قضية المعنى .. والعلاج النفسى
د. رفعت محفوظ
- ما معنى الحياة؟ ما معنى حياتى أنا؟ لماذا أعيش؟ لماذا خلقت فى هذه الدنيا؟ من أجل ماذا أعيش؟ أذا كان لابد لى أن أموت، ولا شئ يدوم، أذن ما معنى أى شئ؟ ماذا بعد النجاح والشهرة والمال والزواج والأولاد؟ هل يوجد أى معنى فى حياتى لا يتحطم بالموت المحتوم؟
هذه أشكال متعددة لسؤال رئيسى يقبع داخل كل فرد منا: لماذا يجب أن أعيش؟ لماذا فى أى شئ؟ لماذا أفعل أى شئ؟
فى بعض الأحيان يذهب الشخص الى الطبيب النفسي، أو المعالج النفسى بصفة عامة، بغرض أن يسأل هذه الأسئلة فقط ومباشرة لعله يجد الأجابة عنها، وفى أحيان أخرى تكون الشكوى من فقد الاحساس بأى معنى لحياته ضمن شكاوى أخري، وبعض المرض لا يعلنون فقدان الاحساس بمعنى حياتهم الا اذا سألهم المعالج اسئلة تتعلق بهذا الموضوع، والبعض الآخر لا يشتكون مباشرة، ولا يجيبون بطريقة واضحة عن الأسئلة المتعلقة بمعنى حياتهم، ولكن نوع الاضطراب الذى يعانون منه يشير الى فقدان المعنى فى الحياة.
والسؤال الآن اذا كانت هذه القضية عامة وأساسية، فهل يعطيها كل معالج للنفس الاهتمام الذى تستحقه مع كل مريض يطرق بابه طلبا للمساعدة؟ هل النظريات والممارسات الطبنفسية السائدة فى وقتنا الراهن تأخذ هذه القضية الكيانية الحيوية بعين الاعتبار؟
وهل يهتم المعالج النفسى – بالمعنى المحدد- بهذه المشكلة بحيث تصبح محورا هاما فى التنظير والممارسة أم أنها تعامل بطريقة هامشية؟
أعتقد آن الأجابة عن هذه الاسئلة تدعو للأسف، وهنا يثار الكثير من التساؤلات حول أسباب ذلك:
- هل النموذج الطبى العلمى بالمعنى الضيق المختزل – وهو النموذج السائد الآن فى النظرية والممارسة فى مجال الطب النفسى -، وأهماله للمفاهيم الأساسية المتعلقة بحقائق الوجود البشري، هو المسئول؟
- هل هى الدراسات المنهجية الوضعية التى تسعى الى قياس الظواهر الانسانية بطريقة كمية محددة، وبالتالى اضطرارها الى التسطيح والاختزال والعزل حتى تستطيع ذلك؟
- هل الدراسات والأبحاث الكيميائية المعملية أنست الباحثين والممارسين البحث عن الأهداف الحقيقة للوجود الانساني؟
- هل غياب جهود حقيقة فى مجال التنظير عن محاولات التأليف والتكامل بين المعرفة عن الانسان التى حصل عليها من خلال التناول الدينامى والتركيبي، وبين المعلومات التى توصلت اليها الاتجاهات الأخرى المعملية ساهم فى ذلك؟
- هل الفشل فى اثبات فائدة العلاج النفسى – كوسيلة علاجية محددة – بطريقة كمية واحصائية – وهى لغة الأبحاث السائدة. جعل الممارسين للطب النفسى يشكون فى جدواه، ويبعدون عن محاولته، وبالتالى اختزال كل ما ينطق به المريض الى لغة الأعراض والأمراض النفسية المتعارف عليها حتى يسهل التعامل معها؟ وهل ساهم ذلك فى عدم الاهتمام بقضية المعنى فى الحياة؟
- هل وجود وسيلة سهلة وسريعة – وهى العقاقير النفسية – فى متناول يد الممارس للطب النفسي، أدى به – ومن منطلق استسهالى و سوء استعمال الى الهجوم السريع والمكثف على المريض بهذه الأسلحة حتى يكف عن تساؤلاته وحيرته وقلقه وبحثه وشكواه، وبالتالى عدم مواجهته والبحث معه عن وسائل أخرى -مع العقاقير أوبديلة عنها – للخلاص؟
- وهل يأخذ الطبيب النفسى هذا الموقف – أساسا – دفاعا عن نفسه، حتى لا تثار فى داخله – نتيجة لمواجهة وسماع المريض – نفس هذه التساؤلات، ونفس نوع القلق الوجودي، وبذلك لا يضطر الى إعادة النظر والرؤية فى حياته هو ومعنى هو؟
- هل موقف المجتمع الأوسع فى اجماله، ونوعية وجوده، والحياة السائدة فيه، ونوع قيمه، مشارك فى البعد عن هذه القضية بصفة عامة، وفى مجال علاج النفس بصفة خاصة؟
كل هذه التساؤلات وما شابهها وغيرها ـ حسب وجهة النظر ـ تثار عند المتأمل لنوع ومستوى الممارسة فى مجال علاج النفس فى وقتنا الراهن، وبعد هذه الممارسة عن النظر فى الأبعاد الوجودية – كقضية المعنى فى الحياة – لمشاكل المريض النفسي.
