الإبداع … وذاتية العلم
د. مجدى عرفة
“اذا اعتبرنا العلم مجموعة كاملة من المعارف كان أكثر انجازات البشرية موضوعية، ولكن اذا اعتبرناه مشروعا مستمرا فهو ذاتى وسيكولوجى مشروط، كأى مشروع انسانى آخر”.
(ألبرت أينشتين)
ذاتية العلم …؟! لأول وهلة يبدو هذا التعبير غريبا وتناقضا وقد يثر الدهشة أو الرفض أو حتى الغضب لدى بعض الناس ولكننا اذا انتقلنا بالنقاش إلى العمق المناسب فان الأمور قد تأخذ شكلا آخر. نحن مطالبون هنا بأن نخطو داخل منطقة الابستمولوجيا” فلسفة العلم أو المعرفة” لكى نناقش قضية شائكة هى الذاتية والموضوعية فى المعرفة العلمية والإبداع العلمى .
القضية عموما ليست جديدة.. ولكنها من نوع القضايا الشديدة التعقيد والمتعددة الجوانب التى لا يتوقف حولها النقاش ولا تنقطع احتمالات الاضافات الجديدة التى قد تضئ جوانب متزايدة وتغذى باستمرار الأمل فى أن نصل بشانها إلى رؤية واضحة وشاملة بدرجة كافية .
ما أحاول أن أقدمه هنا أثاره مقال غير عادى للكاتب الفرنسى بيرتويلبير وهو أصلا أستاذ فى الفلسفة يهتم بضفة خاصة بمشاكل فلسفة العلم أو المعرفة. والمقال بعنوان:” العلم والذاتية فى حالة أينشتين ” [1]، وهو عبارة عن مناقشة ثرية ” للمنشأ الذاتى “لأفكار النظرية النسبية تعتمد فى المقام الأول على رؤية وآراء اينشتين نفسه فى هذا الشان، ولعل ما سأقدمه هنا لن يعدو أن يكون نوعا من اعادة القراءة والمناقشة لآراء ورؤى أينشتين كماقدمها هذا المقال .
لماذا أينشتين؟
هناك فى تصورى سببان رئيسيان يعطيان قيمة متميزة لفحص أو دراسة علمية الابداع العلمى من خلال رجل مثل أينشتين:
1- أن هذا الرجل قدم ما يعتبره الكثيرون أكبر اسهام علمى فردى عرفه تاريخ البشرية، فنظرية العملاقة عن النسبية كانت الأساس الذى فتح أمام العلم أوسع أبواب المعرفة بالكون الكبير والكون الصغير ” الذرة” على حد سواء. وقدجاء هذا الاسهام فى مجال الفيزياء التى تعد أدق فروع العلم الحديث المعروفة ويعد نمط البحث العملى فيها نموذجا او مثلا أعلى للموضوعية تحتذيه وتسعى وراءه سائر العلوم .
2 ـ أن اينشتين كان يهتم دائما بتحليل مسار أفكاره ومنشأ آرائه والثأثيرات التى يخضع لها، بتعبير آخر فانه كان دؤوبا فى محاولته أن يعى نفسه وان يسجل أو يعبر بوضوح عما يدور فى داخله، وقد ترك بذلك مادة غنية من الملاحظات التى يمكن أن تلقى بالضوء على جوانب هامة من عملية الابداع العلمى التى جسدها هذا الرجل واصبح نموذجا فذا لها .
المنابع الذاتية للابداع العلمى:
ان رؤى أينشتين وآراءه كما يعرضها المقال تتجمع بشكل واضح لتشير إلى أن واقعية أو “موضوعية ” الفلسفة العلمية لدى هذا الرجل لها ذور عميقة ومباشرة فى ذاتيته، وهذه الصورة يمكن نقلها ـ فى تصورى ـ من خلال مناقشة ثلاثة جوانب بارزة:
1ـ دافع السعى العلمى ومنبعه .
2 ـ بنية العملية الابداعية .
3 ـ الابداع والثورة او التمرد .
