بَشرف منطقى
فى سبيل إعادة صياغة المشكلة الخلقية
د. عادل مصطفى
يضرب هذا المقال بمعوله أطلالا يجرى ترميمها بلهاث متقطع الأنفاس، وهو يقوم بذلك بخطوة إبداعية مشكورة، إلا أننا قد نلاحظ تجواله السرى حول آلهة تدعى البشرية، يقدم لها القرابين وكأنه يحاورها ويختبئ من معاناة اكمال طريق الإبداع (الذى لا يكمل) بألفاظ جيدة الإيقاع حول علم وتجريب واتفاق “جماعى” حول بعض الأهداف الجيدة فيحرمنا من التعرى المغامر أبدا بشريعة جديدة لا تتعدى قوة أبصارها الدائرة الأعلى ذات الفتحة إلى اليمن (6/60) من دوائر المعرفة المعايشة، “فما أوضحها” .. فقط.
والدعوة المفتوحة .. عامة.
ليستمر الحوار.
****
ضيعتنا الألفاظ
سمناها فأكلتنا
خانتنا الألفاظ
نصبناها شراكا للحق فصادتنا
حسبتنا الألفاظ
عزلتنا تروسها ومفصلاتها عن تروس الأشياء
وما يوشجها من سر وسيور.
ألفاظ .. ألفاظ:
عجبا للإنسان .. ينصب الشراك فيقع فيها .. يمتلك الدنانير فتملكه .. يستخدم الآله فيخدمها .. يخترع الرموز فتضله.
أى وتزين له أن هناك معنى ما دام هناك لفظ، وأن ثمة مدلولا ما دام ثمة دال، وأن بالمدى كائناً ما دام على اللسان اسم.
يرسم باللغة صورة عساها ترطب الجفاف من الرق وتسبغ الجمال على الحق، فتنسيه الحقب أنه خالفها، فما يزال يثقل ظهرها الضامر بالدلالات الأنطولوجية حتى يجرح نعومتها ويحرق براءتها.
يصنع من الأحرف وسائد للأحرف وزوارق للتعبير، ثم يعميه الألف فيظنها وسائد حقيقية وزوارق شراعية.
يحزم الملاعق بخيط نحيل ثم يتحدث عن حزمتها كما لو كانت ملعقة مترعة.
يتداول الناس لفظا ثابتا، فما يزال يختلف إلى اسماعهم حتى يقر فى ظنونهم أنه يمتلك رصيدا ميتافيزيقيا وأنه يشير بالتأكيد إلى معنى واحد لديهم جميعا ما دام جرسه واحدا فى الآذان جميعا.
من هذه الألفاظ الضالة المضلة لفظ “الأخلاق” ولفظ “الضمير”.
يظن معظم الناس أن “الأخلاق” – ما دامت لفظا متعينا مألوفا – تشير إلى مجموعة من الدساتير الحياتية والأساليب السلوكية المتفق عليها المفروغ من أمرها، المطلقة الثابتة ثبات اسمها المختزل المريح.
ويحسب معظم الناس أن “الضمير” – مادام لفظا نتداوله بيسر وألفة – يشير بالتأكيد إلى جوهر بسيط، أو كائن موجود، أو حاسة واقعية محايدة كالسمع والبصر والذوق.
ولا يعدم تاريخ الفكر نفرا من فحول الفلاسفة المحترفين يسلمون تسليما بوجود تلك الحاسة الخلقية أو الحدس الأخلاقى الذى ندرك به القيمة الكامنة فى بطن الفعل إدراكا مباشرا كما ندرك اللون الأصفر فى البرتقالة ولو كره المنكر المصاب بالعمى الأخلاقى، ثم يزيدون موقفهم حسما وتشددا فيؤكدون انفصال عالم القيمة انفصالا تاما عن عالم الواقع الطبيعى واستحالة الانتقال المنطقى مما هو هو كائن إلى ما ينبغى أن يكون، واستحالة رد القيمة إلى أى مفهوم عليها طبيعى أو ميتافيزيقى، إنسانى أو إلهى. فالكيفيات الأخلاقية فى زعمهم مختلفة تماما من حيث النوع عن الكيفيات غير الأخلاقية. فهى مستقلة ذات سيادة … وهى فريدة فى نوعها .. ليس كمثلها شىء، وبالتالى فهى غير قابلة للتعريف شأن كل فريد مختلف غير مردود إلى غيره ولا معرف بسواه، ولا حيلة فى إدراكها إلا بالمواجهة المباشرة، كما أنه لا حيلة فى إدراك نكهة النبيذ إلا بالذوق المباشر.
وأقل ما يقال فى هذه الحاسة الخلقية المدعاة أنها مجرد “مصادرة” تركل المعايير وتتحاشى التحقيق وتذيب الأخلاق فى كأس من الفراغ، وتصادر على القيمة كما يصادر الصوفى على به، وتقذفنا بلا دليل فى بحر الينبغية المظلم.
وفى الطرف الآخر لهذا الموقف الغيبى المتعنت نجد موقفا آخر لا يقل عنه تطرفا وأن يكن تطرفا لحساب الإباحة والشك. فقد نمت العلوم الطبيعية والإنسانية فى هذا القرن نموا متلاحقا جعل يضيق الخناق على الأفكار الأخلاقية التقليدية الساذجة ويسلط أنواره على جذورها البدائية فيبدد ظلام الجهل ويطارد أشباح الخرافة.
