الافتتاحية الأولى
عود على بدء
انتهت اجازتى الاختيارية / الاجبارية، قد عدت فرحا بعودتى، فرحا بغيبتى، عدت لأجدنى أمام تحد جديد قديم، هو هاتف ملح لم يهدأ أبدا: أنه يكفى هذا، فقد آن الأوان للتوقف النهائى عن الصدور بعد أن بلغ عمر هذه المجلة العنيدة: ثمان سنوات الا قليلا
وحين صدر العدد السابق فى ميعاده (ابريل 1987) وعلى غلافه تلك الصورة المفزعة التى تصورت أن الصديق داوستاشى قد أبلغنا من خلالها رأيه فيما وصلنا اليه، حين صدر ذلك العدد مبكرا هكذا، أتيحت لى فرصة حقيقية أن أعيش التوقف عن الصدور الى أبعد مداه، وحتى تاريخه (اليوم يونيو 1987)، شهران بالتمام وأنا مصر بينى وبين نفسى أنه من الشجاعة والأمانة أن أعلنها هكذا بسيطة وواضحة “يكفى هذا، مع الشكر”، شهران بالتمام وأنا لا أجرؤ أن أمسك القلم بعد أن انقطع خيط الأمل، أو كاد.
وقبل أن أستطرد، لابد أن أعترف أن هذا موقف قديم قديم، ليس له علاقة مباشرة بأى احتمال لتقصير أو تردد أو كسل قام به أى من الزملاء الكرام الذين تولوا مسئولية اصدار المجلة للأربعة أعداد السالفة (أثناء الأجازة)، بل أنهم أصحاب فضل تعلمت منه ما لم أكن أتصور أنى سوف أعرفه بدونهم، اذن، لابد أن أعلن ابتداء:
1 – أنهم كانوا أكثر حماسا جدا (جدا)، ولم يكونوا أقل رؤية كما تصورت وأنا أنسحب، ولعل وفرة الحماس بدرجة هائلة هى المسئولة عن بعض التعتيم، ولو مرحليا.
2 – أن الاضافات التى أضافوها، والضيوف الذين نجحوا فى دعوتهم للكتابة، فشرفنا بهم على صفحات مجلتنا (مثل: اعتدال عثمان، وحلمى سالم، ووليد منير، وغيرهم)، كل هذا قد أضاف لهذه المجلة بعدا، ووعد بدور، لم أكن أحلم به، ولا كنت قادرا على تحقيقه.
3 – أنه كان لهم الفضل فى احياء أبواب قديمة كانت قد اختفت مثل “حالات وأحوال”.
4 – أنهم فى نفس الوقت حافظوا على بقاء وحيوية الأبواب الجارية.
5 – أنهم حرصوا على زيادة جرعة التخصص، ولكن ليس على حساب جرعات الابداع والجسارة.
6 – أن المحاولات الفنية تنوعت، وأضافت، وأنقصت، حتى بدت المجلة متقلبة المزاج، لكنها احتفظت برغم ذلك، وبسببه، بتوقد الشباب!!
ولكن بدا لى:
(أيضا، وحتما):
1 – أن الافراط فى الاهتمام بالاخراج (الشكلى وربما الجميل)، قد خلخل “استقرار” المجلة (ولا أقول وقارها) وفى نفس الوقت لم يضف شيئا جديدا يستأهل (هذا رأيى!)
2 – أن توارى جرعة ما أسميناه الكتابة الطليقة وراء ما يسمونه “أدب الحداثة” قد جعل الأمور تتداخل أمام القارئ (بصفتى قارئا) بشكل قلل أو كاد من قيمة الاثنين معا.
3 – أن جرعة النقد المواكب للنشر (وهى الزم ما تكون مع ما يسمى أدب الحداثة) قد توارت بعد العدد الأول من هذه الأعداد الأربعة.
4 – أنه لم يحدث اختراق مسئول، كنت احلم به، وآمل فيه، رغم تحديد الاتجاه، وشحن الأداة.
