حُمر
د. محمد شعلان
يعرض الفيلم “حُمر” قصة حياة أول وآخر أمريكى يكرم بدفنه فى حائط الكريملين. فهو الكاتب الصحفى “جون ريد” الذى عاصر الثورة البلشفية فى روسيا وعايشها وكتب عنها كتابة المشهور “عشرة أيام هزت العالم”.
والفيلم يعرض فى نيويورك وهى العاصمة المالية للرأسمالية الغربية.
كما يعرض فى عصر “رونالد ريجان” وهو من أكثر الأمريكيين محافظة وانحيازا للرأسمالية الكبيرة. ويعرض فى وقت وصلت فيه الموجة المحافظة فى المجتمع الأمريكى إلى أقصاها.
فما الذى يقوله عرض الفيلم ؟ وما الذى يقوله الفيلم ؟ وما الذى تقوله حياة جون ريد؟ ما الذى يسمعه المجتمع الأمريكى والمشاهد للفيلم والمواطن الذى يذكر بجون ريد؟
لعلنا نبدأ بسرد ملخص لأحداث الفيلم وكيفية اخراجه. فكاتب السيناريو والمخرج والممثل الرئيسى لدور جون ريد هو الفنان القدير “وارن بيتى” وتشترك معه فى دور لويز براينت (زوجة جون ريد وعشيقته ورفيقة كفاحة) الفنانة “ديان كيتون”. والفنان “جاك نيكلسون” فى دور الكاتب المسرحى المعروف “يوجين أونيل والذى أحب لويز براينت لفترة خلال عشقها لجون ريد. أما “الشهود” وهم الشخصيات البارزة العديدة التى شهدت وعاصرت حياة جون ريد (مثل القصصى الكبير “هنرى ميلر” والفيلسوف والمؤرخ “ويل ديوارنت” وكثيرين غيرهم) فقد ظهروا على الشاشة كوجوه تسترسل فى الذكريات فى اطار ارضية مظلمة، يظهرون فى بداية الفيلم وأثنائه.
فى الساعات الثلاث والنصف التى استغرقتها الفيلم (وكان يمكن أن يستمر مثلها دون أن يثير ملل المتفرج) تعرض سلسلة أحداث ومواقف من حياة جون ريد فى ظل حياة المثقفين الأمريكيين فى بداية القرن. وكانت امريكا المجتمع الجديد المنعزل عن بقية العالم تنمو تثرى وتمد استثماراتها نحو القارة الاوروبية وبالذات انجلترا. وكان ذلك بناء على رأسمالية نشطة فى ظل موارد طبيعية وفيرة وموارد بشرية من العمال الفقراء المهاجرين من شتى أنحاء العالم. فهم بلا جذور وبلا نقابات قوية توحد صفوفهم او تحميهم. ولا يدافع عن حقوقهم إلا مجموعة المثقفين التى كان ضمنها جون ريد. وهم الذين بدأوا بتنظيم صفوفهم على هيئة أحزاب اشتراكية وشيوعية لم تحقق نجاحا فى الانتشار وان كان يرجع إليها الفضل فى كثير من القوانين التى مازال العامل الأمريكى يستفيد منها حتى اليوم وأهمها نظام التأمين الاجتماعى.
كان جون من عائلة طيبة. وينتمى إلى صفوة المجتمع. وكان يحضر حفلا فى أحد نوادى المجتمع حيث قام بعض الحاضرين بالدفاع عن واجب الوطنية والدفاع عن العالم الحر والديمقراطية: أن تشترك أمريكا فى الحرب العالمية الأول. وطلب من جون (الذى كان يدعى جاك كاسم للشهرة ) أن يدلى برأيه فى أسباب الحرب. فوقف وسكت الجميع منتظرين سيلا من الخطابة وقال: “المكسب” ثم جلس.