والهدف من هذا المقال، هو محاولة لفت أنظار الممارس للطب النفسى أو المعالج النفسى بصفة عامة، والقارئ كذلك وأصلا، الى هذه المشكلة الكيانية، والتى يقابلها يوميا فى ممارسته، ومع كل مرضاه على السواء.
وسوف أحاول أولا أن أقدم تعريفا للمعنى فى الحياة لكى يكون هو منطلقى لتوضيح أهمية هذه المسألة فى حياة الكائن البشري، ثم أتناول فى الجزء الثانى الاجابة عن السؤال الهام: كيف تصبح حياة الشخص ذات معني؟ أما النقطة الثالثة من المقال فستوضح بعض المظاهر الهامة لفقدان المعنى فى الحياة، وأخيرا تأتى الاشارة الى الخيوط العامة لكيفية تناول العلاج النفسى لهذا البعد الوجودى فى حياة المرضي.
أولا: المعنى فى الحياة ومدى أهميته للانسان:
1ـ تعريف
أن أوجز تعريف للمعنى(Meaning) هو: الترابط والاتساق والانسجام، فى اتجاه.. وهذا هو ما توحى به اللفظة الانجليزية Coherence .
وهذا التعريف من المرونة بحيث يضيق ويتسع تبعا لموضوع وانطلاقا منه يمكننا أن نقول أن معنى حياة شخص(Meaning of the Person Life) هو: الاطار العام فى داخله، الذى به ومن خلاله تلتحم المفردات والأجزاء وتتناغم مما يكسبها صدقها وفعاليتها واتجاهها.
2 ـ أهمية المعنى فى الحياة:
على ضوء التعريف السابق، فأننا نستطيع أن نوضح الأهمية القصوى لمعنى فى حياة على النحو التالى:
(أ) أن وجود معنى لحياة المرء يعنى وجود قوة داخلية ضامة ومنسقة ودافعة وموجهة.
(ب) لكى تكون للمعنى فى الحياة كل هذه الفعالية، على الشخص أن يعيشه ويخبره ويملأ كيانه به.
(جـ) هذا الاطار العام الداخلى للمعنى فى الحياة هو الذى يعطى سلوك الفرد، بأنواعه وأشكاله المتعددة، معناه ووظيفته وغايته. وفى داخل هذا الاطار العام تترتب الأهداف والغايات فى الحياة حسب أهميتها الوجودية.
(د) الاحساس بمعنى الحياة هو الذى يولد القيم، أى الآسس التى يبنى عليها الفرد أفعاله ونشاطاته وأحكامه، ومن خلال الالتزام بهذه القيم فان احساس الفرد بمعنى حياته يزيد ويتعمق.
(هـ) المعنى فى الحياة – بهذا المفهوم – يرتبط ارتباطا مباشرا بنوع القائم عند الشخص، من حيث مساحته وعمقه وفعاليته. ومن هنا فان معنى الفرد يرتقى ويتطور مع نمو وعيه، أى مع نموه وتطوره ودرجة تكامله كانسان.
(و) معنى حياة الشخص هو الذى يحدد نوع وجوده فى هذه الدنيا، من حيث أنه يحدد نوع علاقته بالمعنى العام للحياة أو المعنى الكونى الشامل الذى يحيط به.
(ي) المعنى فى الحياة، كقوة داخلية ضامة ومنسقة ودافعة وموجهة، وهو شئ أساسى للمحافظة على حيوية المخ البشري، واستمرارية وكفاءة التنسيق والتفاعل بين مستوياته التركيبية المتعددة، بما يتيح إعادة التنظيم والتكامل والتلاحم بين هذه المستويات. وهذه العملية هى الأساس البيولوجى لنمو وتطور الكائن البشري.
آذن فلا غرابة فى أن يقال أن وجود معنى لحياة الفرد هو شئ أساسى وجوهري، وأن الجهاد والسعى لاكتشاف معنى حياته يعتبر الدافع الأول والأساسى عند الانسان، وأن هذا ما يميزه بما هو انسان.
3ـ معنى الحياة أو المعنى الكونى:
عندما بتساءل الشخص عن معنى الحاية بصفة عامة (Mesning of Life)، فأنه بذلك يتساءل عن المعنى الكونى، أى هل الحياة بصفة عامة، والحياة البشرية بصفة خاصة، تقع فى سياق نظام عام شامل مترابط له غاية وهدف؟. وأهمية ذلك أن الشخص الذى يحس بوجود نظام كونى له معنى وغاية، يمتلك الاحساس بوجود معنى لحياته هو، وهو التناسق والتناغم مع هذا النظام الكونى ومعناه، وبذلك تصبح الحياة بمثابة سيمفونية عظيمة لكل فرد فيها دور فى العزف على ألة محددة، ويصبح قادرا، بدرجة أو بأخري، أن يعيش فى وئام مع فطرة الوجود الكبير من حوله.
