البقاء للأنفع
عن السياسة والعلم والدين
د. يحيى الرخاوى
يتناول الكاتب فى هذا المقال إعادة التحذير من سوء إستعمال العلوم النفسية، وعقد الإجتماعات شبه العلمية إستجابة لدوافع دينية أو سياسية , وهو لم ينصح بالإنسحاب بقدر ما أكد على ضرورة الموجهة مع غاية الحذر وكل التعمق والإتقان، لأن حكم التاريخ فى نهاية النهاية هو أن البقاء للأنفع لا للأحذق ولا للمخدوع فى قوته.
مرة أخرى: لابد مما ليس منه بد
فمنذ كتبت المقال الذى ظهر فى العدد الثانى من هذه المجلة (ابريل 1980) تحت عنوان سوء إستعمال العلوم النفسية، وقدمت تحذيرا للزملاء الذاهبين إلى حلقة البحث التى عقدت فى ووترجيت بشأن العوامل النفسية التى تؤثر فى المفاوضات الدولية… إلخ، منذ ذلك التاريخ والأحداث تترى (كما يقولون), ولامفر من أن أطرح جانبا ما نال شخصى من مديح أو هجاء نتاج تصورات عن مشاركتى فى مثل هذه التشريفات شبه العلمية , أو مبالغات تصف هجومى على الذاهبين، ذلك لأن القضية تتعلق بموقف بغض النظر عن الأشخاص فانى وإن لم أذهب فقد ذهب زملاء غيري، وحتى لو أنهم لم يذهبوا فقد حضر الآخرون فى ثوب العلماء. حضروا واستضافوا وحاضروا وزاروا وتحدثوا وسمعوا، ولكن كيف ولماذا؟ هذا هو موضوع هذا المقال.
على أن كل ذلك لايخيف الا فاقد الثقة أو فاقد الشجاعة، شريطة أن نحسن الحسابات ونحذق إستعمال أدوات الصراع الجديد، وقد كنت أحسب دائما أننا نعرف ذلك جيدا ونقدر عليه، الا أنه يبدو أن الأمر يحتاج دائما إلى مزيد من التذكرة، “وما راء كمن سمعا”.
وإليكم بعض ماحدث ويحدث
ولكن قبل ذلك لابد من إيضاح مبدئي:
لاشك أن الإنفتاح العلمى والتطبيع الثقافى هما أحد جوانب الصراع الحضارى الذى حل محل الصراع العسكري، ولاشك أننا معرضون لإمتحان أصعب، يتوقف نجاحنا فيه على مدى وعينا بمسئوليتنا فى كل مجال، ومن أخطر المجالات وأبعدها عن التزييف- كما كنت أظن- هو مجال العلم بلا نراع، والقياس الحضارى فى هذا الصراع ليس قياسا أكاديميا ينال به المنافس درجة علمية، أو يحظى بنشر بحث ما فى مجلة مصقولة، كما أنه ليس مجرد النجاح فى أن يدافع العالم عن نفسه من خلال ما اتبع من أساليب تعلن أمانته الظاهرية أو حذقه فى إستعمال أداته المنهجية، فكل هذه تفاصيل قد تدل على وجود نشاط ما فى معمل علمي، أو قد تشير إلى القدرة على التسجيل فى مجلة علمية، ولكنها ليست بالضرورة دليلا على أن هناك علم ما يتحدى وعلماء قد قبلوا مسئولية صراع سلبيات الوجود فى كل مكان
والتحدى الملقى على علماء المصريين خاصة، (والعرب عامة) بعد مغامرة السلام هو من النوع الذى لايحتمل التأجيل ولايقبل الخداع، بل لعل خروج هذه المجلة إلى الوجود رغم كل الصعوبات المحيطة كان نتيجة للوعى بهذا التحدى المطروح، حيث جاء فى إفتتاحية العدد الأول ..
لقد أخذنا مخاطرة السلام الشجاعة كمجرد بداية حزينة لمستقبل يتوقف بهجته على قدر عملنا ومسئوليتنا.. ونحن نشعر فى مجال تخصصنا أن عندنا من الرأى والفخر والأصالة ما يستحق أن يقال، بل وينبغى أن يقال فى حينه حتى نحظى بفضل السبق وفضل الأصالة جميعا، هذا هو قدرنا وهذه هى فرصتنا، وليأخذها كل فى موضعه.
