صندوق العقارب
نعيم عطية
كان عائدا من الحجر البيطرى. الصحراء على الجانبين جافة وجدباء، يحرق كثبانها لهيب الشمس.. مهمة تتكرر كثيرا. ثعابين وعقارب تملأ عشرة صناديق، أحضرها قادم من طرابلس. قال أنها للجامعة. لم يحضر شهادة صحية بخلوها من الأمراض. احتجزتها سلطات المطار، الى أن جاء الدكتور بدوى وأجرى الكشوف المعتادة.
طريق طويل فى الذهاب والإياب، وصراع. ود أن تكون فى جيبه علبة الحبوب. بالأمس قدم أقراصا منومة للنمر، حتى يستطيع النوم. لابد أن يقدم تقريرا جديدا عن سوء معاملة الجمهور لحيوانات الحديقة.
سبعة وثلاثون عاما قضاها فى الخدمة. سوء المعاملة يزداد أعصاب الوحوش اضطربت. أين علبة أقراصه؟. يصل العقل الى حد الجنون تقريبا نتيجة للانفعالات المتعددة والمخاوف التى تضغط من كل جانب.. ثعابين وعقارب تملأ مئات الصناديق لا عشرة فحسب. عندما تخرج – ثمانية وثلاثون سنة مضت الآن ـ كان عليه أن يجد عملا. سمع من مدير يكافئ من يتزوج أحدى بنات أسرته بتعينه فى وظيفة مناسبة ومضمونة. تزوج ابنة أخت المدير. لم يكن أمامه غير ذلك كى يفلت من قبضة البطالة التى كانت تعتصره هو وأبناء جيله. حاول أبوه وكان يملك دكانا صغيرا للبقالة فى قريتهم اقناعه كثيرا بأن يترك القاهرة الجدباء ويعود الى القرية. قال له لن تحس هناك بالبطالة. دائرة البرنس بها بهائم كثيرة.” تزوج ابنة عمك حفيظة وستلد لك أولاد يسدون عين الشمس”. تذكر قولا قرأه عند هيرودوت. . فقد قرر المصريون القائمون بالحراسة فى اليفانتيانا الهجرة الى أثيوبيا فلما علم الملك ابيسماتيك بذلك، أفتقى أثرهم، وعندما لحق بهم حاول كثيرا أقناعهم بألا يهجروا أولادهم ونساءهم. ولكن يقال أن أحدهم أشار الى عورته قائلا “أينما وجدت هذه سيكون لنا أطفال ونساء” وقد تمثل الملك ابيسماتيك لبدوي، وهو يستمع الى نصح أبيه صاحب محل البقالة بأن يسكن الكفر، ولكنه وقد انفتحت عينا بدوى على نعومة الحياة فى القاهرة. أبى أن يتشبث بها. آنذاك كان ثمة من ينافسه على الظفر بالفتاة السمراء الناحلة أبنة أخت الباشا المدير. هب من أعماقه صوت يقول له “خصمك يريد أن يقتلك، اقتله بهجمة واحدة” وفى ذات اليوم تقدم الى خالها يخبطها، وحفاظا على المظهر عرض مهرا أيضا. فوافق الخال. نزل الدكتور بدوى ذلك المساء من بيت وجيدة فى أبى رواش وهو يقول لنفسه” بشئ من التدريب الخاص يمكنك أن تحول جسمك كله الى ترسانة قوية الاحتمال” ولجأ الى اليوجا، يأتى من تدريباتها ما يحقق له أن يحيا مع الآخرين وفى الوقت ذاته لا يكون منهم، أو بعبارة أوجز أن يكون وأن لا يكون، تدريبات منتظمة يومية صارمة تحقق انفصالا مدهشا، يوصلك الى أن تتحمل أقصى الألم ولا يحس به جسمك، وذلك بايهام بسيط. أن الذى يتألم ليس جسدك بل جسد آخر. تدريب شاق. ولكن من أجل هذه النتيجة تهون الصعاب كلها. وهى فى الحق ليست مجرد نتيجة، ليست مجرد مطلب، بل ضرورة. من صغره لديه هذا الاستعداد. كان قادر أن يستذكر دروسه بتركيز يحسد عليه فى أشد الأماكن صخبا. فقد كان يعيش أثناء دراسته الجامعية بحجرة أرضية فى حارة عامرة بمحلات سمكرة العربات والدوكو، كان الخبط والنقر