قصة قصيرة
خابور الجسر
عبد الحميد الكاشف
النـاس ..
بالغت فى الوصف؟
جائز.
التزموا الدقة؟
احتمال.
تمسكوا بالحرفية؟
الله وحده أعلم…
أذ بعد ما تخرج الكلمات… عندما تصبح فى حلوق الآخرين، لا يصبح لنا عليها سلطان.. انما يتحكم فيها الهواء الذى يحملها.
المهم.. أن هذا الهواء نقل إلى جيلنا المفتون بعضا من حواديت هذا الرجل.. حمل الى الآذان ما يجعلنا نعجب ونعشق ونتباهى.. وبلغة جيلنا المبهور نصفق ونهتف ونصيح.. ما يجعلنا نشوح بكلتا اليدين.. ويركب البعض منا اكتاف البعض.. ففى هوجة الحماس المجنون يلتمس البعض للبعض الآخر كل أعذار التهور.. بل ويضيفون للرصيد ألف مبرر ومبرر..
ومن زمن الآباء إلى الجدود، وحتى أجداد الجدود، والأبواق العطشى لدوى الهتاف لا تكف عن الزعيق والشوشرة…
الأبواق فى تزايد… أذن فالشوشرة كذلك فى تزايد….
ولم لا والناس كل يوم فى تزايد؟…
ولابد للجميع أن يسمع.. بالحب كله؟ بالكره كله؟ المهم أن تكون طبلة الأذن جهازا سليما للاستقبال.. متى كان ذلك ؟متى سيكون؟ وأين؟ نحن لا نهتم للتاريخ بزمان أو مكان..
ولو فتحنا الآذان لكل ما قيل ويقال لما نام لنا جفن ولا استقر بنا قرار.. وانما لحسن الحظ أننا تعودنا النسيان… استمرأناه… وبرغم ذلك سنحمل قطعا إلى أبنائنا بل وأبناء الأبناء بعضا من الذكرى.. فالأمتار من شرائط التسجيل تحت التصرف، ورهن الاشارة.. وسواء كانت الذكرى حسنة أم سيئة، فليس من حقنا التدخل ولا حتى أبداء الرأى… ليس فى مقدورنا الحكم.. فالأحياء دائما يهابون الأحياء… نستطيع ان نقرظ السابقين.. ونتهم الأموات أو المخلوعين.. أما الحاضر – حاضرنا نحن – فليس من تخصصنا.. أنه متروك للمستقبل الشجاع إلى أن ينزوى فينجرأ عليه، يتنرفز، يتشنج، ينفعل ويمارس الوطنيات.. اما الآن فلا عصبية ولا موقف.. وكيف والناس وجها لوجه؟..
كان الرجل عفريتا مفتريا.. هكذا قالوا لنا… وهكذا سنقول لهم…
الأمهات يخفن به الصغار .. الكبار بالطبع لم يكن منهم من يحتاج.. فالخوف هنا بالسليقة.. وراثيا..
كان ينزل الراكب… يصطفون كطابور من النمل المهزوم يزحف مكسوفا بجوار حائط.. ترى هل فى دماء النمل أيضا عادة تلقائية بضرب تعاظيم سلام عند مرور مليكتها؟ وهل النمل ذارع بها شارات، واصابع بها خواتم وأظافر؟ ليت لنا عيوننا لها قدرة الرؤيا!!
الرجل …
كان عفريتا مفتريا.. لكنه على أهون سبب مات.. أسطورة الأساطير لبلدنا كفر صارم القبلى بجوار تفاهنة العزب.. وعلى الجسر الذى يعلو البيوت تمدد الرجل وبجانبه ذراع معفرة من تراب الجسر.. مكتوب على زنده ” أبو سريع العتويل” خابور الجسر أذن أسم الشهرة لم يكن ككل الرجال… كان شيئا آخر..
آخر تماما … لكنه أيضا على أهون سبب مات..
كان قويا مفتولا.. كان جسورا .. مجازفا.. كان أكولا وضحوكا.. كان مطربا.. الناس به قد أعجبوا .. أفتتنوا .. ذاع صيته وأنتشر كما تسرى أنباء وباء الكوليرا.. الهيام والعشق كان.. الوشم على صدر القرية الفقيرة المهزومة كان.. المذعورة كان ..وكان.. وفجاة وجدت قريتى المعدمة ما به تباهى وتشمخ.. تنفخ فيه كلاما فى الهواء وترص عنه أشعارا على الورق.
