الوجه الماسح
أوراق من الأحزان الشخصية
على أيام العهد الفائت
عبد الحميد الكاشف
أحمد، المدثر، عيسى ..
أسماء الأنبياء التى حطت لتسكن الأرض فى عصر شح فيه الأنبياء.. تواضعت وسكنت، شهادة ميلاد ذلك المهاجر الذى حط الرحال فى بنها.. ليقطن بجوار الرياح التوفيقى لكن خيالاته كلها ملحة الطعم.. حيث شاطئ القنال وعراشية مصر.. حيث الاسماعيلية كلها.. هائج الخيال كالخماسين.. جامح كحصان خام.. عظيم الشطط بلا حدود.. حالم كأنه خمارويه.. يشطح ويبرطع فى بحيرة التجديد فى المسرح.. فيصنع من الحبة قبة.. يبرجس بلا لجام، ويهيج بلا فرامل… لا شواطئ لبحر أوهامه المسرحية، ولا نهاية لخيالاته التجديدية.. لكنه – والحق يقال – محدد الهدف تماما كعزرائيل..
– أنا هدفى خلق المسرحية السيمفونية..
– يعنى ايه؟.
– أعنى المسرح بالايقاع السيمفونى..
وبالمناسبة أنا مش مطالب اشرح للناس.. ومش مستعد للمناقشة. والى هنا يكون “دثر” قد حرن عن المناقشة.. وكثيرا ما يكف عنها قبل الأوان.. لا لعجز عن الاستمرار فيها – كما يوحى شكله – وانما لاحساس داخلى لديه بأن محدثه لا يفهمه ولن..
وعلى ذلك فالمدثر سلالة الأنبياء اسما – لا يختصر الطريق فقط ولكنه يسده.. والمدثر جيد الفهم لكنه ردئ الافصاح عما يفهم.. جهاز الترجمة بين جزء الفهم فى مخه وبين اللسان عاطل. انفصام بين عدسات العقل وبين بوق الرغى والكلام. والمدثر من أحسن الناس استيعابا للأفكار الجديدة فى المسرح وكثيرا ما يكون عنه صورا مركبة. لكن جهاز الاعلام فى مملكته الذكية غبى..لذلك فالمدثر عقل مسرحى بلا لسان. سبورة مكتوب عليها بالقلم الرصاص.. نص درامى بلا لغة.. يفكر بكاميرا مسدودة العدسة.. ويوجه ارساله على موجة خرساء.. وهذا هو سر عزوفه المستمر عن المناقشات، وقرفه الدائم من الحوار. ولقد بلغ عشق أحمد وخياله وهيامه بالمسرح أنه يتصوره دائما مسرحا بملايين الجنيهات. ولكن الشئ المؤكد أن آخر محطة وقف عندها قطار الثقافة الجماهيرية التى قضت ردحا من الزمن تعتصر ذهنها فى طاحونة المسرح لابتكار أنماط عصرية له تواكب قطار الحياة.. كل هذا يعتبر شديد التأخر والانحطاط بالنسبة للتوليفات المدثرية التى تقفز بها قريحة ذلك العبقرى.. يضاف إليه تصوراته الاخراجية لكل شكل من هذا الابداع.. بالاضافة الى حماسه الذى يعلو فوق أعلى طابق بعمارة البنك الصناعى 13 شارع الجلاء – القاهرة –حيث لا مسرح القهوة ولا مسرح الخندق الا اكتشافات القرن الهجرى بالنسبة لنبينا الجديد أحمد المدثر عيسى..
لقد صمم مسرح المرايا والمسرح المعلق والواقف. وطارت الرؤوس تلحق بالجنون العبقرى لكننا بلا أجنحة، فرحنا نفتش فى الأرض نقرأ ” لغة العصر المدحور” عنوان أول مسرحية له .. لكننا لا نملك فصاحة لسان سليمان.. ولسنا فى معجزات عصر الحكيم..
