رسالتان
من: ناصر حسنى – الآنسة (ع …)
معنى التطور
أعرض عليكم صراع انسان فى مقتبل عمره مع “التطور” فقد بدأت ومنذ فترة غير قصيرة فى القراءة والتثقف الذاتى العشوائى، حتى تصورت “وظننت” أنى سرت على طريق تطورى خطوات واسعة ان لم أكن قد وصلت الى أوج التطور واكتماله – (حسب مفاهيمى) – ولكن بعد تعرفى واطلاعى على مجلتنا العزيزة “الانسان والتطور” بدأت كل معتقداتى تنهار فكل يوم أكتشف نقصا جديدا فى حياتى “المتطورة” أقصد التطورية حسب مقياس المجلة فما فهمته من كلام المجلة فى حديثها أن ناتج التطور ومظهره هو الابداع وأن هذا الابداع اما أن يكون شعرا أو نثرا، متناسية أن قطاعات كثيرة لم يهب الله لها موهبة نظم الشعر أو غير ذلك من مجالات الابداع. كما أنى لاحظت اهتمامكم كثيرا وحرصكم على الأسلوب الذى لا يخدم الا فئة قليلة من الاتيان بأسماء ومصطلحات وتركيبات يحار فيها الانسان وان كان لكم أسبابكم فى ذلك ولكن هل عدم قدرة الانسان التعبير بالأسلوب الذى تكتب به المجلة هو قصور فى تطوره؟ كما أن اهتمامكم الملحوظ بالعقل البشرى القادر فقط على المعايشة فالتعبير فالصياغة فيه اجحاف لقطاعات كبيرة من العقول البشرية التى قد تتعرض لنقص فى احدى حلقات هذه السلسلة التى فرضتها المجلة من قدرة على المعاينة والتعبير والصياغة، فنرى غالبية لا تستطيع التعبير من خلال صياغة ترضيكم وبذلك لاينظر اليها بالرغم من أنه أنسان وتجربته تستحق النظر اليها، وقد سبب لى ذلك قلقا شديدا على مستقبل تطورى، فبالرغم من كدحى وراء الثقافة والتثقيف، الا أنى أتخبط وأتعثر كثيرا، فأنا لا أجد ارشادا ولا نصحا من شخص له خبرة سابقة، وفى محاولة للوقوف مع ذاتى لتحديد مجال أتثقف فيه، وأحاول أن أجد ذاتى ونفسى فيه، وقد اخترت مبدئيا علم النفس والطب النفسى كمجال للتثقف بالرغم من دراستى لعلم الكيمياء وتخصصى فيه هل أجد منكم توجيها ونصحا بسلامة هذا الاتجاه من عدمه، وبما ترشدونى أن أقرأ من كتب فى المجالين السابقين، واسمحوا لى أن أتقدم باقتراح قد يكون فيه أفادة لغيرى ولى من قراء مجلتنا الغراء:
“لماذا لا يخصص فى المجلة باب لعرض التجارب الانسانية البحتة لقراء المجلة يليها تعليق المجلة على هذه التجربة وايضاحها لجوانب الايجاب والقصور فى هذه التجربة على نمو الانسان التطورى”؟
شكرا لاصغائكم وآسف لضياع وقتكم الثمين.
انسان قلق على مستقبل تطوره
ناصر حسن
كلية العلوم – جامعة القاهرة / السنة الأولى
عزيزنا ناصر …
“…. أحسب أن بعض رسالتك هذه كفيل بحل أزمتنا الراهنة بشأن مأزق التوزيع، وضرورة الوضوح، وأرجو أن نتعلم منك، من بساطتك وحاجتك مثلما تعلمنا من تقعر زرزور ورصانته، وفى نفس الوقت نرجو من قبولنا هذا التحدى الذى تطرحه علينا أن نجد حد حقيقيا لهذا المأزق الصعب، فنحقق فىكتابتنا وردودنابعض ما حققه يحيى حقى فى القصة والحوار السهل الممتنع، هذا هو التحدى الجديد، فشكرا لاصرارك حتى قبلناه.