1 ـ دافع السعى العلمى ومنبعه:
يقول اينشتين:” أن رجل العلم الحق مشبع بشعور دينى كونى” ، وهذا التدين الكونى ” هو اقوى وانبل دافع للبحث العلمى “.”أن من يستطيع أن يقيس الجهود الضخمة والاخلاص الدؤوب الذى لا ينيسر للابداعات العلمية أن تفتح طرقا جديدة بدونه هو الذى يتسنى له تقدير قوة الشعور الذى يمكن أن يولد مثل هذا الأعمال المجردة عن الحياة العملية المباشرة، وهو الذى يستطيع أن يدرك أن الشعور الدينى الكونى هو وحده الذى يستطيع أن يعطى الانسان مثل هذه القدرة ” .
هذا التدين الكونى كما يراه أينشتين يمثل درجة ثالثة سامية من الحياة الدينية باعتبار أن الدرجتين الأوليين هما على التوالى: الدين الخوف ” تدين الخوف من العقاب والرغبة فى الثواب” ثم الدين الأخلاق .
فى مرحلة التدين الكونى ـ كما يراها أينشتين ـ تسقط الحواجز بين الدين والعلم ويصبح التدين ” محاولة متواضعة لفهم نظام العالم فهما أفضل ” وتصبح المعرفة وراء ” أن يبدو الكون وحدة لها معنى”
وأينشتين يقرن هنا بين فكرة الدين وفكرة أن العالم “معقول ” وفى متناول ادراك الخبرة الانسانية، وهو يرى أن شجاعة رجل العلم حين يعكف على دراسة الطبيعة رغم كل الصعوبات والتناقضات أنما تأتى من ” ايمانه” بأن هذه الطبيعة مبنية على قوانين متناسقة ومعقولة وقابلة للفهم والادراك .
أن الرجل الذى يصل إلى مرحلة التدين الكونى فى رأى أينشتين هو ذلك الذى ” تحرر على قدر استطاعته من العوائق التى تشكلها رغباته الأنانية وتحول صوب أفكار ومشاعر وامانى لها قيمة تسمو على الاعتبارات الشخصية “…. هو انسان يتميز ” عالم لا شخصى” بشكل جنة جديدة … عالم ” واقعى” مستقل عنا يؤدى اوسوف يؤدى أو سوف التفكير فيه إلى عمل محرر “.
ان من يتمعن فى أعمال أينشتين وإبداعاته العلمية يستطيع أن يرى أنها انعكاس أو تجسيد صادق لأفكار ورؤاه الشخصية هذه .
ان مضمون مبدا النسبية ـ كمايرى بيير تويلييه ـ انما يترجم الرغبة فى ايجاد صورة للعالم مستقلة عن وضع مختلف المراقبين أو نظم الاسناد، وفيزياء اينشتين النسبية أنما تشكل فى النهاية برنامجا عاما وشاملا قوامه بناء عالم يسمو على الأشخاص، عالم يقع فيما وراء أحاسيسنا ومداركنا ولكنه ذو واقعية سامية، عالم متناسق القوانين فى وحدة معنى بالرغم من كل التناقضات الظاهرة .
ما الذى يمكن أن نفهمه من هذه الصورة التى تقدمها أراء ورؤى أينشتين؟……….
يشعر الانسان وهو يقرأ كلمات أينشتين وأفكاره السابقة أنه لا يستمع إلى رجل علم مهمته على أثبات حقائق” ملموسة ” بأدلة وبراهين ومنطق عقلانى بحت بقدر ماهو أمام رجل على مرتبة متقدمة من التصوف يحاول أن ينقل رؤيته بلغة مفهومة وقابلة للتواصل. أن الرجل فى حديثه عن العلم والعلماء هنا لا يتحدث بلغة النتائج ” الموضوعية ” التى تقوم على التجارب والأرقام ووالحسابات المنطقية، وأنما هو يتحدث عن ظوتهر توصف عادة بأنها ” ذاتية”… يتحدث عن مراقبة ايمان أو حالة وجود تدفع بالانسان إلى سعى لا يكل من أجل استجلاء الحقائق وتتيح له رؤية الوحدة والتناسق والمعنى … ثم تقود فى النهاية إلى صياغة المعادلات وتحديد الظواهر العينية التى يمكن أن تقبل التجريب أو التثبت المحسوس … حين تسمح الوسائل بذلك[2].لا يوجد أو فاصل مصطنع هنا بين الدين والعلم.. بين دافع ورؤية الحالة ” الذاتية” وبين الصياغة القابلة للتواصل والتى توصف عادة ” بالموضوعية ” .
