الافتتاحية
… واذا بنا نتبين فى غموض أقل أملنا الصعب (قيل المستحيل).
ذلك أنه بمجرد صدور العدد الماضي، وقد قام بكثير من مسئوليته دم شاب جديد، تبين لقارئنا الذى اعتاد علينا أن ثمة فرقا يستدعى الانتباه، بعضهم استطاع أن يعبر عنه بالاشارة الى الأخطاء المطبعية التى زادت حتى غيرت المعنى فى أكثر من موضع، والبعض الآخر استطاع أن يلتقط أن صبغة الأكاديمية قد طغت على “الفيض الحياتي”، وآخرون خافوا أن تستدرج المجلة الى رشاقة عقلية بلا معاناة ابداع حقيقية كما اعتادوا أو كما أملوا.
ورغم أن النقلة لم تكن كبيرة ولا واضحة الا أننا تعلمنا – أو تأكدنا – أن هذه هى اللحظات الجديرة باليقظة والعناية المركزة “بدايات التحولات” فقد اعتاد الناس أن يربطوا بين العناية المركزة والانهيار الكامل، وهذا خطأ شائع، فالانهيار والغيبوبة لا يهدف من علاجهما الا الافاقة بأى شكل بأى طريقة، أما “بدايات التحولات” فهى – فى التربية والسياسة وتطور المبدع ومواصلة الرسالة – الخليقة بكل التركيز والوعى وشحذ القرار، ولنضرب لذلك مثلين أحدهما مواز قريب، وهو ما حدث – أو يمكن أن يحدث – للزميلة العزيزة “فصول” بدءا من عدد يناير 1982 الذى وصفه احد النقاد بأنه كان “مذبحة” وان كنا لانوافق تماما على التعبير رغم مشاركتنا له فى الحذر، والمثل الثاني: هو ما يحدث فى بلدنا على المستوى السياسى من “بدايات التحولات” وان كان الغالب عليها حتى الآن تذبذب أشبه بالتدريب العشوائى على “اصابة أهداف معا” رغم أن بعضها يقع حتما فى الناحية الأخري، المهم أننا نعى أن التحول ضرورى ومطلوب، ولكن المسئولية هى أن نعيه طول الوقت ونحسن الاختيار واعادة الاختيار.
ونجحت التجربة اذ فشلت نسبيا.
ذلك أن مجرد الاختلاف النسبى قد أتاح لنا أن نتقدم خطوة أخرى للتعرف على أنفسنا بشكل أوضح وبأمل أصعب، وهذه البصيرة لا تعنى تراجعا عن الاستعانة بدم جديد أو تجربة خط جديد، بل هى تدفعنا الى المزيد من الترحيب بكل اجتهاد، اللهم الا ذلك التغيير الانقلابى الثورى الجاد الربى الطموح الذى يبدأ بتغيير اسم المجلة الى “قرد الجنوب” يقوم بتحريرها أطباء النفس والمجانين (وهو بعض ما يحدث دون تمييز جاد) .. الى آخر هذه المحاولات التى وصلتنا مرة فى شكل “ماكيت” كامل وأخرى فى شكل مجلة شبه كاملة (انظر الحوار).
اذا، فنحن نخاف الصقل المطلق لذاته، ونرفض الرشاقة العقلة واللفظية المجردة، ونرعب فى نفس الوقت من فرط جرعة التناثر والسير فوق الهواء الدوامة، نخطو بتلقائية مكبلة بحتم الواقع الصعب المر، ولا نحلم الا باستئذان متواضع.