يأتى باصرار “هذا الضجيج الذى تسمعه لست أنت الذى تسمعه. أنت تنصت، وتنصت فحسب، الى ما تقرأ. انصت الى ما تقرأ. ليس ثمة وجود لغير ما تقرأ. يجب أن تقرأ” ولم تكن هذه القدرة لدى الدكتور بدوى بنت ساعتها، فقد كانت لدى أمه من قبلها مثلها. سنوات مضت بقطعة من اللوف الخشن تغسل صباح كل يوم جمعة جسد أبيه المترهل العاري، وقد جلس القرفصاء فى الطشت. تسكب الماء الساخن بالكوز على كتفيه وعلى ظهره الجاف النحيل، وتحتمل شتائمه اذا لدغته سخونته، فى أول الأمر لم تكن بقادرة أن تحتمل منظر جلده الجعد المصفر، مثل ورقة خريف ذابلة، ولا ملمس العظام الناتئة. كان يكبرها بثلاثة وعشرين عاما. غشها بشاربه المصبوغ، وبعض مظاهر الغنى التى بدأ بها أمام أهلها. ولكنها أحست بقرف غامر فى صبيحة ليلة العرس، عندما بدأت تنبت شعيرات بيضاء لن تدركها الصبغة المتقنة التى مضت عليها بضعة أيام. ظلت تتقيأ طوال الأيام الثلاثة التالية. ومرضت . تقلصات فى الأمعاء، ومسمار حارق مستقر فى فم المعدة، ومذاق الفم بمرارة لا تزول. زادت التجاعيد فى الوجه، والغضون فى الجسد المترهل. وتحت العينين تكور انتفاخان من جراء عدم انتظام الكبد. ولكنها ما عادت تشغل بالها بذلك. على هذا وطدت العزم، ودربت حواسها. نوع من النفى الاختيارى. تعودت ملمس الجلد المغطى بالبثور أحيانا، واللحم المترهل، والعظام النافرة. كما تعودت رائحة البول الفائحة من لفائف الأطفال السبعة التى أنجبتها من الرجل الذى ظلت تكرهه حتى النهاية، دون أن تبدى عن هذه الكراهية أيه أمارة. فى ليلة عرسه أحس بدوى بدوره أحساسا غريبا نفاذا حتى النخاع. أنه يحتضن صندوقا تتقلب بداخله عقارب وثعابين. سبعة وثلاثون عاما يحس بها تلدغه ثم تعود فتلدغه، وتنهش جلده، ألفها. ما عاد يكترث بها، لكن من وقت لآخر، وعلى الأخص فى نومه، يحس برغبة جارفة أن يصرخ. وهو يطلق أحيانا صرخة، فتسأله زوجته بصوتها الذى يفح” ما بك؟ تصرخ كالملدوغ!” يجيب مراوغا “لا شئ. أحلم بجدى سلامة” تقول له ” ألف مرة سمعت منك هذه الحكاية” أول مرة رواها لها – كان ذلك منذ ستة وثلاثين عاما – أنصت باهتمام وهى تنتف حاجبها الأيسر بالملقاط وتمسك بمرآة يعد صغيرة بيضاوية الشكل، اقربها من بصيلاتها، كما تفعل كل صباح. قال ” جدى سلامة، بعد أن اعتزل خدمة الجيش بالسودان، عاد بحصيلة لا بأس بها من المعلومات عن السحر الأبيض، أخذ يمارسها فى قريته قرب بنى سويف. ذات مرة حضر البنت اذا كانت حاملا” وقال له أبوها على الأخص “ارحمنى. وددت أن يصاب عقلى بالشلل حتى أكف عن التفكير” دقق العجوز المحنك النظر فى وجه الفتاة، واسترعى انتباهه على الأخص أن شفتيها السفلى مدلاة فى بلادة وحشية، ويكاد حلقها يبدو للناظر الى فمها. فمد يده، وجس البطن المنتفخة من فوق الثياب، ،سألها. اضطرب جفناها رعبا، وهزت رأسها نفيا الى أهلها بهدوء، وقال “اتركوها لى الليلة. وعند الصباح أخبركم بالنبأ اليقين” . وعندما أقبل الأهل فى الفجر مستفسرين، قال “كلا”، أبشروا. العرض مصون: ساألته وجيدة، وهى تنتزع بالملقاط شعيرة نافرة من أعلى الحاجب “أذن فماذا وجد جدك فى البنت؟” ثم عادت وسألته