الموسوعة النفسية
فى هذا الباب الجديد، سوف نواصل تقديم تعريف بالمصطلحات النفسية (الطبنفسية – العقلية)، والتى نرجو أن نتفق على معناها ومضمونها، كما سنقدم على مغامرة ضرورية وهى نحت ألفاظ جديدة، تحتاجها اللغة العربية القادرة على ذلك، وأكثر.
وننبه ابتداء الى أننا سوف نحاول تغطية الظاهرة التى يشير اليها المصطلح، بحيث يتضح جليا أن الظاهرة هى الأصل، وأن المصطلح تال لوجودها، وبذلك نتجاوز الاقتصار على “الترجمة” أو “التعريف”، وننبه من البداية أن ما اتفق عليه ثقاة المجمع اللغوى ليس ملزما، ولا ينبغى أن يكون وصيا على حركة فكرنا، وخاصة اذا ما خالف مصطلحه حقيقة علمية، أو حبس أو أغمض ظاهرة حياتية أرحب منه، أو مختلفة عنه.
وسوف نعتمد بداهة على كثير من المراجع والمعاجم، باعتبارها مصادر الهام وأسهم اضاءة ولكن ليس باعتبارها حكما نهائيا جامدا.
ملحوظة (1): بديهى أننا لسنا مضطرين الى اتباع ترتيب أبجدى محدد، اذ سوف نتحرك بين الحروف والمصطلحات بحسب ما يعن لنا، ويرد الينا، ونرى أولوية تقديمه، حتى بدون ابداء أسباب.
ملحوظة (2): ونحن نلح فى الرجاء أن نتلقى من القراء، وخاصة المهتمين بتطوير لغتنا، وكذلك العاملين بالحقل النفسي، نتلقى من هؤلاء و أولئك ملاحظاتهم واقتراحاتهم، فنحن فى مرحلة أحوج ما نكون فيها الى مختلف وجهات النظر.
حــرف الضــــاد
ضلال Delusion
(1) “ضلال” أم هذاء
أول من فضل استعمال لفظ “ضلال” فيما يفيده اللفظ الانجليزى Delusion كان أ.د. عبد العزيز عسكر[1]، وكانت حجته فى ذلك أنه أقرب – نطقا – الى اللفظ الانجليزي، وأن الضلال بمعنى: الرأى الخاطيء، أو المعتقد الزائف، هو أقرب الى ما تعنيه الصحة النفسية بالمعنى التكاملى والتوازني، وبالتالى فلا خوف من استعمال الضلال بمعنى أخلاقي، أى البعد عن الصواب، حيث الصواب هنا هو الموضوعية والتكامل (أى الصحة).
ثم تبنت هذا الاستعمال بعد ذلك مدرسة قصر العيني، وأخيرا أقر هذا الاستعمال فى الترجمة العربية بدليل تشخيص الأمراض النفسية الذى أصدرته الجمعية المصرية للطب النفسى.
وقد ناقش هذا الدليل مشروعية استعمال لفظ الضلال دون لفظ “هذاء” كالتالي [2] :
”.. فضلنا استعمال لفظ ضلال ترجمة للفظ (Delusion)، رغم شيوع استعمال لفظ “هذاء” حيث أن من معانى الضلال: الباطل، والعدول عن الطريق المستقيم والسلوك الذى لا يوصل للمطلوب، وكل ذلك من مظاهر هذا العرض اكلينيكيا، أما “الهذاء” مما جاء فى مادة “هذا” بمعنى قطعه، وفى مادة “هذي” بمعنى تكلم بكلام غير مفهوم، فانه لا يقابل العرض الاكلينيكى حيث العرض يعنى كلاما مفهوما وعادة مسلسلا، ولكنه على غير أساس، وليس كلاما غير مفهوم”.
انتهى شرح الدليل المصرى.
ورغم ان الموسوعة المختصرة فى علم النفس والطب العقلى[3] (1976) قدمت لفظ هذاء وهذيان على لفظ ضلالة، ترجمة للفظ Delerium الا أن المؤلف تحفظ – بين قوسين – باستدراك يقول (..ولولا خوف اللبس، فنحن نقول مثلا أن فلانا يهذى كلاما لا معنى له، فكلمة الهذيان هنا تختلف عن المقصود بكلمة Delusion.