كانت صدمة شديدة خيبت آمال الكثير من العلماء والفلاسفة فى البحث الأخلاقى برمته ففضلوا الانهزام المترف فى حضن الشك الدافئ. فهذه الانثروبولوجيا الاجتماعية تشهر نتائجها ووقائعها لتؤكد ما كنا نعلمه مسبقا من فداحة الاختلاف بين الجماعات البشرية فى العادات والمعايير السلوكية وتصور العالم، بحيث أصبح تفسير هذا التباين المروع فى القيم على ضوء مفهوم واحد للخير شيئا يدعو إلى اليأس والتوقف.
وهذا علم الاجتماع يشد أزر الشك فيؤكد لنا سوسيولوجية الأخلاق، بلد لقد غالى بعض علماء الاجتماع فجعل القيم الاخلاقية مجرد تعبير أو تبرير لعادات اجتماعية لا معقولة تفرض نفسها على كيان الجماعة، ويبوئها الألف والعادة منزلة الحكم المطلق والأمر الإلهى. فهى فى اعتقادهم نفاق لا شعورى تلقمه العواطف البدائية وترشوه الانفعالات اللامنطقية، وقد طالما خدم فى قصور الفئة المسيطرة طوال قرون الظلم والظلام.
وهذا علم النفس تتغامز مدارسه العديدة على الأخلاق القديمة وتضفر للشك تاجا من خيوط الكشوف السيكولوجية الحديثة التى فضحت اعتباطية القيم التقليدية ولا معقوليتها، وفتحت عهدا جديدا للفكر العلمى المتنور.
صدمات عديدة متضافرة متزامنة تجعل الباحث الأخلاقى يصاب بدوار عقلى شديد كلما شرع فى عمله. فلعل من الحصافة أن يتحلى بالشك ويتشرب بالحذر ريثما يستعيد توازنه العقلى ليعاود مهمته النبيلة فى بناء القيمة من جديد واستخلاص فلذتها من عالم الواقع المادى والبشرى وفى نور القوانين الطبيعية والإنسانية الشديدة التعقد، وتنقيتها من الشوائب البدائية، وتجميلها بالفهم العلمى الهادئ.
ضمير بلا ضمير:
ولعلنا لم نكن بحاجة إلى خدمات العلوم السيكولوجية لاثبات وجود “وظيفة عقلية” شبيهة بفكرة الناس عن “الضمير”. وما كنا بحاجة إليها لكى نتشكك فى هذا الضمير كأداة معرفية يمكنها إثبات أى شىء خارجها، وما كنا بحاجة إليها لكى نتشكك فيه كأداة أخلاقية تبصرنا على نحو محايد صادق بما ينبغى عمله. وربما يكفينا لسحب الثقة بالضمير دليلان متضافران يكمل أحدهما الآخر.
الأول: أنه يرفض فى الغالب أى معيار آخر خارجه يمكننا به مراجعة املاءات ذياك الضمير وتقدير نصيبها من الصحة والبطلان.
الثانى: أننا كنا نسلم بالضمير كمعيار أقصى وميزان محايد لاملاءاته ومعطياته لو كان يملى إملاءا واحدا لمختلف الأفراد ومختلف الجماعات، وهو ما لا يحدث على الاطلاق؛ فقد يملى الضمير على الشخص الواحد أوامر مختلفة فى إزمان مختلفة، كما يملى على الأفراد المختلفين والجماعات المتباينة وصايا متنافرة فى نفس الوقت. فالضمير هو الذى يسول لبعض البدائيين أكل لحوم البشر. والضمير هو الذى كان يأمر الناس – راضيا مرضيا – أن يلقوه فى النار بكل خارج على هذه العقيدة أو تلك. والضمير هو الذى يبارك كلا من الفريقين المقتتلين فى أكثر الحروب التى عانتها البشرية وتعانيها.
لا .. لم نكن بحاجة إلى قرائن جديدة لكى نسحب الثقة بالضمير كمعيار أخلاقى واحد محايد. غير أننا لا نجحد خدمات العلوم السيكولوجية من حيث تحويل تأملاتنا المرتجلة الشعثاء إلى علم منظم مدعم بالشواهد الإحصائية والإجراءات التجربية والتجريبية. لقد كشفت لنا مدارس علم النفس – خاصة المدرسة التحليلية – أن ما نسميه الضمير هو عنصر فى العقل “يستطيع أن يؤذى كما يستطيع أن ينفع”. كما كشفت أن الرقيب الأخلاقى لا يمكن الاعتماد عليه كوصى أمين على الأخلاق.. وهذا بعينه ما تقره الأخلاق التقليدية، غير أنها تصرف جهودها فى تدعيم الرقابة وحقن هذا الرقيب الواهن بفيتامينات الصرامة والكبت من خلال المواعظ الأخلاقية والوصاية الخطابية، فى حين يسير المحلل النفسى أحيانا فى اتجاه مضاد إذ يوصى بالتنفيس عن المكبوت حين يجاوز الرقيب الأخلاقى حده ويغالى فى تقدير طاقة الإنسان على “التحكم الخلقى” فتكون المحصلة مرضا نفسيا أن جسميا لا صحة أخلاقية.