وبعد (1)
نعم، توقفت شهرين وأنا أعيش موت هذه المجلة كحقيقة جائمة ومنتهية، فعلمت فيما تعلمت، أن التوقف قد يكون أشجع من الاستمرار بالقصور الذاتى.
فلماذا عدت؟ وما هذا الذى أكتب الآن؟: وكان ثمة مجلة تصدر وكأن ثمة قارئا ينتظر، وكان ثمة ناقدا يحاور، وكأن ثمة استمرارا ممكنا؟
ولكن دعونى أعلن السبب الحقيقى لخيبة الأمل هذه بعد أن برأت ساحة زملاء التحرير، فقد تصادف (أقول تصادف !!!) أن التوزيع قد هبط فجأة من حوالى الألف عدد (50 % من المطبوع !!) الى ما حول الثلاثمائة بالتمام والكمال، هبط، ثم ثبت عندما وصل اليه.
بلعت ريقى، وعرفت معنى مجسدا جدا لما يقال له “غصة”، ولم أكن أعرف من قبل ذلك أن مما يسبب من “الغصة” ما هو معجون من منقوع المرارة، فتسرى من الحلق الى كل خلية من الوجود فى تصاعد متزايد: وكلما حاولت أن أبلع ريقى، زادت أسباب الغصة انحشارا، فزادت (المرارة استحلابا الى سائر وعيى) وظل “المرتجع” من المجلة ماثلا فى مدخل بيتى أمام ناظرى كالقتيل الذى لا يجد من يواريه، أى والله، ورويدا رويدا، استطعت أن أميز بين الهمهمات تفسيرات المعزين:
(أ) فمن قائل: أنه (هذا الهبوط) بسبب ارتفاع السعر فأرفض ذلك تماما.
*فقارئنا يعلم اننا نخسر فى كل عدد أكثر من ألف جنيه، بكثير، وأننا لا نقبل اعلانا أو معونة، وأننا يجب أن نستمر …… و ….. “لا”.
*وابنى يشترى “كشكولا” بحجم مجلتنا، بثمنها (ورقا أبيض).
*وقرش صاغ يوميا (لمدة ثلاثة أشهر) يقترب من ثمن المجلة.
* وفرق السعر هو قرش تعريفة يوميا.
* وثمن مجلتنا “الفصلية” هو ثمن ثلاثة أعداد من “أكتوبر” أو “المصور” …. الخ
* وثمن مجلتنا هو ثمن خمس زجاجات “شويبس” عادية، أو زجاجة ونصف من العبوة الأحدث.
* ثم أننا لسنا وزارة الثقافة الكويتية أو العراقية أو حتى هيئة الكتاب
فـ: لا، وألف لا، علما بأن زيادة السعر قللت الايراد، فأصر على موقفنا، فنحن أغلى عند قرائنا من هذا الاحتمال، ولابد أن ثمة سببا آخر.
(ملحوظة: ومع ذلك، فقد عملنا نظاما لبيع المجلة بالسعر القديم بالاتصال المباشر، لكل عشرة أعداد معا، أنظر الصفحة الأخيرة)
(ب) ومن قائل: ان الهبوط هو بسبب غيبا برئيس التحرير،
وهذا غير صحيح، لأن حجم ما كتبت فى الاعداد السابقة أكبر من أى عدد سابق بعد ما انتهت حلقات “الناس والطريق” فالغياب كان على مستوى مسئولية رئاسة التحرير وليس على مستوى الكتابة “والحضور” أمام وعى قارئى.
فى حجة مردودة أيضا
(ج) ومن قائل ان تقلب شكل الغلاف، مع تقلب طريقة التنسيق، مع تقلب “روح الحضور”جعل قارئنا يشعر بالغربة، فيتراجع.
وقد يكون هذا صحيح جزئيا.
