حق المرأة العصرية فى التقاط الأنفاس
آن مورو لندنبرج
د. يسرية أمين
هو كتاب صدر باللغة الانجليزية بعنوان ” هدية من البحر” للمؤلفة الأمريكية آن مورو لندبرج [1] وقامت بترجمته الى اللغة العربية الدكتورة سهير القلماوى فى عام 1957 والكتاب بسيط فى محتواه ولكنه عميق فى أفكاره من حيث قدرته على التعبير عن المأزق الذى يعيشه الانسان المعاصر بصورة عامة وتعانى منها المرأة بصورة خاصة.
ويقع أحضان الطبيعة حيث الشاطئ والبحر والأمواج والسماء، تنسج الكاتبة افكارها فى جو خيالى تتكلم فيه قواقع البحر بلغة أشكالها، فهو مناخ “الانتظار” و”التلقى” بعيدا عن “الجشع” و”التسرع” و”التعجل” و”التلهف” الذى يعيشه انسان القرن العشرين.
تعد المقدمة القارئ لوضعه فى حالة التأمل والتلقى التى تمت فيها ولادة مشاعر الكاتبة وأفكارها فمن خلال مونولوج شاعرى تنسج الكاتبة علاقة ارتباط وميل بل وربما حب مع الطبيعة المحيطة بها ويبدو لى أن هناك لغة خاصة تنشأ بين الانسان وشخوص الطبيعة وتعجز اللغة الحالية عن تحليل ووصف تلك اللغة، فهى لغة اصلية أو فطرية فى طبيعتها، مرنة فى تشكلها، وهى تخاطب الشعور أكثر من العقل أو الوجدان أكثر من التفكير اذ يبدو أن الطبيعة من خلال امتدادها وتفتحها وكليتها وتكاملها واكتمالها تخاطب الانسان فى كليته فتبعث فيه مشاعر غائرة لتتجمع فى كلية متجددة.
ويلاحظ القارئ أن هناك علاقة مستمرة بين قواقع البحر وتطور ونمو أفكار الكاتبة، فأشكال القواقع هى المفتاح الى الأفكار، فنرى أن انسجام وانسياب القواقع الحلزونية الشكل فى هارمونية واتساق يبعث فى الكاتبة الاحساس بالشوق الى حياة البساطة، أما وحدة “القوقعة القمرية” وعزلتها فتذكرها بأفضال بعض العزلة على الانسان أما قوقعة ذات المشرقين (ما نطلق عليه اسم أم الخلول) فتمثل العلاقة بالآخر فى مراحلها الأولية حيث يكون الارتباط على محور واحد، فكل طرف يلتصق بالآخر مثلهما فى ذلك مثل شقى ذات الصدفة أما قوقعة “بيت المحار” فهى المفتاح الى العلاقة بالآخر فى صورها النامية والمتطورة فتصبح العلاقة مثلها فى مثل بيت المحار مركبة، معقدة وغير منتظمة بل وربما قبيحة الشكل، ولكنها قوية وصامدة ومتحدية فهى تبعث فى الكاتبة مشاعر العجب والاعجاب ، بل أنها تستدعى الدمع الى عينيها احيانا.
واذا كان مفتاح الأفكار واحدا (هو الطبيعة وعلى الأخص القواقع) فمن الملاحظ أن حركة ونمو وتطور الأفكار واحدة، فهى تنمو فى ايقاع منتظم وكأنها أمواج البحر ترتفع وتنخفض فى ايقاع سلس: فالكاتبة تبدأ بطرح قضية من القضايا التى تشكل فى رأيها خطرا على حياة الانسان المعاصر، ثم تتطرق باستفاضة ربما من منطلق شخصى بصفتها امرأة الى نصيب المرأة فى هذه المشكلة، وتحاول أن تصف بصورة بسيطة وواقعية بعض الوسائل لمواجهة هذه القضايا، ولكنها لا تلبث أن تفاجئ القارئ فتذكر أن هذه الاشارات قد تؤدى وقد لا تؤدى الى الحل وهكذا تلقى من جديد بالمسئولية فى وجهه فتحرمه من أى اعتمادية، فلا بديل عن المعايشة المسئولة فى اطار من الوعى والاختيار والايجابية.
