هل انتهى عصر الإنسان الكبير؟
رفعت لقوشه
الانسان الكبير.. ذلك الفارس الذى يوقد شمعة ويرافق شعاعها، ومهما بدا الشعاع سادرا فى فضاء بعيد، فإن رفقته هى الأمانة الأخلاقية التى تتكرس ضميريا فى أعماق هذا الانسان.. لتمنحه – عندئذ- قوة المعادل الموضوعى … لمعنى الخلود!.
من حق المرء أن يتساءل.. هل انتهى عصر الانسان الكبير.. بمشاعره الكبيرة.. بأفكاره الكبيرة وبأفعاله الكبيرة.. فى ذلك العالم المضاء بالمصابيح الكهربائية هل مازال هناك مجال لبطولة “أضاءة شمعة”!! وفوق أرصفة هذا العالم المزدحمة دوما.. ماذا يبقى من خصوصية “العلاقات الانسانية” عندما تتحول الى مجرد احداثيات على محورى المكان والزمان.. احداثيات ترصد الأفقى والرأسى ويؤول فيها كل بعد آخر الى.. الصفر، وعندئذ تتحطم “لؤلؤة أفرديت”.. ليصير الحب مجرد عقد من الخز الملون، يتقايضه رجل وأمراة.. التقيا ذات يوم فوق رصيف مزدحم على أحد جانبى شارع طويل يخترق قلب المدينة، تلك المدينة التى توجت ادوراد عاشقا للقرن العشرين، عندما رجحت فى ميزان خياره.. كفة امرأة يحبها على كفة عرش يعتليه، أنهاه ذات المدينة التى لو جاءها ادوارد..من جديد.. لأوعته احدى مصحاتها العقلية، ففوق الأرصفة المزدحمة لم تعد هناك امرأة تستحق التضحية بعرش.. ولم يعد هناك رجل يستطيع أن يفعل ذلك.
وفوق الرصيف المزدحم.. يتحول المجموع البشرى الى “كتلة بشرية”.. ومصطلح “الكتلة البشرية” الذى أصوغه اجتهادا، قد يبدو معبر عن ظاهرة ” النمو الكمى الآسى” التى يتميز بها عصرنا هذا.. والتى يمكن رصدها احصائيا.. فى عدد السكان.. فى عدد الطلبة فى المدرجات.. فى عدد ضحايا الحروب.. فى حجم وكثافة العمل داخل الوحدة الانتاجية العملاقة.. فى حجم الانتاج.. فى حجم الاستهلاك.. فى عدد اصدارات المطابع.. وفى عدد ساعات الارسال الإذاعى.. الخ، ولأن مقاومة “الكتلة” أقوى من مقاومة “المجموع” فإن صيرورة الفكرة الجديدة قد يتعسر مخاضها، ما لم يكتسب المجدد قدرة التعامل مع المادة الصلبة.. ففى هذا العصر سيكون المثل الأعلى لعملية الابداع هو فن النحت.. حيث تتزواج دقة” التصور الذهنى” وبراعة “التناول الحرفى” .
أن كثافة المادة الصلبة التى تحتويها الكتلة البشرية قد لا يستشعر وطأتها أكثر من شاب تكاد تختتم عقارب الزمن دورة العقد الثانى من عمره.. ليجد نفسه جزءا من كتلة بشرية تتمدد أبعادها فى فراغ مدرج جامعى فى أخدى كلياتنا المصرية، حيث يتحول الطلب الى مجرد رقم صغير ينتظم فى أحدى خانات جدول كبير، وأذا ما أراد أن يبرهن على حضوره كقيمة لا على موقعه كرقم، فإن عليه أن ينفق جهدا مضاعفا.. يشق به ممرا طوليا فى عمق الكتلة البشرية ينتهى به.. حاضرا كقيمة فى دائرة وعى الأستاذ، أن رحلة الاجتياز الطولى تلك.. التى يبدأها أحدهم فى بواكير عشرينات العمر من خانة الرقم الى مركز القيمة، كفيلة بأن تفجر فى محيط حياته.. مجموعة تناقضات حركية بين استاتيكا “الرقم” وديناميكا “القيمة”، ومجموعة تناقضات ذهنية بين عقم الانتماء الجماعى.. رغم ضرورته، وحيوية الانسلاخ الفردى.. رغم وحشته، ومع حدة ذبذبة تلك التناقضات.. فان المهتمين بقضايا التطور سيجدون أنفسهم مدعوين الى استكشاف تضاريس تلك التناقضات والوعى بفعالياتها الكامنة، فى محاولة للتحوط ضد احتمالات انشطار الكتلة وشتات الفرد.
وعلى مستوى أكثر تجريدا وأوسع تعميما: هل نحن مدعوون الى صياغة قوانين للجاذبية تحكم المسافة بين حركة ” الفرد.. القيمة” ومدار “الكتلة.. التعداد”! وهل قوانين كتلك .. تمثل شرطا جوهريا لضمان التطور فى مجتمعنا المصرى المعاصر.
الستار ينفرج من جديد عن المشهد الافتتاحى.. حيث التساؤل مازال قائما.. هل انتهى عصر الانسان الكبير؟.
فى العالم المتقدم.. ربما ينحسر الضوء عن الانسان الكبير وتتوارى ظلاله، فلقد استطاع هذا العالم أن يعيش عصر ” الكتلة البشرية” دون مخاطرة الانشطار والشتات، إذ أن النظام واحترام قواعد اللعبة فى هذا العالم كفيلان بأن يجعلا من حركة الكتلة.. حركة مثمرة وأيجابية، أما فى العالم المتخلف.. حيث تتسم فيه حركة الكتلة بالعشوائية الغياب النظام وللامتهان الدائم لقواعد اللعبة، فان هناك دوما المساحة الشاغرة.. فى انتظار الدور المرتقب للانسان الكبير، القادر على أن يؤسس النظام ويعاود ترتيب قواعد اللعبة على درج الموضوعية، القادر على أن يضئ شمعة فى ازقة قرية لم تضئها بعد المصابيح الكهربائية، القادر على أن يتطهر فى معاناة تجربة الحب الكبير دون أن يحترق فى لهيب معاناته ايمانه بعظمة البعث الوجدانى.
وهكذا فإنه يجد نفسه أمام مهمة مزدوجة.. تقتضيه أن يمارس دوره فى حركة التطور كفاعل داخلى، فى نفس الوقت الذى يكتشف فيه قوانين حركة التطور ذاتها.. كمراقب خارجى، أنها مهمة صعبة.. ولكنه انسان كبير.