لكن الرسالة التالية والتى كتبها الى صديقه جاد قد تغنينا عن عناء البحث عن مواصفات تلك اللغة:
” المرئيات عدم.. تلاشى مفعول النبض القلبى فى تجوفى الممتلئ بنجاسات اللحظة الاسمية لما لا اسم له.. والنوع.. انطلاقا لتعريفى انتشاء عصبى.. والتورية أن تصعد بأنورا حلمك المصنوعة من ذلك على سحابات تكوينك الداخلى عابرا من نفسك لتسافر الى القمر وفوق منحدراته ترقص رقصة الانتشاء.. تتمايل جهة اليمين بحده ثم تجلس على ركبتيك ناظرا الى أعلى تنقذف منك عيناك الى الشارع الدمار. يصبح القمر قرصا ملتهبا، والنجوم والكواكب فى بلادة تامة وما بينهما خرافة.. والتوازن خدعة.. جعلت النقطة أساس الفكرة، والعقل أن أسافر وأسافر غير عابث بالكل ما دام الكل للكل لا كل.. اللعبة عندى تدفق الدم فى شرايينى والدوران حول موضوع القلب منى احتمالا أن أغوص فى جوف المرارة التى تملأ الحلق الصدا صدقنى يا جاد أن كل تلك السطور السابقة كلام فارغ.. كنت أحسها من شهرين أو أقل.. أما الآن فأنا شئ آخر.. ثم راح المدثر يحدثنى بعد ذلك عن مسرح لوجوه الحيوانات ولم أحاول أن أبدى تساؤلا حتى لا يسرع باتهامى أننى أنا الآخر لا أفهمه.. حتى لا يدرج اسمى ضمن كشوف الكافرين باله المسرح، فادرت الدفة الى النص المسرحى.. ولكنه بحده قال
- لابوجد
أنا عارف أنكو بتقولوا عليه متهور ومجنون لكن أنا مصر أن دا مش مسرح.. هو أنتو فاهمين المسرح ايه؟ ياشيخ بلاش ظلم للمسرح.. وفوقوا بأه حرام عليكو.. المسرح دا حاجة تانية.. تانية خالص.. وأنا بكرر أن هدفى خلق المسرحية السيمفونية.. وافهموها ذى ما انتو عايزين.
– 2 –
ولأول مرة اشعر بخوف أمام أحمد عيسى المدثر، أو عيسى أحمد المدثر، أو المدثر عيسى أحمد.. فكلها صح.. البداية كالنهاية كالوسط.. تماما كمسرح المرايا.. وجه الشخص كقفاه.. صدغه الأيمن محل الأيسر.. والقدم مكان الرأس.. فكلها صح.. الأمام كالخلف.. اليمين كالشمال.. لا فرق.. فلكل مكان عندنا تبرير.. شعرت بهذا الولد وكأنه احدى الموجات التى تصنع مياه قناة السويس.. هدوء يصعب معه تحديد الاتجاه.. ورحت أتامل جوف هذا المجرى وأسال نفسى الى أين يسير؟ حتى قطع هذا الصمت بصرخة: على فكرة.. سأدعوك قريبا أنت وجاد فقط لمشاهدة عرض مسرحى داخل حجرتى الضيقة.. ستشاهدان سحاب السماء بكل ألوانه الغنية فى ضوئيات لن تكلفنى ثلاثين قرشا.. وطبعا هستلفهم منك.. أنا عارف أن جاد مش معاه. وأوحت الى نظرات الولد وكأنه مكشوف عنه الحجاب.. كما أوحت الى ثقته فى الكلام وهو يدوس حروفها بغيظ وكأن رؤياه لشكل المسرح تمتد لألف عام قادمة.أغلق فمه وفتح عينيه كتمثال جامد وراح يبحلق فى سحابة ألوانها غنية كانت تمر من فتحة الشباك.. وكان “دثر” كمن يحاول أن يوقفها.. فرحت أخافه مرة أخرى.