وما دام الأمر كذلك فبديهى أن نتصدى لكل لعبة مضللة أو تحذير خبيث وخاصة اذا لبس ثوب العلم، وكان فى واقع الأمر يريد لنا أن نرضى أو نسكت أو نتبع.
ولنبدأ الحكاية الجديدة من بدايتها:
يأتى خطاب من “أمريكا” إلى جمعية علمية طبية مصرية من طرف “مجموعة علماء أمريكيين” يقولون باهتمامهم بدراسة طب نفس الأطفال بما يشمل الدراسات المتعلقة بالمقارنة بين الطفل المصرى والأمريكى وأسرتيهما (كذا؟) وأنهم سوف ينظمون مجموعات لهذا الغرض فتحضر كل مجموعة لتتبادل الآراء وتزور القرى المصرية لترى الأطفال (!!) الخ، وأحس بالغموض وتداخلنى الريبة، ولكن ماذا أخشى ومن أخشي، ليحضر الجن الأزرق، وليزر من شاء ماشاء من مواقع، فليس عندنا مانخشى كشفه أو نخجل منه، فالفقر ليس الا مرحلة تتوقف نهايتها على عملنا وانتاجنا ووعينا بعاره ومذلته أن تركناه يستشرى ونحن قادرون على غير ذلك، هكذا طمأنت نفسى ابتداء.
وحضرت المجموعة الأولى فى الضيافة العلمية لكلية طب جامعة عين شمس، ثم حضرت الثانية لتستضيفها كلية الطب جامعة الأزهر، ولأسباب ظاهرة وباطنة لم تتح لى فرصة المشاركة فى أى منهما. وسألت من حضر من طلبتى وزملائى فأخبرونى بأنها فرصة لقاء علمى متواضع، وأن الذى يقوم ويتحدث من كل المجموعة هو رئيسها لاغير فى حين يظل باقى الفريق (حوالى أربعة) يمثلون شيئا أشبه بالكورس (أو الأرضية على أحسن تعبير جشطالتي) ولم آخذ أو أعط وأن كنت قد تعجبت لهذا “العزف المنفرد” فى لقاءات علمية عهدنا أن تكون مشاركة بين المجتمعين من كل جانب.
ثم حضرت المجموعة الثالثة فى الضيافة العلمية لطب القصر العينى وكان لزاما أن أشارك حيث أعمل، وكانت شكوكى قد زادت حتى قاربت اليقين، وكان محتواها يقول: “.. هؤلاء الناس ليسوا علماء حسنى النية، ولكنهم يهود ذوو ولاء مزدوج على أحسن الفروض، ومع أنهم ليسوا فى حاجة- بعد كامب ديفيد- إلى التخفى فى ثوب الأمريكيين فضلا عن العلماء، فالسلام قائم والتطبيع سائر، إلا أنه يبدو أنهم متعجلون س (بالقياس للتطبيع السياسى والتطويع الإقتصادي), إن علماء منهم يحاولون أن يسرعوا الخطى لإكتشاف عقولنا وكأنهم طائرات إستطلاع علمية تقوم حجمنا العلمي، وتحدد مدى مدفعيتنا الفكرية، ومدى دفاعنا الإبداعى المضاد للغارات العقلية التى تحاول أن تفرض علينا التقليد والتبعية” هكذا سارت شكوكى حتى تكاملت.
وحينذاك قلت للمنظمين أنى سأقدم بحثا عن ” الإسلام وتربية الأطفال” وتعجب الزملاء، فإن لى رأيا فى الحركات الدينية المعاصرة لايسرها، كما أن لى رأيا فى تفسير الدين بالمعطيات العلمية لايرضى النزعة التبشيرية الدينية الحديثة ولايرضى العلماء على حد سواء، فما هو الدافع لمثل هذا البحث ؟، وكان الجواب عندى شديد البساطة، فما دام هؤلاء الناس اليهود الأمريكيون- وهم فى واقع الأمر “إسرائيليو المهجر” لا أكثر ولا أقل، ما داموا يريدون أن يعرفوا عنا، ومادام الدين حتى كما شوهوه باعثهم وهو جوهر أصيل فى حياتنا يتحكم فينا سواء قبلناه أم إحتلنا فى رفضه، سواء مارسنا طقوسه أو إعتقدنا فى قيمه أو تغافلنا عنهما جميعا، ما دام كل ذلك فليكن الموضوع هو: “الدين والصحة النفسية، مع إشارة خاصة بتربية الأطفال: نظرة إسلامية”, وقلت فى نفسى إن المعركة لابد أن تستمر: علما فى مواجهة علم، ودينا فى مواجهة دين، وفكرا فى مواجهة فكر; ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة وحين عقد اللقاء .. تحقق أكثر ما ساورنى من شكوك.