ونكتشف من خلال ذلك – أو نعيد اكتشاف – أن صفة القراءة قد تقلصت فى عصرنا هذا فى بلدنا هذا لتصف أحد فريقين: الأول هو من يمكن أن يسمى بالمثقف المغترب وهو “الزبون” الذى غلب ارضاؤه على محبى القل والرشاقة فى العدد الماضي، وهو قاريء جاد وناقد ومفيد، لكنه لا يتخطى دائرة التجريد المنشق الى الحوار المؤلم على أرض الواقع، والثانى هو قاريء التسلية الباحث عن المختصر المفيد، وهو الذى يريد أن يقسقس الكلمات ليحصل على فائدة “عملية” مباشرة ولو تكون مجرد تزجية الوقت، وهو الذى تروج عنده بضاعة النصائح الطبية والنفسية وارشادات السعادة وألعاب مثل .. كيف تتعرف على شخصيتك بنفسك .. الخ، ونحن نقدم بضاعة لا ترضى هذا ولا تنفع ذلك، “ياه”!! ما أصعب الموقف .. فلمن نقدم ما نقدم؟ هذا هو الأمل الصعب – قيل المستحيل – وهو القاريء الذى “يعيش القراء{“، فيرى الكلمات على الورق أحياء تنادي، وتتسابق، وتتحدي، وتغيظ، وتعري، وتصر، وتقلق، وتصاحب وتطمئن، وتدفع، وتدمي، وتتتلقى .. و .. وبالتالى تصبح المعرفة خطوة ابداعية وطاقة خلاقة لا تدع صاحبها حيث هو، حتى ولو قالت له ما كان يظن أنه يعرف قبلها ولكن بطريقة أخرى تضيء زوايا أخري، فاذا كان هذا هو أملنا الصعب – قيل المستحيل – فهل نحن نكتب، وننشر، بما يسمح بالسعى اليه والبحث عنه وتنميته؟ ان النقد الذى وجه للعدد الماضى يقول ان قارئنا هذا قد وجد قبلنا، فهل نستطيع أن نلحقه ونواكبه؟ (والمفروض أننا كنا نصنعه أو نسابقه!!).
لا أحسب أن الجواب سهل أو ممكن الا من خلال الممارسة، والعناية المركزة وخاصة فى فترات “بدايات التحولات”.
-2-
وتتحرر سيناء ..
ويتكرر فى وسائل الاعلام هذا التعبير القبيح “تحرير سيناء”، وكأن سيناء ليست مصر، ونتمادى فى الانزلاق وراء البضائع اللفظية المستوردة الهادفة لاخفاء حقائق الصراع بخبث انتقاء الألفاظ المضللة، فكما أن هناك استعمار قديما (الأرض) واستعمارا جديدا (الاقتصاد) فأنه سيثبت (وقد ثبت لمن يريد أن يري) أن هناك استعمار أحدث (اللفظ والتفكير)، فمنذ أن سميت الحركة ثورة (رغم أنها تثورت فيما بعد فى حدود) والهزيمة نكسة، ومشكلة الاحتلال المباشر لأرض مصر وجيرانها العرب واعادة تشريد أمة بأكملها “أزمة الشرق الأوسط”، والاحتفال بهزيمة 5 يونيو (اليوم) احتفالا بافتاح القناة، منذ بدأت لعبة الاستبدال اللفظى الخبيث تلعب دورها فى عقولنا ونحن نتكلم باللغة التى تزرع فى عقولنا مرددين ألفاظ الحب والسلام والحضارة والشرق الأوسط وسيناء والاسلام “والتدخل” السريع” بنفس المحتوى التضمينى الذى أريد لنا أن نرددها به، وما لم ننتبه طول الوقت الى أن مصر هى التى كانت محتلة وليست سيناء بعد هزيمة وليست “مشكلة الشرق الأوسط” .. الخ .. فالحكاية ليست كما يغرى ظاهرها، ولعلنا لا نحرم أنفسنا من فرحة ازالة العار “العياني” ونحن ننبه على حتم الاستمرار لازالة كل عار حقيقى دفين بمواجهة الاستعمار اللفظى والثقافى المستشرى والمتربص.
ولعل هذا بعض ما تأمل فى الاسهام فيه هذه المجلة.
-3-
ويرسل لنا صديق قديم – رفعت لقوشة – بعد سفره العلمى الى فرنسا برقية تحية مقاله المحدود عن (الانسان الكبير) ونذكر كيف كان نقده لأول عدد هاديا ومفيدا ونأمل ألا يبخل علينا بالمزيد.
