الحب والقضية والموت والحساب
محمد فتحى عبد الفتاح
كثيرا ما يقال أن العمل الأدبى أو الفنى العظيم ينطوى على أعماق وطبقات وشرائح وتكوينات تجعله شبيها بأعماق الأرض الجيولوجية وأفاق الكون اللانهائية، كلما مضينا فيه أبعد حصلنا على مايزدنا ثراء وخصبا ومتعة وجودية..
ومن يغوص فى “الأفيال” يدهش دهشة بالغة من ثراء هذا العمل، وعلى الحديث عن بعض مضمونه يلقى الضوء على ما نقصده..
هل ” الأفيال ” عمل عن الموت والحساب ؟ لقد أختار فتحى غانم – بعيدا مؤقتا عن الحيل الفنية – أن يروى لنا حياة بطله يوسف منصور[1] من خلال “حسابه” بعد أن أفلس وفقد الأمتداد .. وذلك بترجمة وضع البطل إلى شئ شبيه بالموت الحقيقى. فالرواية تبدأ بيوسف وقد استيقظ على ألم حاد يمزق أمعاءه .. ترنح بعده “متهالكا إلى الحمام الملحق بالحجرة، وهناك أصابه دوار .. وتهاوى على البلاط” (ص8). مات بمعنى من المعاني، لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد، فقد “سمع طرقات على الباب.. ولا يذكر أنه فتح هو الباب، أو صاح بالطارق أن يدخل .. كل ما يذكره الرجلان يدخلان عليه” (ص8).
يوسف وحساب “القبر”:
وهكذا نجد أنفسنا أمام ما يشبه الملكين اللذين يأخذان رجلنا للحساب .. وطوال صفحات الرواية يواجه البطل أشخاصا يذكرونه بالماضى ويحاسبونه عليه. وأتريث عند مسألة “الموت” هذه قليلا حتى نمضى بعد ذلك بقدر من القناعة. فقد عمد فتحى غانم إلى تجنب استخدام كلمة الموت مباشرة حتى حين كان السياق يقود إليها جبرا [2]. لكنه رغم الحرص على عدم المباشرة فإن الموت بمعنى من المعانى يسرى فى كل جوانب العمل، وبالرغم من تكرار البطل ان الأحداث تجرى فى “حالة شبيهة لما بين اليقظة والنوم” فان افاقته، بعد أن انتفض جسده “واندفعت خارجه من حلقة شهقة جامحة وغاب الوعي، هى افاقة من نوع خاص لا تتعارض مع مفهومنا التراثى عن الموت، وخاصة مع حدوث ذلك فى مكان لا يتفق الزمان فيه مع تصوراتنا عن الزمان، إذ يستطيع المرء هناك أن يلقى أناسا ماتوا منذ زمن ومنهم من لم يره من قبل ليتحدث معهم ويستضوحهم ويحاسبونه، ويمكن أن نرى فى هذه الحيلة الفنية كامنة يوسف، أو أحلامه وكوابيسه، لكن ذلك لا يمنعنا أن نرى فيها من تصورنا التراثى عن الموت الشئ الكثير …
ما يهمنا أن يوسف انتقل فى سيارة سوداء إلى عالم آخر وسط التراب، تبدو الأشياء فيه غير طبيعية، أعطوه على بابه “شهادة” (مفتاح حجرته) بأنه عاش فى عالمنا 53 عاما، وأسكنوه حجرة رماديه، مع “مايفيد أنه عاش يوما ما فى القاهرة مع زينب التى أنجبت له حسن، وانه كتب روايات ..” (حقائبة) وهناك فى هذا العالم التقى شخصيات تذكره “وتحاسبه” بمعنى من المعانى .. شخصيات لها ملامح وواقع الأموات[3].
ومن خلال “حساب” يوسف منصور يجد القارئ نفسه يسأل من الذى مات ويحاسب ؟ هل هو يوسف منصور ؟ أو أن يوسف ليس سوى رمز لشريحة اجتماعية معينة من “نسل بزرميط” جاءت من بلاد بعيدة، بعد أن غرق جدها الأكبر فى معركة نافارين وأهلتها مشاركتها فى اخماد “هوجة عرابي” لامتلاك الثروة والجاه والسلطة (جد يوسف)، ثم ارتبطت ببريطانيا حيث سافر ممثلها (أبو يوسف) ليعود حاملا شهادة “جنتلمان” متعطل..
حساب للجميع أيضا:
لكن واقع يوسف منصور كمؤلف تليفزيونى يجعل موت هذه الشريحة الاجتماعية حدثا عاما يهم المجتمع بأكمله. فيوسف رمز لذلك الجهاز العجيب الذى يتيح للمؤلف أن يدخل بيوتنا دون استئذان، ويتيح له المشاركة فى صنع قيمنا، وبدرجة يمكن ادراك هولها من واقع اختناق الدور التربوى للأسرة والمدرسة. ويزيد الطين بلة أنه يساهم فى صنع قيمنا بالكذب والتمثيل “الذى أطلق موهبتهما فى يوسف ذلك الحادث الفاجع الذى جعل من حياته ضحية للتأليف” (189). ومسألة التأثر بقيم يوسف ليست تخريجا من عندنا. فيوسف نفسه يقول لابنه بعد انفصاله عن عالم الأسرة، فى واحد من مواقف المواجهة بينهما، بعد أن سمعه يردد بعض ما كتب فى تمثيلية تليفزيونية “أنت تقلد بغباء ماتراه فى التليفزيون” (163).
إذن فالمسألة فى الرواية تتجاوز موت وحساب يوسف منصور أو الشريحة الاجتماعية التى مات امتدادها بموته[4] أو بموت فعاليته، لأن الحساب يتحول إلى حساب لما نكون قد تأثرنا به من قيم يوسف… بل وأكثر من ذلك نفاجأ خلال صفحات العمل بأنه حساب لنا على ما هو أكثر .. حساب على أشياء لم نقترقها .. وتضطلع أحداث الرواية باقناعنا بوجاهة أسباب تلك المحاكمة رغم ما نعرفه من أن القوانين والشرائع لا نعاقب أحدا على جريمة لم يرتكبها، حتى أننا نتعجب بعد القراءة من أن لايكون كل منا مسئولا مثلا عن اغتيال الصدق فى حياتنا أو عن قيام دولة اسرائيل أو … الخ لأن الجريمة تعم بالفعل حتى لو لم نشارك فى ارتكابها.. أو لأننا نشارك دائما – حتى دون أن ندرى – فى الجريمة عندما نسكت ونذعن ونهرب..
