مقتطف وموقف
المقتطف من:
“من الجنسية بغرائزها الجزئية . . إلى العدوانية”
أ.د/ صلاح مخيمر
وهو بحث نظرى أصيل يخرج من مصر ليضيف كلمة شجاعة، قد نختلف حولها وقد نتفق، فلتقرأ معا مرة ثانية:
الموقف
للعالم المفكر الشجاع أ. د. صلاح مخيمر قدرة خاصة على إعادة النظر، وإقتحام المحظور، والقول المباشر، ولعله فى كل ذلك يمثل أحوج ما نحتاج إليه ونحن نستعيد – أن كنا حقا نفعل – وعينا بأننا كائنات مفكرة، لها حق التصويت فى محافل الإبتكار ومجالس العلوم .
إلا أن الصوت المنفرد أن إنطلق بلا رد، أو حتى صدى يطمئنه بحقيقة إنطلاقه، خليق بأن يعود على صاحبه بالوحدة الأليمة، أو أن ينحرف به إلى أمان كاذب، وعلى هذا، فإذا كان لنا أن نرحب ونشجع مثل هذا العقل الشجاع وهو يطرق أبواب المحظور، فإن الواجب الملقى على عاتقنا فى هذه المجلة بالذات هو أن نقيم معه حوارا، معتقدين أن إختلافنا المسئول هو أكبر تقدير لشجاعة التفكير، وهومهما بلغ من الحدة أفضل ألف مرة من الإهمال الجبان أو المتعالي.
ولقد نشر هذا البحث سنة 1981, وقبلها ببضعة شهوروعلى صفحات هذه المجلة عدد (يوليو 1980) نشر بحث يتناول نفس الظاهرة من وجهة نظر موازية وذلك تحت عنوان “العدوان .. والإبداع…” فهل يا ترى أطلع صاحب البحث الجديد على سابقه؟، وهل لنا أن نأمل فى المستقبل بعد التقارب والحوار أن يكمل فكرنا فكرنا، وأن نكتب بأبحاثنا كمجموعة: جملة مفيدة، ولو كانت دائما من أول السطر؟ ونفس اللوم يقع على كاتب هذه السطور وصاحب بحث الإبداع المذكور، فهل أطلع على تعريف مخيمر للعدوانية الذى سبقه به ونشر فى المقتطف الحالى ص (7) وقارن بينه وبين ما جاء به من تعاريف مبتكرة لاحقة؟ فإذا أراد أحدنا الرجوع إلى هذا البحث، ليراجع هذا التعريف تحديدا فأين بيان النشر… الخ. دعونا قبل أن ندخل إلى المحتوى نصر على التنبيه إلى الإهتمام بالقاريء الذى يريد أن يرجع ويراجع ويناقش ويتراجع أو يصر.. الخ، ولن يحدث ذلك إلا من خلال الإلتزام بقدر أدنى من التواصل عبر ما ينشر، ومن تحديد موقع وزمان ما يشار إليه منشورا.
***
ثم نقتطف عينة ممثلة تبرر الموقف وتثير التفكير:
يقول الباحث:
” …. ومع ذلك فقد يغدو الأمر أكثر إتساقا وأعظم معقولية لو أننا أعتبرنا غرائز الموت والعدوانية، وبحيث تكون الجنسية شأنها شأن الإيجابية وشأن التدميرية مجرد جنبات تعبيرية عن الغريزة الأساسية ونعنى غريزة الموت أو العدوانية”.
ونقول:
أولا: إن إرجاع السلوك الإنسانى كله إلى غريزة أساسية بمعنى القوة الدافعة العامة يحتاج أساسا إلى عدة فروض وإيضاحات سابقة بالنسبة لكلمة غريزة أساسا وربما بالنسبة لكلمة طاقة قبلا، وخاصة وأن الباحث قد إستعمل كلمة غريزة فى معنى محدود سلوكيا (حتى إعتبر السادية والماسوشية غرائز) ثم إستعملها فى معنى الطاقة الشاملة الدافعة عامة .
ثانيا: إن تكون الجنسية إحدى الجنبات التعبيرية لغريزة الموت، ثم أن توضع فى نفس مستوى “الإيجابية” والتدميرية فهذه تعميمات قد تبعث الخلط، وقد يكون من المناسب الرجوع إلى مراجعة المسيرة النموية بما تشمل من تميز سلوكى مرحلى هو مظهر الطاقة الأم سلوكيا، وهذا يبرر الحديث عن هذه الجزئيات بإعتبارها طاقات فرعية مستقلة لا يصح إختزالها طول الوقت إلى الطاقة الأم سواء كانت العدوان أو غير ذلك، اللهم إلا فى الحديث عن ظاهرة ازاحة النشاط” المتعلقة بظاهرة “البصم” ويبدو أن الباحث يقبل بهذه الجزئيات فى “وجودها الواقعى فى إنتظامها المتباينة الفريدة بتباين الأفراد” إلا أنه بإصراره على وحدانية الأصل مع تعدد المظاهر بخاطر بالإختزال إستجابة لأمل علمى يقول بإرجاع الكثرة إلى وحدة المبدأ التفسيري، وهذا أمر يحتاج على الأقل إلى مزيد من الشواهد وخاصة المستمدة من المشاهدات الكلينيكية أساسا، وخاصة فى حالات التناثر الذهنى الذى يظهر من خلاله الأصل وأصل الأصل.