(د) ومن قائل:ان اغارة “الحداثة” على صفحات المجلة، وضعتنا فى مهب ريح النقد الرافض وزادتنا غموضا، ونحن والحمد لله لا ينقصنا الغموض، ومع ذلك، فلو صح هذا الفرض، فأنه لا يمنع قارئنا أن يغفل بضعة صفحات “حداثة” ويقرأ الباقى، أم يا ترى هل ينتقل “سد النفس” الى المواد الأخرى؟؟
ومع كل ذلك، فأنا لم أجد تفسيرا لهذا “الهبوط المفاجئ” فى التوزيع، وكانت وقفتى (موت المجلة) هى نوع من “الحرنة” الطفلية وكأن أهلى تخلوا عنى بلا جريرة، فلا أنكر أنى كنت أعيش مؤتنسا بهؤلاء الأهل (ألف شخص / قارئ بالتمام!!) أكثر من ائتناسى بأولادى من ظهرى أو مرضاى يطلبون مشورتى، أو طلبتى يسمعون علمى، فكل هؤلاء علاقتى بهم مفترضة أو مفروضة، أما قرائى فهم الذين يمدون يدهم، يلتقطوننىمن بين غيرى، ويشاركونى همى، ويصبرون على، ويتحملون غموضى، ويعاودون تقبلى كل ثلاثة أشهر (ولعل مثل ذلك هو نفس الشعور لكل من يكتب فى مثل هذه المجلة) فلماذا تركونى (تركونا هكذا فجأة؟ نعم، تخلوا عنى (عنا) الا ثلاثمائة.
ولكن عندك، هل كان هذا الترك “فجأة”؟
فرحت أراجع مسيرتنا طوال سنوات ثمان، فاذا بى اكتشف أن هذا الــ “فجأة” ليس الا تراكما حقيقيا ليس له الا هذه النهاية الــ “فجأة”، فهم لم يخيبوا أملنا أخيرا الا لأننا خيبنا أملهم من قبل، فلقد أحبطنا شبه عامدين كل من أمل فينا غير ما هو نحن، (أو غير ما نحاول أن نكتشفه فينا).
وأحسب أن (النص) قد تكرر مع كل من تلقانا بما لم نعد به، أو بما لم نستطع أن نكونه.
* لم يرض عنا المثقفون (المعقلنون) حين لم نستدرج الى تباه بموسوعية، أو ما أسميناه تسويد بياض الورق بأشكال هى فى واقع الحال “ديكورات” العقل المعاصر لا أكثر ولا أقل (العدد الأول ص 4)
* ورفضنا اليسار حين لم نرفع ما يرفعون، رغم اتفاقنا مع الأكثر وعيا منهم فى حتمية الحركة ومسئولية ابداع التاريخ اليومى، لكن أغلب يسارنا فى مصر يفضل “كلاما” عن الشعب، والجوع، والعامل، والاشتراكى، ونحن لا نحذق هذه اللغة، وكثيرا ما نرفضها.
* وتشكك فينا اليمين، حين تحفظنا أمام الاعلانات والاعانات، وحين كشفنا كلما سنحت لنا الفرصة أشكال مخدرات الوعى بأى استسلام لسلطة ساكنة، دينية أو مادية أو غير ذلك.
* ولم يقبلنا المتدينون المصفقون لرشاوى الظاهر دون مسئولية الكدح وابداع الوعى الكونى.
* واحبطنا الأطباء النفسيين حين كسرنا حكر التخصص وضربنا “الاغماء بالكيمياء” واحترمنا مأساة المرضى ووجهة نظرهم بدرجة أكبر قليلا أو كثيرا من احتمال اطبائهم.
* وأحبطنا علماء النفس (والنفسيين عامة) حين لم تختبئ وراء منهج بذاته، ولم ندافع عن معطيات علمهم وكأنها حقائق مقدسة، بل سمحنا بالحوار واعادة النظر، وأحيانا تحطيم الأصنام.
