من التراث
عن الحب .. والملكية .. والتشيىء
يقول نصيب:
أهيم بدعد ماحييت وإن أمت أو كل بدعد من يهيم بما بعدى
قال المبرد:
فلم تجد الرواة، ولا من يفهم جواهر الكلام، له مذهبا حسنا، وقد ذكر عبد الملك ذلك لجلسائه.. فكل عابه، فقال عبد الملك: فلو كان إليكم كيف كنتم قائلين ؟ فقال رجل منهم: كنت أقول:
أهيم بدعد ماحييت وإن أمت فوا حزنا من ذا يهيم بما بعدى
فقال عبد الملك: ما قلت والله أسوأ مما قال.
فقيل له: فكيف كنت قائلا فى ذلك يا أمير المؤمنين ؟.
فقال: كنت أقول:
أهيم بدعد ما حييت وأن أمت فلا صلحت دعد لذى خلة بعدى
فقالوا أنت والله أشعر الثلاثة يا أمير المؤمنين .
***
أنتهى الخبر، صح، أم غير ذلك
أى حب هذا؟
وأيى نقد محدود؟
”نصيب” يعلن حاجته إلى دعد ما ظل حيا، ثم هو يعلن رعايته لها بعد موته، بل يكاد يعلن أنه يعرفها حتى ليعرف من هو جدير بها، وكأنها بضاعة نفيسة، أو أثر غال، يحرص صاحبه ألا يقترب منه إلا من هو أهل له، بحيث يضعه حيث كان هو (نصيب) يضعه، وهو بذلك يطمئن إلى مصيرها بعده، بل إلى تحديد من يهيم بها إذ يقدرها قدرها، وهو فى كل ذلك يعلن نوعا من الحب والرؤية فيهما من الحاجة والسماح معا ما فيهما من صدق وإعزاز، لكنه يعلن أيضا تشييئه لدعد، وكأنها مجرد إمتلاك، مجرد شيء، يحتاج إلى وصاية، ليس فقط فى حياته، بل بعد موته، وهذا هو القبح المنفر، لكنه قبح مقبول لو ذهبنا إلى ما بعده مما ذكرنا.
وأحسب أن قياس النقاد لقول الشاعر بما “يألفونه”، وبما ينتظرونه، هو ظلم وقصور معا، فهم يحرمون أنفسهم من المغامرة فيما غامر به الشاعر،ومن أسخف ما ينقد به الشعر أن يقال: فلو قال الشاعر كذا: لكان أصواب، أو: ولو قال كذا لكان أنسب، ذلك أن هذا تدخل خطير، فالشعر كلمة.. تصل أو لا تصل، فلننظر فى هذا التدخل هل أضاف أم أنقص:
يقول الثانى مثل قول نصيب، فيقبل “الملكية” ويعلن التشيء، ولكنه بدلا من أن يأخذ المسئولية بأن يسلم “العهدة” إلى من “يعرف قدرها” يكاد يعلن تفاهة البضاعة، لدرجة أنه حزين ألا تجد من يقتنيها بعده – أو لعله حزين لأنه لا يعرف أن كان ذلك المالك الجديد أهلا لها أم غير ذلك، أن كان يشبهه أو يخالفه، وهو فى ذلك أقل إمتلاكا وإن كان مشيئا بنفس الدرجة، عاجزا بدرجة أكبر.
وكلا الشاعرين أمتهن دعدا وجردها من الكيان والإختيار والتلقائية والجذب الحر – ولعل هذا هو الحب المقبول حينذاك رغم كل شيء. أما أقبح الثلاثة وأقساهم فهو ما قاله أمير المؤمنين متشاعرا (لو أنه قاله حقا) – وهو ما أستحسنه الجلوس – ربما نفاقا، وربما اتفاقا فى القسوة والقهر – فأى حب “خصوصي” هذا الذى يتمنى تشويه المحبوب بمجرد اختفاء مالكه، يذكرنا هذا ببعض العادات الهمجية التى تفرض على المرأة أن تدفن مع زوجها (أو تحرق معه) حية، إذا توفى قبلها.
****
وقول نصيب، والتنويعات التالية يثير قضية موقفنا من الحب والإمتلاك، ويعلن ميلنا إلى “تشييىء” المحبوب، فإذا بنا نعترف بقمة الإحتكار وخبث الأنانية وسفالة القسوة، تحت إسم الحب، ونسمى أكثر هذه الصورة قبحا: أشعرها.
وليس هذا الزمر مقصورا على موقف الرجل من المرأة، ولكنه قد يكون متبادلا – مع إختلاف المظهر – من المرأة إلى الرجل، وإن كان من جانب المرأة موقوفا عن التنفيذ – عادة – لقلة الحيلة والقهر الاجتماعي، ونحن نلاحظ مثل ذلك فى دعوة إبنة البلد لرجلها بأن: “.. تسلم لى “، وفرق أن تدعو له بالسلامة عامة (لها أو لغيرها) وأن تدعو له بالسلامة لها (دون غيرها على ما يبدو…)، ليصبح المحبوب (وسلامته) ملكا خصوصيا، لا ملكا شائعا للناس كافة (مع التنظيم المناسب)!!
ألا يحتاج الأمر كله إلى وقفة نعيد فيها النظر؟ إن أمكن؟