ثم يشير الباحث عفوا إلى مقياس مقنن للغرائز الجزئية (ص 9) وإلى دراسة لم يذكرها، مما يحرم القاريء من الرجوع إليها إستكمالا للفائدة، وإلا فلماذا النشر ولماذا الإشارة؟
ثالثا: إن استمرار مسيرة النمو بنبضها الديالكتيكى المعقد يعود فيؤلف بين الجزئيات الدافعة لتلتحم فى الطاقة الغاية أن صح التعبير، والتفرقة بين الطاقة الأم غير المتميزة، والطاقة الغايه التى هى جماع ما تميز، هى تفرقة جوهرية وأساسية.
رابعا: يستعمل الباحث تعبير العدوانية دون العدوان، وفى حين نرجح أن العدوانية تقابل كلمة Aggressiveness نرى أن العدوان يقابل كلمةAggression، ونحن نأمل أن يكون هناك قدر من الإتفاق على بعض الألفاظ المستعملة فى هذه المنطقة الصعبة فى وصف جذور السلوك البشري، وإلا تضاءلت إحتمالات التواصل، فالعدوانية الأقرب إلى معنى التدمير غير العدوان المرادف لـ: خطوة للأمام.
خامسا: إن الإصرار على ترادف العدوانية مع الموت (رغم شجاعة الباحث فى معارضته لفرويد وإحترامه معا) ثم القول بأنها بناءة من خلال إحتواء التضاد، وبمفهوم الديالكتيك لهو أمر يحتاج إلى وقفه متأنية، فقد يصح هذا الفرض من حيث المبدأ لنقول أن الحياة نبعث من اللاحياة وهى تعود إليها بعد رحلة توليدية ولافية متصلة (ناجحة أو فاشلة يستويان) إلا أن الإصرار على هذا التأكيد على التناقض المتداخل فى ولاف حيوى من البداية إلى النهاية لا يؤدى إلى فهم واضح للمسيرة البشرية سواء على المستوى البنائى والتركيبى أو على المستوى السلوكي، والخوف من تواتر إستعمال لغة الديالكتيك بلا تحفظ (رغم صحتها من حيث المبدأ) ينبع من إحتمال الخلط بين مفاهيم جد مختلفة حيث قد يظن أو الولاف Synthesis هو شبيه بالتسوية Compromise فى حين إنه إذا كان الولاف هو فعل الحياة الصعب فالتسوية هى وقفة الحلوسط الجبان، إذا لابد أن نهتم ونحن نتناول مسيرة الحياة بإيضاح تفصيلى لمراحل الحركة ومظاهر المرحلة، دون إغفال باطنها النقيضي، ولكن دون التسرع إبتداء بعرض التداخل القائم طول الوقت، ونحن لا نتصور أن العالم الباحث د. مخيمر قد خفيت عليه أيا من هذه المخاوف، كما لا نقترح حظرا على لغة الديالكتيك التى إستعملها الباحث بإبداع مسئول. . . لكننا نأمل أكثر فى قدر أكبر من الفصل الإيضاحى المرحلى لعلاقة النقيض بالنقيض حتى لا يتساويا فى غموض، أو يتعادلا فى موات، أو يختلطا فى تكثيف وإنما يلتحما فى ولاف.
وهنا يقفز تساؤل حول فائدة القول “بأن العدوانية هى الطاقة التى تخدم فى الحالات السوية غرائز الموت بشكل غير مباشر بمعنى أنها تكون فى خدمة غرائز الحياة . . . لتتأدى بها تدريجيا إلى التدمير والعدم” أليس فى هذه المحاولة ما يشير إلى مفهوم ثابت يصور العدوانية مرادفة للموت بشكل شبه حتمي؟ ألا يجدر بنا إبتداء أن نراجع موقفنا لنرى فى العدوان (وليس العدوانية) فى ذاته ما هو إيجابى فى ذاته؟ إن خوفنا من عدوان الآخرين علينا قد دفعنا إلى أن ننكر فخرنا بإيجابية عدواننا حفظا للحياة بل وخلقا لها .