ثم نرد عليك فنقول:
1 – نحسب أن سنك لا تتجاوز العشرين (سنة أولى علوم القاهرة) لكنك تبدأ رسالتك بقولك “… ان لم أكن قد وصلت الى أوج التطور واكتماله حسب مفاهيمى” ومع احترامنا لمسيرتك القرائية والتثقيفية الا ان الخطأ الذى نتربى عليه هو أننا نتصور أن للتطور نهاية، وان اكتماله ممكن، بل ان أهلنا يعتبرون تخرجنا هو اكتمالنا / موتنا (بالسلامة) فاذا كانت مجلتنا – بكل عيوبها – قد هزت معتقداتك (هذه) هكذا، فاننا نشكرك، ونحمد الله.
2 – أنك تصورت – أو أفهمناك خطأ منا – أن ناتج التطور ومظهره هو الابداع، وأن هذا الابداع أما أن يكون شعرا … لاخ وهذا أبدا لم نقصد اليه، بل اننا دائما نقول، ومنذ البداية أن التطور موقف حياتى، يستطيعه حتى الأمى، ومن علاماته: طزاجة التلقى ومخاطرة الفعل، وحتى الحيوان يشعله عبر تاريخه التطورى، لكن الانسان يعى بعضه، ونحن نأسف يا بنى على هذا الذى وصلك، ونصحح موقفنا بالقول: أن مجرد قابليتك لانهيار المعقتدات، والشك فى مرحلة تطورك، هو هو (بما يليه من حوار مثل هذا) هو التطور.
ولعلك لاحظت قبولنا الرحب لما أسميناه “الكتابة الطليقة” أو “الحكمة الملقاة على قارعة الطريق” ومن أول عدد، وكان ذلك لتأكيد أننا لسنا مع الصقل للصقل، ولا مع الموسوعية للمباهاة.
3 – ثم ان اختيارك لعلم النفس والطب النفسى للقراءة لتجد ذاتك يحتاج لوقفة، فلا شك أنك حسن النية فينا (المتخصصين) أكثر مما نستحق، وقد قرأت أخيرا (هذا الشهر يونيو) ما يسمى كتاب اليوم الطبى (النفسى) وكان فيه من التسطيح والتهوين والتقريب ما يمكن أن يسمى “ضد العلم” أو ضد “المنطق السليم” فالمعروض يا بنى من هذه البضاعة أما يبحث فى جزئية شديدة التحديد تضيق أفقك حتما، واما أنه يبيع بضاعة تخديرية مسكنة، سواء أعلن من خلالها اسم عقار جديد أو استعمل آية كريمة يتصور عبد الصبور يا بنى هما مراجع نفسية أساسية، وخطيرة فلا تحرم نفسك من أصول المعرفة النفسية من منهلها الأصلى، وهذا هو ما نرشدك اليه ان شئت.
4 – ها نحن أولا نقبل اقتراحك: هكذا، ونشكرك، فلا تبخل علينا بمزيد من التوجيه.
الرسالة الثانية:
أخاف أن أكون أحببته لمجرد انه يحبنى !!
“…. أحب أن أعرفك بنفسى: اسمى (ل …. / ل….) طالبة فى الثانوية العامة، وعندى مشكلة أريد أن آخذ رأيك فيها، هى مشكلة عاطفية لقد قال لى شاب أنه يحبنى، ووقتها لم أرد عليه، ففهم أننى أرفضه، ولكن بعد أن قال لى ذلك شعرت أننى أيضا كنت أحبه، وكلما فكرت فيه تأتى لى حالات ضيق نفس، وذهبت الى أكثر من طبيب وقال لى أنها حالة نفسية، وأعطوا لى كثيرا من المهدئات، ولكن الآن كلما فكرت فيه يأتى لى ضيق نفس وهبوط وأبكى لأنى رفضته”
ولا تقل لى أننى معجبة به، فقط، لأنه ليس جميلا، وقصير، وليس بفارس الأحلام التى عندما تراه الفتاه لا تستطيع أن تنساه.
ولكنى أخاف أن أكون أحببته لمجرد أنه يحبنى ويهتم بى، فهذه تعتبر أنانية منى، أو لأنه يعوض على حنان أبى وأمى، فلقد توفى الاثنان، ولكنى رفضته لأننى أعرف أننى لست فى سن تمكننى من التفكير فى هذا الموضوع التفكير الصحيح، وخفت أن أوافق عليه الآن، وبعد ذلك عندما التحق بالكلية أرى شابا أفضل منه وأحبه وأترك الشاب الأول ولكنى أخاف أيضا أن أظل أحبه، ولكن وقتها سيكون قد ضاع منى، فأنا لا أعرف هل هذه انانية منى أم ماذا، وأريد أن آخذ رأيك فى موضوع آخر: انه عندما قال لى أنه يحبنى: شعرت أننى لا أستأهل هذا الحب، لا أعرف لماذا، وشعرت أيضا أننى انسانة “وحشة”، ولا أستأهل حب أى شخص فى العالم.