* وأحبطنا كتاب الأقاليم رغم فرحتهم بنا حين لم نلتزم أمامهم بالنشر المنتظم لهم خاصة.
* وأحبطنا الكتاب الشبان حين قبلنا منهم “عملا” أو اثنين، ورفضنا عدة أعمال.
* وأحبطنا من عد نفسه مبدعا (بالضرورة) فتسطح دون حدود.
* وأخيرا فها نحن نكاد نحبط ثوار الموجة الجديدة مما يسمى الحداثة حين نتصور أن الجرعة زادت
* ولم يأت هذا الأحباط كله مرة واحدة، كما لم يعلن أولا بأول (رغم التأكيدات الأولية باحتمال حدوثه) فمضى كل فريق يكرر نفس النص (تقريبا)
الذى يقول
(1) نعم هذه هى “المجلة” (2) هى مجلتى التى كنت انتظرها (3) هؤلاء (نحن) قوم يقولون جديدا شجاعا (4) أرسل لهم أساهم (أو: انتظر ماذا بعد) (5) ما أكرمهم نشروا لى (6) لا لم ينشروا (أو: ما لهم ليسوا هم، ليسوا أنا) (7) خيبوا ظنى (8) مالى بهم (9) أناس يسلون أنفسهم ولا يعجبهم العجب (10) يكفى هذا ودعهم فى رجعيتهم، أو غبائهم، أو غفلتهم يصلحون الكون وحدهم، ما أغربهم!! (انظر خطاب ناصر حسنى فى الباب الرابع: رسائل)
(فيهبط التوزيع “فجأة”)
فاذا كان الأمر كذلك:
فلماذا لا نتوقف؟
فأرجع الى العدد الأول (يناير سنة 1980) والثانى (ابريل 1980) فأجد أن هذا الذى حدث كان متوقعا بالحرف الواحد، ولولا خشية التكرار مع التأكد من نفس النتيجة لأعدت نشر افتتاحية العدد الأول كاملة، ثم حوارنا مع علاء الديب ونجيب محفوظ وغيرهم وتحذيرهم ايانا من هذا المصير وردنا عليهم فى العدد التالى مباشرة، وأكتفى فى هذا الصدد ببعض مقتطفات:
(1) من كلمة التحرير العدد الأول (يناير 1980)
هى مجلة تتجنب أى معركة معطلة، أو ادعاء تعادلى مائع، يرفع شعارات غير قابلة للتطبيق، مدركة أن تخلفنا المرحلى يضيق بمثل هذا الترف اللفظى.
هى تفتح أبوابها لكل من أكرم عقله بشجاعة التفكير، وتحمل مخاطره.
(2) من افتتاحية العدد الأول (يناير 1980)
* وقد كان المبرر المرحلى لاقدامنا على اصدار هذه المجلة هوالأمل القائل .. أن وضعها (الكلمة) على الورق هو امانة تاريخية لا مهرب من التصدى لها، ذلك لأنها تحمل فكرا اذا لم نستطع أن نصل الى تحقيقه فاننا لابد تاركين (محددين) معالمه … الخ
* ولقد لبست الدعوات الانتكاسية فى أيامنا هذه احد ثوبين: الثوب السلفى .. يخنق خلايا المخ بالحرفية والجمود، .. (وثوب) … العقائد الجديدة التى أخذت جمود الأديان واحتكرت جنان الأرض دون أن تتحلى بحقيقة الايمان.
* (وقد صدرت هذه المجلة لتجد طريقها بين هؤلاء وأولئك دون أن تستسهل الانسحاب مع صدق الرؤية استسلاما “لأوهام العدم وحدر اللاجدوى”
* ونحن نأمل من خلال ذلك أن نسهم بجهد متواضع أن يقول صاحب الاجتهاد كلمته دون اشتراط أن يتلون باللون السائد قبل أن يسمح لكلمته أن ترى النور، حتى لا تصبح الكلمات رشاوى .. لصاحب القوة أو لصاحب الحاجة
* وقد تصدينا لمسئولية “نقل” ما نعرف لأصحابه دون رشاو صريحة، أو مقنعة، مغامرين بالرفض ومحدودية الانتشار لفترة لا نعرف مداها، فضلا عن الاهمال والازدراء والتهوين وما الى ذلك.