ويقدم لنا الدين معنى شاملا وكاملا لهذا الكون، مبنيا على أساس أن العالم والحياة البشرية جزء من خطة كاملة، وهذه الخطة الهية الصنع، محكمة ومتقنة وغائية، وتخضع لسنن وقوانين الهية كونية، وما المرء الا لبنة فى بناء هذا الكون الفسيح، ومهمته فى هذه الدنيا هو أن يؤكد ،يحقق ارادة الله، ذلك من خلال سعيه المتصل الى وجهه الكريم.
ثانيا: مصادر المعنى فى حياة الانسان
مما لا شك فيه، أننا لو نظرنا حولنا، لقابلتنا نماذج بشرية عديدة، لها علاقات قوية بالحياة، ولوجدنا أن لحيواتهم قيمة وهدف ومعني، مما يجعلهم يناضلون فى الحياة، وتصبح لديهم القدرة على تحمل مشقاتها ،صعابها، وسوف يتضح لنا أن معنى حياتهم الذى اكتشفوه من خلال السعى والحركة المستمرة،يمثل قوة دفع هائلة، تشدهم دائما الى الأمام، والنظر الى المستقبل، مع القدرة على تحمل تحديات الحاضر. ولو تأملنا بعض جوانب نشاطهم فى الحياة، لرأينا الكثير مما ساهم فى أن يصبح لحياتهم معني، ولحركتهم فى الحياة هدف، ولمسيرتهم قيم تتحكم فى توجيه مسارها. وسنسوق هنا بعض هذه الجوانب، علنا نتعلم منها، ،نتأملها لكى نتغير من خلالها.
1 ـ حب الغير:
من المؤكد أن حب الآخرين يمثل مصدرا هاما للمعنى فى الحياة، فالاعتقاد بأنه من الخير أن تعطي، وأن تكون مفيدا ونافعا للناس، يمثل معينا لا ينضب لاحساس الفرد بأن لحياته معنى وقيمة.
2ـ التفانى فى خدمة قضية انسانية عامة:
أن تكريس الوقت والجهد لخدمة قضية ما (سياسية، أو دينية، أو علمية… الخ) يعطى المرء الفرصة فى أن يساهم فى شئ أكبر وأوسع وأشمل، وبذلك يتعالى على ويتجاوز حدود ذاته الفردية، وينمى فى نفسه حب الغير، ويعطيها المجال العملى لاظهار الامكانات الهائلة، والقدرة على المشاركة فى عمل شئ نبيل وشريف له صفة الاستمرار بعد موته كفرد.
3 ـ الابداع:
أن تبدع شيئا يتسم بالأصالة والاتساق والتناغم، هو شئ قوى ضد الاحساس باللامعني، وعلينا أن ننتبه هنا الى أن الابداع يبرر نفسه وفى حد ذاته، وأنه يتحدى السؤال القائل من أجل ماذا؟ فهو فى نفسه يبرر سبب وجوده. كذلك علينا أن نأخد فى الاعتبار أن كل عمل وسلوك فى هذه الحياة من الممكن أن يتناوله الشخص بطريقة ابداعية خلاقة، أى أن الابداع هنا لا يقتصر على الانتاج الأدبى والفنى والعلمي، أنما يتسع مفهومه ليشمل حياة الفرد بأكملها. والابداع يضيف شيئا جديدا الى الحياة، ويساعد الشخص على أن يكتشف فى نفسه امكاناتها الكامنة، التى يسعى الى تحققها، وهو بذلك يتخلق ويتجدد وينمو من خلال سلوكه المبدع. ويشترك مفهوم الابداع مع مفهوم الابداع مع مفهوم حب الغير فى جوانب أساسية، فمن خلال الابداع يطور الشخص ويحسن وضعا ما فى الحياة مما يعود بالنفع على الآخرين، كذلك، وعن طريق الابداع – فى التربية فى مجالاتها المتعددة مثلا – يستطيع المرء أن يظهر الى الوجود جانبا هاما فى انسان آخر، كى يتحقق فى سلوك يومي، وهذا ركن هام من الحب الناضج والعلاقة الحقيقية بالناس، وهكذا يلعب الابداع دورا هاما فى تأكيد وفعالية الحب للآخرين.
4 ـ السعى الى تحقيق الذات:
الاعتقاد بأن الانسان يجب أن يسعى ويناضل من أجل أن يحقق نفسه بامكاناتها الهائلة والمتعددة يعتبر مصدرا هاما لاضفاء المعنى على حياة الفرد، فهذا عليه أن يتفانى لكى يحقق ويظهر الى الوجود الامكانات الداخلية الطبيعية التى وهبها الله له وولدت معه، مع العلم بأن الانسان يملك فى داخله ميلا ونزعة نحو النمو النفسى والتكامل، وكذلك ميلا ونزعة الى تجاوز التركيز على نفسه وشخصه، وكفاح من أجل شئ أوسع وقضية أعم وأشمل من نطاق ذاته، وكأن المرء يبدأ بذاته من أجل أن يتجاوز حدودها ولا يظل مشغولا بها، وتمام تحقيق الذات لا يسير فى طريق الكمال الا بتجاوزها فى مرحلة ما من العمر، بحيث تتسع تدريجيا دوائر الاهتمام الخارجة عن نطاق هذه الذات.