العالم المبدع فى هذه الصورة ليس مجرد عقل فذ مدرب وشديد المهارة وانما هو انسان يعيش نوعية خاصة من الوجود.. انسان وصل إلى حالة انسانية متجردة من “التدين الكونى”.. تمنح معينان لا ينضب من دافع السعى والعمل، كما تعطى رؤية صافية ثاقبة للكون وحقائقه قادرة على تجاور شتات المحسوسات وظاهر التناقضات إلى جوهر الحقائق وقوانينها المتسقة.
والابداع العلمى – كما يمكن أن نفهم من هذه الصورة – ليس عملية تنمية لنوعية متفوقة من “النشاط الانسانى” وانما هو فى أساسه ومنشأة عملية تشكل لنوعية خاصة ومتقدمة من”الوجود الانسانى”.. هى أصل الدافع.. ومنبع الرؤية.
2- بنية العملية الابداعية:
يقول اينشتين: “الكلمات واللغة الكتوبة أو المنطوقة لا يبدو أنها تلعب أقل دور فى آلية تفكيرى، أما” الجواهر النفسية” التى تعمل كعناصر للفكر فانها علامات أو صور واضحة إلى حد ما يمكن حسب الرغبة أن تستنسخ وترتب، وهناك بطبيعة الحال علاقة مابين هذه العناصر وبين التصورات المنطقية المستخدمة”.
وفى موضع أخر يقول:” فى رأيى أن تفكيرنا يعمل فى الأغلبية العظمى من الأحوال دون أن يستخدم علامات(كلمات)، ويعمل ايضا على نطاق أوسع بكيفية لا شعورية”.
ومن المعروف عن أينشتين أن نشأته قد اتسمت بنوع من البطء فى النمو العقلى فى الطفولة ويشمل ذلك نمو القدرات اللفظية او قدرات استخدام اللغة والكلام. وقد ربط البعض بين هذا وبين تصريحاته السابقة عن أن تفكيره يعتمد فى آليته على الصور أكثر من اعتماده على اللغة واللفظ، وذهبوا إلى أن ذلك قد ساعد اينشتين كثيرا على التفكير بكيفية غير عادية فى تصوراته للزمان والمكان. فى هذا الشأن يقول اينشتين نفسه:
” أتساءل أحيانا كيف كنت الوحيد الذى طور نظرية النسبية. السبب فى ذلك على ما أظن أن الانسان الراشد لا يزعج نفسه يشأن المشاكل التى يطرحها الزمان والمكان، ويرى أن كل ما يلزم معرفته فى هذا الشان يعرفه هو منذ نعومة أظافره. أما أنا فعلى العكس من ذلك قد نموت نموا بطيئا، فلم أبدا فى أن أوجه إلى نفسى اسئلة تتعلق بالزمان والمكان الا حين كبرت، نتيجة لذلك استطعت أن أنفذ فى قلب المشكلة إلى عمق لا يصل اليه طفل نما نموا طبيعيا”.
السؤال الطبيعى الذى يمكن ان يثار فى محاولتنا لفهم هذه المقتطفات هو: كيف تتم العملية الابداعية فى العقل الانسانى؟.. وهو السؤال حاول العديد من علماء النفس الاجابة عليه، وخرجت فى هذا الشأن العديد من النظريات والفروض.
من أبرز هذه النظريات نظرية سيلفانو اريتى – احد العلماء المتميزين فى مجال الطب النفسى. فى هذه النظرية [3] يرى أريتى أن الابداع – سواء كان ابداعا علميا او فنيا – أنما هو ثمرة ولاف بين مستويين من التفكير الانسانى: مستوى العملية الأوليةPrimary process thinking ومستوى العملية الثانويةSecondary process thinking. المستوى الأول مستوى بدائى أدوات التفكير السائدة فيه هى التمثيلات والرموز القبل –لفظيةpreverbal أو القبل – مفهومةpreconception للعالم الخارجى – مثل الصور images والرموز الأوليةpaleosymbols [4] ، ويقوم فيه التفكير على علاقات أو ارتباطات لا تخضع للمنطق العادى(لا منطقية أو قبل منطقية).
وهذا المستوى موجود بصورة طبيعية لدى الأطفال فى مراحل النمو الأولى، كما يفترض وجوده فى المراحل الأولى من التطور الانسانى. من ناحية أخرى فان هذا المستوى من التفكير يسود بدرجة وبصورة مرضية فى حالات الأمراض النفسية الذهانية وخاصة الفصام.