يا خبر!!
اذا كان الأمر كذلك ومن أول عدد فما هو الجديد حتى نتوقف؟
الم نقل فى نفس العدد: (ص 11)
وعلى قدر ايماننا بشرف قدرنا، وعلى قدر اصرارنا على نقاء وصدق كلمتنا، وعلى قدر ثقتنا بقدرة انسان مصرنا فى احلك الظروف سيكون استمرارنا.
قلناها منذ ثمان سنوات:
فـــ ……. فلماذا ….. ؟ لماذا الآن؟
لماذا نتوقف؟
ولابد هنا أن أعترف أنه بالرغم من هذا الهبوط المفاجئ فى التوزيع، فأنى ما عرضت فكرة التوقف على أحد ممن يعرف المجلة ممن يحبها أو يكرهها الا جزع لهذه الفكرة بشكل أو بآخر، ويحاول بعضهم أن يذكرنى أنه لم يجد جديد: نفس الصعوبة، ونفس أسباب الصدور، ونفس أسباب الرفض (تجمعت ليس الا)..
فأرجع دون أن تذهب عنى لا “الغصة” ولا مستحلب مرارتها، وأحاول أن أبحث عن ترياق يخفف قليلا أو كثيرا وأنا أستجيب لتساؤلهم
ولماذا التوقف؟
نعم لماذا؟
* ألم تتناول هذه المجلة طوال هذه السنوات قضايا فكرية ودينية وسياسية وعلمية وأدبية وفنية من منطلق “آخر”، وعمق “آخر”، وبمغامرة “أخرى”؟
* ألم تخدش حروفنا وجوه معتقدات جاثمة، وأفكار راسخة، وسلطات مشلة؟
* ألم تجدع كلماتنا أنوف أصنام من المعدن المصقول تسمت بأسماء حديثة من أمثال: المنهج “العلمى” الكمى، والعلاج الدوائى، والاستسلام اليسارى، والتنويم الدينى، والمكسب السلطوى؟
ألم تخدش الوجوه الملساء، والأصنام المصقولة بكل لغات: الرؤى والابداع، والطلاقة الحرة، والجنون (نفسه)؟
الم تفتح ملفات الفلسفة، فعلا يوميا ووعيا متجددا، بعد أن حسب أغلب الناس أنها علم يدرس، أو غموض مبهم، أو حذلقة خاوية؟
ألم نهز قداسة التخصص، فنرفض وصاية أى محتكر لعلم (وأولهم النفسيون) ونسمح لمشاعر الناس (الناس) أن تضيف ما “تعرف”.
مباشرة؟
ألم نستمر هكذا حتى الآن؟
فلماذا نتوقف؟
وبعد (2)
ثم ان فضل هذه المجلة على كاتبها هو أول فضل يعود عليه بصفته القارئ الأول لها، وانى أعترف هنا أنى كلما عدت الى أعداد سابقة تعجبت متى كتبت هذا؟ وكيف؟ وحين جمعت مادة ما كتبت فبلغت ما يسطر حوالى عشر كتب، سألت نفسى: هل كان من الممكن وسط زحمة كل “ذلك” أن أكتب كل “هذا” لولا هذه المجلة.
وأحسب أن غيرى قد يكون مثلى وخاصة من الشباب الأصغر فالأصغر الذين يكتبون عندنا.
ثم أن حكاية “الكلمة للتاريخ” ينبغى أن تحتل موقعها الذى يساهم فى تبرير الاستمرار (حتى لو تناقص العدد عن الثلاثمائة الذين ما زالوا يتحملوننا) وقد نمى الى علمى نماذج لمجلات كانت تنسخ باليد وتتداول بين بضع عشرة نفر ومخطوطات أثرت البشرية، وهى لم تتعد عدة نسخ.