ويعود الدكتور م. عرفة بعد غيبة دراسية طويلة ليسهم بقلمه المنمنم فى اضاءة جوانب موضوع شديد الاثارة والجذب معا عن الاتجاه الوجودى فى الطب النفسي، ولكنه لا يورد، ولا يعد بتقديم النقد الأحدث لهذه الحركة التى بلغت قمة تطورها حول الخمسينيات الى منتصف السبعينيات، ونطالبه بأن يواصل فيقول لنا أين تقف هذه الحركة “الآن” (1982 – ….) أو ندعو أيا من قرائنا للرد والحوار.
وعلى ذكر الحوار، فان باب الحوار يتميز ويطغى ويستولى على مساحة أكبر وأكبر كل عدد ، بل ان كثيرا من مقالات ذا العدد قد أخذت هذا الطابع، فزميلنا ابراهيم عادل يكتب رؤيته لوظيفة الكلمة المكتوبة فى مقابل الفعل الصامت المثابر فى شكل حوار بين “الكاتب .. والآخر” هكذا أسماه، والشاب د. خالد الدش يضع “على مائدة الفكر” أريك فروم “الدين والتحليل النفسي” فى شكل حوار أيضا، نشرناه مع الاعتراضات فى الجزء الثانى لأسباب ذكرناها، وهكذا نكاد نتصور – ونخشى فى نفس الوقت – أن تصبح هذه المجلة ليست سوى “حوار” متصل، بل ان قلة مادة الجزء الثانى واضطرارنا الى نشر بعض الأعمال الفجة قد جعلنا نفكر جديا فى أن يكون الجزء الأول للمقالات والأبحاث وأن يختص الجزء الثانى بالحوار فحسب، ولكن .. اللهم لا تضطرنا لأى تنازل .. أو تراجع. كما يعود موضوع “الأخلاق” يطرح نفسه من جديد على صفحات هذا العدد ليعرضه الزميل د. عادل مصطفى برشاقة عقلية متميزة رغم مظنة غلبة الصقل والنقل على الابداع والألم .. الا أننا نفرح به وبالموضوع فرحتين، الأولي: لأننا أحوج ما نكون الى فتح ملف هذا الموضوع الشديد الصلة بالقيم الدينية التقليدية والقيم الاجتماعية الواردة فى شكل “اخلاق خارجية” جديدة، والثانية: لأن طريقة التناول الفلسفية والمنطقية التى اتبعها تثير حفزا لتدريبات عقلية نأمل معها احياء احتراما لغة الفلسفة وهى تسهم فى تنظيم فكرنا فحياتنا الواقعية من جديد.
يساهم الدكتور محمد شعلان فى نقد عمل سينمائى ذى دلالة، ليملأ باب النقد الأدبي، فنرحب به آملين أيضا أن نخطو – مع ذلك – الى البعد الأعمق ضمن أبعاد متداخلة معا وبذا نقدم ما يمكن أن نتميز به ونضيف من خلاله.
بعد الإعداد للطبع ..
لظروف الامكانيات، تم الطبع قبل الأحداث (لبنان) فاقتنصنا مساحة ما لهذه السطور:
* متى؟ .. الى متى؟؟
* المجزرة والتشريد الخزى للأحياء، الكلمات داعرة والصمت خائن، ولا مفر من الرؤية.
* الأسرى فى الأقفاص الطائرة، والصليب الأبيض على ظهور الأحياء جميعا.
* “فهى الحرب الصليبية تكشف عن وجهها وما كان خافيا”.
* ثم “هم” “اليهود” فى “مقابل البشر”، وليس “اسرائيل; ضد ; العرب”.
* يرحم الله هتلر الغبي، وأطال عمر مولانا الخمينى ونفعنا به).
* يثبت أن هذه الحرب “فرض كفاية” اذا قامت بها مصر سقطت عن العرب، واذا قام بها الفلسطينيون سقط العرب.
* واذا كانت مغامرة السلام العظيمة قد جعلت الأمور أكثر تعريا، وانقذت مصر من جريمة حرب جديدة جهضة ابتداء، فهى لم تنقذ أحدا من جريمة الخصاء وجريمة الكلام.
* فاذا كنا لا ننسي، ولا نحارب، فلتفجر الحياة فرض عين على كل صنف بشر، أو ننقرض اليهود والموت داخلنا وخارجنا.
فهل لمثل هذه المجلة معني؟
ونترك “الحوار” كما هو: أمانة وتعلما.