* * *
وليست هذه سوى بعض الأفكار الى يجدسها لنا العمل دراميا وفنيا، ونحن نولى وجوهنا شطر قضية الموت والحساب .. ومع ثراء هذه القضية بالمفهوم الذى طرحه العمل، وبرغم تعدد مستويات تناولها وتشابك هذه المستويات لدرجة تصل إلى التعميم والتكثيف الفلسفيين، فالعمل لا يقتصر على هذه القضية .. ذلا لأنه لا يمكن الحديث عن قضية الموت والحساب دون الحديث عن مسائل وثيقة الرباط بها .. فهل يمكن أن يدور الحديث عن الموت دون الحديث عن الحياة ؟ وهل يمكن أن يدور الحديث عن الحياة دون حديث عن الجنس ؟ وهل يمكن فصل ذلك كله عن الحديث عن الحديث الأخلاق والدين من جانب، وعن العصر الذى تدور الأحداث فيه من جانب آخر ؟ وهل يمكن أن يكون لذلك علاقة بمشكلة السلطة على اختلاف مستوياتها (الأسرة … المدرسة … التليفزيون ….) أو يمكن أن يكون له علاقة بخلق الأرهابى … بل وهل يمكن أن يكون لذلك كله علاقة بمعركة المصير الحضارية الشرسة التى تدور فى منطقتنا ؟ ..
المثير والرائع أن الرواية تربط بين هذه الأبعاد الأجتماعية والنفسية والتاريخية والحضارية جميعا، ربط جدليا فذا، بل وتتجاوز ذلك لتخلق فى ذرى الفلسفة، فتعلو إلى معالجة مشاكل مثل الولادة والموت والحساب على مستوى ميتافيزيقى ومستوى جدلى، كما هى الحال عند تناولها مشكلة الجبر والحرية أو الموت أو … لكن لماذا لا نبدأ من البداية ؟
***
أى بداية يمكن أن تكون لعمل على هذه الدرجة من التشابك والتداخل والكثافة ؟ وهل يمكن أن يبدأ حديث عن عمل تناول حياة يوسف منصور وموته، بهدف حسابه وحسابنا معه، دون أن نفهم الظروف التى صنعت يوسف منصور وصنعت نظرته للحياة وعقده وقيمه، بما لها جميعا من تأثير على قيمنا عامة، رغم ما قد يكون بين ظروف كثيرين منا وبين ظروفه من اختلاف !! لا بأس أو لا خيار فى أن تكون هذه هى بدايتنا مع هذا العمل الخصب ..
مشكلة طورية بيولوجية انسانية اجتماعية:
وسط كفاح الأنسان الأول من أجل البقاء انحصرت علاقة الرجل والمرأة فى لقاء خاطف سريع كان الرجل البدائى يلتقى المرأة البدائية فيحسان حنينا ورغبة مبهمة تجعلهما يزدادان اقترابا وتألفا، لكن سرعان ما كانت هذه الرغبة المبهمة تتبدد رويدا فى اتصال بدنى حميم .. وهكذا كان الجنس أنذاك مجرد حاجة ملحة …
وفى طور جديد من حياة الأنسان تجمع البشر فى فئات متفرقة وكان من النتائج الهامة لذلك أن تقاربت المسافة بين الرجل والمرأة وأصبحت العلاقة بينهما أكثر من لقاء خاطف، ولم يعد الجنس الحاجة الملحة وحدها بل أضحى أيضا وسيلة التكاثر العددى عندما صار الكفاح الجماعى محور الحياة الجديدة.
ولكن حياة الأنسان الأجتماعية لم تتوقف عند هذا الحد فقد استمرت فى تطورها بما جعل وضع المرأة يتغير رويدا رويدا ليصير البيت ميدانها الأساسى بل والوحيد لدى بعض الفئات .. وتولدت من ذلك معان جديدة لم تخطر على بال الأنسان الأول، مثل النسب والميراث والخيانة والعلاقة غير الشرعية … الخ، وهكذا صار الجنس الذى كان مجرد حاجة ملحة لدى الأنسان الأول، مشكلة يومية فى حياة الأنسان وبرزت ضرورة وجود أحكام أخلاقية تنظم هذه المشكلة.
وقاد التطور الأجتماعى أيضا إلى أن أصبحت العلاقات الجنسية تخضع لاعتبارات لم تكن موجودة من قبل، الأمر الذى جعلها تخرج بالتدريج من حدودها الطبيعية التى كانت تعتمد على مجرد الرغبة والتوافق بين الرجل والمرأة، اذ برزت المصلحة الأقتصادية لتساهم ثم لتهيمن فى هذا الصدد، مما أدى إلى وجود شريحة اجتماعية تحصر مملكة المرأة فى أضيق الواجبات البدنية الأمر الذى ساهم فى ذبحها ككائن انسانى وحولها إلى مسخ مشوه أو إلى سلعة تقبل الملكية المطلقة والإيجار والسرقة..
ووسط هذه الشريحة الاجتماعية نجد أنفسنا فى الرواية وفى سيرة يوسف أمام نموذجين لهذا المسخ المشوه .. أمام كوثر أم يوسف وفاطمة شريف عشيقة أبيه ..
كوثر: جعلت الجريمة تتم لأنها استكانت لها:
كوثر أم يوسف المرأة المستكينة المغلوبة على أمرها أو المقهورة، التى يعشق زوجها وهى تعرف وتصمت راضية “بالزواج” .. راضية “بالخداع والعجز والكذب والجبن والخوف”. ويموت زوجها عنها وتتوالى حلقات سلسلة قهرها.. يضيع أرثها وهى تقف عاجزة لا حول لها ولا قوة فى حلقة ثانية .. وتزوج فى حلقة ثالثة من حلقات القهر إلى لطيف صبرى، زواجا تصنع ملابساته رسالة كاذبة هوجاء .. زواجا لا وزن لها فيه ليكون”ورقة شريفة تصون كرامتهم وكرامتنا” كما قال شيخ الأزهر ليوسف تعليقا على الفضيحة التى كانت تتهددهم .. ولا تقف سلسلة القهر عند هذا الحد بل تقودها إلى حلقة جديدة مع ابنها يوسف …
فاطمة شريف: الوجه الآخر للذبحة الأنسانية:
لكن الوجه الآخر للمرأة المدبوحة انسانيا يطالعنا فى شخصية مغايرة هى فاطمة شريف عشيقة والد يوسف زوج كوثر . الأنثى الوثنية. سلطانة الجسد، ذات العواطف البربرية الوحشية، التى لا ترى فى العلاقة بالرجل والمجتمع إلا المزاج والرغبة والمتعة، وترى أن مفاهيم مثل الكرامة والشرف والأحترام ليست سوى كلام فارغ”.
امرأة هوجاء لا تقف نزواتها عند حد فتسعى بعد موت عشيقها إلى مغامرة جديدة، ولا تتورع عن ارتكاب أى جرم فى سبيل ذلك، حتى ولو كان التلويح بالفضيحة لشيخ الأزهر ذاته، أو ذبح يوسف البرعم الغض الذى يخطو خطواته الأولى المستقلة فى الحياة، ناهيك عن تكرار ذبح كوثر الكيان الغائب عن فعل الحياة الموجود فيها لمجرد تلقى فعل أو حتى تمثيل الآخرين به على الدوام..