لم تقتصر البحوث النفسية التحليلية على كشف قسوة الضمير فى بعض الأحيان بل امتدت إلى كشف سذاجته وبدائيته وانتمائه إلى عالم عتيق جامد طفيلى قد يختلف كثيرا عن العالم الخلقى الشعورى للشخص وعن اللون الخلقى للمجتمع المعاصر. وربما وصل الضمير من التخلف والتنطع والمغالاة الحمقاء إلى حد لا يميز فيه بين الرغبة والتعبير أو بين الميل والفعل، فيعامل الرغبة المحضة معاملة الاقتراف والارتكاب، بل قد يزمجر ويتنمر للرغبات غير الشعورية فيصلى صاحبها قلقا لا مبرر له وإحساسا بالذنب كان منه بد 1
كما أثبتت البحوث السيكولوجية أن الضمير عنصر عقلى مشبوه، يتقاضى الرشوة 1 ويقبل الذوبان 2 ويتهيأ للسقوط 3 والإسقاط4.
تتم صياغة الآنا الأعلى فى فترة دقيقة خاصة من حياة الكائن البشرى.. فترة طفولة جبرية طويلة، فيها يتصل الكائن بالواقع لأول مرة، معتمدا فى إشباعاته على من يحيطونه من الوالدين وإشباههما من البالغين السابقين فى تجربة الوجود، غير قوى على غير الخضوع والطاعة التماسا للأشباع وتجنبا للحرمان.
فى هذه الفترة المستطيلة من الضعف والاعتمادية يتم دمج النماذج السلوكية الموروثة والمعايير الخلقية المقررة فى الذات العليا مشكلة أصل ما يسمى بالضمير وجذور ما يسمى بالتحفظ (السياسى – الأخلاقى – الفنى – اللاهوتى …) الذى تتحدد مهمته فى إطالة أنفاس الوضع القائم ودعم التقاليد والنظم الاجتماعية السائدة التى أفرزتها ضرورات اقتصادية واجتماعية سالفة، وربطها بأعماق النفس وتغليفها بالهيبة والقداسة ، ومقاومة كل تغير فكرى أو اجتماعى مهما تكن بداهته ووجاهته وجدراته بتخفيف آلام المجتمع وتحسين أحواله.
فى هذه الفترة المستطيلة من الضعف والاعتمادية يتم بتر الدهشة وإخصاء التساؤل واصطياد “النقد” فى الماء العكر.
وأن شيئا تمت صياغته فى ظروف من القهر والجبر وفى حدود مما كان ومما هو كائن، لا يجمل ائتمانه على ما يأتى ولا استفتاؤه فيما ينبغى.
وهم الاتساق الصورى:
وما دمنا لا نقر الحدسيين على وجود ذلك الحدس الخلقى الذى يدرك القيمة إدراكا مباشرا كما تدرك العين اللون، ونشك كثيرا فى معقولية تلك الحاسة المدعاة وفى هويتها لدى مختلف أفراد البشر، ونشك كثيرا فى طهارة سيرتها ونظافة ملفها – فنحن مضطرون إلى الاسترشاد بالعلم الوصفى فى التطبيق العملى، وإلى استفتاء ما هو كائن فيما ينغبى أن ينبغى.
ونحن مضطرون إلى البروز من خباء الفكر الصورى وعماء العقل الخالص لنستفتى الوقائع ونستقرئ الظواهر ونستكشف السنن. معولين على معيار التطابق قبل معيار الترابط ، فمجرد الاتساق الصورى لا ينبئنا أى البنى المتسقة اللانهائية العدد هى التى نالت حظوة الوجود. على أن ما أنعم باشرافه وأطل بطلعته وباح بسره من قوانين الأشياء قد علمنا أن ليس هناك ضرورة عقلية فى ما جريات الواقع، وأن سرابيل المنطق التقليدى قد تضيق بقوام العالم، وأن البروج المغلفة قد لا تصلح لرصد سلوكيات الوجود. وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا أن التعويل على الاتساق وحده فى فهم العالم والتعامل معه يتعدى كونه خطلا منهجيا ليصبح خطرا عمليا حين تأخذنا روعة البنيات المذهبية الهائلة فتبتلعنا فى أبهائها المريحة، وتقسمنا شيعا وطوائف وتغرى بيننا العدواة والبغضاء لأن كلا منا يتوهم أن الإتساق يزكى مذهبة المحظى دون سواه، ويشهد النجم أن كل الأبنية متسقة بالمثل، وأن أوهن نفخة فى المصادرات التحتية كافية لأن تهيل قصور الرمال وتقوض أهرام “البلى”.
نحن مضطرون إلى أن نطرق باب التجربة مباشرة، ونتركها تحدثنا عن نفسها فهى أدرى بحالها وأخبر بسرها. وما دام الاحتمال يلازم المعرفة التجريبية كظلها. فما لنا لا نحتمل الاحتمال كما لو كان سوأة تشين أو خذأة تهين؟! وهو لو ندرى التعايش ونطفة التسامح، وهو خليق أن يكون غبطة تتوجنا كما تتوج الهالة هام القديسين.
تحت قنديل منطقى:
على أن التجربة لا تطرق بأيد عمياء، ولا مندوحة عن شعاع منطقى هاد ينفذ فى صميم كل بحث تجريبى. لا معنى لبحث يدور حول الأخلاق والضمير دون أن يحدد أولا المفاهيم الخاصة بهذه الألفاظ المشكلة، وأن يمحص تلك المفاهيم قبل أن يمنحها أوراق اعتماد منطقية.