وأحيانا أشعر ايضا أن العالم بأجمعه يكرهنى وأننى أستحق هذا الكره وأننى لا أستطيع أن أتعامل مع هذا العالم وأريد أخذ رأيك فى هذا الموضوع.
(………….)
الابنة الكريمة (ل ……….)
1 – بعد أن شعرنا بالبعد عنك، وعن مشاكلك البسيطة، وبعد أن واجهنا بعدك بالتالى عنا، أحسنا الاستماع الى رأى ناصر (الرسالة الاولى) فغامرنا بالعودة البسيطة دون أن نتنازل عن شروطنا الجادة من عدم الاستدراج الى التحذير، أو الايحاء، أو التسطيح والله المستعان، فشكرا
2 – رغم بساطة رسالتك وتلقائيتها ووضوحها فقد كشفت فى جرعة واحدة طبيعة ما يسمى “حبا” كما يشيع فى هذه السن، ويشيع فى هذه الأيام، وما زال (للأسف) هو الغالب فى مجتمعنا المتواضع النمو.
3 – ان شعورك الدقيق بأن حبك لهذى الفتى هو “لمجرد انه يحبنى” هو شعور صادق تماما، ولكن يا فتاتى هذا حقك، وحق كل انسان، صحيح أن هذه الاستجابة وحدها لا تكفى لارساء علاقة دائمة أو ايجابية أو جيدة، لكن هذه الصفقة شريفة ولا يصح رفضها، وفى نفس الوقت لا يصح الوقوف عندها أو الاكتفاء بها.
فأنت فتاة حرمك القدر حنان الأم والأب
وحين يقسو القدر على انسان هكذا مبكرا، يعود الانسان بقسوة على نفسه (اقرئى مثلا يوسف عزب “رحلة” فى الباب السابق) وأنت قسوت على نفسك فاعتبرت نفسك لا تستأهل حب أى شخص، وبهذا أنت تحمين نفسك، ومعك حق، فان فتح باب الاحتياج دون ضمان اروائه، ولو قليلا، قد يصيب الواحد منا بجرح قد لا يندمل، فشعورك بعدم الأهلية للحب (لا أستأهل حبه) الذى زاد حتى وصل الى استحقاقك للكره: هو عقاب لذاتك لذنب لم تجنيه أصلا، فأنت تقابلين حرمانك من الوالدين، بحرمان أقسى، وأنا لا أنصحك أن تعدلى عن ذلك فورا فهذا صعب، ولكن فقط ضعى ما أقوله لك فى الاعتبار.
4 – فما دام الحب بهذه الصورة فهو “احتياج قح”، ورفضك المرحلى هو فى محله لا لأن الشاب قصير أو لأنك ستجدين فرصة أحسن، ابدا، فهذا أسلوب تجارى سخيف فى العواطف البشرية، وانما لأنك وأنت بكل هذا الجوع العاطفى، أى فى عز الحاجة الى أى لمسة من آخر، سوف تندفعين دون تبصر الى أى طارق، فيكون الاختيار فى اضعف صوره.
على انى لا أقول هذا لأنى أصور أنك ستشبعين هذا الاحتياج قبل اقدامك على الاختيار حين تكبرين، وانما أملى هو أن يقل هذا الاحتياج الجامح تدريجيا مع زيادة ثقتك بنفسك.
أما أنك أنانية، فلا أحسب أن هذه رذيلة على طول الخط، بل انك بهذا الاعتراف كنت أكثر أمانة مع نفسك ومع فتاك ومع مشاعرك لأنك كنت أقل عمى.
فانتظرى، واحترمى رفضك الداخلى، ولكن فى حدود، واستزيدى من المعارف والثقافة والصداقة، واحترامى الألم وعيشى الحرمان الذى فرضه عليك القدر دون نواح بلا طائل، ودون اندفاع بلا حساب وفقك الله.
ملحوظة: (الحبوب المهدئة لا تعالج الحاجة الى الحب !!!).