بارتياب “هل فعل بها شيئا، لا سمح الله، غير شريف؟” وأضافت محذرة – كما لو كان مسئولا عن أفعال جده – “أوعى يا بوبي” – بهذا الاسم تدلل زوجها منذ سنوات حبهما الأولي، نسبة الى الممثل الهزلى بوبى برين، وكان أنذاك من نجوم الشاشة المبرزين – على أن بدوى هدأ من روعها، وقال ” أسرتنا من الشرفاء، وأن كان ينقصهم الأقدام، يا أمراة” نفد صبرها، فسألته “هيه، ماذا فعل، اذن؟” بالليل، عندما طلع القمر، أقنع البنت أن تخلع ثيابها كلها، وأرقدها فى العراء” قالت وجيدة “قلة أدب” مضى بوبى غير مكترث ” وضع جدى على مسافة غير بعيدة من الصبية بطيخة مشطورة” قاطعته وجيدة مفصحة عن ذكائها “فرصة، كان الوقت صيفا، اذن، وكانا وحدهما فى الليل. ماذا يريد أكثر من ذلك؟” مضى يستجمع خيوط قصته ” أجل، كان الوقت صيفا، وهدوء الليلة المقمرة يخيم عليهما” عادت وجيدة تقاطعه “نفسى فى البطيخ، يا بوبي” مضى بوبى يقول فى صبر” قبع جدى عن بعد يرقب كل حركة تبدر من البنت النائمة. بعد قليل برز من فم الفتاة المنفرج لسان. لم يكن لسان البنت بطبيعة الحال. ثم أطل رأس أسود صغير، ذو عينين مستديرتين برقتا فى ضوء القمر، وما لبث أن انساب على تراب الأرض خارجا من جوف البنت – انساب ثعبان يتلوي، زاحفا الى البطيخة المشقوقة فواحة الرائحة. صرخ جدى صرخة تخيف الثعابين عادة، وجذب البنت، وأدخلها غرفته، استدار الثعبان حول نفسه عدة مرات، وقد أحس بأنه فقد حجره ومأواه، فزحف مبتعدا، واختفى فى حقل قريب، تقززت وحيدة من هذه التفاصيل، وكعادتها فى حالات تقززها، صبت زجاجة الكولونيا على يديها وبين نهديها، دون أن تنيل بوبى قطرة واحدة من الزجاجة، بل ظلت توبخه على قله ذوقه، اذ كيف يحكى مثل هذه القصة المنفرة على سيدة مرهفة الشعور مثلها وفى غرفة نومها، وردفت كعادتها أيضا تحقر من شأن أسرته كلها وليس من شأن جده سلامة وحده. لكنها عادت تشير – مثل الثعبان – الى استعار شهوتها للبطيخ فى غير موسمه. ومضى بوبى غير آبه يكمل القصة، كوفئ جده من أهل الفتاة مكأفاة سخية. ومنذ ذلك الحين أى منذ سبعين عاما تقريبا، وأهل الريف فى كثير من مناطق بنى سويف والمنيا يتداولون هذه القصة. وصار جده سلامة واحدا من أساطين الطب الشعبي، ولقب بالطبيب. وكان قادرا على ربط الرجال وفتح فروج النساء العواقر، وبأحجبته كان قادرا على الاكثار من نسل المواشى والأبقار أيضا، وقالت وجيدة ضاحكة “ورثت موهبة جدك، وأصبحت بدورك طبيبا، يا طبيب”. أنزل زجاج نافذة السيارة التى تقطع الطريق عائدة الى الحديقة. بعض النسمات يريدها أن ترطب جبينه ووجنتيه وابنتها باندورا لا تنتهى. يحس على الدوام أنه يجري، يجرى وقد أنقطع نفسه. يلهث على الدوام. بكلام معسول يحس بها تزحف على جسمه مثل أفعى ضاغطة، والى جوارها باندورا – زوجته تهوى الأسماء غير المألوفة – أفعى صغيرة ذات صليل. يجرى على الدوام. تكاد الكلاب تلحق به. كابوس دائم. يستدير. فى يده طبق به عظام. يبقى اليها بالعظمة تلو العظمة. فاذا فرغ ما فى الطبق تقفز عليه، وتنهش أصابعه، ثم يديه، ثم ذراعيه ثم صدره. الجو حار للغاية. الشمس حارقة جدا. يفك ربطة عنقه، يفتح قميصه. لا يموت المرء مرة واحدة فحسب. وبعد كل ميتة حياة أيضا. عندما هرب من البطالة فى الثلاثينات كتبت له الحياة. هكذا ظن. لكن الحياة تقود الى الموت من جديد. فى البيت ما لبث أن هاجمه دبان. لا دب واحد. أما كانت تكفيه وجيدة؟