يجب أن نتفق أولا على أن الأخلاق التى نعمد إلى بحثها هى الأخلاق المعيارية المصوغة فى صورة أوامر وتوجيهات لا الأخلاق التقريرية الوصفية التى تقتصر مهمتها على تسجيل سلوكيات الجماعات وعاداتها المقررة، وتنضوى تحت علم الاجتماع المعنى بما هو كائن لا بما ينبغى أن يكون. ولنتفق أوامره وتوجيهاته من داخل الإنسان سواء كان ذلك ابتداء أو ترجيعا لمؤثرات خارجية أو لكليهما.
أما وقد اتفقنا على جعل الأخلاق الآمرة هدف المقال فإن أيسر فحص منطقى لينبئنا بأن الأوامر والتوجيهات تفلت بطبعها من قبضة المعرفة الموضوعية، وأنها لذلك أفعم التعبيرات بالذاتية وأسمحها بالاختلاف والنسبية وهو فحص يصمى الأخلاق المطلقة برمية واحدة، ويضع علم الأخلاق برمته فى القفص مدانا بادعاء اليقينية وانتحال الصفة المعرفية دون سند مشروع.
غير أنه من الحصافة أن نتساءل كيف أمكن لعلمى الأخلاق أن يعيش بهذا الصدر المكشوف والمقاتل المواتية أكثر من ألفى عام؟ كيف غاب أمر بديهى كهذا عن أذهان ثاقبة من طراز سقراط وكانط؟! وإذا كانت القضية لا تخرج عن أن تكون تأليفية تخبر عن الواقع أو تحليلية لا تقول جديدا فأين تأوى العبارة الأخلاقية؟! أنها لو كانت تأليفية فهى تقرير لما هو كائن، ولو كانت تحليلية فهى فارغة لا تعطى مفتاحا لما ينبغى أن يكون. أن الأخلاق المعيارية خالية بطلعها من الصبغة المعرفية كما أن المعرفة بطبعها لا تنطوى على أية مفاتيح معيارية. بل أن انتحال صفة معرفية ليقوض الأخلاق من أساسها وقوامها.. ويعدينا إلى سؤالنا الملح: كيف امتد أجل الوهم طوال هذه الحقب السحيقة؟ وكيف داخل عقولا عملاقة من طبقة سقراط وأفلاطون وسبينوزا وكانط؟.
معطيات مسمومة:
ربما يكون من الانصاف لهذه العقول العملاقة بحق أن نعجل فنلقى التبعة على الحقبة. فما حيلة عقل ضخم فى زمن قزم؟ وأين السبيل إلى النضج فى عصر فج 5؟
لقد طبخ هؤلاء المفكرون الاخلاقيون مذاهبهم فى أوانى عصرهم الخاصة ووفق معطياته الثقافية والعلمية القاصرة، وعلى رأسها ثلاثة معطيات مسمومة:
1- النظرة السكونية إلى العالم.
2- الصفة اليقينية الضرورية لقوانين الطبيعة.
3- الوضوح الذاتى لبديهات الرياضة.
ليس عجيبا إذن أن ترتع الأخلاق المعرفية الإيقافية فى عصور هذه بعض غيومها وغياهبها. بل العجيب أن يفرز الوهم غير الوهم. والعجيب أن نظل نحن المعاصرين ندلل هذه الأوهام التى كان لها فى زمنها ما يبررها، ونظل نتقوت بها فى الوقت الذى يوقد فيه عصر النور أنواره ويقيم مائدته.
أما النظرة السكونية للكون فقد زلزلتها فكرة التطور والصيرورة، ثم أجهزت علينا الفيزياء النووية الحديثة التى أثبتت أن الكون ليس عملا نهائيا مكتملا ولا حقيقة مطلقة ثابتة. وأن العالم نسبى من حيث قوامه ومن حيث زمانه ومكانه.
وأما الصفة الضرورية اليقينية لقوانين الطبيعة فقد غدت عتيقة الزى، واستدل العلم المعاصر بها فكرة الاحتمال.
وأما البديهات الرياضية فقد ثبت للرياضيين المعاصرين طبيعتها الاعتسافية. وتبين أن صدق هذه البديهيات مسألة تفلت بطبيعتها من قبضة الرياضيات، وتقع خارج منطقة نفوذ العملية الاستنباطية.
لقد كان سوء تأويل اليقين الرياضى قابعا لا شك وراء التفسير المعرفى للأخلاق .. وهو الذى أغرى المفكرين ببناء أنساق أخلاقية صورية على غرار النسق الهندسى، خاصة أن قوالب المنطق إذا ملأت ببعض المعطيات المعرفية العلمية تتيح بلا شك استخلاص لوازم أخلاقية تقبل البرهنة.
ولعل سقراط هو أول من قاس الأخلاق بالرياضيات فخلص إلى أن الفضيلة “علم” وأنها “موضوعية” لا شأن لها بالذات والاعيبها حيث أنها قابلة للبرهنة المنطقية من البديهيات الأخلاقية شأنها شأن الرياضيات التى يمكن استخلاص نتائجها ونظرياتها من البديهيات.. واثقا فى الوضوح الذاتى لتلك البديهيات الأخلاقية ثقته فى الوضوح الذاتى للبديهيات الرياضية.