يوسف: الكذب الذى يقود إلى العجز:
وهنا يقودنا السياق إلى قصة يوسف – بطل الرواية – نفسه. ولا بأس فى الأنطلاق من أكثر لحظاتها درامية، من اللحظة التى تضافرت فيها الملابسات لتقول ليوسف “الآن أصبحت رجلا” .. رجل البيت بعد موت أبيك، تدرس بحرية فى الجامعة، تتواعد على دخول السينما مع فتاة، وتتلقى أول رسالة بأسمك .. شهادة عينية من الناس والمجتمع بأنك صرت رجلا له أهميته ..
لكن يا لها من رسالة تحولت فى يده إلى ثعبان أشرس من الثعبان الذى خرج له يوما من شق فى أرض الحديقة فأنزعج والده، وبذل جهوده الفورية لحمايته منه … لدغته الرسالة بكلماتها السامة “أمك تستقبل لطيف صبرى سرا فى الليل. وهو يضاجعها فى الفراش. وكل الناس عرفت علاقتها الأثيمة .. فأمنع هذا الفجور .. وكن رجلا وأغسل العار والفضيحة .. وان كنت جبانا عاجزا فسوف نضطر للتدخل وأعذر من أنذر ..”.
وانهارت الدنيا حوله… تحول مشروع الرجل الى طفل صغير يهاجمه وحش مسعور “يجرى فزعا مرتعدا إلى أمه، يكاد يتوسل اليها أن تحتضنه وتحميه لولا الهواجس المخيفة: أنها مصدر الفزع وعليه أن يخشاها ويحذر ما تخبئه له من مصائب…”.
كانت الصفعة قاسية فى اطار تقاليد الأب المحافظ الذى حبسه وهو صغير داخل حصن غبى من التظاهر بالأدب والوقار، وعلمه أن شم ما يحمله الهواء لرائحة ما يطهو الجار عورة، وان رؤية وجه يطل من النافذة أو سماع صوته عورة .. وان كان ذلك أمر صوت أو رائحة فما بالك بمثل هذا الاقتحام لبيتهم: اللؤلؤة الوحيدة المبنية على طراز الباروك .. لقد زلزل الأقتحام قوائم البيت وتحولت اللؤلؤة إلى شرك خداعى ..
وفوجئ يوسف بعد أن زلزلت الرسالة الهوجاء كيانه بشيخ الأزهر يقول له: “الزواج ليس عيبا يا ابني، وهذه الورقة اللعينة التى تهددنا بالفضيحة، سنرد عليها بورقة حلال تصون كرامتكم وكرامتنا..”
”لحقت به الهزيمة. سقطت القنابل الناسفة والحارقة على قلعته. اقتحموا الأسوار واستولوا على أمه وبيته” .. وليست الهزيمة فقط .. العجز أيضا فقد أخفق فى مواجهة المر الأليم ..
وترسب الحدث فى وعى الصبى بصورة مشوهة: ” ان المرأة هى المخلوق الذى لا يمكن أن نثق فيه أبدا حتى لو كان أمك ” ، والدين هو ” الأحكام الظالمة والفتاوى التى تسمح للغير أن يغتال بيتك”(299).
ولم يبق ليوسف بعد ذلك الا أن يواصل حلقات سلسلة قهر أمه .. “يقدم لها هدية زواجها كل عام برسوبه فى الامتحان ويشفى غليله برؤية الحزن والألم والدموع فى عينيها”.
***
وجاءت جابى اسكنازى حلم صباه لتكمل فصول تصوراته المشوهة عن المرأة بالرغم من أنه كان بالامكان أن تكون أداته إلى اكتشاف الخلل المريع فى القيم وفى الواقع الذى أحاط به وبتربيته، وفى التقاليد التى لا صلة لها بالحياة عن طريق ما يسمع ويرى من حياتها، لا سيما وقد راوده للحظة خاطر “أن ما يقال أن أمه تفعله مع لطيف صبرى هو ماكان يسعى إلى فعله مع جابى اسكنازى ..”.
لكن جابى التى أحبها وأصبح زواجه منها مسألة وقت توجه إليه، خلال رحلة شاعرية فى النيل، صفعة جديدة إذ يراها فى أحضان جسد يهودى حل بالقاهرة فى الطريق إلى فلسطين، وراعه أن تقدم حبيبته على ما أقدمت عليه “هكذا فجأة بلا شرح أو تبرير أو اعتذار أو شجار .. وعندما اختفى الجندى بعد اسبوعين عادت إليه .. يرقصان ويذهبان إلى السينما ويقبلها فى آخر الليل لكنه كان قد عرف أنها لن تكون زوجته أو حبيبته ..مجرد رفيق رحلة فى فترة من فترات العمر ينفق وتتسلى معه”.
مرة أخرى تؤكد جابى تصوره المشوه بأن المرأة مخلوق لا يستحق الثقة …
زينب: الولاف المجهض والأمل الخائب:
لكن أحدا لا يمكن أن يوقف الزمن أو أن يهرب من “الحاجة الملحة” … ذلك إضافة إلى أنه كان على يوسف أن يجد مهربا من هزيمته. وهكذا تزوج وكامنته تدفعه إلى الثأر من جراحه .. تدفعه إلى الانتقام.
وقطعت علاقته بزينب شوطا دراميا مؤسيا؛ بين اللحظات “العطوف الحانية” التى كانت تقول له فيها وهو يتصبب عرقا خلال أسبوع العسل “.. المضادات الحيوية تضعف الجسم .. الطبيب قال انك فى حاجة إلى فترة راحة” .. وبين اللحظات الشرسة التى كانت تصيح فيها بعد أن فاض بها الكيل “أنت لست رجلا .. ضاع عمرى معك. أنت كريه منفر أنت فاشل” …
وبين المشهدين كانت زينب أول إنسان – إنسان بالذات – يواجهه “يحبه وكرهه .. أرادت يوما أن يكون كل شئ فى حياتها .. كانت ترى فيه عالمها الوحيد، ليس لها عالم غيره. وأرهقته لأن من يختار عالمه يسعى دائما إلى تغييره. كانت تريده أن تعيش حياة البيت والأولاد وطهى الطعام . .. . وكانت تريده هو، تريده أن يعطيها مثلما تعطيه”..