وتجدر الاشارة هنا الى نقطتين هامتين، الأولى متعلقة بموقف الدين، حيث نجد أنه فى جوهره الايمانى يؤكد على الأبعاد والنشاطات والقيم التى وردت هنا كأمثلة من السلوك الانسانى الذى يساعد الفرد على أن ينمى احساسه الايجابى بمعنى الحياة، فهو يؤكد على حب الغير وخدمته والاخلاص له، والتفانى فى القضايا الشريفة العامة التى تخص مجموعات ودوائر واسعة من البشر، والسعى المتصل الدؤوب لكى تتحقق وتظهر الى الوجود الامكانات الطبيعية التى وهبها الله للانسان، مما يرجع بالفائدة على الشخص نفسه وعلى المحيطين به، على أن يكون فى كل ذلك مبدعا خلاقا مجددا.
أما النقطة الثانية التى تستحق الاشارة اليها فهى نتائج الأبحاث المتعلقة بقضية المعنى فى الحياة. فعلى الرغم من صعوبة البحث العلمى المنظم فى هذا المجال، فأن الأبحاث القليلة التى أجريت، وبالرغم من المآخذ الكثيرة عليها، تشير الى الآتي:
1 – الاحساس بالمعنى فى الحياة يرتبط ايجابيا ويتزامل مع كل من:
التمسك العميق بالمعتقدات الدينية – القيم التى تتجاوز حدود الذات الفردية – تبنى أهداف واضحة فى الحياة، والأخلاص لقضية ما، والانضمام لمجموعات من الناس تعمل من أجل أهداف واضحة وقضايا عامة.
2 – النظر الى هذه القضية من منظور تطورى ارتقائى حيث أن المعنى فى الحياة يتغير ويتطور على مدار دورة حياة الفرد. ففى خلال مرحلة المراهقة ومراحل الشباب الأولى والمتوسطة تتركز اهتمامات الفرد على ذاته، ذات معالم متميزة وواضحة، وأن يقيم علاقات صحيحة وحقيقية مع الآخرين من حوله، وأن يصبح قادرا ومتمكنا من حرفته ومهنته فى مجال العمل. وبعد النجاح، بدرجة أو أخري، فى هذه المجالات الثلاث، يجد الشخص معنى لحياته من خلال تجاوز حدود ذاته الى الاهتمام الحقيقى والأصيل بالآخرين ومن أجلهم، مع التأكيد على الأجيال القادمة.
وخلاصة ذلك، أن العمل على حل مشكلة احترام الذات وأحقيتها فى الحياة وبناء أنوية واضحة المعالم يأتى أولا، وعندئذ يصبح الشخص قادرا على أن يعى ويطور معنى حياته. وما يجب أو نؤكد عليه هنا هو الآتي: (أ) يوجد دائما هدف أساسى يسعى الشخص ويجاهد من أجل تحقيق. (ب) كل هدف يرتبط بمرحلة من مراحل العمر المتعاقبة. (جـ) النجاح فى تحقيق هدف يرتبط بمرحلة معينة يفضى بالضرورة الى التوجه الى هدف المرحلة القادمة. (د) أن هناك حبلا واصلا، لا حدودا فاصلة، بين مراحل العمر المختلفة وما يقابلها من أهداف، وهذا الحبل الواصل ليس سوى المعنى فى الحياة الذى يتغير ويتطور وينمو مع مراحل العمر المختلفة.
ثالثا: مظاهر فقدان المعنى فى الحياة
أن نقص الاحساس بالمعنى فى الحياة، أو فقدانه، له مظاهر كثيرة ومتنوعة، وتعتمد هذه المظاهر على عوامل متعددة، وعلى المرحلة التى نقابل فيها الشخص الذى فقد هذا الاحساس، وعلى السياق الذى نقابله فيه، سواء فى الحياة العامة، أو داخل العيادات النفسية. والشئ الهام هنا، هو أن الوعى بهذه المظاهر من قبل الملاحظ لها، يعتمد على مفهومه هو لحياته ومعناها، وعلى الزاوية التى ينظر من خلالها الى هذه المظاهر، وفى حالة المعالج النفسي، تعتمد ـ بالاضافة الى ذلك ـ على كيفية تنقيبه وبحثه وفحصه لمريضه من خلال هذا البعد.
1 ـ المظاهر فى الموقف العلاجي:
اذا أحسن الطبيب النفسي، أو المعالج النفسي، الانصات الى مرضاه، ولم يتسرع فى الحكم والتشخيص، فأنه سوف يكشف أن فقدان المعنى فى الحياة يكمن وراء نسبة عالية من الأمراض النفسية، فضلا عن أنه سوف يجد الشكوى من ‘نقصان المعنى أو اللا معنى فى الحياة’ متواترة فى كلام المرضي، وأنها تأخذ صورا وأشكالا عديدة، منها على سبيل المثال قولهم:
’ أنا حاسس أنى عايش بدون هدف – أنا مش حاسس أن حياتى لها معنى ـ أنا مش شابف حاجة فى حياتى أعيش عشانها – أنا مش حاسس أن فيه حاجة فى حياتى تشدنى وتخلينى أبص لقدام – أنا مش شايف أن حياتى لها ا تجاه واضح – أنا ماشى فى الدنيا زى الناس ما هى ماشية، وبعمل زيهم، أو زى ما يطلبوا مني، بس مش حاسس أنى أنا موجود فى كل ده ـ أنا حاسس أنى بشتغل زى المكنة وحياتى مبقلهاش طعم ـ أنا حاسس أنى فاضى من جوايا، ولو اتسبت لوحدى مش هلاقى أنى عايز أعمل حاجة’.