وإليكم بعض ماجري:
التمهيد: يتسلم العالم المصرى (الأستاذ الجامعى أو الممارس المخضرم أو الباحث الفحل) يتسلم دعوة لإستقبال المجموعة الأمريكية فى شيراتون هليوبوليس، ويتسلم فى نفس الوقت دعوة توديعهم، والدعوتان على حساب الفريق الزائر (مما يجعل الفأر يلعب فى عب أى لبيب، والشهامة العربية والمصرية تأبى مثل هذه النخوة المشبوهة ولو كانت الوليمة قطعة حلوى بها غصة حارقة).
المكان: كلية طب قصر العيني.
المنشدون (الضيوف): الأستاذة الدكتورة ريتا روجرز (الصديقة الشخصية لمستر بيجن ورئيسة هيئة صهيونية فى الولايات المتحدة), وبطانتها أربعة لايتكلمون ولا يشاركون إلا بااإبتسام المحسوب بعد اشارة سماح فى الأغلب.
المضيفون (والنظارة): علماء مصريون مجتهدون يقدمون فى أمانة مخلصة بعض أفكارهم وأبحاثهم فى تواضع يتناسب مع امكانياتهم.
إلى هنا والمسألة قد تمر عادية، وخاصة بعد أن مدحت مصر الفراعنة الدكتورة ريتا مدحا يشلنا ويخجلنا طربا فى آن، وأقول فى نفسى لعله خير.
لكن الأبحاث المصرية تقدم البحث تلو الآخر ولانسمع نقاشا حقيقيا من الضيوف، وتكتفى السيدة العالمة بأن كل ماتقدم به المصريون هو “فاتن ساحر ” Fascinatingويتكرر هذا المديح حتى يتقزز منه صغار الأطباء الذين حضروا ليروا الآراء تتبادل والعقول تتحاور، ويكاد يفرح أصحاب الأبحاث بتقدير”الخوجاية” لهم، إلا أنهم سرعان مايراجعون أنفسهم بعد تقديم عدة أبحاث. فما دام كل ماقدم دون إستثناء “ساحر فاتن” فاللقاء العلمى مشكوك فى طبيعته بل وفى وظيفته، فنحن لسنا حضور حفل عرض أزياء عقلية حيث كلها جذابة وإن كان بعضها أشد فتنة من البعض.
ماهذا الذى يجري؟ ولماذا اختلف هذا اللقاء “العلمي” وماع بالمقارنة بالحيوية وصراع العقول الذى تتصف به مثل هذه اللقاءات؟
وأشعر أن هذه المرأة ذات البسمة الشمعية- مهما بلغ علمها وذكاؤها- إنما توزع “البونبونى الحفاواتى العلمى دون تمييز” باعتبار أن كل ما قدم ساحر فاتن، وتبدو لى أنها سفير فوق العادة لأغراض غير واضحة، وأشعر بالغثيان فعلا، فان هذا معناه ببساطة أن هذا الوفد الأمريكى يضحك على عقولنا، فنحن أعلم بضعف إمكانياتنا وتواضع إجتهاداتنا، ونحن ننتظر حوارا ناقدا مثل الذى وجهه بعضنا إلى زملائه فى حضور الضيوف، ويتكرر حوارنا مع بعضنا البعض حتى يحتد فى أمانة وإخلاص، وكأننا نلقى بالبنبونى الخواجاتى الساحر على الأرض، وأشعر أكثر وأكثر أن “الإحترام العلمي” المتبادل غير قائم، وأن الذى يجرى هو نوعمن التمويه ينتهى بأنه “برافو” علينا لأننا نفك الخط العلمي..