مالبثت أن شبت باندورا، لتخمشه بمخالبها أيضا. فى حالة من الاستسلام تركهما يفترسانه حتى الموت. الشجاعة؟! هيه!! وماذا تحدى الشجاعة لحظة لا تنفع فيها الشجاعة. ذات يوم رأى نفسه على صفحات “الأهرام”. لم يكن هو بالضبط، ولكن فى الصورة رأى نفسه بين أنياب دبين مفترسين. رأى نفسه بين أنياب دبين مفترسين حقيقة لا مجازا. كانت الصورة التى نشرتها “الأهرام” صورة للحادث الذى هز الدنيا كلها. أنها لرجل آراد أن يفلت من ملاحقة دائنيه فدخل يختبئ فى بيت الدب القطبى. ولكنه لم يلق هناك شيئا من حسن الضيافة. هاجمه دبان، وقتلاه أمام العيان. وفى الصورة يبدو الرجل فى حالة فزع. حاول المشاهدون والحرس لفت أنظار الدبين حتى ينقذوا الرجل، دون فائدة. على ذات الصفحة من جريدة ذلك اليوم، وقعت عيناه على خبر آخر. سكان أحد منازل حى كامب شيزار باسكندرية استغاثوا أمس بشرطة النجدة لانقاذهم من ثعبان ضخم طوله متر، وجده أحد السكان فى الحمام. استدعى رجال الشرطة واحدا من قسم اللبان له خبرة بأساليب الرفاعية. تمكن من اخراج الثعبان من الشق الغائر الذى كمن فيه، وقد استدرجه حتى سجنه داخل حقيبة، وتم تأمين المنزل. وهو، والدكتور بدوي، من يأتى له برفاعى يخرج له الثعبان الأسود الخفى المختبئ هنا أو هناك فى شق من الشقوق المظلمة الغائرة من حياته الخربة؟! هل يلجأ الى البوليس كى يدلوه على ذلك الرفاعى بقسم اللبان؟! فليبق البوليس بعيدا. يذكره البوليس بذلك الركن المنعزل من الحديقة، حيث أقيم المنفى الذى ينقل اليه أغبياء وقتلة السيرك ليقضوا بقية عمرهم بعد أن أثبتوا عدم صلاحيتهم للعمل تحت الأضواء. فليبق البوليس بعيد جدا عن كل ما تعلق بحياته، وليغلق الباب ويحكم الرتاج على خصوصياته. أو ربما كان الأنسب أن ينشر فى الجرائد اعلانا، مثل تلك الاعلانات التى يطلب فيها ناشروها ثلاجة وستنجهاوس ستة عشر قدم بحالة جيدة، أو أوبل موديل 1959 والوسطاء يمتنعون، أو شقة تمليك بأقساط شهرية على عشر سنوات، أو آلة كاتبة، أو كلب وولف، أو غسالة كهربائية، زو سلفة بضمان، أو غير ذلك. سوف ينشر اعلانا لا يتعدى خمس كلمات – ولن يهمه كم يدفع من أجله – يقول فيه ” مطلوب.. رفاعى.. لاستخراج ثعبان ..لعين” قد لا يكون هذا الاعلان مألوفا، ولكن لم لا ينشروه؟ ألن يتقاضوا ثمنا. نظر الى ساعته. ود لو يسرع السائق قليلا. سلحفاة النيل سكينة التى تعيش فى الحديقة منذ مائتين وخمسة وثمانين عاما مريضة منذ ثلاثة أيام. رفضت تناول الحشائش التى تقدم لها، واستقرت فى مكانها دون حركة. يعالجها بالمضادات الحيوية. هذه المرة الأولى التى تمرض فيها سكينة. هاله كم من الأسماء سجلت على ظهرها. أكثر من مائة وخمسين طفلا من زوار الحديقة خطوا أسماءهم على الظهر العتيق. سيقدم الى المدير تقريره. سوء المعاملة جاوز كل حد، والحبوب المهدئة على وشك أن تنضب. جلسة فى المساء على المقهى.