أولا: التشتت والتفتت:
تخترق الكاتبة الوجه البراق لحياة المدينة فى القرن العشرين، وتستشف ببصيرة حادة وواقعية جريئة الأخطار الخبيثة بمعنى الخفية التى تهدد الانسان المعاصر من داخله ومن خارجه اذ يعيش انسان القرن العشرين حياة التعقيد والتركيب من حيث أن الاغراءات اشتدت والمتطلبات تعددت، وأضحت الحياة مشحونة بالطموح والتنافس، وأصبح الانسان معرضا للجذب المتضارب الاتجاهات مما أدى الى التشتت بل وربما التفكك وصار الانسان يعيش حياة تبعد كل البعد عن “اللطف” و ” الانسجام” والتماسك وتبرز مشكلة التشتت بصورة خاصة فى حياة المرأة وذلك لأن طبيعة المرأة وما تقوم به من وظائف يحملان من البداية فى طياتهما التشتت فالمرأة بطبيعتها كأنثى وكأم هى مركز أو نواة تندفع منها وتتجه اليها المؤثرات، وعليها أن تكون مستعدة للتلقى والاستجابة لكل من الزوج ومن الأبناء والأصدقاء ومن البيت والمجتمع ، وهكذا تتطلب حياة المرأة أن تكون منبسطة فى وجودها، حساسة للآخرين ومستجيبة لهم وتبدو مشكلة المرأة من خلال منظور جديد، فالمشكلة الأساسية بالنسبة للمرأة هى ليست “المرأة من خلال منظور جديد، فالمشكلة الأساسية بالنسبة للمرأة هى ليست “المرأة والعمل” أو “المرأة والبيت” أو “المرأة والاستقلال التحرر”، انما هى كيف يتأتى للمرأة أن تستمر كاملة غير مفككة وسط هذه التشتتات المختلفة؟ أو بمعنى آخر كيف تظل متزنة متماسكة بالرغم من القوة الطاردة المركزية التى تدفع بعيدا عن مركز الدائرة بما فيها من حاجة النواة الداخلية الى التماسك والتكامل والوحدانية.
وتقترح الكاتبة بعض الوسائل لعلاج مشكلة التشتت هذه، فهى ترى أن البساطة فى الحياة هى الطريق الى تجنب التشتت وهى تتضمن على المستوى الشخصى تخلص من القشور، فلا حاجة الى اقتناء العديد من الملايين دون الحاجة اليها ولا داعى للاحساس المتمسك بالنظافة المتناهية والترتيب المطلق، وتختزل الكاتبة هذا السلوك فتصفه على أنه نوع من التخلص من “الغرور” وتمتد البساطة الى العلاقة بالأخر فتدعو الكاتبة الى التخلص من أنواع الحياة الاجتماعية التى تضطر الانسان الى أن يلبس قناعا ثقيلا من المجاملات الزائفة، وتعود الكاتبة بعد التبسيط فى وصف البساطة فتصعب الأمر على القارئ فتكتب أن هذه البساطة وحدها لا تكفى وانما لابد أن تكون موجهة نحو هدف أو غاية وهذا الهدف هو تحقيق نوع من “اللطف الروحانى”.
ثانيا: فراغ الضوضاء والحركة الجوفاء:
تشير الكاتبة الى أن الانسان المعاصر يقاوم كل المقاومة التعرض للعزلة فأن خانته الأسرة والأصدقاء والسينما فلا يزال الراديو والتليفزيون هناك (ويمكن أن أضيف حديثا الفيديو) فأحلام اليقظة بما تحمل فى داخلها من مكنون النفوس صارت ضئيلة أمام زحف الأنغام الرتيبة، وصار الانسان يزهق روح وحدته بحديث ممل وضجة فارغة.