وقد كان يمكن أن يمر كل هذا دون حاجة إلى وقفة ومراجعة، إلا أننى أخذت أربط بين هذا الذى يجرى فى الظاهر ومايمكن أن تخفيه الكواليس، وأخذت أعيد التفكير فى الدافع لكل هذه المشقة والمصاريف، وقديما قالت العرب “لأمر ما باعت المرأة سمسما مقشورا بسمسم غير مقشور” وأخذت أتساءل عن طبيعة زيارة هذا الفريق الأمريكى الذى ثبت أنه ليس فريقا وربما ليس أمريكيا ولايحزنون، فالمسرحية من نوع المونودراما مع كومبارس من نوع خيال الظل، ودمتم، والأسئلة تزاحم عقلي: كيف يزورون قرانا دون صحبة عالم أو أكثر منا؟ وكيف يعرفوننا دون حوار حقيقى بين العقول؟ وكيف يصفقون لنا ونحن أعلم بأخطائنا وقصورنا؟
وقد نقبل كل هذه الألاعيب فى مجال السياسة ونرد عليها، أما فى ميدان العلم فالأمر يختلف إذ يتعلق بالأسس الأخلاقية للحضارة المعاصرة، وبفلسفة اللقاء العلمى وبسوء إستعمال أشرف المعطيات لأخبث الأغراض إن صح ظني.
ولنستعد ما نشرناه فى العدد الثانى من هذه المجلة (ابريل 1980) لنراجع تعريف “سوء إستعمال العلم” إذ يعنى “… أن يوضع العلم فى غير ما جعل له، فيعجز عن بلوغ غايته وأداء وظيفته، فيترتب على ذلك درجة من الأذى بشكل أو بآخر”.
وقد أيقنت بعد هذا اللقاء المسرحى تحت لافتة العلم أن هؤلاء الناس يعرفون مايفعلون، وأن وحدتهم وغرورهم بلا حدود، وأنهم يضرون أنفسهم بنفس القدر الذى يضرون به الإنسانية جمعاء بهذا الإستعمال الأخبث لأشرف معطيات عقول البشر.
وما داموا يعرفون مايفعلون، فأنا أعرف ما أقول..
الدين والصحة النفسية والأطفال:
لذلك جعلت مدخلى فى البحث الذى شاركت به هو أن الأطفال لايربون بما نعتقد لهم أو نأمل فيهم، ولاحتى بالنظريات التى نقتنع بها من أجلهم، وإنما هم ينمون فى وساد من وجودنا نحن، وجودنا الشعورى واللاشعورى على حد سواء، والأولى بنا ونحن نتحدث عن تربية الأطفال أن نعمق فهمنا عما “هو نحن” وبالتالى قد نحيط علما بما يصل إليهم منا بالرغم مما نقدمه لهم ظاهرا (وليس بسببه).
وبما أن الدين- رضينا أم لم نرض- (بما فينا من يتصور نفسه ملحدا) هو تكوين جوهرى فى وجودنا البشري، فلنحاول أن نتعرف على ديننا فى داخلنا ونحن نواجه بعضنا البعض، وقد ذكرت فى تبرير هذا المدخل أنه “.. إذا كان الموضوع الأساسى فى هذه الإجتماعات يهتم حقيقة بالدراسة المقارنة بالجوانب الطبية والنفسية الاجتماعية” لمن يهمه الأمر “فى عائلات الجانبيين (أمريكا ومصر) فإن علينا أن نذهب أعمق فأعمق لما وراء ما ندعى أننا نتناوله..) ثم أعلنت التحذير الخطير حول إدعاء إنفصال العلم عن الدين أو عن السياسة لصالح نظم بذاتها، فما دام المجتمع الدولى قد سمح لإسرائيل بالقيام ثم تلتها إيران بدعوى أنها تمثل نظاما إسلاميا، فلابد أن نقبل بهذه الردة مرحليا حتى لاتتكرر مهزلة تحكيم على ومعاوية، اذ يصدر لنا اليهود “المتحضرون” دعوى تقول برجعية التمسك بالدين ليقيموا هم دولتهم على أساس دينى عنصرى بحت، واذا بى كمسلم يحاول من موقع فردي- حسبما سمح لى به ديني- أن أعرض أسس الإسلام كمنهج 1 حياتى وطبيعة وجود بما يصيغ أيديولوجية خاصة تسهم فى نوعية التواجد البشرى وما يترتب على ذلك من تأثيرات على التربية فالسلوك جميعا، وقد بينت بشكل أو بآخر علاقة هذه الأسس الجوهرية بتربية الأطفال. وحمدت الله بأن السيدة الدكتورة ريتا روجرز لم تعقب على بحثى هذا بأنه ساحر فاتن بل قالت بالحرف الواحد، وبغيظ لم تستطع كتمانه، أنه كان ينبغى أن نخطر مسبقا بمثل هذه الأبحاث حتى نستعد للرد عليها.