لكن هذا الولد المدثر فاجأنى بلا مقدمات:
ـ أنا عايز أنعكف.. اصل أنا بحب الوحدة.. لا مؤاخذة يعنى من غير مطرود.. ورحت أجرجر قدمى مبتسما نفس الابتسامة التى أجبر وجهى على أدائها كلما احسست بحرج..
ـ مع السلامة ..
هكذا كحد السيف قال..
وتناقلت خطواتى عبر شارع يقترب الأولاد فيه من عدد الحصى ورحت ألوم نفسى حيث خدعت فيه مرة أخرى وتصورته محافظا على شكليات المعاملة.. أو على الأقل سيجهد نفسه فى كبح جماح خصاله المفاجئة.. خاصة وأنه زف الى خبر الانعكافات عشرين مرة سابقة.
لكننى على أى حال عندما وصلت باب حجرتى فوجئت بصوته فى الداخل.. وانشغلت بتحصين نفسى بمناعة جديدة ضد رياحه التى تحدث على غفلة.. وبعد أن جلست معه نسيت كل التحصينات وابتسمت له حفاظا على بالونة كثيرا ما نحتاج اليها كلما نغدو أطفالا فتشجع وهو بالكلام عن ذلك الأخ الذى أسماه أبوه “حسن” وما هو بحسن ولا زفت.. ثم اقترح تغيير الاسم الى العكس من ذلك فالولد تافه.. هكذا يصرخ عيسى:
ـ تصور أنه شارى كل كتب أرسين لوبين.. أحط “الكتاتب المقدس” ع الرف ما أعرفش مين اللى يرميه ويرص مكانه كتب” ليلة الزفاف” بتاع كامل حسن المحامى أنا بصراحة مش طايق أعيش فى البيت ده.. عايز أطفش علشان خاطر حسن أخويا وأرسين لوبين بتاعه.. وع العموم أنا كتبت طلب نقل الأقصر.. نفسى أخرج مسرحية فى مسرح الكرنك.. يبقى المعبد هو الديكور.. نفرج الناس على العرض ونوريهم التاريخ.. ونوفر تكاليف الديكور..
نفسى أوجد حوار مسرحى بين مصر العربية ومصر الفرعونية.. الواحد عاش فى الوجه البحرى نص عمره واجب عليه يقضى النص التانى فى الوجه القبلى.. لذلك لو طلب النقل اتنفذ مش راجع هنا تانى.. بس الواد حسن هيوحشنى.. بتستغرب ليه..؟.
ماتنساش أن حسن فيه جانب انسانى كبير.. تصور أنه كان العائل الوحيد لنا كلنا لمدة سنة كاملة !! كنت أنا عاطل وكان حسن يقضى اليوم تلميذا فى المدرسة وبالليل عاملا فى طابونة ..
وظل هذا الطفل لمدة عام كامل الأب ورغيف الخبز لأفواه بيتنا الجياع.. لا يمكن أن أنسى له هذا الجانب مهما قرأ لأرسين لوبين أو لغيره.
وعندما جاء دور الأم فى ملحمة كفاح الأسرة التى أخذوا عائلها واصبح الزاما أن يعول الكل نفسه حتى الطفل حسن توقف اللسان مفسحا الطريق لنهر من الموع..
– 3 –
فللمدثر أب قد مات.. لكنه حى فى داخله.. يتنفس معه ويحيا فيه على عدة أشكال كلها تشارك فى قرف الولد الغلبان فالأب قد مات وترك رجلا يسأل عن أحمد بالحاح.. ولكى لا تتهموا أحدا فى موت الرجل فالقضية ضد مجهول، لكنه معلوم عند أحمد.. معلوم لأن أحمد يخشاه هو الآخر.. ولكى تسدل الستار على مشهد الموت الحزين نقول أن الرجل قد مات وليس من حقنا أن نعرف التفاصيل..