ثم دروب ملتوية رقطاء معتمة. بضع درجات هابطة. مكان خافت الضوء، دخان تتلوى سحاباته الى السقف الخفيض. أنه ليس عجوزا، ولكنه يحس بأنه يشيخ يوما بعد يوما. وقبل الأوان، فلا يجد ما يتثبت به سوى حلم بالقدرة، ووعد بعطاء من جسد نسائى غريب يمضى الى جواره جزءا من أوائل الليل. عاجز هو أن يعامل وجيدة كامرأة. كل مرامه أن يرقد فى هدوء الى جوار جسد أنثوى لدن غير عدواني، يعرف أنه ليس ذلك الجسد الشاحب الخارج المعروق، مثل ساق دجاجة، جسد وجيدة الذى استنزف حياته هدرا. أكانت هذه الرقدة المحرمة والمرغوبة معا فرصة مؤقتة للهرب والنسيان، أم لاستعادة القدرة على الخيال بامكان عادة تشكيل الحياة على جناحى وهم لذيذ بالرجوع الى شباب؟ النوم والموت يتعانقان. حسرة على ربيع منقض. عجوز يذرف الدموع فى أحضان امرأة مخضبة بالأصباغ، هذا هو فى الأونة الأخيرة. ماذا يحدث هناك؟ لا شئ يحدث هناك. عيبوبه. متى تتحول هذه الجثة العطنة الى فراشة جميلة حرة؟ أجل، حرة كان ذلك المكان هو حيث يسترد حريته، ولهذا كان يسميه “بيت الأوهام” لحظات ثم يعود النهش واللدغ والرغبة الحارقة فى الصراخ. شد ربطة عنقه. فك آزرار فميصه. خيوط من العرق تسيل الى صدره فى خطوط ثعبانية رفيعة. أخرج منديله بسرعة، ومسحها كما لو كان يحك من على جلده وشما. ضحك كبير أطباء الحديقة. الحرارة الشديدة تجعل العقل يكاد يسيح، ولكن يجب أن يكون قادرا على الامساك بالزمام واصدار الأحكام على الدوام.
لنتصور مثلا حريقا شب فى مستشفى مكتظ بالنزلاء، بالقطع سنجد أن جميع الموجودين، حتى أولئك الذين كانوا يعتقدون أنهم على وشك الموت، يخرجون بسرعة هائلة. طاقة مذهلة من السرعة والقسوة كامنة فى صندوق داخلنا جميعا، دون أن نشعر أو حتى نحلم بوجودها. صندوق العقارب ذاك بداخلنا أيضا؟ سبعة وثلاثون عاما ولت. تركزت كل تدريباته على تحقيق تلك المعادلة العسيرة، نقطة التعادل، وها هو يمضى فى طريقه، يتسلق. وبدوره تقدم اليه الشهر الماضى خريج جديد يطلب يد باندورا. يريد أن يقضى عمره الى جوار بركة التماسيح، يدرسها ليتقدم – هكذا يقول – ببحث للدكتوراه فى موضوع الزواحف البرمائية، من خلال قلب باندورا، التى يهوى أن يطلق عليها بنوره، يريد أن يحقق طموحه. التاريخ يعد نفسه فى بيت الدكتور بدوى. وجيدة لا تمانع، بل تشجع الشاب، وتقول لزوجها “يابوبي”، أليس الزواج، ياحبيبي، فن القوة المحكومة بالعقل؟ أنسيت هذا يابوبي؟” وتضحك أجل تضحك، ولكن كبير الأطباء ضحك أيضا وبصوت أعلي، وهو يلقى نظرة على الفواتير المقدمة من الموردين. ضحك، وقال له” أهذا توقيعك، يا دكتور بدوي؟” ثم رفع عينيه وصوبهما الى وجه الدكتور بدوى الذى بدا عليه بعض الارتباك. وتوقف القلم فوق الأوراق. ود بدوى أن يهبط القلم قليلا ويضع الامضاء. تذكر الأيدى التى تمتد الى خارج الأقفاص، وتمسك بيديه تودعه بعد لقاء الصباح، وهو يخطو فى مماشى الحديقة متفقدا الأحوال ليشرف على تقديم وجبة الأفطار. أحس أنه خذل كل من وقفوا بجانبه، وعين من أجلهم. تقلص قلبه فى قفصه الصدري، وهو يتابع تردد كبير الأطباء فى التوقيع. تري، ماذا يحدث لو فتحت أقفاص الحيوانات كلها مرة واحدة؟ هذا ما سيفعله خفية.