وبلغت الموازاة بين الأخلاق والرياضيات أشدها عند سبينوزا الذى صاغ فلسفته على غرار الهندسة الإقليدية، بادئا بتعريفات وبديهيات يراها مطلقة الصدق، ثم يستنبط منها ما يلزم عنها من نتائج تكتسب الصدق المطلق من صدق البديهيات الأولى.
والحق أن انتقال المشكل الأخلاقى من النتائج إلى البديهيات لم يتم إلا على يدى كانط الذى أوضح – ربما لأول مرة – أن المشكلة الخلقية فى الحقيقة هى مشكلة البديهيات لا النظريات متفطنا إلى أن الاستنباط الصورى وحده لا يملك أكثر من أن ينقل السؤال عن الصدق من النتائج الى المقدمات الأولى. غير أنه يحل المشكلة بتسليمه بوجود قضايا تركيبية قبلية synthetic apriori فى مجال الأخلاق كما سبق له التسليم بوجود هذا الصنف من القضايا فى مجالى الرياضيات والفيزياء. ويرد البديهيات الأخلاقية إلى بديهية واحدة أسماها “الأمر المطلق” categorical imperative:
“افعل بحيث يصلح فعلك أن يكون مبدأ لتشريع عام”.
ويرى كانط أن هذه البديهية مطلقة الصدق شأن بديهيات الرياضة، حيث أن إنكارها يوقع العقل فى التناقض.
فآية السلوك الخلقى عنده هى إمكان تعميمه بلا تناقض. وقياسا على ذلك فإن سلوكا من قبيل السرقة لا يمكن أن يكون سلوكا خلقيا لأن تعميم السرقة ينتهى إلى امتناع الملكية فتنتقى السرقة ذاتها ونحن نعرف ذلك “قلبيا” غير مفتقرين إلى التجربة.
هكذا حل كانط الأشكال الأخلاقى بأغلوطة منطقية، حيث سلم تسليما بوجود أحكام تركيبية قبلية مكتفيا بأن يسأل: كيف توجد مثل هذه الأحكام؟… وكان الأجدر به أن يسأل: “هل” توجد؟!.
وقد تكفلت فلسفة العلم وفلسفة الرياضيات المعاصرة باظهار تهافت هذه المسلمة الكانتية؛ فأثبتت فلسفة العلم أن الحكم التركيبى غير ضرورى الصدق، وأثبتت فلسفة الرياضيات أن القضية التحليلية فارغة تكرارية تعبر عن علاقة لزوم بين مقدمات ونتائج، ناقلة مشكلة الصدق من هذه إلى تلك.
لقد كان الفضل لكانط فى إبراز مشكلة البديهيات الأخلاقية لا فى حلها؛ فالحق أن هذه البديهيات الأخلاقية ليست قضايا تركيبية قبلية:
أولاً – لأن هذا النوع من القضايا لا وجود له أصلا، لا فى مجال الأخلاق ولا فى غيرها؛ فالقضية إن أخبرت فهى احتمالية، وإن كررت فهى فارغة. ومن المحال أن تجتمع لقضية واحدة صفتا الأخبار والضرورة.
ثانيا: لأن هذه البديهيات الأخلاقية ليست حقائق على الاطلاق. ولا يجوز أن توصف بالصدق أو بالكذب، لأنها ليست قضايا تركيبية ولا تحليلية ولكنها توجيهات أو أوامر سواء جاء الأمر سافرا أو متنكرا فى صيغة نحوية تقريرية. فعبارة من قبيل “البخل رذيلة” وأن تضمنت مبتدأ وخبرا، يجب الا تخدعنا صيغتها النحوية التقريرية فتصرفنا عن صيغتها المنطقية الامرة. فقائل هذه العبارة يريد فى الحقيقة أن يقول: “لا تبخل” أو “ينبغى ألا نكون بخلاء”. فهى من حيث البنية المنقطية أمر متنكر. والصيغة الامرة لا تحتمل الصدق أو الكذب لأنها ليست حكما تركيبها معيار صدقه التجربة، ولا تحليليا معيار صدقه الاتساق الداخلى أو عدم التناقض. وهى فى الحقيقة خلو من أى معنى معرفى وأن حملت معنى أدائيا أو إجرائيا. فحين أقول لك: “أشعل المصباح” فإن عبارتى لا شك تفيدنى عمليا وأن خلت من أى تقرير معرفى اللهم إلا تقريرا عن رغبتى الداخلية فى اشعال المصباح أو إرادتى الخاصة فى إشعاله.
أمر متنكر | أمر سافر | متضايق معرفى (يعبر عن إرادة) |
اشعل المصابح | (س) يرغب (يريد) أن يشعل المصباح | |
البخل رذيلة | لا تبخل | (س) يود (يريد) الا يكون هناك بخل |
العدل خير | لنعدل | (س) يرغب فى المساواة بين البشر |
نستطيع إذن أن نتبين فى كل عبارة طلبية متضايفة معرفيا cognitive correlative. غير أنه متضايف يعبر عن إرادة ما، هى من قبل ومن بعد حقيقة داخلية ذاتية لا خارجية موضوعية (بالمعنى العفوى السمح للذات والموضوع).
إن هذا الأمر – سافرا أو متنكرا بما يصحبه من متضايف معرفى يعبر عن إرادة شخصية، هو قوام كل تعبير أخلاقى ولباب كل حكم تقويمى.