رددوا الكثير من الحكايات.. قالوا أنه ذات يوم.. كان عاديا.. مجهولا مهضوما مفعوصا مثلهم.. كان نفرا.. قزما.. كان منهم.. وبينما الحمار يسير أمامه خاشغا خاضعا حاملا هموم الغيط والبيت.. يسير بلا توقف من ألف عام مضت.. فالحمير فى بلادنا لا تقف.. ورحلتها لا تنتهى.. والحمير فى بلادنا طيبة كالانسان عندنا مطيعة، جلودة، برئية.. فجأة.. دون انتظار وعلى غير العادة. حدث الشذوذ… وقع الاستثناء، غير المألوف أو المرغوب وقع المحظور.. وقف الحمار.
هل الوقوف تمرد؟
عصيان؟
ثورة؟
ـ حـا خطى حـا..
لكن الذى يطيع إلى الأبد.. يرفض أيضا عندما يرفض إلى الابد…
ـ حـا خطى حـا..
لكن الحمار الأمير الهادئ عصلج.. تربس.. وقف شعره كشوك القنفذ.. ليست عادته.. لكن عينيه الواسعتين بما فيهما من برسيم وحشيش أخضر، نظرا إلى الأرض بخوف.. بحلق بنظرات الشك… ارتفعت أذناه مشدودتين إلى الأمام كشاهدى قبر لميت فقير، تقف عليهما الغربان والبوم.. تنعق أمامه ضفادع بصوت الندب على الأيام وعلى الأحوال..
الطريق مقطوع.
للحمار عذره..
المياه تنحدر خائفة تجرى منزلقة إلى حفرة أمامه وسط الطريق.. المياه مع التراب شئ آخر… لا هو بالماء ولا هو بالتراب.. شئ أوسخ…
الحفرة صغيرة.. لكن الحمار يراها عميقة وبلا نهاية.. طبعا من حقه ..
ـ حـا خطى حـا…
ـ أبدا… لايمكن ..
ـ حـا خطى حـا..
ـ رأس وألف سيف مستحيل..
ـ تجمع القوم حفاة عراة… لفظتهم الحقول الخضراء من أحشائها إلى ساحة التجمهر..
الحمار غير مكترث، الحمار حرنان.. هكذا قالوا .. حايلوه.. ربما لأول مرة فى حياته لكنه مصر..
ربتوا فوق ظهره برفق.. لكنه متمكن من نفسه وواثق..
الحنان.. لم يأمن له.. أخذ حرصه.. حذره..
الطريق ضيق.. لا يسمح بالمرور لأكثر من حمار واحد.. لذلك نستطيع أن نرى الآن عشرات وعشرات من الحمير والماعز والجديان والخرفان… حتى الجاموس والبقر والجمال.. بل والكلاب.. جاءت كلها من كل فج.. من داير الناحية والهيئة الكبيرة، ومن حوض القصالى.. الكل طابور واحد خلف الحمار الأعظم تضامنا معه وتأييدا..
ـ حـا خطى حـا..
تململ الرجال والنساء والصغار لطول الانتظار أما حيوانات قريتى فهى التى علمت أيوب الصبر.. أعجبتها الجمهرة، وشجعتها الكثرة العددية مع ضخامة اجسام الجمال والبقر والجاموس… فراحت كلها فى نفس واحد تنهق وتنفر وتصهل وتمأمئ.. راحت كلها تعزف لحن الاتحاد الخالد…
ـ حـا خطى حـا…
رفع الحمار الزعيم شعارا يقول:
” يحيا الثبات على المبدأ.. “
ـ حـا خطى حـا..
وهنا كان الليل قد نسج خيوطا من الظلال.. ثوبا كثيفا يلف الجمع المحتشد.. يطويهم فى جوفه البهيم.. يبتلعهم كأنهم ضفدعة فى فم السيد قشطة.. وانتظرت الجماهير الخلاص..