ستأكل الحيوانات بعضها بعضا، وتختفى كل المعالم المريبة. نظر إليه كبير الأطباء، ثم عرج الى الحديث عن الركن المنعزل من الحديقة.
لايدرى لماذا يحلو لكبير الأطباء كلما تحدث معه أن يلمح الى ذلك المنفى الذى ينقل اليه القتلة والأغنياء. قال كبير الأطباء “تضم الحديقة الآن الأسد خالد الذى دربه اليرك القومى مدة سنة، وفشلت معه كل المحاولات لتعليمه أبسط الحركات ،إطاعة الأوامر التى يطلبها منه مدربه.
وكذلك الفيلة نعيمة توقف كبير الأطباء عن الكلام ريثما يشعل غليونه من ولاعته. نفخ الدخان من فمه عدة مرات. ثم نظر اليه من جديد وسأل” أتعرف حكايتها، يا دكتور بدوي؟” أنه ليتساءل حقا لماذا يوجه الحديث اليه دون سائر الحاضرين عندما يريد الاشارة الى المنفي؟ أتري، قصد ذلك؟ واذا كان يتعمد الاشارة اليه، فما الذى يهدف؟ أهو يلمح الى شئ؟ ما هو هذا الشئ؟ القيلة نعيمة. آه، أجل، أجل، نعيمة، بكل تأكيد يتذكرها. من السيرك نقلت لغبائها الشديد فى التعرف على دورها المطلوب أن تؤديه. ولكن هو – الدكتور بدوى – ما شأنه وهذه الأنثى الحمقاء؟ أيعرف كبير الأطباء شيئا عن حياته الخاصة؟ أراد أن يثبت لكبير الأطباء أنه على علم بسير العمل، حتى فى ذلك الركن القصى من الحديقة، فهز رأسه وقال “لم تعد تذكر من تدريبها الطويل فى السيرك الا حركة واحدة” سأله كبير الأطباء، كما لو كان يستوثق من معلوماته “وما هى هذه الحركة؟” أجابة كتلميذ استذكر درسه جيدا حركة واحدة تقضى الآن اليوم بطوله فى الحديقة، وهى تكررها أوتوماتيكيا. أنها تجذب نفسها الى الأمام حتى نهاية الجنزير الذى يربطها بالأرض قال الطبيب المشرف على حيوانات السيرك بالحديقة الذكاء مطلوب فى الحيوانات أحيانا، كما هو مطلوب فى الآدميين، خصوصا اذا كان المطلوب من الحيوان أن يؤدى دورا أكبر مما هيأته له الطبيعة، كالعروض التى يقدمها السيرك. قال كبير الأطباء “الأصح أن تقول أن الذكاء مطلوب فى الآدميين، كما مطلوب فى الحيوانات” والتفت كبير الأطباء الى بوبى وضحك. ثم قال له بخبث” هذه المرة سأوقع، ولكن” – وعاد يضحك. هل تنبه الى شئ؟ هل تنبه الى الشئ الذى تدرب عليه أتقنه؟ رشقة وشقة من السم كل يوم، ألم يكتسب راسبوتين حصانة ضد السموم؟
الخريج الجديد لا يرغب فى أن يقدم مهرا، ولا أن يفرش حتى غرفة. سبعة وثلاثون عاما كفيلة بأن تغير أمورا كثيرة. تحول الزواج الى ضحك ولعب. أصبح فنا أكثر تعقيدا وتكاملا. أغلق النافذة. الذرات تنفذ الى أنفه، وتسبب له نزيفا، فهو منذ صباه يعانى من حساسية من الغبار. توجه الى الحديقة. أمضى ساعة فى المرور على الأقفاص. وعند بركة التمساح أمضى وقتا أطول، يتأمل جلده الجعد السميك وذيله. بضربة واحدة يقصم هذا الذيل فيلا الى شطرين. أطمأن على صحة الحيوانات، وقال لنفسه ” لن تتوعك لو نقص زادها بنسبة الربع أو السدسين. ولن يتنبه أحد طالما أنه هو الذى يوقع على فواتير الموردين بالاستلام. أما أسعار الجهاز فقد تزايدت عما كانت