المستوى الثانى هو المستوى الراشد وفيه تسود الرموز اللفظية (أو غير اللفظية المتقدمة مثل الرموز الرياضية والموسيقية.. الخ) التى تمثل مفاهيما محددة ومتمايزة بوضوح يكفى للتواصل ونقل معنى مشترك، ويقوم التفكير هنا على علاقات منطقية وقابلة للتثبت الواقعى المباشر والمحسوس.
التفكير فى المستوى الأول يكون ذاتيا شديد الخصوصية يصعب الاتصال به حيث يستند على الخبرة بمعانى ليس لها – ويصعب أن يكون لها – رموز تواصلية واضحة، كما أن العلاقات والارتباطات التى تقوم فيه حرة غير ملتزمة بالمنطق العادة وبالتإلى فهى غير محدودة فى احتمالاتها، وفى مثل هذه العلاقات يمكن أن يتشابه أو يتواءم أو حتى يتحد ما يبدو للعين المنطقية مختلفا أو متناقضا كما يتباعد أو يتنافر ما يبدو للعين المنطقية متشابها أو متسقا.
أما فى المستوى الثانى فان التفكير يكون أقرب لما يصطلح على تسميته بالموضوعية بمعنى أنه يستخدم أدواتا قابلة للتواصل ومن ثم الاتفاق المشترك على المعنى كما أن علاقاته وارتباطه تخضع للمنطق الذى يتفق الجميع على معقوليته واتساقه مع علاقات الواقع كما تدركه الخبرة الانسانية العامة. واحتمالات العلاقات والارتباطات هنا محدودة بحدود المنطق السائد.. وما يقع خارجها فهو غير منطقى.. أو غير واقعى… أو غير موضوعى.
فى عملية الابداع كما يراها أريتى – وبقدر فهمى لصياغته – يحدث ولاف بين هذين المستويين:
ـ المستوى الأول يعطى رؤية هى نوع من الخبرة المعرفية – الوجدانية المركبة التى يلعب الحدس فيها دورا أساسيا، وهى خبرة خاصة جدا لا يسهل التعبير المباشر عنها بلغة تواصلية معروفة. من أهم عناصر هذه الخبرة المدى الواسع للعلاقات والارتباطات التى يمكن أن تشملها والتى تتجاوز حدود المنطق العادى.
ـ أما المستوى الثانى فانه يعمل على صياغة هذه الرؤية فى لغة قابلة للتواصل ومنطق قابل للفهم والاتفاق المشترك، أى أنه يعمل على تمثيل العلاقات والارتباطات الجديدة فى بنية لها منطقها واتساقها الذى يمكن أن يفهمه ويتفق عليه الآخرون.
محصلة هذا التفاعل أو الولاف هى شئ ثالث.. شئ جديد تماما يكشف عن نشق جديد أو علاقات جديدة لم تكن منظورة من قبل وتتباين قيمة هذا النسق الجديد بالقدر الذى يثرى ويوسع به نظاق المنطق الانسانى الواعى أى بالقدر الذى يضيفه اليه من”المعقوليات” الجديدة القابلة للوعى والفهم والاتفاق المشترك.. ثم التطبيق الحى والنافع بعد ذلك.
العملية الابداعية بهذه الصورة هى نوع من اعادة ترتيب المعطيات اللامحدودة للخبرة الانسانية.. أساسها ومنبعها رؤية” ذاتية” بمعنى أنها شديدة الخصوصية وبعيدة فى نشأتها عن تناول الفهم والاتفاق الحسى أو الفكرى المشترك ولكنها تصل فى نتاجها إلى حقائق”موضوعية”.. بمعنى الاتفاق المشترك والقابلية للتثبت والتحقق والتطبيق العملى المفيد.
وجديد بالذكر أن أريتى يعتبر التفكير الذى تحدث فيه عملية الولاف الابداعى هذه مستوى ثالثا يسميه مستوى التفكير الثالثوى tertiary process thinking .