والرجل رغم موته يحيا داخل وجدان الأبن وبؤرة الشعور واللاشعور ايضا.. يحيا فيه على شكل كلام فصيح ولسان لبق.. يناقش طوال الليل أصدقاء له .. ما عادوا غرباء على أهل الدار.. كانت كل ليالى الأب مواكبا للكلام الأخضر.. له طعم متميز ورائحة خاصة. والولد أحمد يتصنت بأذنيه ليملأ رئتيه من تلك الأصوات التى تعزف لحنا ما فى حجرة الجلوس.
لكن اللحن ظل ناقصا بالنسبة لوجدانه – حتى الآن- لأنه كان ينام دائما دون انتهاء النقاش الذى كان دوما ما يدوم حتى الصباح.. ولأن المايسترو كثيرا أيضا ما كان يهمس الى حد الوشوشة.. فينقطع الارسال لتظل الصورة شبحا مهتزا لا تحمل ملامح محددة التكوين..
لذلك عاش أحمد سنوات من العمر منتظرا من يبصم عليه شئ.. أى شئ.. فموت الوالد قد رقص به على السلم وعندما أوشك أن يجده كانت شجرة الولاء للأب الفصيح قد امتصت كل هواء البستان تاركة الجو العكر لزهرات تتفتح فى تربة ما عادت صالحة.. وغدا أحمد قطارا سريعا ترك كل المحطات.بل وفات على الرصيف. فلا هو لك ولا هو لى ولا هو لنفسه ولا هو لأحمد.. فعاش بعد ذلك باحثا عن أب يكمل تربيته. يكمل الميلاد والبعث، وشروطه فى الأب الجديد أن يصفق دون أن ينصح.. أن يمتص دون أن يعطى.. عليه أن يتكيف مع الابن والا فالتهديد بالبحث عن أب جديد يستطيع أن يواصل عزف الموكب العظيم..
ومنذ عامين كان ميعاد مجئ الأب التائه والمفقود.. وجد عيسى أباه.. الأب الاسنفج فى شخص صديق اسمه جاد.. لكن هذا الجاد ما عادت له هذه الهواية فهوى المدثر يبحث وينقب..
هكذا مات صوت الأب ولم يبق منه الا صورة يحملها جدار حجرة الجلوس باعياء حجرة الصناديق المرصوصة التى يفترشها الولد بنصف بطانية ويلتحف النصف الثانى..تستقبلك فى الصورة لحية طويلة مهيبة يحترمها احمد الى أقصى درجات الاحترام.. هذه اللحية التى التف حولها عنق الولد تشده الى رائحة الأب.. تلك اللحية التى امتهنتها أياد كثيرة حتى أثناء دفنها التراب..
لكن سحر تلك اللحية لم يسر تيارها الأولاد الذين هم أخوة صغار للمدثر.. فهم يقرأون كثيرا عن الزواج الناجح وقضاء ليلة الزفاف.. يفعلون ذلك لأنهم لم يسمعوا صوت الأب.. كانوا صغارا ينامون قبل صلاة العشاء.. أما الجدل حول الأشياء فلم يكن يحتدم الا بعدها.. والمواكب كانت لها أعيادا ومواسما..
مات الرجل، خرست ألسنة ما بعد العشاء الهامسة دوما.. ذلك الهمس الذى علم المدثر التصنت من خرم الباب. الكلمات كانت دوما ممنوعة لكنها تفتح عينيه على الدينا..