عليه منذ سبعة وثلاثين عاما أضعافا وقد تغيرت الثعلب فات، لعبة الزواج، أيضا. وأصبحت مثل سكة أبى زيد كلها مسالك”. تنبه لأول مرة، وهو فى جناح الجوارح الى أن وجه بنوره فيه بعض الشبه من وجه بومة الصحراء، وهى آكلة اللحوم، ذات مخالب حادة ومنقار أشد حدة. كم كان وجهها وهى طفلة مستديرا نضرا ملائكيا، أما الآن تحت المساحيق التى علمتها أمها كيف تتفنن فى التجمل بها، وعلى الأخص تلك الحواجب الرفيعة الطويلة الممتدة حى الأذنين، فأنه يشفق على العاطل الجديد الذى يريد أن يكرر التاريخ، ويبنى لنفسه الى جوار بركة التماسيح مستقبلا. توجه الى مكتب وكيل الحديقة. انضم اليهما بعد هنيهة مديرها الذى تعود أن يستمع آخر كل نهار الى تقرير شفوى عن أحوال الحيوانات، وعن كل تطورات فى الحديقة. سأل عن الصناديق العشرة ومحتوياتها النفيسة. وأكد أن البحث العلمى يتقدم. شرع بوبى فى تقريره. فتكلم عن أعصاب الوحوش التى اضطربت. ضحك المدير وقال له” هذا ليس الأمر الجديد” فعقب عليه فى اصرار، قال “لكن ليس الى هذه الدرجة” وعلق الوكيل بصوته بالغ النعومة “لو اقتصر الأمر على أعصاب الحيوان لهان” رد عليه بوبى “الحيوان أهم” قال المدير كي، يفض الحديث “عودتنا دائما أن تكون على الحيوان عطوفا” هز بوبى رأسه وقال “افتقدت الانسانية بين البشر، وفى الحيوان وجدتها. فى القط الحنان، فى الكلب وفى الحصان الوفاء، وفى البوم الغنائية ورهافة الشعور” ضحك المدير راضيا فقد وجد الفرصة التى يتلمسها على الدوام لكى يتحدث عنه نفسه. فقال ذكريات قديمة. فى شبابى أحسست أن وحيد القرن يعانى من الوحدة وراء قضبانه، ويقف منكس الرأس، فأردت تسكينه. قال لى مديرنا الأسبق، وكان انجليزيا، أحمر الوجه، انه وحش. لاتنس ذلك . ومن المحتمل أن يقتلك بقرنه. لم يغير ذلك مما اعتزمت عليه. والحق أننى لم أجد منه – لست أقصد المدير الانجليزى – إلا كل ود بعد أن أدخلت السرور إلى نفسه ضحك المدير راضيا عن نفسه. شاركه الوكيل الضحك نفاقا ومجاملة، وأضاف أليس فى ذلك ما يثير الدهشة؟ أجاب الطبيب المشرف على حيوانات السيرك بالحديقة متفلسا أن الذى يثير الدهشة حقا، أنه مازال لدينا القدرة على الدهشة جال كبير الأطباء، الذى انقبض قلب بوبى عندما رآه داخلا – جال ببصره فيمن حوله، وقال مالنا نعدد حسناتنا، كما لو كنا ندرا عن أنفسنا اتهاما؟ ضحك الجميع، حتى بوبى ضحك على مضض، فقد استقرت عليه نظرات كبير الأطباء بعد تجوالها. هل اكتشف هذا الرجل الكالح، ذو الوجه الذى شوهه جدرى قديم. ثغرة يحاول توسيعها كى يتسلل منها؟. جاءت القهوة. تناول الدكتور بدوى معها الحبة الموصوفة لتصلب الشرايين. تطرق الحديث إلى مواضيع يومية شتى. ولكن إذا بكبير الأطباء يحول دفة الكلام إلى الوجهة ذاتها. أهو مقصود كل ذلك؟. فى الحديقة حيث نقلت تلك الحيوانات بعيدا عن الأضواء يلاحظ الأطباء أن بعضها مصاب بحالة هياج مثل الدببة الثلاثة الموجودة الآن فى قفص واحد، والبعض