وفى واقع الأمر أن هذا البحث كان يرمى إلى الرد الصريح على مايجرى خفية، كنت أريد أن أقول به أن لنا دينا مثل دينكم الذى أنشأتم به دولة عنصرية، إلا أن ديننا له معالم حضارية لن يغير منها مابدا على السطح من تدهور معتنقيه مرحليا، لذلك فإننا نقبل التحدى المباشر، وأنه لاداعى للتظاهر بالأثواب العلمية وأنتم لاتسعون إلا إلى تأكيد تفوقكم العنصرى فى كل همسة فكر وشنشنة سلاح وسحق إقتصاد.
ولست متأكدا إن كان وصلها ما أعنيه أم لا، إلا أن تعبيرات الوجه كانت تشير إلى أنهم قد أدركوا بشكل ما أننا “نعرف”, وأننا “نستطيع”, وأننا “نرفض”, وأننا سنحاول حتى لو بدأ الأمر بخدعة شبه علمية، فالبقاء للأنفع..
ولكني- كما خيل الي- عجزت عن أن أبلغ زملاء لى رسالة أهم، وهي:
- أن حساباتنا الآن يجب أن تختلف عن ما قبل السلام.
- وأن كثيرا من الأبحاث من نوع “تحصيل الحاصل” هى خسارة مادية وفكرية وحضارية، وهى خسارة أكبر آلاف المرات من أى خسارة فى الأرض أو فى الإقتصاد، بل هى جريمة يسجلها التاريخ علينا وستحاسبنا الأجيال القادمة بسببها حسابا عسيرا.
- وأن مجرد النشر والإجازات العلمية وحضور المؤتمرات ليس دليلا على قيمة البحث أو قيمتنا، وأن مسئوليتنا الحضارية هى فى المقام الأول أن نكون الأنفع لأنفسنا والأنفع للبشر جميعا.
- وأن مقابلة الدين بالدين لايكون بالسباق بين المتبارين على تقليد السلف حرفيا، ولكنه ينبغى أن يكون بين الإسهام الحضارى لكل دين بما يعود على البشر كافة بالوعى والتطور الخلاق، وسيكون السبق للدين الذى ينفع أكثر، ويفيد أوسع، ويستمر أطول.
فاذا حلا لهؤلاء الناس الأغبياء (بحساب التاريخ وليس بحساب القوة المادية الطارئة) أن يحذقوا لعبة تسخير العلم لخدمة أغراضهم السياسية وتعصبهم الدينى وأوهامهم العنصرية، فلن يوقفهم عند حدهم مجرد تجنب لقائهم أو مقاطعة عقولهم، بل إن الحل الأوحد لشل سطوة خطرهم هو مصارعتهم علما بعلم، متمسكين طول الوقت بالمواجهة مهما بلغ ألمها وتضاعفت مسئوليتها. وليكن موقفنا من الدين هو الإستفادة من إسهامه فى إتساع رقعة الوعى وضرورة التناسق مع الكون بدءا بالكون الذاتي، فالمجتمع، فوجه الله، فيصبح- بذلك- العلم النافع الموضوعى دينا يدخل الجنة، ويصبح الوقت المليء بالسعى إلى الحقيقة صلاة تنجى من النار.
وليس أدل على تفوقنا العلمى والدينى حالا وفعلا من هذا الحدث الإجرامى الذى بلغنى وأنا أكتب مسودة هذا المقال من قذف المفاعل العراقي، فالأمر بهذه الصورة لم يعد “عربا فى مواجهة اسرائيل” أو “يهودا فى مواجهة مسلمين”, ولكنه أصبح “الناس- وهم كثرة العالمين فى صراعهم البقائى التصعيدي- فى مواجهة تلك الأشكال المنفصلة المندثرة من بقايا عناصر تتشنج عنصريا تشنج طلوع الروح”.