لكنه ظل برغم محاولاتها وجهودها سرا مغلقا على فهمها .. وفى مواجهة هذا السر ذهبت زينب التى أحبها، وذهبت زينب التى أحبها، وذهبت زينب التى صارعها، وأختفت زينب الصديقة وزينب العدوة، وبقيت زينب الغريبة، لا تجد أمامها الا أن تتحصن باكمال تعليمها ثم تتحصن فى عملها بفندق “برستيج”. تستقبل سياح العالم بابتسامة “وهالوه وأوكي”، وتمط شفتيها إلى كل ما يحدث خارج نطاق قلعتها التى تتحصن وراءها وتظن أنها تتخلص من هذا الكل بكلمات عن دنيا متأخرة “بلدي” متخلفة. مبتذلة، ليست فى مستواها، هى دنيا الجمهور الذى يتتبع يوسف فى التليفريون.
حسن نتاج عجز الجميع عن التعامل الأنسانى:
لكن الزمن والحاجة الملحة لا يمضيان دون أثر، وبرغم كون العلاقة ملجأ وانتقاما جاء حسن بن يوسف وزينب فى غفلة من اليأس والعجز..
ومع الزمن ووسط الظروف التى أحاطته فقد حسن احترامه للمدرسة والأسرة. سقط الكل فى عينه “أعلنوا فى صراحة متناهية عجزهم وعدم قدرتهم على التعامل الإنسانى .. الأخ يحرم عمدا من الأخ، والصاحب .. الزوج والأب يشتم الزوجة والأم. والأم والزوجة تعلن انكارها وعدم احترامها للأب والزوج. وماذا يبقى لولد “ينقد احترامه للأسرة والمدرسة والسلطة والكبار الذين يتشاتمون ولا يخرج حديثهم عن نطاق السرقات والرشاوي، ويجد من يدرس وضعه درسا دقيقا ويسعى إلى اصطياده من ذل الطاعة العلنية لكل السلطات”.. حتى السلطة التى قادته إلى الهزيمة؟ وماذا يبقى لحسن حين يجد من يستغل مأساته .. يجد زياد الأسمر رجل المباحث قائد “التقوى والتقية” يقول له أن أباه وأمه ومدرسته وكل من حوله من أهل وأقارب ومجتمع فيه صحف وتليفزيون وسينما واذاعة هم الشر والفساد والتعفن وغضب الله على الكافرين.
… وهكذا ينتمى حسن مع بعض أترابه إلى قيادة يقدسونها وبنفسية ترى العالم كله، ماعداهم، كافرا.. حتى أن أعضاء الجماعة لا يترددونعلى الجامعة لتقلى العلم…” فالعلم فاسد والأساتذة فاسدون بل يذهبون اليها كمكان تجمع للشباب. لانقاذه بنشر الدعوة، ولفرض سيطرتهم وممارسة الحكم فى مجتمع الجامعة الصغير استعداد لممارسته فى المجتمع الكبير” (228).
ولأن قيادتهم مقدسة لا يصح المساس بها، تقرر الجماعة وخروجا على السلطة – التى لم تتصور أن الجماعة ستشب عن دور الأداة – تنفيذ حكم الأعدام فى عميد كلية الحقوق، لأنه قال لواحد من أعضاء “التقوى والتقية” أنه من أتباع أبليس، بعد أن جاهره الولد بأن الله أحل دم أمثاله (228).
وبعد القتل جاءت بالطبع محكمة الجنايات ووقف يوسف أمام ابنه حسن:
- هل يرضيك ياحسن هذا الذى أصبحنا فيه ؟
- نعم يرضيني.
- يرضيك السجن.
- السجن أحب إلى مما تدعونى إليه.
- أنا لا أدعوك إلى شر .. لا أدعوك إلى ما يغضب الله ..
- أنت لا تدعونى إلى الجهاد.
- الجهاد ضد من .. أنت تدمر نفسك.
- بل أنقـــذها.
- تنقذها بالسجن .. بالأنتحار ..
- ليس انتحارا .. أنا أحارب .. والسجن والحرب سيان. لست أتوقع غير هذا مادمت أحارب الكفر والفساد والأنحلال” (148).
موت يوسف منصور وظيفيا:
وبعد الذبحة الأسرية التى أصيب بها يوسف .. بعد فقدان الزوجة والأبن جاء من يجهز على البقية الباقية، جاء من يصفع الجسد الخاوى فى قسوة .. طلب التليفزيون من يوسف أن يستثمر كارثة ابنه ويكتب حلقات تدين الأرهاب باسم الدين، وبالذات انطلاقا من الجريمة التى أرتكبها حسن ووقائع القبض على جماعة “التقوى والتقية” ومحاكمتها .. وحاول يوسف ..
حاول يوسف لكن العجز والذل والقسوة شلته وحاول ثانية لكن العجز بدا كاملا ونهائيا .. وقيل له لسنا فى عجلة أسترح. غير جو، حتى تستعيد قدرتك على العمل .. “تمجوش يومين ياأخي” (أذهب إلى قرية مجاويش السياحية) .. لكن كان عليه أن يعود بعد ذلك إلى زينب برستيج وتليفزيون الذل والأوهام وابنه الذى تبرأ منه، المحكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.
وضاقت الدنيا على ما فى قلبه من أحزان ومهانات: “الكذب فى ثوب الصدق. الخسة فى رداء الشهرة والبطولة. النزيف المستمر لأى معنى من معانى احترام النفس” .. وهكذا بات يفكر فى الخلاص من نفسه ..
* * *
وكان بالامكان أن تقف قصة يوسف منصور عند هذا الحد، ليكون النزع الأخير فى روح الشريحة الاجتماعية الغريبة المتغربة التى نالت حظوتها وسلطتها من المشاركة فى القضاء على هوجة عرابى، ثم من المتاجرة فى الكذب والأوهام، بلا أدنى عمل مبدع.. تلك الشريحة التى صنعت خللا رهيبا فى حياة يوسف ومن بعده فى حياة حسن .. كان يمكن أن تقف الرواية عند هذا الحد، لكن الخلل الذى صنعته شريحة يوسف التلفزيونجى لم يتوقف عند حدود مصيرها وحدها، لقد ضرب بجذوره فى أرجاء حياة الكثيرين وفى أرجاء منطقتنا كلها، وبالرغم مما قد يكون من تفاوت أو تناقض فى التصورات والمصالح والقيم والعقائد .. وهكذا لم يكن بالأمكان الوقوف عند هذا الحد دون رصد الخلل واستشراف طريق العلاج والخلاص ..
( د. س ) الحيلة الفنية التى وسعت آفاق العمل:
وحتى هذه النقطة من السياق كان يمكن أن نسمع من وجهة نظر يوسف وحده بما هو غائب عنه وسيغيب عنا بالتالى من حقائق .. وحتى يتيح فتحى غانم مخرجا فنيا يتيح أكمال الصورة اخترع لنا (د. س). فان كانت هناك قرية سياحية مثل “مجاويش” وإن كانوا فى “ديزنى لاند” يسمحون للمرء بركوب صاروخ ويمنحونه شهادة تثبت أنه سافر إلى القمر (10) .. ان كان ذلك كله ممكنا، فلماذا لا يصنع الكاتب (د. س) التى تمكنه من رصد الخلل، فى جدله مع طرق العلاج..