تحليل الوجوب:
وفى ضوء هذا الكشف المنطقى يمكننا الآن أن نقوم بتحليل نهائى لذلك الوجوب الأخلاقى المزعوم غير مأخوذين بضجيج الأحرف ولا عجيج الخطب. فنقول أن كلمة “يجب” أو “ينبغى” التى تعبث فى الأنساق الأخلاقية لا تخرج عن أحد مدلولين:
- مدلول لزومى منطقى.. صورته: قِ ] ك.
وهو مدلول ذو طبيعة منطقية صرف، لذلك فهو يفيد فى ضبط البنية الاستنباطية للنسق. غير ان نفوذه لا يمتد الى المقدمات القصوى لذلك النسق (البديهيات الأخلاقية. فقصاراه أن يقرر لزوما منطقيا بين غاية ووسيلة نسبيتين.. فهو منطق متبصر بالمعطيات العلمية والاعتبارات المعرفية يربط بين هدف مطلوب وبين اجراء محقق له. ويقرر أن تحقيق هذا الهدف مشروط بتبنى هذه الوسيلة كأن تقول( اذا) شئت الاحتفاظ بكبد سليم (فينبغى) عليك تجنب الكحوليات. أو (إذا) شئت أن يقرأك العامة (فيجب) أن تكتب ما يفهمونه. أو(اذا) أردت ق (وجب) عليك أن تسلك السلوك(ك). أو القرار(ق) يستلزم القرار(ك). او ق ] ك.
غير ان هذه العلاقة اللزومية هى فى نهاية الأمر علاقة صورية صرف تلقى بثقلها على(ك) تاركة(ق) حرة طليقة. فهى” تلزمك” أن تكتب اسلوبا مبسطا “اذا أردت” أن يقرأك العامة، غير أنها لا تملك أن تلزمك أن تريد أن يقرأك العامة، ولا توجب عليك هذه الارادة بحال، تاركة ذلك لرغبتك الشخصية أو اللزوم سابق فى بنية النسق، كأن تكون ق بدورها لازمة عن م أو: اذا اردت الشهرة فينبغى أن يقرأك العامة أو م ] ق .
وهكذا تتحكم هذه السلاسل اللزومية فى بنية النسق الأخلاقى تاركة المقدمات القصوى( البديهيات الأخلاقية) بلا حكم.
2 ـ مدلول ارادى ذاتى .. صورته س يريد ق.
وهو مدلول ذو طبيعة سيكولوجية صرف. فحين أقول: العدل جميل: فهذه الصيغة التقريرية مساويا منطقيا لقولى: (ينبغى أن يكون سمه عدل). وهى بدورها مساوية للصغية الآمرة( لنعدل) أو(ليكن ثمة عدل) وهى صيغة تصحب متضايفا معرفيا مؤداه أننى – أنا المتحدث – اريد أن يكون صمة عدل. أو س يريد العدل بين البشر أو س يريد ق. أن جميع الأحكام التقويمية من قبيل “العدل جميل” هى أحكام سيكولوجية مرتبطة بقائلها تماما، ولا معنى لها اطلقت عارية مستقلة عن قائلها.
وأنما نحسبها ذات معنى بذاتها لالفنا لها وتعودنا عليها واتفاقنا فى كثير منها، ولما تسديه لنا من راحة تعبير واختزال قول ويسر تداول. وربما يبرز لنا الطابع السيكولوجى لأحكام القيمة بشكل أوضح اذا تعثرنا بحكم تقويمى يكثر فيه الخلاف لا الاتفاق مثل:” الشهرة جميلة”.فعلنا الآن نتمثل بسهولة كيف تخلو هذه العبارة من المعنى اذا أطلقت عارية منفصلة عن قائلها، وكيف لايتخلى بالمعنى سوى ما يصحبها من متضايف معرفى مؤداه: أن قائلها (فلان) يريد الشهرة أو س يريد ق وهو معنى أداتى لا معرفى حيث أنه تقرير عن ذات لا عن موضوع وفتوى فى ارادة داخلية لا حقيقة خارجية.
من التحليل المنطقى السابق للوجوب الأخلاقى يتبين لنا انه لا يخرج عن احد معنيين: الأول لزومى يربط بين هدف ووسيلة ولا يمتد الى البديهيات الأخلاقية من حيث هى مقدمات قصوى. والآخر ارادى ذاتى هو الذى يضفى على تلك البديهيات – وبالتالى على النسق كله – ذلك الطابع الآمر الذى يميز أحكام القيمة .
وحيث أن اللزوم قالب منطقى صرف قابل لأن نملأه بمعطيات التجربة واعتبارات العلم، وأن الارادة وظيفة سيكولوجية خالصة، فمن الممكن أن ندرك الآن أن البحث عما ينبغى ليس تكهنا غيبيا ولا حدسا سحريا ولا خيطا فى عوالم مثالية مفارقة بقدر ما هو منطق بشرى يستهدى علما بشريا قادرا الى حد كبير على ضبط اللوزام عاجزا الى حد كبير عن ضبط المقدمات الارادية التى يجب أن نتحلى بشجاعة ونزاهة فلسفتين لنتعرف انها مجرد مصادرات اعتسافية.
ان النصاعة المنطقية لعلاقة اللزوم بين الأهداف الوسطى ووسائلها – ممتدة بلا شرعية الى البديهات، مسبغة عليها وضوحا ذاتيا زائفا – هى التى سولت لبعض الفكرين الأخلاقين الاعتقاد فى وجود بصيرة أو حاسة خلقية مشتركة.
