترادفت مع “تاريخ الفلسفة” أو “تسميع نصوص الفلسفة” أو “تدريس نظريات فلسفة” أو حتى “علم الفلسفة” أو “شرح الفلسفة”، اذا كان ذلك كله قد دفع مفكرنا لرفض الكلمة، ونحن نتفق معه، لكننا لا نتصور أن كلمة الأصوليات المقترحة مناسبة ذلك لأن صفة “الأصوليين” (الاسلاميين) انما تطلق (حاليا) على التقليديين من المسلمين المتزمتين (وخاصة فى المغرب العربى) واذا أصر مفكرنا على كلمة غير الفلسفة، فلتكن “الابداعية الجذرية” أو “المعرفية الكلية” من واقع دراسته أو لتكن “الكلية الطازجة المعرفية” أو “الوجدانية المتجددة” أو غير ذلك مما لا ندرى (علما بأن أيا من كل هذا لا يروق لنا).
[1] – من مقال “دراسة” د. عزت قرنى بعنوان : الابداع الفلسفى وشروطه : نظرة الى المحاولات، واستشراف المستقبل مجلة فصول، (المجلد السادس) عدد يوليو / أغسطس / سبتمبر 1986 (صدرت فى يونيو 1987).
[2] – سنرمز للمقتطف بـــــ “مق”، وللموقف بــــ “مو”.