فقد كان يرى مع زملائه أن الرأسمالية الالمانية تطالب بنصيب من المكسب التى تستفرد به الرأسمالية الأوروبية بما فيها روسيا القيصرية، والتى صارت أمريكا مرتبطة بها بعلاقات استثمار ودين. والذين يموتون فى هذه الحرب ويدفعون العرق والجوع مع الدم هم الفقراء بالملايين العديدة. كان غالبية الناس فى أمريكا يعارضون الحرب بينما يدافع عنها الرأسماليون.
وجاء وودور ولسن مرشح الديقراطيين يعد بأنه يشترك فى الحرب. ويؤيده جون على أساس أن هذا الوعد قد يلزمه بعض الوقت حتى يتيقن أنه ليس إلا خادما للطبقة الرأسمالية فيرضخ لضغطها بدخوله الحرب. وهو ما حدث فعلا.
وتقول لويز براينت حينما كانت تحاكم لاشتراكها مع زوجها فى الدفاع عن الثورة البلشفية أن هؤلاء الذين تتهمونهم بالكفر قد وعدوا الشعب بالانسحاب من الحرب ونفذوا بينما المؤمنون بالمسيحية يعدون ويرجعون عن وعدهم. وأن الكفرة يدافعون عن الفقراء بينما المتدينون يستغلونهم أبشع استغلال. أين الكفر والالحاد وأين الدين والايمان؟ فإذا كان الأمر كذلك فلا يشرفنى أن أكون مسيحية.
لقد طلقت لويز من زوجها الاول لانها ظهرت فى معرض تصوير ولها صورة عارية. وكرست حياتها حياتها من أجل تحرير ذاتها من خلال مطالبته بتحرير كل مقهور ومظلوم. وقرأت لجون ريد وغيره. وقابلته من أجل عمل حوار معه استمر طول الليل حتى الصباح، دون أى إشارة للحب. كانت ضد الملكية وضد الزواج بصفته أحد صور التملك للبشر والقهر للمرأة وتكررت اللقاءات ودعته لعشقها دون حياء من جانبها. فهزه أحد مظاهر تحررها.
وهنا يطرح السؤال الذى استمر الفيلم يجيب عنه حتى النهاية. هل يمكن أن يتنازل الإنسان تعن رغبته تفى التملك التى تأخذ صورة الزواج على الاقل ؟ أن يكون له من يفضله عن العالمين مقابل تبادل التفضيل؟ ويتنازل له وحده عن جسده وسكنه وأكله مقابل العكس؟
وطلب جون من لويز ان تحضر معه إلى نيويورك إذا كانت تريد أن تكون كاتبة. وكان سؤالها: بصفة ماذا ؟ صديقة عشيقة ؟ لم يجرؤ أى منهما على ذكر صفة الزوجية؟ ومع ذلك ذهبت لويز وجدت مسكن جون مفتوحا وعلى بابه لافتة “الملكية هى السرقة. أدخل” ودخلت وشاركت جون فراشه ومطبخه ومسكنه وكان يشاركها فى المسكن ضيوف كثيرون يعقدون الاجتماعات واللقاءات وتيقنت لويز أنها فى داخلها لا تقبل هذه المشاركة. فهى مقابل تربعها على المكانة الاولى فى قلب جون وفى فراشه أصبحت تابعة له وأفل نجمها بجوار نجمه الساطع كانت فى علاقة تنافس معه قتلت روح المشاركة وطالبت بالانفصال وكان الانفصال بينهما واقعا فقد كان جون كثير السفر والغياب عن منزله وكانت لويز تشعر بالوحدة.
وهنا دخل حياتها يوجين أونيل الذى أحبها وتعجب أن جون لايصر على حقه فى الاستفراد بها. وهى كانت تتمنى أن يستفرد بها جون ولكنها كانت تخشى الرغبة فى التملك التى كانت تتناقض مع قيمها الاشتراكية التحررية عشقت لويز يوجين وعاد جون ومعه حزمة الورد التى اعتاد أن يقدمها لها ولكنه شاهد فى عينى لويز ويوجين ما يشير إلى أن هناك علاقة نشأت فترك الورد على الأرض وتجنب المواجهة إلى أن تيقن أنه فعلا يريد لويز وأنها تريده فطلب منها الزواج وكأنهما ارتكبا اثما فأخفيا الأمر أو اعترفا به بحياء.