وتدعو الكاتبة فى اصرار ويقين الى ضرورة أن يتعلم الانسان من جديد كيف يكون وحيدا، وهى فى ذلك لا تنكر البتة ألم الوحدة خاصة عند بداية البعد عن الآخرين، فهذه العملية تشبه فى رأى الكاتبة عملية البتر ولكن لا يلبث أن يختفى هذا الألم أمام تدفق الحياة فى أقوى صورها ففى هذه الحالة تهدأ الضوضاء الخارجية بما فيها من تشويش على داخل الانسان وخارجه، ثم لا تلبث أن تتجمع فى الأعماق مشاعر الانتماء الى الكل الأعظم فتنبعث الحياة فى هذه المشاعر الغائرة فتنبسط وتتدفق فى وعى الانسان، فيمكن أن يشعر بأنه يحتوى العالم، وأن العالم بدوره يحتويه، ويصبح أقدر على الاحساس بمعانى الجمال وربما أقرب الى بنى جنسه رغم عزلته وانفراده وتلفت الكاتبة نظر القارئ الى أن ما يفرق بين الانسان وسائر جنسه هو (الفراق الروحى ) وليس الوحدة المادية أو الوحدة الجسدية ويبدو أن تلك الغربة النفسية تبدأ من اغتراب الانسان عن نفسه فأن الانسان اذا لم يستطع أن يتصل بنفسه أو “بنواته الداخلية” فأنه يتعذر عليه أن يتصل بالآخرين، والعزلة فى رأى الكاتبة هى من الوسائل التى يمكن أن تيسر للانسان أن يتصل بالنواة الأساسية أو “الينبوع الداخلى”.
أما عن نصيب المرأة فى مشكلة الغربة هذه فهو ضخم من حيث الحجم وطويل من حيث تاريخه فالمرأة منذ الأزل تستنزف نفسها فى نشاطات متعددة، فهى تجاهد فى سبيل ايجاد شكل منتظم لملايين التفاصيل المتباينة: فى عمل البيت وفى واجبات الأسرة الرتيبة وفى الحياة الاجتماعية المتكررة ومرة أخرى تعيد الكاتبة اكتشاف أبعاد جديدة لقضية المرأة: فهى قد حققت العديد من المكاسب التى جاهدت فى سبيلها، ولكنها لا تدرى كيف تستفيد منها، فبدلا من تهدئة مركز الدائرة راحت تدفع الحياة دفعا بمزيد من النشاط والحركة، مما قد يتسبب فى قلقلة توازنها، وتحذر الكاتبة أن هذا الحل السابق ذكره لن يؤدى الا الى التناثر والبعثرة ان المرأة فى حاجة الآن الى أن تعاود اكتشاف نفسها ويمكن أن يتحقق ذلك للمرأة عن طريق الوحدة أو العزلة التى يمكن أن تهدئ الضوضاء الخارجية كيما يتثنى للحركة الداخلية أن تتحرر وتبزغ الى سطح الوعى والأعمال الابتكارية فى رأى الكاتبة هى أحد الوسائل التى يمكن أن يتحقق فيها للمرأة اكتشافها طبيعتها الحقيقية ففيها عدا الطفل فأن عمل المرأة الخالق لا يكاد يرى أو يحس فى أيامنا هذه.
ثالثا: العلاقة بالآخر بين الجمود .. والتطور:
العلاقة بين الانسان “والآخر”، كيفما ترى الكاتبة، هى واحدة: سواء أكانت هذه العلاقة هى علاقة صداقة أم حب أم زواج أو بنوة، ومن ثم فان الحقائق التى يناقشها الكتاب تنطبق على كل العلاقات ولكن الكاتبة تختار من بين هذه العلاقات علاقة الزواج وتتخذ منها نموذجا لتوضيح فكرتها وتبرر الكاتبة اختيارها بأن علاقة الزواج هى أعمق العلاقات وأصعبها قاطبة، وهى بالتالى يمكن أن تكون الأقدر على ابراز علاقة الانسان بالآخر.