قال لى الحاج سيد عطوه (مخرج المجلة، وطابعها): أبدا، لن يكون، نتوقف نحن أولا ثم تتوقف المجلة، (بالذمة تقدر؟ مش حاتصعب عليك؟) وذكرنى بأنه كان يعمل مع رشيد رضا الذى كان يكتب مجلته من “الجلدة للجلدة”، وأن مجلتنا هذه ليست مجلة، وانما هى شهادة أمام الحق والتاريخ (فتذكرت خجلى أمام ما يسمى بحث علمى، وفخرى أمام كل حرف هنا).
شكرا يا حاج
(فانتبهت !!)
فحين يأتى اليوم (التاريخ) ويطاطئ الغافلون والصامتون الرؤوس، سوف تشهد علينا أقلامنا وأحرفنا وكلماتنا قائلة بملء اليقظة: اننا اقتحمنا الملفات السرية للبحث العلمى المغترب، والكلمة المومس، والانتخابات المزيفة، واليسار المتجمد، واليمين المتبختر، والفلسفة الديكور، والدين المنوم، والثقافة المعقلنة، فتحناها كلها نعرى زيفها، لنعيد نبض الحقيقة بما نستطيع.
فليكن التاريخ هو القارئ الواحد بعد الثلاثمائة
أو ليكن التاريخ هو القارئ الثالث بعد أحمد عبد النعيم محمود الزينى، (من المنشيه / الأقصر) وأمين ريان (من الزيتون / القاهرة)، فمن رحمة ربنا أن وصلنى خطابان منهما فى الوقت المناسب، وكان المحتوى بسيطا وصادقا (كالعادة) ولكنه كان كافيا قسما بالله العلى العظيم كان كافيا حتى قلت لو لم يبق لنا غير هذين القارئين لكنا ملزمين بالاستمرار.
جاء فى خطاب الزينى بخطه المميز، والمشكل بعضه، جاء بعد التهنئة بالعيد ورمضان وأشياء أخرى:
“سيدى …. أستميحكم العذر فى عتاب متواضع: ذلك أنى أترقب صدور حبيبتنا الغراء كل ثلاثة أشهر ولكنى دوما يخيب ظنى فى الحصول عليها، ويقينى أن ذلك راجع الى قلة المعروض منها فى السوق وقت الصدور، أو أنكم قررتم توزيعها خفية على خواص الخاص أو هو سوء طالعى المبين، وأغلب ظنى هو الأخير…
(ثم يضع جنيها فى خطابه مخالفا تعليمات البريد للحصول على عدد ابريل 72 ويشكرنا على عدد أرسلناه من قبل
وأحمد عبد النعيم يراسلنا من قديم، وهو لا يكتب قصة، ولا يطلب نشرا، ولا يحاورنا ناقدا، لكنه يتابعنا محبا صامتا، ويدعو لنا كريما شاكرا، ويبدو لى من خطاباته المعدودة أنه ملتزم دينيا التزاما تقليديا، وأنه طيب، وانه متسامح، وأنه قد لا يصل الى عمق بعض غموضنا، (هذه كلها استنتاجات شخصية من خطه وايقاع كرمه، ومثابرته) وها هو ينتظرنا أبدا ويحترم جهدنا دائما، ويقدر استمرارنا فهو يمثل عندى ما يمكن أن أسميه “القارئ العادى” الذى قد يأخذ من هذه المجلة روحها الكلية أكثر مما يقف عند جزئيات ما تطرح، أما دلالة وجوده لى، فهى من أعظم ما أعيش له، فكيف أشكره الا أن نستمر؟! بفضله بما يمثل أبدا.