راحت ترقب المنقذ … العتويل…
وكان فارع الطول مفتول السواعد.. يدخل بكتفه من تحت بطن الحمار القائد يرفعه بحمله الثقيل يقفز به الفجوة التى تخللت طريق عودة الناس إلى بيوتهم خلال رحلة العمر كله…
والحمار الثانى.. والثالث..تبعه الرابع ثم الخامس.. لا الرجل ينهج ولا الكتف تكل…
صفقت الأيدى..و نط البعض كالعادة يركب أكتاف البعض.. أنبهروا خلعوا الطواقى من على الرؤوس يلوحون.. وضعوه فى العين المليانة…
صنعوا منه شيئا آخر غيرهم.. بل غيره هو .. خلعوه من بينهم ليضعوه فى مكانه أحسن.. وكلما رفعوا أعناقهم للرؤية زاد هو علوا وسموا.. زاد ابتعادا..
أطلقوا عليه لقب” خابور الجسر” نيشان الفراسة والشهامة والرجولة فى قريتى كفر الصارم القبلى وحتى القرى المجاورة لها… وهكذا ظهرت البركات .. أظهر كرامة..
ما حدث كان مجرد بداية.. عشوائية حقا… صدفة هذا صحيح.. لكنها ألآن ارقام وحسابات وخطة مدروسة.. أحكام وتدبير ونظام له نظامه.. لوائح وقوانين وأحكام عرفية….
ملفات ودوسيهات وأدراج. تفرغ بعدها.. أبو سريع العتويل لعمله الجيد” الفتونة” كرس حياته من أجلها.. تربع وتفنن.. ترك الحقل وتخصص فى المراهنات.. والناس.. كل الناس من خلفه تردد وتحكى وتقول… تصنع الحدث ثم تردى عن هذا العتويل صانع معجزاتها …
قالت الكثير…
قالت عن تلك الشجرة التى تراهن على خلعها.. وقد كان أن عبط عليها بذراعيه.
ـ هيلا هوب ..
ـ هيلا هوب ..
ـ هيلا هوب ..
ـ براوة عليك براوة ..
ـ ربنا يخليك لنا، ويحميك من أجلنا.. فقد علمتنا، ورفعت من شأننا .. من منكم يذكر يوم شجاره مع عائلة الشكوك؟..
أقاربه …
يومها رفع عرقا من الخشب وجرى به يضرب، برغم رجال قد تشعلقوا بذارعية، لكنه لن يشعر بهم..
كما قد تراهن أيضا على أكل برش عجوة وقيراط من الذرة الخضراء.. لكن هذا كله شئ حقير الشأن بالمقارنة بعضلاته المفتولة وحنجرته المدوية..
وأين كل هذا من رهانه مع( علم الدين) على أكل طاولة العيش الوحيدة التى بالدكان…
لقد كان ..
أحتوت بطنه كل الأرغفة.
والناس من حوله تشجعه وتقف خلفه..
كلما تراجع.. تقدموا.. وكلما هم أن ينهزم.. انتصروا.. كافحوا.. تحملوا… تقووا كلما ضعف..
كم صنعوا من البطولات؟..
وفى كل مرة ينسبوها إلى العتويل..
إلى أن تراهن أخيرا هذا الرهان وأمام الملأ..
لا تنزعجوا ولا تخافوا..
لا أحد يقلق بالمرة أو يضع يده على قلبه فليس ذلك الرهان بكثير على رجل هذا تاريخه.. وهذه عظمته.. رجل له باعه وخبرته…
فكيف تخونه قواه وعضلاته؟.. كيف تخونه مواهبه الفذة أمام حادثة صغيرة الحجم تافهة الشأن؟..
وهل يعقل ان يصل به الأمر للدرجة التى تنهد فيها القوة.. أو يفشل فيها الخبرة الطويلة أمام فردة حذاء؟..
لا أحد يضطرب أبدا.. فهى حذاء لطفل وليد..
هل يعقد هذا؟..
استغفر الله..
أن الأمر بسيط إلى أبعد الحدود..
لقد حدث..
ألم أقل لكم أن ذلك أقل من امكانياته بكثير..
لقد أكلها.. أكلها بالهناء والشفاء…
تمدد حقا بعدها على تراب الجسر، ونصف نعل الحذاء مازال بفمه.. حيث يطل كعبه إلى الخارج..
هذا صحيح .. لكنه على حال أكلها…
أو لم أقل لكم أنه على أهون سبب ياولداه مات…
لقد مات..