استكان فى هدوء مثل الأسد سلطان الملقب بالقاتل الفيلسوف. والبعض الآخر لم يتحمل المنفى فمات منتحرا. ومع ذلك فزادهم لازال يورد. قلب كبير الأطباء غليونه ومضى يدق به حافة المكتب ليخرج منه رماد التبغ العالق بتجويفه. ثم عاد يقول للحيوانات المنفية مع ذلك جمهور كبير. لاحظ بدوى أن عينى كبير الأطباء مثبتان عليه. أحس بنظراتها تنبش أعماقه. ارتعش فنجان القهوة بين أنامله، اكتشف فجوة؟ يريد منها أن يتسال، أن يحاصر ويدمر؟ أليست له هو أيضا نقاط ضعفه؟ يسمع عنه الكثير فى بيت الأوهام. ومن نعيمة على الأخص أهى نظرات شماتة، أم رثاء؟. سارع بوضع الفنجان على المنضدة المجاورة، وأخرج قرصة الأبيض الصغير الذى يتناوله كلما ضاق تنفسه. دق باب الغرفة. دخل موظف المعاشات. نظراته زائغة، لايبدو عليه ميل إلى الحركة، والبلادة على وجهه مرتسمة. تركز نشاطه كله فى لسانه. قال ألم تسمعوا؟ التفت إليه جميع الموجودين مستفسرين. وقال وقد اكتسى مظهرا من الأهمية، فهو يعرف أكثر مما يعرفون. ساد الذعر شاطيء المعمورة، أمس. هربت ثلاث أسود من سيرك متجول، واتجهت الأسود الهاربة إلى الشاطيء. هرع المصطافون إلى بيوتهم، وبقيت الأسود الثلاثة تتجول قرب الشاطيء عدة ساعات إلى أن لحق بها مدربوها وأعادوها إلى أقفاصها بسهولة. وقالت مصادر البوليس أن الشاطيء ظل مهجورا بقية اليوم رغم إعادة الأسود إلى أقفاصها. دخل موظف المعاشات بعد ذلك إلى الموضوع الذى جاء من أجله. دفع إلى الدكتور بدوى استمارة المعاش التى يجب أن يوقعها بمناسبة قرب بلوغه الستين. أخذ بوبى يضحك على هذه السرعة التى قطع بها رحلة حياته. واقترب بها من المعاش. ضحك مرة ثانية. اضطرب فنجان القهوة فى يده من جديد. ارتسمت أمامه الأذرع الممدودة إليه عبر الأققاص. كبير الأطباء لازال ينظر إليه. انسكبت القهوة السوداء على سرواله. وقع الفنجال على الأرض، وتدحرج راسما على البلاط دائرة غير مكتملة. جحظت عيناه. شربات. شربات الفرح على الصوانى يطوف على المعازيم الذين يضيقون عليه الحصار بنظراتهم. هل اكتشفوا ما اتقن اخفاءه؟ قال بصوت مخنوق النافذة. الرمال تهب إلى الداخل. تزحف كثبانها على البلاط. وتطمر مربعاته. دب الهرج فى الغرفة. وصاح الوكيل أحضروا كوبا من الماء لمعت العينان الجاحظتان. زغاريد تصم الآذان مثل عويل. أهو فرح باندورا؟. ندت من الحلق شبه أضحوكة متحشرجة. وصلت السيارة إلى مشارف المدينة. أغلق النور الأحمر طريقها. تقدم ضابط وأجرى التفتيش. قال أحد الذين امتلأت بهم الحجرة افتحوا قميصه. نزعوا رباط عنقه. الشعر على صدره مثل ديدان سوداء دقيقة. قليل من الهواء للدكتور صاح بذلك أحدهم، وأضاف قليل من الهواء النقى. نظر إليهم الطبيب، كما لو كان لايصدق أن ثمة هواء نقيا يمكن أن يتحقق. ومن خلال ضحكة متقطعة جاءت كلمته مبتسرة ومبحوحة الثعابين كانت نظراته تدور فى الحاضرين زائغة. فهم أحدهم وقال لنفسه لابد أنه يشير إلى شركائه فى الأوراق المريبة.