مات الرجل وانقطع صوته بينما المدثر الصغير لم يشبع بعد.. جفت كلمات الحوار فى حلق حجرة الجلوس الساهرة فى بيت بعراشية مصر بالاسماعيلية قبل أن تصبح تحت تهديد مدافع اليهود.. وأنطفأت الى الأبد شعلة وابور السبرتو وتكسرت صينية الألومنيوم وكوبات زجاج.. أغلقت حجرة الجلوس الباب والشباك.. وانطفأت أنوار المصباح قبل أن يفرض اليهود الاظلام التام.. وسقطت الكلمات صرعى من فم المسيح لتحفر مجراها بين شعيرات اللحية الغزيرة التى سكنت التراب.. وتوقفت الألسنة شللا.. وامتصت الجدارن الأصوات.. جدران البيت المهجور كما كل بيوت المدينة قبل اعادة التعمير. وجدران المقبرة الصماء.. وجدران أخرى حجرية.. تلك الجدران التى قتلت الصوت وتقتل الآن الصدى أو هى تحاول.. حتى أنى عندما ذهبت اليه فى أول ساعات لحداد الأربعين يوما رفض الخروج قائلا:
” أصل يمكن حد يفوت عليه.. لازم حد يسأل عنى النهاردة وانصرفت تاركا اياه فى سجنه غير فاهم جنسية الذين يريدون هذا المسيح.. ولم أحاول أن أفهم.. فتفكيرى كان فى صديق أقضى معه ساعات النهار الحزين.. حتى اذا وصلت الميدان ذبت فى طوفان من البشر، ينتحبون جمعيا.. فبكيت معهم.. هتفوا بأشياء هتفت معهم.. حملوا لافتات حملتها وياهم.. رفعوا صورا جللوها بالسواد وفوق راسى حملت.. وفى جنازة رمزية سرت.. وقبل بلوغ نهاية الطريق، وبينما أحمل مع آخرين نعشا لميت عملاق رايت جسدا كالهرم الأصغر ليس غريبا على.. رفعت بصرى تدريجيا فاذا الكتف الذى يحمل معى الذارع الآخر للنعش العزيز واذا بحر دموع فياض..
قرأت خلفها ملامح لوجه أحمد المدثر عيسى..
وبعد أن هدأت الهوجة، واطمأنت القلوب الى نفسها بعض الشئ.. عادت الأنفاس فى المنزل العامر بالأصوات الدافئة.. وأثبت المنزل أنه لم يخسر كل الفرسان.. ظل منهم ذلك الرجل الذى راح بين الحين والحين يصفق مستئذنا من بير السلم يطمئن على صحة الأولاد من أجل خاطر ذلك الرجل الغالى المرمى خلف الجدران الحجرية التى امتصت كل الأصوات وأخرستها.. وأصابت المواكب الخضراء بصفرة حزينة. كان ذلك الرجل هو الذى صان العيش والملح، واحترم شاى الصينية الألومنيوم.. تردد على الأسرة معلنا عند كل زيارة أن العشرة لا تهون الا على ابن الحرام.. كان هذا الرجل قد شهد العصر الذهبى لحوار البرلمان العائلى.. ثم شهد عصر الانفضاض من حول المبادئ والأفكار، فتاب.. شهد أياما للأسرة لا تبلع فيها ريقا.. أياما ينفزع فيها الأطفال رعبا عند كل طرقة باب غريبة على الأذن.. لقد كانوا يألفون طرق أيادى الجيران.. أما الأيادى الأخرى فقد كانت كل يوم بلون.. كما كانت لكل نقرة منها دوى متقلب.. تخضع فى كل مرة لظروف الطقس والتضاريس…
المهم أن الرجل بحكم زمالة قديمة وبحكم علاقات أخوة. وخوفا من التأويل تحول بعد فترة الى زوج شرعى للأم.. ولا خلاف مطلقا أنه المنقذ الوحيد.. منقذ الأمعاء فقط، لكن غير ذلك كان أكبر منه بكثير..
كان الرجل هو اليد التى خرجت من الماء تفرش بساط الريح للغرقى من الغلمان.. أقل القليل أنه كرجل قد تكفل بفتح الباب للطارق الغريب. وركب الجميع فى محاولة للوصول الى الشاطئ.. ودخلت الأم فى طور جديد تكتب فصلا آخرا.. فما عادت خادمة”لا” ولا غسالة “لا”.. ولكنها كانت الماء البارد لزوج عصبى كثير النرفزة.. وراحت بضبط النفس تهذب هوايات الشجار بين زوج للأم وأولاد مثل أحمد يبحثون عن مخ. لكن الرجل لم يسمعهم صوتا.. لم يحرك فى أحد الأشجان.. ولم يرجع لحجرة الجلوس شبابها.. بل سد الشباك، لم يصادق جديدا بل قطع القديم.. وكان لذلك وقعه السيئ على المدثر الذى توالت اليه الأوامر بالانعكاف والبعد عن كل الأصدقاء.