لعلنى لا اكون قد استطردت كثيرا فى وصف هذه النظرية، ألا أن هذا القدر فى تصورى ضرورى لفهمها فهما معقولا يتيح القاء بعض الضوء على ملاحظات أينشتين عن آلية العملية الابداعية لديه. أننا أذا أعدنا النظر فى وصف أينشتين للعملية الابداعية كما تدور داخله يمكننا أن نلاحظ مدى تطابقها مع الصورة التى تقدمها هذهه النظرية. يمكننا أن نرى كيف يتم التفكير من خللا التمثيلات representations القبل- لفظية فى شكل صور أو ما يسميه هو ” بالجواهر النفسية” (ولعله يقصد هنا ما أسماه أريتى بالرموز الأولية).. وكيف أن هذا المستوى من العلميات المعرفية يدخل فى “علاقة” مع التصورات المنطقية. كذلك نرى كيف أنه يربط ببصرته الفذة بين قدراته الابداعية وبين التأخر المرحلى لنموه.. وهو ما يمكن تفسيره على أساس أن مثل هذا التأخر يشير ضمن ما يشير إلى احتفاظه بحيوية العملية الأولية بدهشتها وثراء صورها.. واتساع نظاق علاقاتها غير المقيدة بحواجز المنطق والمسلمات التى تقولب التفكير وتحد من انطلاقه بدرجة أو بأخرى.
3ـ الابداع العلمى والثورة أو التمرد:
كان لأنيشتين –كما يصفه تويلييه – موقفا رافضا من الآراء المسلم بها عامة، وكان يعتز بأنه وصل على حد تعبيره الى:” فكر حر متحمس تحمسا ايجابيا يمثل الارتياب فى كل شكل من أشكال السلطة وفى موقف متشكك حيال المعتقدات السائدة فى كل مجال اجتماعى”.
وكان يرى أن:” بعض الصعوبات التى تتبدى فى نظام من نظم المعرفة لا يمكن حلها الا اذا أمكن أولا تصور الأسس التعسفية واللاشعورية إلى حد ما لهذا النظام، وليس فى مقدور فكر نموذجى متوافق تمام التوافق مع المجتمع أن يتمع بالتجرد اللازم”.
ويبدو أن الجهد الناقد الذى ولد نظرية النسبية لم يكن ليتحقق الا بفضل مثل هذا التمرد والاستقلال الفكرى الحقيقى.
هذا فيما يبدو يشير إلى ظاهرة ذاتية أخرى لها أهميتها فى عملية الابداع العلمى: تكوين شخصى ثائر ذو موقف رافض أو ناقد على الدوام لما هو سائد.. موقف مستقل عن كل القوالب الجاهزة يرفض التقيد بالمسلمات ويتشكك فيها ويبحث دوما عن الحقائق فيما وراءها.
وقد يكون من الصعب فعلا تصور ابداع علمى – أو غير علمى – حقيقى لا يستند بدرجة أو بأخرى إلى مثل هذا الأساس الذاتى أو الشخصى.
***
وبعد ..
لا أستطيع أن أدعى أن المناقشة السابقة تفى بالقدر المعقول من المعالجة لمثل هذا الموضوع الصعب والمعقد. ان هذا المقال – كما أتصور – هو أقرب فى هدفه إلى اثارة النقاش وفتح بابه منه إلى تقديم معالجة شاملة ووافية.
أن مثل هذه المعالجة تتطلب دراسة أوسع واكثر تأنيا وفحصا كما تحتاج إلى مساهمة بالرأى والرؤية من آخرين تهمهم القضية ويستثير عرضها مشاركتهم… ولعل هذا – أو بعضه – يتحقق فى مرات قادمة.
[1] – أحد مقالات الطبعة العربية من مجلة ” رسالة اليونسكو”، العدد 216، يوليو 1979، ص 24 ـ 29. وتجدر الاشارة هنا الى أن كل المقتطفات الورادة فى هذا العمل مأخوذة عن هذا المقال .
[2] – من الجدير بالذكر هنا أن جوانب عديدة من نظرية أينشتين أثبتت بالتجربة بعد أن صاغها هو نظريا، أى أن الصياغة الأولى كانت صياغة نظرية بحتة سابقة على التجريب ولم تخضع للتجريب والتطبيق الا فيما بعد حين أمكن أيجاد الوسائل العلمية والتكنولوجية التى تتيح ذلك .
[3] – ِAreti S.(1976) Creativity: the Magic Synthesis. New York: Basic Books.
-[4] رموز مبهمة نوعا لخبرات معرفية – وجدانية مركبة وغير متمايزة