وهكذا جاء مراد مليونير الأوهام صديق يوسف بطل الرواية يقترح عليه الذهاب إلى (د. س): “فكر جيدا يا يوسف فيما أعرضه عليك. أنت تقول أنك لم تعد قادرا على تحمل الظروف القاسية التى تحيط بك .. وأن أفكار سوداء تراودك لتتخلص من نفسك التى لم تعد تستقبل إلا الهموم والمصائب والأمراض .. مارأيك فى رحلة إلى مكان مجهول وكأنك ولدت من جديد. مرحلة جديدة تماما تتخلص فيها من كل مساوئ الماضى وعيوبه ومضاره .. تبنى مستقبلا مشرقا سعيدا .. أنصحك يايوسف .. لا تحرم نفسك من هذه الفرصة” (24).
وهناك فى (د. س) يلتقى يوسف شخصيات بينها من عاش فى الماضى، تضيف إلى ما يعرفه عن جده وأمه وأبيه وأبنه وفاطمة وجابى ما يقلب صورتهم جميعا رأسا على عقب، حتى ليوقن أنهم أناس غير الذين عرفهم تماما .. فأمه كوثر هانم تحملت الكثير من أجل المحافظة على بيتهم … وأبوه كان عاطلا مدعيا كاذبا بلا أدب ولا حياء … وفاطمة شريف لم تكن المرأة التى كرست حياتها لأعمال الخير … ويوسف نفسه هو الذى قدم حسن لزياد الأسمر الذى أستغل الظرف فى قسوة …
ما تبقى لنا: الوجه الآخر من الأفيال
ومع تمام الصورة بعد “المحاكمة” يقرر يوسف أن يبقى فى “القبر” بعد أن أدرك عبثيه أن يعود ليعلم ابنه عبر التليفزيون، كما ود أن يفعل من لير شكسبير، أن الأب لا يهزم، أو أن يعود لانقاذه بعد اعتراف الحوت بجريمته .. ذلك لأنه يكتشف افتقاره إلى ما يستطيع أن يقدمه له من أفكار أو معان جديدة تضئ له – ولنا معه – الطريق …
وقرار البقاء فى (د. س) هو النتيجة المنطقية لمجمل حياة يوسف منصور وتكوينه، وهى نتيجة ليست تشاؤمية كما قد يبدو للبعض لأنها تستفزنا وتحفزنا بعد أن فهمنا الظروف التى صنعت قيم يوسف منصور موجهنا ومربينا… وبعد أن فهمنا “ان الوقت الذى يقضيه المرء فى معرفة نفسه ليس وقتا ضائعا” .. وبعد أن اكتشفنا من خلال المحاكمة أننا جميعا مذنبون وأننا جميعا نشارك فى الجرم وأن العقاب يحل بنا جميعا .. وان على كل منا أن يواجه أخطاءه ويجهز دفاعه عن نفسه وحتى “نبنى مستقبلا مشرقا سعيدا” لا فى (د. س) وأنما هنا فى واقعنا .. ولأننا نكون قد اكتشفنا أن الجريمة تعم والعقاب لا تعم حين تحاصر بالمقاومة والصمود وبالقدرة على التصدي، لأن ما يجعلها تعم هو السكوت والأذعان ..
ومن خلال ما دار فى المحاكمة لا يمكن أن لا نقف عند مسألتين غاية فى الحساسية والتأثير على واقعنا ..
الدين بين الأعتراف والنفع والعقيدة- الفعل:
المسألة الأولى هى الدين فالرواية دفاع حار عنه. وهى من حيث كونها عمل فنى لا تعظ وإنما تتركنا نستخلص من الشئ ونقيض الشئ ما يتوجب أن نستخلصه، وليس دور الفنان أن يرسم لنا خطة فى هذا الصدد وإن كانت الرواية مشحونة شحنا جدليا بهذا النقيض.
لقد ركزت الرواية على الخلل فى علاقتنا بالدين من خلال مسح مسهب لهذه العلاقة .. والعلاقة مع الدين: العقيدة العمل التفكير الجهاد … فنحن على طول الرواية نجد أنفسنا أمام دين مشغول بإن كانت التورتة من الجاهلية أم لا، وإن كان التصوير حلالا أم حراما .. أمام دين يدعوا معلموه الشباب لترك كل شئ والأنصراف إلى الدعوة لتعاليم معلمهم التى تقول أنه لاشئ فى الوجود يستحق أن يهتم به الأنسان فى هذه الدنيا غير رسالة المعلم وأن “الله” أكبر من أن ننشغل عنه بهذه العلوم الفاسدة التى يدرسونها فى الجامعات، لينصرف الناس إلى عبادة صروح مشيدة … ولا قيمة لكل ما فى الدنيا من مذاهب وأفكار سياسة اذا وضع فى كفة مقابل التهجد والخشوع “لله” بالليل.. و”الله” الذى يتردد اسمه هنا ليس إلهنا .. أنه المعلم نفسه، الذى يدعى أن للقرآن تفسير للخاصة – أى تفسير للمعلم – وتفسير لنا نحن العوام ولا يبقى علينا بعد هذه اللعبة الساذجة إلا أن نتخلى عن عقولنا وتفكيرنا وديننا: دين العقيدة – القضية – العمل – التفكير – الجهاد … دين تخليص الخالق للمخلوق، بالعبودية الكاملة لله الواحد الأحد من كل عبودية أخري.. الدين الذى ينبهنا “قل انما أعظكم بواحدة، أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا” أى دين حرية تفكير الانسان بلا عبودية لمخلوق.. دين القبلة الواحدة التى ضيعناها..
فالحوت يفخر بأنه تعود طاعة الرؤساء طاعة مطلقة، وهو يختار قبلته وفق ما تعود عليه ولهذا فهو مطمئن لاختياره
وابراهيم المنجى يصلى كل مرة فى اتجاه..
ان هذه العبادات ليست عبادات ديننا لأنها تحرمنا من صلاة الجماعة وصلاة الجمعة، فلا أحد يتفق مع الآخر بقلبه على القبلة التى يجب أن نتجه اليها.. انها عبادات تنتمى الى دين يسعى الفرد فيه أقصى ما يسعى الى اعتراف “يخلص” به ضميره!! ولا يسعى بعض الداعين اليه الا الى تدعيم مناصبهم أو الحصول على ترقية أو ميزة.. دين “يشرب الوزراء الشاى فيه لأنهم التزموا بألا يقربوا الخمر فى خطابات شخصية تبادلها معهم رئيس الجمهورية” (190).