وهذه الشكاوي، وغيرها، يأتى بها المريض الى المعالج النفسى فى المراحل الأولى لفقدان المعنى فى الحياة، وذلك عندما تصبح لديه مشاعر صريحة، ورؤية واضحة، بعدم الجدوى واللامعنى فى حياته، أو ما يسمى ‘بالفراغ الوجودي'(Existential Vacum) ، ولكن اذا لم تتكون لديه هذه الرؤية، وتأخر وصوله الى المعالج النفسي، فأنه سرعان ما تنشأ الأعراض المرضية النفسية، لتؤدى وظيفة ملأ هذا الفراغ الوجودى أو فقدان الاحساس بمعنى الحياة، وهذه الأعراض تعنى ـ وفى نفس الوقت ـ رغبة معوقة ومجهضة فى البحث عن معنى للحياة، وكل هذا يتكشف أمام المعالج الذى يبحث عن وظيفة الأعراض النفسية، والنظر الى محاولاتها فى سياق حياة الفرد.
2 ـ المظاهر فى الحياة العامة:
وأذا نظرنا حولنا فى الحياة العامة، فأننا سوف نجد مظاهر متعددة لهذا المرض الوجودي، أى الاحساس باللامعنى فى الحياة، ومن أكثر هذه المظاهر تواترا الانغماس القهرى والمسعور فى نوع من النشاط يستهلك كل طاقة الفرد، ولا يترك له الوقت أو الجهد لكى يتأمل ما يفعله، ويواجه قضية معنى حياته، وهنا نجد أن حياة الفرد تتمركز وتدور حول هدف زائف، وكأنه بهذا يهرب من مواجهة نفسه، ويعمى عن قضيته الأساسية فى الوجود، وبذا تصبح حياة الفرد كلها نوعا من الدفاعات النفسية المعطلة عن الرؤية والتغير والنمو. والخطورة هنا تكمن فى أن هذه الأهداف والأعمال والنشاطات الزائفة والدفاعية، معرضة – بطبيعة الحال – للانهيار أمام المأزق الحادة فى الحياة.
ونجد أمثلة لهذا ‘ التمركز الزائف لحياة الفرد'(False Centering of Life) عند الأشخاص الذين يبحثون عن معنى لحياتهم من خلال: المركز الاجتماعي، والجاه والوجاهة فى المجتمع، أو امتلاك التروة، أو السلطة والقوة، أو الانغماس فى اللذة الحسية… الخ. وبدلا من أن يوضع كل ذلك، أو بعضه، كوسيلة لهدف أبقى وأنفع. فأنه يطلب لذاته بحيث يبدو أنه هو الهدف ولا شئ سواه.
وهناك نوع خاص من النشاط القهرى المسعور، والذى يتعلق به الشخص كنوع من تكوين رد الفعل استجابة لاحساس عميق باللاهدف واللامعنى فى الحياة، حيث يتعلق الفرد بقضية ما أو نشاط معين بغض النظر عن المحتوى أو الهدف، وعندما يفرغ من ذلك، فأنه يسعى الى التعلق بنشاط آخر بنفس الطريقة، وهكذا…..
والمثال الأخير، الذى أحب أن أذكره هنا، هو ما يسمى ‘بالعدمية’، وهنا يقلل الشخص من قيمة أى حركة فى الحياة، وتتجلى نزعته النشطة الى أن يصف أفعال الآخرين بأنها غير ذات معنى أو فائدة.
3 ـ منتصف العمر وأزمة المعنى فى الحياة:
يمثل منتصف العمر أهمية خاصة فى سياق المعنى فى الحياة، اذ أنه من المفترض أن الشخص عندما يصل الى هذه المرحلة، يكون قد حقق نجاحاته الشخصية فى الحياة (المهنة، المال، الزوجة، الأولاد،… الخ) وهنا يصبح فى أشد الاحتياج الى أن يتخطى امتداده البيولوجى (الأولاد) الى الامتداد بمعناه النفسى والاجتماعي والذى يتمثل فى الالتزام بقضية بشرية عامة تتجاوز الاحتياجات المباشرة للحاضر، ويكون فى حاجة الى البحث عن مصادر أخرى جديدة للاحساس بالمعنى فى الحياة، أى يجب أن يكون قد أعد نفسه لتوجيه الطاقة لأدوار جديدة، ونشاطات مبتكرة.