وعلى ذلك فالذى حرثه الأب الراحل بططه الأب الثانى.. وضع الولد موضعا حرجا. وسد منافذ جدرانه واغمض له ما أراده الأب أن يراه.. وقطع فيه أوتار الكلام واذا خالف المدثر فالطرد من البيت والحرمان من كسرة خبز وضافر من الجبن يغلف ملوحته الشديدة عرق فجل أخضر..
ثم الأسوأ من كل ذلك النوم بعيدا عن الصناديق الخشبية ذات البطانية والمدثر قبل وبعد هذا قرفان لهذا الأب… يستنشق هواء مقبرة اللحية المهيبة التى شكلت بحذق والهام نفسية المدثر.. والتى نحتاج لفهمها لدراسة تشتمل على ما كتب ورسم لكننى عندما طلبت منه مسرحية ” الدينا صور” التى كتبها فاجأنى بأنه مزق كل ما كتب ورسم.. والمدثر والشهادة لله كان أخلص الذين أعرفهم اهتماما بالقراءة وأكثرهم وفرة فى الكتابة وصل به الأمر أن يكتب قصصا ثلاثا فى ليلة واحدة حقا أن القصص قصيرة.. لكن الليلة ساعات.. ومحصلة الساعات فى النهاية دقائق.
أما آخر علاقة له بالمسرح فقد كانت ما يمكن أن نسميه بالمسرح الضوئى أو مسرح الألوان فهذا هو أعظم الجوانب فى أحساسه بالمسرح حيث كثيرا ما يصرخ بأن الألوان الموجودة فى الطبيعة لا تكفى ويقترح اضافة وابتكار ألوان أخرى غير المعروفة فلا البرتقالى عاد يكفى ولا اللون الفاروزى..
يريد أن يصل بالاضاءة الى لغة بجانب لغة الكلام.. حيث يمكن اجراء حوار بين الأضواء وقيام صراع بينها فى عمل فنى متكامل حيث يصبح الضوء علما له تفنينه بنحوه وصرفه واعرابه..
– 4 –
” الله هو الهدف.. تركت القصص والرسم واهديت كتبى للأصدقاء وأعتقد أنك بعد هذا العمر يا جاد لا يجب أن تظل هكذا شهيدا للكلام الفارغ.. الخلاص فى التفانى فى محبة الله.. وكما يقول أسيادنا رضى الله عنهم لن تعرف الله الا اذا عرفت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن تعرف رسول الله الا اذا عرفت شيخك.. أكرر أن الخلاص ياجاد أن يكون لك شيخ.. تستطيع أن تمارس الفن وتتجه الى الله فى نفس الوقت!! ما كنت أخشاه قد حدث.. والذى كنت أخافه وقع وعندما حاولت أن اشده بعيدا عنه سقط فيه وغرق حتى أذنيه، واوشك أن يجذبنى معه. فعندما لم يجد من اصدقائه من يهتم بأفكاره المسرحية.. لم يجد من يألفون غربة آرائه.. لم يجد من يعترف بجنونه.. راح يتجنن فى ميدان آخر.. ويزاول رقصته على نغمة أخرى فى حلبة أخرى.. باحثا للموكب الأخضر عن خليفة يليق به.. لقد وجد شهيدنا الذين وافقوه بل وتجننوا معه.. فراح يسهر الليل على تأوهات شيخ ضرير. ويقتل الأيام مع تشنجات مجذوب. أصبح الوجه الآخر لعملة الوالد.. الوجه الماسح والردئ”.