ثم نقرأ عكاشة (1980) [4]
الهذاءات والضلالات: (Delusion)
”الهذاء هو اعتقاد خاطيء، مرتب ومنسق…الخ” فنرى التناقض مباشر بين لفظ “هذاء” وبين وصف “مرتب ومنسق”، ففى نص وسيط: الهذاء: الهذر الكلام غير مفهوم (فى حين أن الضلال كلام مفهوم جدا، ومرتب ومنسق).
وفى الوسيط أيضا: هذا الشيء: قطعه سريعا، وهذأت الخيل: تساقطت أعياء.
(والضلال غير مقطع أصلا، بل هو متماسك حتما، واذا تقطع – فى الفصام مثلا – لم يعد ضلالا خالصا بل تداخل مع تفسخ الشخصية وتناثر الفكر، الأمر الذى هو “ضد الضلال” أن صح التعبير، والذى تعنيه مادتى هذا وهذى خاصة، حيث جاء فى لسان العرب: هذأت: اللحم بالسكين هذا، اذا قطعت به.
وهذى: اذا هذر بكلام لا يفهم: أنشد تغلب:
هذريان هذر هذاءة موشك السقطة ذو لب نثر
وهذا الوصـف يناسب تمـاما مــا هو معروف عن تنــاثر فصامي، أو خلط هذيــانالمصــاب بالهــتر Delerium، وليس من صفات الضلال أصلا.
من كل ذلك، فنحن نرفض ونلح فى الرفض أن يستعمل أى من لفظى “هذاء” أو “هذيان” للوفاء بما تعنيه كلمة “ضلال” بالانجليزية.
على أن هذا الخلط (بين الهذاء والضلال) يمكن ارجاعه – ولو قياسا – الى خلط مقابل فى اللغة الفرنسية، فكلمة Delire بالفرنسية (فى الطب النفسي) تستعـمل بمعنيين فيما يفيد معنى الضلالDelusion بالانجليزية)
ومعنى الهذيان (Delusion بالانجليزية)، ولا يعنينا هنا أن نفسر مصدر الخلط فى الفرنسية، وانما نحن ننبه الى ضرورة تنبه فى لغتنا هى قادرة على ذلك.
على أن الطب النفسى الفرنسى قد ميز بشكل مباشر (وان لم يكن محدد تماما) بين الفكرة الضلالية[5]، (التيمة الضلالية) Les delires et le thmes delirantes، وبين الحالة الضلالية Lesetats delirants وبينهما وبين الضلال الحاد Delire aigu.فخص الأخير (الضلال الحاد) بما يرتبط بالتهاب المخ (أو اضطرابه الحاد) بحيث يقابل لفظ Delerium بالانجليزية، وبالتالى لفظ هذيان بالعربية.
(2) التعريف
جاء فى الموسوعة المختصرة (الخولى 1976):
“هو الوهم أو المنطق أوالمعتقد الفاسد False belief الذى لا يتفق مع ظروف الشخص; اذ لا يمكن أن يقبله من هم فى مثله سنه، وثقافته، ومع مجانبته للواقع لا يمكن تصحيحه أو انتزاعه بالمنطق والاقناع”.
ثم نقرأ شاهين والرخاوى (1977):
“الضلال هو اعتقاد وهمى خاطيء، لا يتفق مع الواقع، ولا يمكن تصحيحه بالحجة الصادقة والمنطق السليم، ولا يتفق مع تعليم المريض وبيئته”.
كذلك نقرأ عكاشة (1980):
“الهذاءات أو الضلالات (الهذاء = الضلال)[6] هو اعتقاد خاطيء، مرتب ومنسق، يؤمن به المريض ايمانا راسخا، لا يحيد عنه، مع استحالة اقناعه منطقيا بعدم صحته، ويجب حينئذ أخذ ثقافة وتعليم المريض فى الاعتبار عند تشخيص الهذاء (الضلال)..”
ونتوقف أمام هذه التعريفات لنلاحظ:
1- التأكيد على أن الضلال “اعتقاد”.
2- التأكيد على أنه خاطيء أو “فاسد”.
3- التأكيد على أن مقياس الخطأ أو الفساد هو عدم التناسب مع السن أو الثقافة أو البيئة.
4- التأكيد على رسوخه وعدم قابليته للتصحيح بالحجة والمنطق.
