المربـع
عصمت داوستاشى
المسطح معدنى صلب .. أخذ لمعانه المشع تحت عينى يتسرب وانا أتابع رؤية أبعاده .. لينطفئ رماديا حتى يختفى فى سواد الجهات الأربع … فالمسطح دون أدنى شك مربع كبيرلا نهائى … أو على الأقل ليس فى مقدورى تحديد أبعاده .. فعينى ترصد ما يمكنها رؤيته فقط … بضع مئات من الأمتار ثم تتلاشى الرؤية فى ضباب مظلم يحيط بأطراف هذا المربع القائم فى فراغ رهيب والسائح ببطء كونى فى اللامكان واللازمان .
والمدهش فى الأمر شيئان … الشئ الأول أن الجاذبية من حيث وجودها .. بمعنى وجودها المتعارف عليه … لها أيضا أبعاد أخرى ….. عرفت ذلك من تأملى لكل الناس المتراشقين حولى هنا وهناك الى مالا نهاية الروية فوق سطح المربع المعدنى الصلب .. فكل فرد منهم جاذبيته الخاصة التى تختلف فى زاويتها عن قوة جاذبية اللآخرين .. بل أن هناك من لا جانبية لديهم تشدهم الى شئ ما .. لو توفر لهم لكان هو الشئ الوحيد الراسخ فى حياتهم الكئيبة فوق هذا السطح المربع المعدنى الصلب .. ولعل من حسن حظى أن جاءت الجاذبية التى تشدنى لأسفل من ذلك النوع المتعارف عليه.. الا أن هذه الجاذبية اللعينة تجعلنى أعانى معاناة شديدة فى أن أواصل التشبث فوق هذا السطح المربع المعدنى الأملس يدفعنى خوف غريزى من الوقوع الى أسفل.
والشئ المدهش الثانى.. أو الشئ الثانى المدهش .. وأن كنت لا أدرى ما هى أوجه الدهشة فى الشئ الأول أو فى الشئ الثانى .. أقول أن المدهش حقا أن جميع المتراشقين حولى هنا وهناك يملكون أدوات بعضها بدائى وبعضها حديث تساعدهم على أن يبقوا فوق سطح هذا المربع المعدنى ولا يسقطوا. فمثلا من يعانى من جاذبية تشده تجاه السطح يستعين ببالون كبير ليرفعه ملليمترات قليلة عن سطح المربع.. والا لسحقته الجاذبية فيقع له مالا يريد من فناء مبكر.. الأمر الذى يتجنبه عادة أى انسان عاقل ورزين. وقياسا على المثال يتحايل الجميع للبقاء فوق سطح هذا المربع .. الى درجة أن لبعضهم القدرة على التنقل هنا وهناك فى صعوبة بالغة أحسدهم عليها فى الوقت الذى أجد فيه المعاناة كل المعاناة لكى احفر فجوات بصعوبة بالغة وبدون أدوات على الاطلاق. أو أن أحفر خدوشا عرضية فوق ذلك السطح الصلب بأظافرى حتى يتسنى لى أن أجد ما أتشبت به بأطرافى واحيانا كثيرة بأسنانى أيضا.. وحتى يتسنى لى التقدم خطوة وراء خطوة لأعلى .. على أمل الوصول الى حافة المربع التى أتخيلها فوق رأسى هنا فى اللارؤية.. فوجودها مجرد أحتمال آمل فيه لعلى أجد حتى ذلك الشئ الذى لا ندريه.. ربما النهاية.. ربما فرصة لنسيان ما أنا فيه الآن.. أو لعلى أواصل بعد ذلك المعاناة فى حفر الحفر وخدش الخدوش للنزول من الحافة الثانية للسطح المربع.
أما المتعة.. نعم المتعة فى هذا العذاب كله .. فهى فى متابعتى للناس المتراشقين من حولى .. والناس حولى حكايات وروايات ولكل منهم عنوان طريف مثل ” النائم فوق المربع” أو نوم المربع، صحيان المربع، مقاتل المربع، سلاح المربع، وهو غير “السلام المربع.. للجدعان” ولعل “السلام المربع” قد جاءت أصلا من سلاح المربع، أما سلام المربع فهو سلام من خرج من منزله وسالم أعداءه وعاد ليعادى اهل بيته وهو فوق سطح المربع مشغول بترقيع ثقوبة بقطع الفلين التى جمعها من زجاجات جاره سكير المربع ..وهكذا .. فنجد مجنون المربع ولص المربع وعابد المربع الى نهاية هذه القائمة من العناوين التى لن تجد أى مشقة فى تكملتها.
والغريب فى الأمر بعد أن تحدثنا عن المدهش فى الأمر ثم العجيب فى الأمر – أقول أن الغريب فى الأمر أن بعض المرشوقين حولى لا يشعرون مطلقا بالمحنة التى نحن فيها أو على الأقل بالتى انا فيها .. وعموما ما أدرانى أن الأخرين يرون ما أراه ويشعرون ما أشعر به من محنة وعذاب فوق ذلك السطح المربع المعدنى الصلب المنطلق فى اللازمان واللامكان.. الا أن الغالبية العظمى تجاهد كل بطريقته الخاصة.. ولعل لكل منهم أيضا متعته الخاصة. وليس بالضرورى أن تكون مثل متعتى فى تأملهم.
والأكيد فى الأمر كله .. هو أننى فكرت كثيرا فى أن أطلق يدى من كل الموضوع نهائيا .. ان اترك نفسى لقانون الجاذبية يأخذنى الى اسفل حيث لا أدرى. والأكيد أنه رغم أنى أفكر يوميا فى هذا الأمر .. لم أفعله ولن أفعله .. فبداخلى رفض قاطع للخضوع لأهوائى السهلة هذه …. فخضوعى كله لقانون العبث الذى أنا فيه الآن وليس لدى أى نية للخضوع لأى قانون آخر على الاطلاق.
ويبقى الأمل فى أن ينتهى نضالى هذا بنهاية مشرفة تسجل لصالحى – أين تسجل هذه النهاية، لا أدرى – وعلى الرغم من يقينى بأن الوصول الى حافة المربع أمر مستحيل .. ولم يحققه أحد من قبل مطلقا … وأن بقائى على هذا الوضع العبثى المزرى القبيح أمر لا مفر منه .. مهين لى ولمن حولى ولا يجرؤ أحد على الصراخ اعتراضا عليه ـ ولمن الصراخ أصلا ـ ثم لماذا يعرضون انفسهم لاحتمالات الاهتزاز وفقدان التوازن ثم السقوط فى الذى لا ندريه ….
قابلين جميعا وساخة ذلك المربع اللعين .
القاهرة 2 / 5 / 1983