وتقرر الكاتبة أن المراحل الأولى فى أى علاقة تكون صافية ثم لا تلبث أن تتغير وتنعقد من خلال احتكاكها بالعالم، وهذا التغير ضرورى وطبيعى، ولكن كثيرا ما تكون هناك مقاومة من كلا الطرفين فيمسك كل منهما بالشكل الأولى للعلاقة: فكل طرف فى العلاقة يود أن يكون هو المحبوب الوحيد للطرف الآخر، كما أن كل طرف يود أن يجد نفسه عند الآخر ويغيب عن كل من الطرفين أن جوهر الحب هو المشاركة فكما قال سانت اكزبيرى saint Exupery : أن الحب لا يتكون من نظر كل من الحبيبين الى الآخر وانما يتكون من نظر كل من الحبيبين أمامه فى وقت واحد وفى اتجاه واحد فالعلاقة الأولية لابد أن تتطور من كونها حب خيالى ورومانسى الى حب مسئول وهادئ، يخلو من التملك والمنافسة وتنساب فيه بين الطرفين زمالة دائما وتكون هذه العلاقة الناضجة متعددة الأبعاد اذ هى تتضفر من أنواع كثيرة من الحب فيها الفشل وفيها الهدف المشترك فهو حب يتكون فى الواقع من عزلتين تحمى كل منها الأخرى وتتلاقى معها وترحب بها فهى علاقة تستلزم نضج كل من الطرفين كما تساعد عليه ففى هذه العلاقة يمكن أن يتحقق لكل طرف الذاتية الحقيقية أو الشخصية الحقة بأن يقتحم أسوار ذاته ويدخل داخل حدودها عن طريق العمل الخالق أو الابتكارى فالانسان لا يمكن أن يجد نفسه فى الآخر ولكن يمكن أن يكتشفها من خلال فقدها فى عمل خلاق.
خاتمة:
هكذا انسابت الأفكار من قلم الكاتبة فاصابت الكثير من الحقائق السائدة فى العصر الحالى ويبدو بالطبع أنها تشكل مرحلة من مراحل تطور البشرية التى مازلنا نعيشها، اذ أننى المح انعكاستها فى بعض الأحيان خارجى (فى الآخرين من حولى) وفى كثير من الأحيان فى داخلى ويستلزم بالطبع ظهور تلك المرحلة أن يسبقها الكثير من النشاط والحركة فلن يكون هناك للبساطة معنى اذا لم يكن هناك تعقيدا وتركيبا، ولن تكون هناك جدوى من العزلة اذا لم يسبقها ويتلوها حركة ونشاط وتواجد ومعايشة للآخرين والواقع ولن يكون هناك علاقة ناضجة اذا لم يكن هناك وعى بالعلاقة الأولية حتى نصل بها الى العلاقة المتطورة.
[1]- آن مورو لندبرج ولدت بولاية نيوجرسى بالولايات المتحدة وتخصصت فى دراسة الأدب الانجليزى وكانت حياتها مليئة بالنشاط والمغامرات ففى مستهل حياتها الزوجية كانت أول أمريكية تنال شهادة قيادة الطيران، ودرست فن الملاحة الجوية وفن تحديد مسالك الطائرات فى الجو لآسيا وأوروبا، هذا بالاضافة الى كونها أم لخمسة أطفال وللكاتبة ثلاث مؤلفات أخرى بالاضافة الى كتاب “هدية من البحر”، وهذه المؤلفات هى “شمالا نحو الشرق” North to the orient، “انصت انها الريح” Listen, the wind و”المعراج فى أجواء السماء” The Steep Ascend ولقد استلهمت المؤلفة محتوى هذه الكتب من مغامرات فى رحلات جوية.