سادسا: ويجرنا هذا الإفتراض الأساسى إلى عدم التمييز بين الغرائز بإعتبار بعضها إيجابى والآخر سلبي، أفلا يصح فرض أسبق يقول أن لكل غريزة وجه إيجابى وكمون سلبى 8 نفس الوقت بما فى ذلك غريزة العدوان، وأن الإعاقة والحيلولة دون البسط النموى هو الذى يجعل العدوان تدميرا ويجعل الجنس سادية أو مازوخية، ويجعل الجوع إنتحارا غذائيا وهكذا، وبتعميق هذا الفرض نتخلص من الزعم بأن الموت والحياة هما الغريزتان الأساسيتان (فرويد) أو أن العدوانية هى الغريزة الأم أو الوحيدة (مخيمر), ويصبح الموت والحياة هما قطبا الغرائز جميعا، فالغريزة (سواء كانت غريزة واحدة جمعت الكثرة التجزيئية أم كانت عددا من الغرائز تنوعت بإختلاف إحتياجات السلوك النوعية) إنما تخدم إتجاه الحياة إذا سارت فى هارمونية التآلف الديالكتيكى على مستويات التصعيد النموي، وهى تفيد فى هذه الحالة “الأمام والبناء والتكاثر”, ولكنها هى هى تخدم الموت فى حالة “الإعاقة والنشاز والتوقف” لتخدم مباشرة “الإنسحاب والتفكك والضمور الإنحلالي” .
وهكذا يصبح الأمر داعيا إلى مراجعة قول الباحث ص 11:
”إن معنى هذا أن العدوانية وأن تكن هى الطاقة الدافعة التى تعمل أساسا فى خدمة غرائز الموت فإنها تظل هى نفسها الطاقة الدافعة لغرائز الحياة تتيح لها الإزدهار فى كل صورة ولكن لتتأدى بها فى نهاية الأمر إلى العدم وقد سحقتها جحافل الموت”.
وبنفس المنطق فإنه يبدو من غير المفيد أن نقول “ببقاء فى غير بقاء، وفناء فى غير فناء” فهذا قول يصح من بعد كلى وغائى شامل، ولكنه قد يعطل الفهم على المستوى التركيبى والسلوكى .
وهكذا: لا نجد مبررا منطقيا أو غير ذلك لتفضيل الموت على الحياة أو العكس بإعتبار أن أحدهما هو الأصل، وإنما توجد حاجة عملية لفهم كل جزئية من جزئيات الغرائز (حتى ولو سميت غرائز مستقلة) باعتبار الموت والحياة هما المسارات المتبادلة وليسا غرائز قائمة بذاتها، وإنما هما إتجاه التركيب الغرائزى القائم القادر على الهارمونى والحركة الأمامية البناءة (الحياة) أو النشاز والحركة التفككية الانسحابية (الموت)، ويكاد هذا الاتجاه يتفق جزئيا مع ما ورد صفحة 14 من أنه:
“إذا كان هناك ما يعوق عملية النمو من أن تمضى فى مسارها المحدد تكون الانحرافات الجنسية والاندفاعات المرضية. . الخ .
وموقفنا يقترح أن تكون هذه الإعاقة بنتاجها السلبى هى هى المؤدية إلى الإنسحاب فالتحلل أى الموت، وأنا لا نقول السلبى بالمعنى الحسابى أى أنه الوجه الناقص للقوة الدافعة، وإنما نعنى المعنى الجبرى حيث علامة السلب (ناقص) هى قوة فى ذاتها وإنما الفرق بينها وبين علامة الإيجاب (زائد) هو فى تحديد الإتجاه أساسا وما يترتب عليه.
وأخيرا
فإن خلاصة موقفنا يقول:
1 – إننا نحيى هذه المحاولة ونرجو أن نرى “ثانيا” بعد “أولا”, كما نحيى شجاعة العودة إلى الحديث عن الغرائز بعد أن كاد يصبح محظورا زمنا طويلا
2 – إننا لم نعرض العمل برمته ولا الموقف بأكمله، وفى ذلك دعوة ضمنية للقراءة والزملاء إلى الرجوع إلى البحثين الواردين، وننتظر آراءهم وأسهاماتهم فى حوار قد يحفز مزيدا من التفكير ويطمئن صاحب الكلمة الشجاعة أن هناك من يسمعها حتى ولو لم يتفق معه على مضمونها.
3 – إننا نرحب أن ننشر مثل هذه الأبحاث فى هذه المجلة، وكم يسعدنا بوعد مكتوب من أستاذنا الدكتور مصطفى زيور بالكتابة لنا يوما بعد صدور العدد الأول، ثم عاد فأبلغنا إقتراب وفائه بهذه الوعد، ونحن ندعو له بالصحة وننتظر تشريفه صفحاتنا وخاصة وأن وعده لأحدأبنائه كان بشأن موضوع فى غاية الأهمية وأحسبه عن “الهذاء” أو ما إلى ذلك.
4- إننا نطمع فى إحترام آراء الأقدمين بتطويرها من موقع المسئولية العلمية، غير مكتفين بالإستسلام لها من موقع التبعية أو الدونية.
5- إننا نأمل أن تكون مثل هذه الشجاعة التفكيرية هى نقطه بداية ليتبعها حوار ومشاهدات تطبيقية مع إعداد مكثف لجيل من المفكرين والبحاث يستطيعون الرؤية المتجددة مهما كانت المخاطر، فيدلوا بدلوهم بعد ممارسة ممتدة، مهما كانت المعاناة.
[1] – الناشر مكتبة الأنجلو المصرية الطبعة الأولى
[2] – كتب هذا الموقف رئيس التحرير