أما هذا “الكريم” الآخر، أمين ريان، فقد جاء خطابه يذكرنا بما كدنا نفسى ونحن نهم بالتوقف، فقد استهله بحديث عن “القيام بواجب الوعى المشارك” وكنت قد كدت أنسى أن هذا هو نوع الحوار الذى نعيش به ومن أجله، ويحافظ علينا فنسعى اليه يقول فى بعض خطابه:
“معذرة لتأخرى فى القيام بواجب “الوعى المشارك” فلا أعرف من هو أجدر منك بتصور كيف تعترض توافه الهموم أعظم الأمور أهمية وأولاها بعناية الانسان فى عصرنا الجفاء!! (بضم الجيم)”
ثم يقول تعقيبا على بعض فخرى بدراستى عن توظيف العدوان واكتشاف طبقات الذات:
“ثم انك فخور بهذه الدراسة غاية الفخر، ونحن أيضا يا سيدى الدكتور، ولماذا لا تفخر؟ لأن[1]الوجود الطفيلى (الزائف) يهيب بك أن تتواضع فى زمن البلع؟، يهيب بك أن تغض الطرف. (الى أن قال) اننا اذا لم نجاهد لنجعل الوعى فى أحسن تقويم وان لم نفاخر بأن نجعل الوجود حقيقيا، فبماذا نفاخر؟ بل ماذا بقى لنفاخر به فى عصرنا؟ السقوط؟ الطفيلية؟ التآمر؟ التوحد مع الجلادين؟ أم بتصويح النبت ليرعى الهشيم؟
ثم يقول:
ولك يا سيدى أن تأمل فى هذه الدراسة
عظيم الأمل، … .. (1) الا أن مجتمعنا لم يكتمل
وعيه، بل اجهض وعيه .. .. .. وهذا ما يجعل
الكتابة فى بلدنا تعمل عكس ما خلقت له …
أما نفسية الأديب فلم تتخط الوظيفة الشكلية ولم تتخط آلية الشعارات”
ثم بعد وعد بالكتابة الأكثر تفصيلا يدعو لى بالصبر والعطاء.
اذن، فهذا هو أنت يا أمين ريان!؟ لك الله !! فاذا كنت “أنا أنت”، وعندى كل هذه الامكانيات والقدرة المادية ثم اسمح لنفسى برفاهية عابثة تلوح لى بالتوقف، فماذا تفعل “أنت أنت”؟، بكل هذه المسئولية عن الكلمة وعن الوعى وعن الواجب؟ نعم .. وصلت رسالتك فى حينها وسأستمر حتى ولو لم يبق من يقرؤنى الا أنت وعبد النعيم، ولا أذيع سرا لعلك استنتجته بصدق رؤيتك، أن كل ما كتبته من دراسات عن ايقاع الابداع، وايجابية العدوان، وتعدد الذوات، كل ذلك لم يقرأه مختص من بلدى أصلا، ولا حتى تلاميذى الرسميون، فضلا عن أن ينقده أو حتى يشجبه أحد لكنك أنت قرأت، وشاركت (وعيا مشاركا!!)، وأمسكت القلم، وأحسست بالواجب، وقلت، فأين أجد مثلك يبقى على وجودى حتى لا يسحقونى بالأهمال والغفلة، اذ لا يقبلون الا ما هو ليس أنا من تدريس تقليدى وفتاوى معادة وآراء هادئة أحافظ بها على استمرار انتمائى الى “المجتمع” (العلمى وغيره) الذى يضع شروطا للالتحاق به، ليس من بينها دراسة العدوان (هكذا) وحتى دراستى المتخصصة شعرا وشرحا على المتن فى علم السيكوباثولوجى والتى تمثل وجهة نظر فريدة لم يقل لى منهم احد اين تقع وسط كل ما استورد من “مستهلكات” المعارف لكنك ومثلك قرأت، وقلت, وشاركت
لذلك … فعلا:
لم .. و (ربما) / لن: نتوقف
من يدرى؟
1- مكان النقط كلام محذوف بعد الاذن