ولعل أبلغ الأمور دلالة فى هذا الصدد ما حكاه الحوت عن اسلام آدم ريشفسكى الذى يصلى وهو يدور فى كل اتجاه…. القيام فى اتجاه والسجود فى اتجاه آخر.. لقد انتوى آدم هذا الاسلام وهو يلعب القمار مع فاروق، وأسلم وغير اسمه من ليفى الى آدم وهو يخسر 80 الف جنيه، ازدادت بعدها صلاته بالملك، وكسب الملايين من عمليات توريد السلاح أيام حرب فلسطين..
دفاع مجيد عن انسانية المرأة:
والمسألة الثانية هى ما تضمنته الرواية من دفاع حار مجيد عن انسانية المرأة … عن ضرورة شركتها فى الحب والأسرة والقضية والتطور .. وهو دفاع التزم نفس منهج الرواية وخطها العام… أدراك الغائب من خلال الحضور .. اكتشاف العلاج من جدله مع الخلل .. أى ادراك صورة السواء من خلال غياب السواء فى شخصيات العمل الأساسية..
وبالمناسبة فأن مجموع الشخصيات النسائية التى ظهرت فى العمل واحد من مظاهر الأحكام الفنى للرواية. فالشخصيات كلها وجوه أو بروفيلات مبتورة – وكل جزء مبتور شذوذ بالطبع – من امرأة متكاملة واحدة هى المرأة السوية .. فكوثر هى الإستكانة والغياب والخضوع فى الزواج والإنجاب، وفاطمة شريف هى الغريزة العمياء التى لا ترى إلا نفسها وفى سيبل ذلك يمكن أن تقتل الجميع، وزينب حاولت أن تعيش بمفهوم أنسانى من خلال مواجهة يوسف لتغيره لكنه ظل مغلقا رغم كل محاولاتها فلم تجد إلا الهرب إلى “برستيج” … أنها الولاف المأمول الذى أجهض ..
وبنفس منهج الرواية أيضا لا يتركنا فتحى غانم هنا دون إدراك لسبب الأجهاض وقد فعل ذلك على مستويين مع يوسف بطل الرواية لأن العلاقة الأنسانية لا يمكن أن يصنعها إلا الرجل والمرأة معا. وقد جسدت الرواية المستوى الأول فى “حلم” يوسف الذى لا علاقة له بالكيان الأنسانى حلمه أو همه الديناميكى المتغير المتمثل فى ليلى ..
الحلم الذى يبدأ بـ “العروسة الحلاوة” الشقراء ذات العيون الزرقاء، وينتهى بالمرأة الخرافة التى تتحمل وحدها عنه وبالكامل مسئولية عجزه النفسى الأرادى .. وهى خرافة لأنها تتجاهل التناقض الداخلى الكامن وراء العجز وتبحث لعلاجه عن أوهام خارجية .. وهى خرافة لأنها امرأة “يونيفرسال” على كل المستويات حتى أنها قادرة على أن تقدم للأنسان فى كل اللحظات كل تصوراته عن المرأة .. البنت والزوجة والأم والممرضة والعاهرة والحبيبة والعشيقة .. وهى خرافة ثالثا لأنها شئ استمده من أوهام رجوع “الشيخ إلى صباه”. صباه هو لا صبى امتداده، ولأنها تدعوه إلى ممارسة “لعبة لا تورطه فى مشاكل .. لا انجاب ولا أولاد .. لا صبيان ولا بنات .. لن أكون أما ولن تكون أبا، ولن يزعجك نجاح أو فشل … أنه ليس الجنس الذى عرفته … الذى تسبب فى وجودك وليس الجنس الذى أنجب لك أبنك” (251) .. أنه استمناء بلا قيمة وبالذات فى موقف يناقش قضية الأمتداد .. قضية الحياة .. وهى خرافة رابعا حتى وأن تمسحت بما يبتسره يوسف ويسطحه من معلومات علمية سواء عن الفهم الصحيح لطبيعة وظروف العلاقة الجنسية فى اطارها الأنسانى، بعيدا عن الميكانيكية البيولوجية أو قيمة الأسترخاء أو العلاج الجنسى .. الخ. أنها واحدة من متاهات مليونير الأوهام الذى يقترح علينا الهرب فى مكان مجهول بينما نحن هنا بالذات والآن بالذات نتلقى الحساب والعقاب.
أنها الوهم الذى قد يكون تسرب إلى أذهاننا عن المرأة من عقد وأمراض يوسف التلفزيونجى على تناقض ذلك مع واقعنا .. ويوسف نفسه يدرك أنها وهم، فعندما تصور أن الفرصة قد لاحت للقاء مثل هذه الشقراء فى “كلاريدج” باريس لم يجد من يصعد معه إلى حجرته “الأمريكية الشمطاء ..
ومع هذا الوهم أو الحلم تكون قد اكتملت أسباب إجهاض الولاف المأمول فى زينب .. أما المستوى الآخر الذى أختاره الكاتب فهو يبين الأحكام الأجتماعى والجدلى للرواية، وقد أختار له جابى اسكنازى التى أحبت يوسف بنفس المشاعر التى يتمتع بها أعظم أبطال الدراما…….”.
وبالمناسبة فأن واحدة من نساء الرواية لم تنجب “رجلا”[5] لأن كوثر أنجبت يوسف العاجز، وزينب أنجبت حسن وهى تواجه يوسف لكن مع إجهاض انسانيتها تبرأ حسن منهما معا، ولم يعد أبنهما مهما أسفر عنه مصيره كمحكوم بالأشغال الشاقة المؤبدة. وفاطمة لم تذكر الرواية أنها أنجبت، بل ربما تؤكد الملابسات العكس.. حتى الحوت خرج ابنه ميتا، وأخت يوسف أنجبت طفلا يحكى أنه يخاف أكل اللحم بعد أن رأى الخروف يذبح، ذلك بينما تجاهر أخته باستعدادها لأكل الخروف كله……
والواقع يقول، على بعض وثنيته فى هذا الصدد، أن إنجاب بنت مختلف تماما عن أنجاب ولد – رجل، ويمكن أن يلقى ضوءا أضافيا هنا ما ذكره الحوت ليوسف وهى يبلغه أن أبنه ولد ميتا: “بقيت البنتان … والبنات مجبنة حتى وأنت رئيس جهاز شرطة” وماردت به زينب على يوسف وهو يقول لها أن حسن أبنها هى الأخرى: “ولكنه وصل إلى سن أنت المسئول فيه عن تربيته”..…
ضفاف الرواية وضفاف حياتنا:
لقد قلنا فى البداية على بعض مضمون العمل أنه يلقى الضوء على تراثه .. ورغم أننا ركزنا على الخط العام فأنه ليس سوى بعض مضمون الرواية بالفعل لأنها تظل بعد ذلك غنية بالتفريعات الموحية التى تزيدها ثراء على ثراء وتجعل ضفافها غاية فى الاتساع..….