وتتكرر المنافسة بين جون ولويز وكانت لويز تتهم جون بأنه السبب فى انها أصبحت كومبارس له وقررت ان تستقل فتركته وذهبت إلى باريس ومرض جون بالكلى واحتاج الأمر إلى إجراء عملية استئصال لها وكان ما يقلثه فى مرضه خوفه من أنه قد لايستطيع الانجاب ويكون أسرة مع لويز.
ويذهب إلى باريس فى طريقه إلى روسيا حتى يعاصر الأحداث التاريخية التى أتت بأول ثورة عمالية شيوعية فى التاريخ والتقى بلويز ودعاها مرة أخرى للذهاب إلى روسيا إذا كانت تريد أن تكون كاتبة جادة وعاودها السؤال: بصفة ماذا؟
وسافر جون واكتشف فى القطار أن لويز قبلت الدعوة وسعد بها عاصرا التاريخ وهو يصنع والتقيا بقادة الثورة وبالحكومة على السواء.
وعاد جون مع لويز إلى أمريكا حيث قرر أن ينقل نشاطه إلى مجال العمل السياسى بأن يشترك فى انشاء حزب شيوعى امريكى وكان يشاركه فى ذلك بعض الزملاء من المهاجرين ولكنه دخل فى منافسة على القيادة وكانت وجهة نظره أن التنظيم لن يتسع إذا كان على رأسه مهاجر. وقرر أن ينفصل بتنظيم مستقل وأن يذهب إلى روسيا ليأخذ مباركة الحزب الأم.
وذهب وسط دموع لويز التى أيقنت أنه يريد أن يذهب بدونها ولما وعدها بأنه سوف يعود قبل الشتاء قالت أنه قد لايجدها فى انتظاره وذهب. وكانت روسيا محاصرة بالجيوش البيضاء المشكلة من تحالف النظام القيصرى الساقط وجيوش العام الراسمالى، بما فيه أمريكا، الذى انزعج لقيام ثورة حمراء واخترق جون الصفوف ولكنه اعتقل فى فنلندا وقايضه لينين باستاذ جامعى فنلندى وقال انى مستعد لافتداء خمسين أستاذا من أجل جون ريد.
ودخل جون ريد ولكن عند اقتراب موعد خروجه لم يخرج. فقد ضغط عليه قادة الثورة بأن واجبه معهم وأنه يصنع معهم التاريخ وكان يشعر بالحنين إلى بلده وزملائه وزوجته. ولكنهم هزءوا من تلك المشاعر الذاتية.
وزاد قلق لويز وقررت أن تستعين بيوجين حتى تتمكن من الهروب من امريكا لتلقتى بعشيقها وزوجها ورفيق كفاحها. وكان هو بدوره يرسل لها البرقيات دون أن تأتيه أجابة. واعتقد أنها هجرته. ولكنه استمر يصاحب قيادات الثورة ويساندهم ويشترك معهم فى الاعلام للثورة.
وأثناء احدى رحلاته تعرض القطار لقصف من مدافع الجيش الأبيض وكان مرض جون قد أعياه. ولما عاد القطار إلى المدينة وجد لويز هناك فحضنها وبكى طالبا منها الا تتركه أبدا. ورافقته كزوجة وعشيقة وفوق كل ذلك كرفيقة كفاح ونامت على الأرض بجواره وهو على فراش الموت. ومات فى المستشفى. ثم دفن فى حائط الكريملين مع عظماء الثورة.