إن هذا العمل بحسابات العلم الذى يتصورون أنهم سادته قد كشف كل دعاواهم حول الحضارة والعدل وحق الدفاع فى لحظة واحدة دون أى مكسب حقيقي، فهذا المفاعل سوف يعود، وسوف يصنع مثله عشرات فى كل موقع فى العالم العربى والإسلامى والإنسانى كافة، ولاتستطيع إسرائيل أو غيرها أن تغير على كل هذه المفاعلات، فضلا عن الإغارة على عقول صانعيها من محبى البشر والعدل، أليس هذا الحدث العابر هو أكبر دلالة على أن حساباتها العلمية قد أختلت، ولو أن للسيدة الدكتورة ضيفتنا ريتا روجرز صديقة السيد بيجن فاعلية علمية لحالت دون مثل هذا العمل حتى تحول دون إعلان مدى التدهور الذى وصلت إليه حساباتهم، ولو كان هذا الفعل إستجداء لصوت الناخب الغبي، فإنى أتمنى لمستر بيجن النجاح حتى تتمادى الأخطار لدرجة مدمرة بفعل الرجع التلقائي، ولاأعنى مجرد الرفض العالمى والإحتجاج الكلامي، وانما أعنى به الحساب العلمى الذى يقول أن هذا هو السبيل الأول للضمور والإنقراض لأى شعب أو حتى لأى نوع حيواني، وسبيل الإنقراض هو أن تزيد أخطاء القوة وأوهام العزلة عن مقومات إستمرار الحياة ودفع الكثرة، وهذا هو ما يحدث الآن فعلا بفضل غباء الأذكياء لديهم، ومهمتنا الأساسية هو التعجيل بهذا التحلل التلقائى الذى بدأ يظهر على السطح بمثل هذه التصرفات.
ولكنى أرجو ألا يعنى يقيننا بقرب نهايتهم أن “نصبر على جار السوء حتى يرحل أو تأتى مصيبة تأخذه”, لأنه بإصراره على لغة التدهور والإنقراض لابد وأن نكون نحن- بعلمنا وعملنا- المصيبة التى تواجهه فتفيقه أو تسحقه، وإلا فمصيبة التدهور قادرة على أن تضعنا نحن وهو معا فى سلة مهملات البشر، تضع الخادع لغبائه والمخدوع لغفلته، وتستمر الحياة..
وخلاصة القول
- أننا فى صراع مع عدو، عدو أصبح من حقه الإقتراب من مواقعنا فأصبح من واجبنا قبول التحدي.
- إن هذا خليق أن يجعلنا أكثر يقظة وأدق حسابات.
- إن الهرب لايفيد وقبول الرشاوى التاريخية يعمى والطرب لتصفيق لسنا أهله بعد، يراد به أن تتوقف أو نتراجع، هو أكبر المخاطر التى تحيط بنا من مواقعنا الجديدة
- إنه لامفر من إستعمال العلم والدين مثلما يفعلون، ولكن لخدمة حقيقية أرسخ، لصالح مساحة من البشر أوسع.
والبقاء للأنفع.
1 – سينشر هذا البحث باللغة الإنجليزية فى العدد القادم (أكتوبر 1981) من المجلة المصرية للطب النفسي، وأكتفى هنا برؤوس هذه المباديء: (1) المباشرة بين العبد وربه (بلا وسيط أو وصاية), (2) التوحيد (بما يتضمن الحرية لرفض أية ألوهية أرضية), (3) تنمية الفطرة (بما يستلزم الدراسة الأعمق للطبيعة البشرية، وتهيئة أكبر فرصة لنمائها باعتبار أن الفطرة السليمة ليست سوى الدين الذى هو هو الإسلام تحت أى اسم), (4) المسئولية الشخصية (باعتبار حمل الأمانة ويقظة القانون الداخلي), (5) إحترام الطبيعة الحيوانية (بما يشمل الجسم والجنس والعدوان) للنمو منها وليس على حسابها، (6) معايشة الموت كفعل يومى محتمل (بما يدخل الزمن باعتباره البعد الواقى المهم فى حياة المغتربين المعاصريين، (7) الطقوس الضابطة لإيقاع الحياة اليومي، وأخيرا (8) التصعيد الهارمونى الواقعى فى التصوف الإسلامى الإيجابي