خذ مثلا مشهد كلود اسكنازى وهو يقترح على يوسف فى البداية أن يدرسا معا رواية “كيف سقينا الفولاذ؟” لاوستروفسكى الروسى حتى يتعلم كلود العربية .. ويوسف المشغول بجابى يقول لنفسه مالى بكيفية تقسية الفولاذ، خذه إلى جوار مشهد الصبى الذى يحاور عملاقا: مباراة كرة السلة بين اسرائيل والأتحاد السوفييتى التى كانت آخر ما شاهده يوسف فى تلفزيون اللا أوهام قبل أن ينام…
***
خذ المشاهد القليلة المرتبطة بجابي، التى أعطت الرواية أبعادا وأعماقا مختلفة تماما، يمكن أن نستشفها من مقارنة الواقع الراهن لمنطقتنا بسطور مثل” لابد أن يدافع كل يهودى عن نفسه .. أنها حياة أو موت للجميع .. ليست حياة فرد واحد أو جماعة معينة، أن شعبا كاملا مهدد بالفناء .. ثقافته وتاريخه وديانته .. لقد طرد اليهود من الأرض فبقيت لهم الأجساد .. والآن يحرقون هذه الأجساد حتى لا تكون هناك أرض تحفظهم ولا تكون هناك أجساد تحفظ أفكارهم ومشاعرهم ” (360).
خذ الحديث الذى تناثر فى أنحاء الرواية حول تعلم اللغة وأجادتها بين “زينب برستيج” والسلماوى رجل الأعمل الصوفى، ومشهد الحاج الفلكى يتابع المعركة التى انتزعت فيها أرضه وهو عاجز عن أن يفتح فمه بكلمة فى المحكمة أو يفهم شيئا إلا أن الأرض لم تعد أرضه، وتصميمه يومها على تسليح أولاده بتعلم اللغات .. إلى جوار واقعة إرسال منصور إلى انجلترا ليتعلم ممن يحكمون العالم، فيعود بشهادة جنتلمان يتردد على النادى ويحرص على شرب الشاى الساعة الخامسة كل يوم، وقارن ذلك كله بما ذكرناه عن سعى كلود لتعلم العربية ويقول آدم ليوسف لوعرفت العبرية لدافعت عن حبك وعن نفسك ….
***
أو خذ هذا الموت “الإرادى الوظيفي” فى الرواية .. لقد عامل المؤلف يوسف وكأنه فى حالة إغماء يمكن أن تنتهى باليقظة (العودة) أو الموت (البقاء فى د. س) باختياره هو نفسه، وكان الجميع يؤكدون ليوسف أنه سيبقى لا لأن أحدا سيجبره على ذلك ولكن لأنه سيقرر ذلك بنفسه بعد أن يعرف ويدرك افلاسه ..
***
أو خذ الحديث عن موقعة نافارين التى تحقق بها ضرب القوة البحرية للدولة العثمانية .. وصولا إلى السلماوى والطرق الصوفية والجمعيات الدينية فى الداخل والخارج .. والجماعات التى تحركها أطماع السياسة ومناوراتها ..و “جماعة المحمديين” والمعلم محمد زكريا الذى “يخرج الناس من الجاهلية إلى دين محمد الصحيح”، الذى لاصلة له بهيئة كبار العلماء فى الأزهر ولا بالمذاهب الأربعة وبكل ماعاش به الناس كدين أبا عن جد (ص 196) وعن رجال الدين بين حديث الند الأقوى وحديث الموظف الذى يسعى إلى تدعيم منصبه والحصول على ترقية أو مكافأة .. وعلاقة ذلك كله “بالتكفير والتقوى والتقية” … إلخ.
***
تفاصيل كثيرة موحية مثل هذه تنتشر على امتداد المسافة الزمنية من معركة نافارين (1827) التى تحقق بها ضرب القوة البحرية للدولة العثمانية، وحتى اليوم الذى كان فيه كيسنجر وزيرا لخارجية أمريكا، ويوم مبارة كرة السلة من بعده .. عشرات التفاصيل التى تتكاثف مع الخط العام فى هذا المتن الصغير لتصنع تاريخا مأساويا لحياتنا خلال قرن ونصف قرن من الزمان يبقى لنا بعده ماجاء فى نتيجة حساب يوسف منصور، أجمالا لما فصلناه على طول الدراسة: لقد عاش يوسف “مشغولا بأمه وأبيه. مشغولا بجده وسيوفه. مشغولا بشيخ الأزهر وشقيقه. يوسف منصور الذى ضاع منه الحب. وضاع منه الزواج. وضاع كل شئ ربما لأنه لم يحارب لقضية، لم يحارب لأى شئ يستحق الحرب .. ولعل أبنه حسن أفضل منه ألف مرة وقد أمسك بالسلاح يقتل به .. حتى ولو كانت قضيته فاسدة أو ظالمة أو خاسرة. المهم أنه يعرف أن الأنسان لابد وأن يحارب من أجل شئ حتى ولو كان يحارب نفسه. حتى جابى اسكنازى حاربت عواطفها وضحت بها. لعلها تفخر الآن بما فعلته .. أو لعلها تجد بعض العزاء عندما تمشى فى شوارع اسرائيل وتقول لنفسها دفعت بعض الثمن.
الشئ المخيف حقا أنه هو أيضا دفع الثمن وهو لايدرى لتقدم اسرائيل. فقد الحب وضاع معناه وتاه فى الحياة ضالا مشردا لتقوم اسرائيل .. أهذا نوع من الغباء والبلاهة أو السخف. أو هو كل هذا .. جابى اسكنازى ضحت بحبها وهى تشعر بنفس المشاعر التى تمتع بها أعظم أبطال الدراما وهو يصارعون العواطف المتناقضة المتضاربة. الحب ضد الواجب. الأسرة ضد الوطن أما هو فقد دفع الثمن بلا صراع ولا بطولة.. وتاه فى مشاعر غامضة من الأنانية والكرامة والعزة بالنفس ..”.
كلمة عن الشكل الفنى:
وفنية الرواية تستخق أن تكرس لها دراسة خاصة لكن لا بأس من بعض النقاط التى لا يمكن تجاوزها فى هذا المقام. لعل أولها عنوان الرواية. لماذا أختار الكاتب “الأفيال”؟ من هم هؤلاء الأفيال؟ هل هم أفراد هذه الشريحة الغريبة التى تسلطت على حياتنا دون عمل ودون قضية ودون حب، بالمفهوم الأنسانى لا المفهوم البيولوجى؟ أم هم من تأثر بقيم هذه الشريحة؟ أم من لم يتأثروا وبالرغم من ذلك شاركوا فى الجرم والجزاء؟ وهل تبحث عن أجابة لذلك فى دراسة غرائز الأفيال وسلوكها؟ أم نبحث عنه فى واقعنا التاريخى المهدد بالأنقراض – خارج حدائق الحيوان أو ماشابهها من مدن سياحية – بسهام تجار العاج، الذين يحولونها إلى “تحف” للزينة و”ميداليات” مكتوب عليها كلمة love بكل اللغات وبينها لغة الآى آى؟ أم نغير وجهتنا تماما ونبحث عن ذلك بعيدا عن أفيال الواقع، فوق رقعة الشطرنج مثلا؟ أم نتخذ وجهة تراثية فى محاولة لاستشفاف علاقة هذه الأفيال بفيل أبرهة خلال محاولته الفاشلة لغزو مكة عام مولد الرسول صلى الله عليه وسلم.