السؤال الذى طرحه الفيلم هو إلى أى مدى يمكن للانسان أن يتنازل عن ذاته من أجل القضايا العامة وعن مشاعره الخاصة وعلاقته الشخصية من أجل انتمائه الإنسانى ؟ أجاب جون حينما احتد على مسئول الحزب حينما حرف احدى خطبه فى الترجمة فقال له: أنك تنكر على أن أحب زوجتى من أجل حب العمال وألا تكون لى مشاعر خاصة. ولكنك بهذا تقتل الثورة. فالثورة هى أن ترفض أن تكون بلا كيان وأن تؤكد وجودك كيف لى أن احب العمال إذا لم احب زوجتى. وكيف أن اعطى شيئا عاما وأنا افتقده على المستوى الخاص؟
وكان على كل من جون ولويز ينكر على نفسه مشاعر الحب وما ترتبط به من مشاعر التملك والزواج. ولما تزوجا شعرا كأنهما ارتكبا أثما. ولكن الواقع الإنسانى كان يفرض نفسه. فقد كان كل منهما يتوق الى ذلك التملك الذى يجعله فى المكانة الأولى وربما الوحيدة فى قلب آخر.
وكان كل منهما يتمسك بحريته الذاتية ورغبته فى الاستقلال فقد كان جون يطهو لنفسه بينما لويز تكتب وكانت المنافسة تمنعها من أن تسانده لكى يكتب. كانت تعترض طريقه حينما أراد أن ينتقل من الكتابة الى العمل السياسى المباشر. فقد كان فى ذلك تأكيد لاستقلاله وابتعاده عنها. ومع ذلك فإن ما كان يجذبها فيه هو تلك القدرة على العطاء التى جعلته يكرس حياته من أجل الآخرين المظلومين والفقراء.
هناك شك فى امكانية عرض مثل هذا الفيلم فى مصر. ناهيك عن كتابته واخراجه رغم أن مصر مازالت تدعى أنها دولة اشتراكية وغير منحازة. فالمجتمع المصرى مازال يعيش فى ظل عقدة المكارثية وغير الامريكية التى تجاوزتها أمريكا منذ أكثر من ربع قرن. فكل من ينادى بالعدالة أو يدافع عن المظلومين يتهم بالالحاد وبالعمالة للاتحاد السوفيتى.
ومع ذلك فإن الفيلم يخرج ويعرض فى معقل الرأسمالية العالمية.
فماذا يقول ذلك ؟ الديمقراطية الأمريكية التى تسمح بالتعددية تتحمل الخلاف داخل صفوفها ولعل الرجعية حينما تصل إلى ذروتها فإنها تولد نقيضها وهى الحاجة إلى إعادة الحق والعدل وانصاف الفقراء والمظلومين.
وما أكثرهم فى هذا المجتمع المتقدم الثرى فى درجة حرارة تصل إلى 25 تحت الصفر مازال من الممكن أن تجد أناسا لا يجدون مأوى فيقضون الليل جالسين فوق فتحات المجارى حيث الهواء الدافئ يخرج وهم آلاف مؤلفة.
البطالة تزيد والشركات الصغيرة تفلس أو تباع للشركات الكبيرة. ميزانية الخدمات العامة تتقلص. حقوق الشعوب لا تهم لكن الأهم هو احتواء الاتحاد السوفيتى فى بولندا وأفغانستان. وفى ذات الوقت يعيش أصحاب الملايين فى بذخ يفوق الخيال.
المجتمع يزداد رجعية وتخلفا القضايا العامة تتقلص. ومن هنا فإن المناخ العام فى أمريكا بل وفى العالم ككل، يستعد لمولد النقيض وهو البحث عن العدالة والحرية. ورفض الواقع الراكد. ومن هنا فإن ظهور مثل هذا الفيلم يعكس ذلك المناخ. ولعل ما يحدث فى امريكا يعكس أو ينعكس على ما يحدث فى العالم الثالث وفى مصر بالذات.