فأذا لم يعد الشخص نفسه لهذه المرحلة، واحتياجاتها ومهامها التطورية، وأذا لم تسعفه نشاطاته الدفاعية القهرية (مثل الاسراف فى العمل) على الهروب من التساؤل الحيوى الرئيسي؟ لماذا أعيش فأن الأرض التى يقف عليها تهتز من تحت قدميه، وتختلف حدة هذه الهزة من شخص الى آخر، حسب قربه أو بعده عن نفسه، وقربه وبعده عن قضايا وجوده الحقيقية (مثل المعنى فى الحياة).. وهنا يواجه الشخص قضية المعنى فى الحياة بطريقة جادة، مما يطلق عليه ‘أزمة منتصف العمر’ أو ‘اكتئاب النجاح) أو’اكتئاب سن اليأس’ .. الخ.
وهناك بعض الأحداث التى قد تسرع من ‘ أزمة المعنى فى الحياة’ فى هذه المرحلة الحرجة من دورة حياة الانسان، نذكر منها على سبيل المثال:
(أ) سرعة النجاح فى تحقيق الاحتياجات الشخصية بالمعنى المادى المباشر، مع عدم وضع هذه النجاحات فى اطار يعطى لها معنى يتطور بصورة مستمرة مع استمرار النجاح وتحقيق الأهداف.
(ب) مواجهة الموت بشكل أو بآخر، وتكتسب فكرة الموت أهمية خاصة فى منتصف العمر، ،أذا لم يعيها الشخص ويستوعبها على أساس أنها جزء من عملية حياته، فأنها تصبح مصدر قلق وازعاج شديدين.
(جـ) خبرة معاشة تضع الفرد وجها لوجه أمام موقفه فى الوجود، وهذه الخبرة يكون لها من العمق والقدرة على اظهار الطبيعة الزائفة للكثير من الأعمال والنشاطات التى كان الفرد يتصور أنها تعطى لحياته قيمة ومعني.
(د) عندما يكتشف الفرد الطبيعة النسبية للقيم التى كان يعتنقها، ويعتقد فيها على أنها قيم مطلقة.
(هـ) التعرض لخبرة العلاج النفسى العميق، وخصوصا العلاج النفسى الجمعي، حيث يمر الفرد من خلال هذه الخبرة بأزمة المعني، وهنا يرى نفسه، وينفتح على خبرات أخري، وتهتز الأنماط القهرية القديمة وتصبح غير ذات معنى .
وأحب هنا أن ألفت النظر الى أن هذه الأزمة، أى أزمة منتصف العمر بأشكالها المختلفة، قد تبلغ من الشدة درجة قد تزلزل الكيان اليولوجى التركيبى للمخ، وذلك اذا حدثت فى شخص قامت حياته كلها على أهداف أنابية زائفة قصيرة المدي، أو شديدة الاغتراب. مما لم يعد عليه فى حياته السابقة بمرتجع يحافظ على حيوية جهازه العصبي، ويسمح بالنبض وإعادة التنظيم، وهنا نواجه بصورة اكلينيكية تشبه الى حد كبير ‘العته'(Dementia) ، إذا لم يلق هذل الشخص العناية الواعية، والكافية، فى المراحل الأولى من المرض، فأنه سرعان ما يستفحل عنده هذا النوع من التدهور العضوى المخي.
بقيت نقطة هامة، وهى خاصة بوضع المرأة فى مجتمعنا، ومحاولة رؤيته من منظور قضية المعنى فى الحياة، ومع العلم بأن هذا الموضوع من الأهمية والتعقيد بحيث يحتاج الى أبحاث مستقلة، فأنى سوف أشير هنا إلى جانب واحد مرتبط بأزمة العمر، والذى يظهر من خلال نموذج متواتر فى مجتمعنا، ألا وهو نموذج السيدة التى توفى زوجها بعد سنوات قليلة من الزواج، وبعد أن تكون قد أنجبت منه عددا من الأطفال، ثم تحرم على نفسها الزواج من آخر * ، وتتفرغ تماما لاعطاء كل وقتها وجهدها وحياتها لتربية الأولاد، ويصبح هذا هو الشئ الوحيد الذى يزود حياتها بمعناها وهدفها، وعندما يبدأ دخلها فى ادراك أن الأولاد قد كبروا وأوشكوا ـ بطبيعة الحال ـ على ترك المنزل، أو يحدث فعلا أن يترك أحد الأولاد الكبار، أو كلهم، المنزل ـ بسبب الزواج أو السفرـ، ذلك من غير أن تكون قد أعدت نفسها لهذا الحدث الهام جدا، عندئذ تتفجر من داخلها، وبصورة حادة، أزمة المعنى فى الحياة، وتأخذ شكلا مرضيا، يعتمد على عدة عوامل أخري، ليس هنا مجال ذكرها.