أيا كان الأمر فان هذه النقطة تقودنا إلى نقطة هامة أخرى هى أن الرواية كانت ستستفيد كثيرا لو شفت حيلها الفنية قليلا حتى لا نغيم هذه الرؤية بدرجة قد تستعصى على العديد من القراء..
ما هو سر صمت النقاد؟
لكن برغم ذلك تبقى أكثر أعمال فتحى غانم أحكاما من ناحية الشكل والمضمون واللغة.. وهذا يقودنا إلى مسألة لا يمكن تجاوزها هنا أيضا هى سر موقف النقاد من الرواية والصمت التام الذى لفها (وكان هذا دافعى للأهتمام بتناولها) … فاذا اعتسفنا تقسيم النقاد من حيث اتجاهاتهم النقدية فى ثلاثة تيارات: التيار الاجتماعى، والتيار النفسى، والتيار التحليلى لوجدنا فى الرواية زادا دسما يمكن أن يغرى المنتمين إلى كل تيار، بل ويغرى إلى جوارهم كل مهتم بعلم اجتماع الأدب والدرسات الأجتماعية والنفسية وربما الدينية …
فناقد التيار الاجتماعى يمكن أن يغريه فى الرواية الكثير من عادات المجتمع، ومن أنماط السلوك فيه، إلى جوار المعالم التاريخية والبيئية والاقتصادية، ناهيك عن اقتراب العمل من قضايا خطيرة مثل الأسلام فى حياتنا، ومعركة المصير الحضارية الشرسة التى تدور فى منطقتنا ووضع المرأة فى قيمنا والرواسب الوثنية فى هذا القيم، والأرهاب ومنابعه وأخطاره … ومادة الرواية فى هذا الصدد لا تقتصر على التصوير الفنى الدرامى بل تصل إلى حد النبوءة الأجتماعية فى كثير من التفاصيل....
وناقد الأتجاه النفسى يمكن أن يغريه البناء النفسى للمجتمع بشكل عام، وما فيه من صواب وانحراف وصحة ومرض، أو حتى العالم النفسى للكاتب وعلاقة “الأفيال” بما قبلها من أعمال والتشابه بين أسماء الشخصيات وواقعهم وملامحهم الداخلية، بل ويمكن أن يجد فيها من يريد حالة فرويدية مثالية تفسر حياة الأفراد والجماعات بل والتاريخ والحضارة بالجنس، ناهيك عن الحديث المنتشر بين ثنيات الرواية عن السواء النفسى.
وناقد الاتجاه التحليلى الذى يعتمد النص الأدبى ككيان مستقل دون النظر إلى ظروفه أو كتابه يمكن أن يجد الكثير فى لغة العمل وأسلوبه وأدوات التعبير فيه، وطرق رسم الشخصيات وتحريك الأحداث وتنمية الحبكة، وقد أعتنى فتحى غانم بالبناء الفنى والدرامى لعمله هذا عناية يمكن استشفافها من اهتمامه الشديد بالتفاصيل والرموز..من التراب إلى اللون الرمادى والشيكولاتة إلى الكرسى الذى أنتقل من بيت جده إلى بيت أبيه إلى حجرة مكتبه إلى حجرته فى (د. س)…. إلخ، بل وبإمكان ناقد صرعة البنيوية أن يجد الكثير فى الأبنية والأنساق المتعددة والمتشابكة داخل هذا العمل الرحب..
أسئلة كثيرة تثيرها هذه الرواية الثرية التى تناقش قضايا حيوية ومصيرية. ولعل أهمها – الأسئلة – يدور حول الصمت الذى أحاط بالأفيال على شهرة كاتبها .. أم أن كل ماذكرناه لا يمكن أن يكون مبررا للتجاهل مع ماتعودناه من غياب عن ماهو حيوى وصادق ومصيرى فى واقعنا، وبالتالى يكون الغريب هو من يحاول أن يفعل العكس.. أم أن أوان النقد لم يحل بعد، انتظارا لعرض الأفيال على الشاشة الصغيرة حتى يجد النقاد حافزا لقراءتها ونقدها [6]
[1] – على المستويات: البيولوجى والوراثى والبيئى والنفسى والأجتماعى والتاريخى والسياسى الأقليمى والعالمي.
[2] – مثلا فى مشهد اغماء آدم ريشفسكى (ص 96) يعاتب يوسف الطبيب على انصرافه وآدم فى هذه الحالة قائلا له “لكنه يوشك ..” دون اكمال “أن يموت” وحدث الشئ نفسه والحوت يقول ليوسف ان ابراهيم المنجى أشرف على ولادة ابنتيه، أما الولد فقد أخرجه .. ولم يكمل “ميتا” ..
[3] – ففاطمة شريف “عيناها الزرقاوان ثقبان فى فجوتين غائرتين .. عيناها جافتان .. وشفتاها خطان حادان فى وجه من الجبس .. وملمس يدها خشن بارد (340) والحوت عيناه زجاجيتان مصقولتان تذكران يوسف بعينى طائر غريب رآه محنطا (202) وعينا خليل رماديتان ووجهه أبيض شمعى (126)، وعندما يغمى على آدم ويقول يوسف “أنه فى حاجة إلى اسعاف عاجل حتى لا …” يردون عليه ماذا يحدث له أكثر مما هو فيه (96) أى بعد أن مات فعلا..
[4] – حتى مع وجود حسن (ابن يوسف) مهما أسفر عنه وضعه كسجين محكوم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة، فقد انفصل عن هذه الشريحة قلبا وقالبا.
[5] – بمعنى القدرة والفعل والسيطرة على مقود الحركة – التطور بعيدا عن العجز..
[6] – بالرغم من الفسحة الزمنية الواسعة – ظروفا عامة وأدبية بل ونقدية – منذ كتباتى هذه الدراسة فى آخر عام 1981 رأيت أن أبقى عليها كما هي. فالخطوط العامة للدراسة، بعيدا عن اللافتات التى لايمكن فصلها عما هو مدرج تحتها، تفى برؤيتى لهذا العمل الفني، كما تفى بالهدف الذى وضعته نصب عينى وهو كسر جدار الصمت النقدى .. وأتمنى أن أتمكن قريبا من نشر الدراسة المكملة حول البناء الفنى للرواية (م.ف).