وأن تاثر الارادة الفردية الشديدة بارادة الجماعة، وانصهار الوجدان الفردى بالوجدان الجماعى وتشرب الأنا الأعلى بقيم ومعايير السلف من خلال التربية السرية والتطويع الاجتماعى Socialization – هو منشأ ذلك الشعور الضاغط بالالتزام تجاه المقدمات الأخلاقية الآمرة. غير أن هذا الشعور الضاغط هو افراز سيكولوجى بحت لا ينبغى أن تبرهن به على صواب النسق الأخلاقى لهذه الجماعة أو تلك، ولا ان نفسره تفسيرا متهافتا مبسترا – كما يفعل الكثيرون فنعده وليد ضرورة معرفية أو قانون عقلى أو استبصار مثالى .
فى ضوء تحليلنا المنطقى السابق لمعنى الوجوب يمكننا أن نتبين الدور النبيل الذى يستطيع العلم أن يؤديه لخدمة البحث الأخلاقى، خاصة حين نلمس أن كثيرا من النزاعات الأخلاقية تنشأ حول الوسائل المؤدية الى غايات مشتركة يتفق عليها معظم البشر. فنحن حين نتفق على غاية محددة(ارادة) يصبح الاختلاف ذا طبيعة منطقية(لزوم)، ويتكفل العلم بتقرير خير الوسائل المؤدية الى تلك الغاية المشتركة. فاذا اتفقنا على ان الرخاء الاجتماعى والاستقرار المادى وضمان الضروريات لكل فرد فى المجتمع هدف نتوخاه وغاية نقصدها بالاجماع، عندئذ يصبح تقرير أى الأنظمة أقدر على تحقيق هذا المأمل المشترك(الاشتراكى… اللبيرالى… الخ) أمرا يتولاه علم الاقتصاد وعلم الاجتماع ويتوقف عى مدى ما يحرزان من تقدم. واذا اتقفنا على أن الصحة الجسمية للأم والأبناء هدف مشترك بيننا جميعا فان تقرير عدد مرات الحمل والفترات الفاصلة بينها يغدو مسالة منوطة بالعلم البيولوجى ومدى ما يكتسب من دقة. واذا اتفقنا على أن المريض اجدر شئ بالعلاج يصبح الاجراء المناسب تجاه السيكوباتى المدفوع الى جريمته بدوافع مرضية مسألة متروكة للعلوم الطبية والنفسية.
هكذا يتضح لنا أن الاضاءة المعرفية كفيلة بتحويل بعض المشاكل التى لا تخلو من مسحة أخلاقية الى مشاكل منطقية الطابع, شريطة ان يكون الاتفاق معقودا على الغاية الأساسية المنشودة.
على أن الاضاءة المعرفية لا تكفى وحدها للتغلب على الرواسب اللاشعورية والمواريث العرقية. فالحق أن النفس البشرية أعقد من أن يسيطر عليها الاعتبار المعرفى البرئ أو اللزوم المنطقى الناصع، فهى متشربة بالخرافة محشوة باللامعقول بحيث يفشل الايضاح العلمى فى تغيير كثير من اتجاهاتها الارادية. أن قهر النفس البشرية على أن تريد ما يثبت المنطق والعلم أنه اقرب السبل الى أهدافها الأساسية هو أمر يتوقف على عوامل كثيرة، بعضها من صنف غير معرفى.
لعلنا الآن نكون قد أدركنا مدى اهمية تشريح النفس البشرية والضمير الأخلاقى لكل بحث نظرى يريد أن يسهم اسهاما أمينا فى تحقيق تقدم اخلاقى فعلى ولا يقتصر على لعبة رصف المكعبات الصورية الجوفاء فى انساق انطوائية مغتربة تماما عن عالم النفس البشرية ذى اللون الخاص.
ليس ثمة ينبغية مطلقة عارية معلقة فى فراغ. وعلى الذين يبحثون فيما ينبغى أن يسألوا أنفسهم(ينبغى لمن) وينبغى (على من)؟.
فما ينبغى للعصا غير ما ينبغى للقوس، وما ينبغى لطوق النجاة غير ما ينبغى للرمح القاتل. واذا كانت الأوامر الأخلاقية كما بين التحليل ذات طبيعة ارادية فان اعادة تكييف الارادة البشرية بما يتفق مع ما اثبت المنطق والعلم أنه يحقق الأهداف البشرية يتطلب أولا دراسة هذه الارادة وتشريح ذلك الآمر الأخلاقى والوقوف على شروطه وبنيته الخاصة.
مشاعل العلم التجريبى ونباح المثاليات المزعومة:
فهل يجدينا الا أن نطوف بمشاعل العلم.. غايتنا الحقيقة، وبغيتنا انقاذ مجتمع متداع وانصاف انسان مقهور يلطخونه بغثاء فوقى(تاركين المستنقع التحتى على اسنه وعطنه) مخلفين من ورائه شيئا مشيئا، مصوغا بالكلاميات .. مسمرا بالمواعظ.. متلويا ابدا على حائط النهار والليل؟.
نطوف تنبحنا سدنة السائد وكهنة الوراء، صارخة:(لن يغنى عنكم العلم شيئا، فالعلم تقريرى يصف ماهو كائن، والقيمة معيارية ترسم ما ينبغى أن يكون. والانتقال مما هو كائن الى ما ينبغى ان يكون انتقال غير مشروع هو مغالطة المذهب الطبيعى العتيدة naturalistic fallacy).