رابعا: العلاج النفسى والمعنى فى حياة المريض
بعد أن رأينا مدى الأهمية احساس الشخص بمعنى حياته، وكيف يستطيع أن يسعى لامتلاك هذا الاحساس، وأن نقصه أو فقدانه يعتبر مصدرا هاما لنشأة الأمراض النفسية، بعد ذلك نأتى الى دور المعالج النفسى عندما يقابل مريضه وجها لوجهه، وأحب أن أنبه هنا الى أنه منذ بداية المقال، ورد الكثير من النقاط الهامة المتعلقة بموقف المعالج النفسى من هذه القضية، وذلك كل فى سياقها، وقبل أن أحاول أضافة بعض النقاط الأخري، سوف أشير أولا – بايجاز – الى رؤية الديناميات النفسية من خلال منظور وجودي، لأنها قد تساعد المعالج النفسى على أن يضيف بعدا تشخيصيا هاما الى الأبعاد التشخيصية الأخري، والتى على أساسها يستطيع وضع صياغة تشخيصية تعينه فى وضع خطة علاجية متكاملة، ومناسبة لمريضه.
1 – الديناميات النفسية من منظور وجودي:
لقد وضع فرويد ما يسمى بالصياغة الدينامية الأساسية(Basic Dynamic Structure) ، وذلك على النحو التالي:
الدافع (الغريزى) ـــــــــــــ القلق ــــــــــــــــــ ميكانيزمات الدفاع
حيث يقوم القلق هنا بوظيفة الأنذار بأن خطرا ما سيقع، وهذا يعنى أنه لو سمح للدوافع الغريزية (مثل الجنس والعدوان) بحرية التعبير عن نفسها، فان هذا يمثل خطورة على الشخص نفسه، حيث أن ‘الأنا’ عنده سوف يغمر بهذه الطاقة الجنسية أوالعدوانية، ناهيك عن الخوف المتصور والمعاش من العقاب( عن طريق الخصاء أو الترك مثلا)، وهنا تتحرك الحيل الدفاعية (ميكانيزمات الدفاع) للحد من الاشباع المباشر للدافع الغريزي، ولكنها فى نفس الوقت تسمح بالتعبير غير المباشر عنه، فى صورة ازاحة أو تسامى أو صورة رمزية.
والمدخل الدينامى الوجودي(Existential Psychodynamics) يبقى على الهيكل العام (الشكل) لهذه الصياغة الفرويدية، ولكنه فى نفس الوقت يغير من محتواها تغييرا جذريا، فتصبح كالأتي:
الوعى بحقيقة من حقائق الوجود الانسانى ــــــــ القلق ـــــ الحيل الدفاعية
وهنا ينشأ القلق أساسا من الخوف من الموت، أو من الحرية، أو من الوحدة الوجودية العميقة، أو اللامعنى فى الحياة. وتنقسم الوسائب الدفاعية هنا الى نوعين رئيسيين: النوع الأول عبارة عن ميكانيزمات الدفاع المتعارف عليها، والتى تحمى الشخص من القلق بصفة عامة مهما كان مصدره، والنوع الثانى عبارة عن الوسائل الدفاعية التى تنشأ لتؤدى وظيفة للتعامل مع كل من أنواع القلق الوجودية (*) وهناك بعض الخبرات المعاشة التى قد تضع الانسان وجها لوجه أمام قضايا للوجود الأساسية (مثل: الموت، الحرية والمسئولية، الوحدة الوجودية، المعنى فى الحياة)، منها مواجهة الفرد لموته، أو اتخاذه لقرار هام وخطير لا يمكن الرجوع فيه، أو انهيار البناء الذى كان يمده بمعنى ما لحياته. وهنا لا يصبح الصراع فى جوهره صراعا مع دوافع غريزية مكبوتة، أو مع ما بمثل الآب أو السلطة بصفة عامة داخل تركيبة النفس، أنما ينشأ الصراع من المواجهة الداخلية لهذه القضايا الوجودية.
واذا حاول المعالج النفسى أن يرى مريضه ويفهمه من خلال هذا المنظور الدينامى الوجودي، وانطلقت مساعدته له – على الأقل فى بعض جوانبها – من هذا، فان هذا المعالج يكون قد أقرب بدرجة أو أخرى مما يسمى بالعلاج النفسى الوجودى (Existential Psychotherapy) أو ، بصفة عامة، المدخل الوجودى فى الطب النفسي.
2 – المعالج
اذا أصبحت قضية المعنى فى الحياة أساسية وحيوية فى الحياة اليومية للمعالج، فإنه يصبح واعيا بأهمية المعنى فى حياة مرضاه، ويصبح قادرا على أن يحس ويرى المظاهر التى تنم عن عدم رضا المريض الداخلى عن هدف حياته واتجاهها ومعناها، أما اذا لم يكن الأمر كذلك من جانب المريض فانه سيحاول آن ينحى مسألة الهدف والمعنى فى حياة مرضاه، ويصبح قادرا على أن يحس ويرى المظاهر التى تنم عن عدم رضا المريض جانبا، وتصبح موجات استقباله غر مهيأة لالتقاط أزمة المريض الحقيقية، وصراعاته الوجودية الداخلية المسئولة أساسا عن ظهور الأعراض وبذلك تقل فعاليته العلاجية وقد يضيع على مرضاه فرص العلاج الحقيقي.