تنبجنا دون جدوى، فما عدنا نأبه لمثل تلك الدعاوى اللفظية، والتشويشات الصوريةformal muddles التى ظلت دهورا ترتدى ألفاظا معسولة من قبيل: الاطلاق.. المثالية.. الأزلية.. الخ.. وتفرز الشقشقات اللفظية لتعقل اللامعقول وتنسج البطانات النظرية للعادات الأخلاقية الرسمية السائدة فى زمانها ومكانها المحدودين، وتمكن للفئات المتحكمة وتقطع أوصال التحول والتطور، وترتكب باسم (الماينبغى..) جريمة الابقاء على (الماهو..)، وباسم المثالية والأزلية تطيل من عمر الفكر المحلى الاقليمى الذاتى الضيق.
تنبحنا المثاليات المزعومة.. نباحا مردودا اليها.. فهى هى النسبية والمحدودية وأن تسربت بمسوح لفظية فضفاضة من(المطلق) و(الماينتغى). اما نحن فنعلم مهمتنا الشاقة، ونعلم ان النوايا والأمانى لا تكفى لانجازها، وأن نجاحنا فى ان نستحث النزاعات الخلقية للانسان وننعشها يحتم علينا الاحاطة أولاً بأصل هذه النزعات وطبيعتها وآلياتها وامكاناتها.. حتى يتسنى لنا اكتشاف الطريقة المثلى لتربية النشء تربية جماعية يعودون من خلالها على أن يرغبوا المنطقى لا أن يمنطقوا المرغوب وأن يريدوا ما هو علمى واقعى محقق لا أن يعقلوا ما هو مطمور سلفا فى جهازهم النفسى الربيب من ارث قيمى بدائى عتيق. ولن يتحقق هذا التسويد الطوباوى دون ثمن، ودون نزيف من الزمن، ومن كدح القلة المبدعة خلال جدلها الدائم مع جماعتها، ومن احتكاك الارادات والرغبات واحتكاك القوى المختلفة: قوة السلاح، وقوة الطبقة، وقوة الكلمة وقوة البطولة الفردية……. الخ.
خاتمـة:
لقد طالما أرسل الحكماء ألفاظهم المسومة
وراء شريط الزمن وخلف تخم المكان
أرسلوها خفيفة الظهور مرخاة الأعنة
لكى تستجلب القيمة من غيوب الأبد
كما يجلب العاج من ضفاف السند
لكن فم الجفت يسر الى أن القيمة(هنا)
وأن البيض لا يكون الا داخل القفص
يسر الى فم الجفت أن حكمتهم ورم
ورم قديم يحتاج الى جفت بحجم العالم.
( جراحة …..)
المراجــــع
1- هنتر ميد: الفلسفة.. انواعها ومشكلاتها، ترجمة د. فؤاد زكريا، دار نهضة مصر 1975.
2- كارل فلوجل: الانسان والأخلاق والمجتمع، دراسة نفسية تحليلية، دار الفكر العربى 1966.
3- هانز ريشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة د. فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1979 .
4- جون لويس: مدخل الى الفسلفة، ترجمة أنور عبد الملك، الدار المصرية للكتب 1957.
1 – ترشوه الغرائز السفلى والنزعات الأنانية الدنيئة فى محيط ما عن طريق تحمل بعض الآلام والعقوبات فى محيط آخر. فنجد البيوريتاتى على سبيل المثال يبدى تشددا مغاليا بصدد الأمور الجنسية ليقلل من الشعور بالاثم فيما يبديه من حقد وحسد وبغض وأذى وكل ما هو بعيد عن العطف والنبل والتسامح.
2 – يذوب فى الفقر والقهر، والتشوه والعجز، والمرض المزمن(النفسى والجسمى) وفقد الاحساس بالعدالة، بالاضافة الى الكحول.
3 – قد يؤدى الخضوع لنفوذ الجماعة واسقاط الفرد ذاته العليا عليها الى هبوط المعايير الخلقية بل الى الاجرام نفسه(الذات العليا المجرمة) كما يحدث فى الحرب وفى الاضطهادات مجموعة أخرى ولا تشعر بالاثم والحقارة بل بالسمو والطهارة!!
4 – على الوالد، المدرس، النجدم السينمائى، الأديب، الطبيب، الحبيب، الجماعة، الطوائف الشاذة.. الخ.
5 – يقول جون لويس فى كتابه” مدخل إلى الفلسفة” فى مقام مشابه اذ يتحدث عن كتابات فلاسفة القرن الوسطى: فاذا تناولنا كتاباتهم بطريقة جدية لأدركنا أنه لابد من هواء لنتنفس فى مثل هذا الجو من الرأى. يقول بيكر:” أن النتائج التى تصل اليها هذه الكتابات لا تبدو أمامنا فى مستوى الصحة أو الخطأ، ولكن فقط على صورة شئ خارج الموضوع، أنها تبدو خارجة على الموضوع لأن تركيب العالم الذى كانت متداخلة فيه بطريقة بلغت غاية فى الدقة التكنيكية لم يعد فى مقدوره أن يحوز منا على استجابة وجدانية أو جمالية” ونحن نضيف هنا: أو فكرية.