واذا تذكرنا أن الموقف فى العلاج النفسى الحقيقى هو موقف ابداعى من الدرجة الأولي، من حيث أن المعالج يسعى دائما الى أن يظهر الامكانات الايجابية الكامنة داخل المريض، وأزالة المعوقات النفسية من أمامها، ويساعده على تحقيق هذه الامكانيات وتوجيهها الوجهة الصحيحة، وهذا العمل فى حد ذاته، بما فيه من ابداع وحب للآخرين، يمثل مصدرا هاما لاعطاء حياة المعالج معنى وقيمة وهدفا.
3 ـ خطوات العلاج:
هناك بعض الخطوات العلاجية الهامة، والمتعلقة بموضوعنا الرئيسي، والتى تفيد المعالج وتعينه على المساعدات الصحيحة لمريضه.
(أ) بعد سماع المريض، والانصات اليه جيدا، يحاول المعالج أن يبذل جهدا فى اعادة صياغة شكوى المريض الذى يعانى من فقدان المعنى فى حياته، وذلك عن طريق اكتشاف الجوانب الأخرى المختلطة بهذه المسألة، فقضية المعنى فى الحياة مرتبطة بالأبعاد الوجودية الأخري، والسؤال عن معنى الحياة قد يختلط بأمور أخرى غير المعنى فى الحياة. وأحيانا أخرى يختلط القلق الناشئ عن الوعى بالحرية أو الوحدة الوجودية مع القلق الناشئ عن الوعى باللامعني.
(ب) من الهام جدا، أن يسال المعالج النفسي، ومع كل مريض يلقاه، أسئلة تتعلق بمعنى حياة المريض. نذكر منها: هل هذا المريض الذى أمامى يتحرك أى حركة خارج نطاق ذاته؟ وما نوع علاقاته بالآخرين؟ ما هى مصادر المعنى القائمة فى حياته؟ ما الذى يفعله المريض خلاف عمله اليومى الروتيني؟ هل يظهر المريض سلوكا ابداعيا من أى نوع؟ وما موقفه من القضايا الانسانية العامة التى تخص مجموعات من البشر خارج نطاق ذاته ونطاق أسرته المحدودة؟.. الى أخره من الاسئلة الكثيرة التى تتعلق بالمعنى فى حياة المريض.
(جـ) بعد ذلك يطرح المعالج على نفسه هذا السؤال الهام: كيف يساعد مريضه على أن يعيد ترتيب الأولويات فى حياته حتى تتسق فى اطار يكسبها معناها؟ وكيف يساعده على أن ينغمس فى الحياة، ويتحرك مع حركتها؟
(د) على المعالج أن ينتبه دائما الى حقيقة هامة، وهى أن الناس عادة ما تنكر أو تتعمد عدم النظر وعدم الانتباه الى ما يذكرها بموقفها الوجودى فى الحياة. ومن واجب المعالج أن يفعل عكس ذلك، بمعنى أن يسعى الى تذكرة من يطلبون مساعدته بالأشياء والحقائق التى تثير فى داخلهم وتحيى موقفهم الوجودي، وبذلك تعامل هذه الأشياء والحقائق على أنها ليست أعداء ومنغصات يسعى الفرد الى انكارها وعدم الوعى بها، وأنما هى بمثابة الحلفاء على طريق النمو والتكامل النفسي، ويبدأ المريض، تدريجيا، بتقبل القلق الوجودى الحافز على أنه جزء لا يتجزأ من الوجود الانساني، ولا يوجد من يستمر فى النمو والموقف الابداعى فى الحياة من غير هذا النوع من القلق.
بمعنى آخر نقول: فى علاج كل مريض، تظهر مواقف، لو تأكدت من خلال المعالج، فأنها سوف تزيد من وعى المريض بالأبعاد الوجودية لمشاكله.
وأخيرا، فانه يمكن القول بأن الانتباه الدائم من جانب المعالج للأبعاد الوجودية فى حياة المريض، هو شئ أساسى للتخطيط للوقاية، جنبا الى جنب مع العلاج من الحالة الراهنة.
وبعـد …..
فلعلى استطعت، من خلال ما تقدم، أن أوضح، بدرجة أو أخري، أهمية الاحساس بالمعنى فى الحياة، وكيفية السعى الى تحقيقه وتدعيمه وتعميقه، ومدى خطورة فقدانه، ،أهمية الوعى بكل ذلك عند كل من يتصدى لعلاج النفس.
* عند مناقشة هذا الوضع مع سيدة تعتبر مثالا لهذا النموذج وذلك فى سياق علاج ابنتها، وكنت أقترح عليها إعادة النظر فى مسألة الزواج، وإعادة النظر فى مسألة عملها وتكملة دراساتها العليا، وكانت قد تركت كل ذلك بعد وفاة زوجها، وتفرغت تماما لتربية هذه البنت وأخ لها، عندما اقترحت عليها ذلك، استعداد لليوم الذى سوف يقوم فيه الأولاد بتركها وحيدة فى المنزل، ردت على مسألة الزواج بأنها عيب كبير فى الثانية بأنه كفاية عليها أولادها، الذين أتموا التعليم، وكانت تحثهم على انجاز دراساتهم العليا.
* سبقت الاشارة الى مثل هذه الدفاعات النوعية عند الكلام عن ” التمركز الزائف لحياة الفرد” والذى يحميه من القلق الناتج عن الوعى باللامعنى فى حياته.