وكل هذه المعايير، رغم كل شيء، هى معايير نسبية، تحتاج الى وقفة تحديد ومراجعة.
(3) حدود الخطأ … ووظيفة المعتقد (والضلال)
ومع أن الضلال كما صورته التعاريف السابقة ليس مجرد خطأ فى محتوى التفكير، وانما هو أعمق وأشمل (انظر بعد) الا أننا سنحاول هنا مناقشة قضية الخطأ والصواب بما يتيح تحديد الضلال من غيره.
يقول ياسبرز[7]:
“أن الضلال يمثل لنا احدى تلك التحديات التى لا يمكن حلها الا اذا حددنا “الحقائق” بشكل واضح، لأنه لو أن كل خطأ، أو حكما خاطئا، غير قابل للتصحيح، سمى ضلالا، فاننا لن نجد فينا من ليس عنده ضلال، فكل منا له قناعاته، وانها لخاصية عالمية أن نتمسك جميعا بأحكامنا الخاطئة”.
ويشككنا الرخاوى [8] (من نفس المنطلق) فى قدرتنا على الحكم على الخطأ والصواب حيث يقول بالحرف:
”… تؤكد كل المظاهر أن الانسان (المعاصر فى مرحلة تطوره الراهنة) غير قادر – على استيعاب الحقيقة الموضوعية كما هى.
ثم يقول:
”.. ولابد من الاعتراف بأن كثيرا من المعتقدات الانسانية هى معتقدات بعيدة عن الحقيقة الموضوعية، وهى معتقدات ثابته بقدر حاجة الانسان الفرد (والمجتمع الى التمسك بها للحفاظ على توازنه فى رحلة ما، وهى لا يمكن اصلاحها بالمنطق الموضوعى المجرد … لأن هذا المنطق الموضوعى المجرد – كما ندعى تسميته لنوهم أنفسنا بتجرده هو – فى ذاته مسألة نسبية طالما هو صادر من انسان … حيث أن حقيقته المجردة، دون عبورها العقل البشرى – ليست فى متناول أحد مهما بلغت رؤيته وكدحه الى ملاقاتها.
ثم يخلص الى أنه:
“…. لابد أن نسلم اذن بأن الفرق بين المعتقد الخاطيء (الضلال) والمعتقد الذى يتصف بالصواب (المفهوم هو فرق يحتاج الى أبعاد أخرى (للتميز)…’.
ثم يعدد الأبعاد التى تجعل أى معتقد أقرب الى الضلال، فيما يلى :-
1- عدم مشاركة الناس فيه.
2- عدم نفعه لعدد مناسب من الناس (النفع المرتبط باستمرار الحياة طولا وعرضا).
3- عدم قدرته على تنظيم الشخصية.
4- عجزه عن أن يصل الى آخر (فآخرين) [عن التواصل].
5- عجزه عن الاستمرار مع قبول التحوير التدريجى.
وكأنه بذلك يحدد ما هو ضلال، ليس بقياسه المطلق بمقياس الخطأ والصواب، وانما بنجاحه أو فشله فى أن يوظف فى تماسك الشخصية، واستمرار الحياة، والتواصل بين الناس ومع ذلك فانه يعترف ان هذا المنطلق لا يحل المشكلة، فهذه المقاييس العملية، هى أيضا نسبية، ويصعب الحكم عليها وخاصة أمام الأفكار الابداعية المتفردة قبل انتشارها واختبارها.
على أن النظر الى المعتقد من حيث دوره فى تماسك الشخصية خاصة، يجعلنا نتقدم خطوة أخرى الى التساؤل عما اذا كان الضلال فكرة أو معتقد، أم أنه أكثر من ذلك وأعمق؟ بما يشمل علاقته بالجسد، والوعي، والوضع الحركي؟
(4) أبعاد وأعماق الضلال
ذلك أن الضلال ليس خطأ فى الحكم، ولكن الحكم الخاطيء المعلن فى محتوى الفكر هو المظهر المحدد المختزل لما هو أعمق وأشمل، فالفكرة الخاطئة هى بمثابة قمة محدودة لجبل الثلج الغائر فى المحيط (المتجمد)، بل ان هذه الفكرة الخاطئة أو المعتقد الزائف يأتى مؤخرا حيث يجد أرضيته جاهزة لغرسه واظهاره، وجسم جبل الجليد هذا، أو أرضية الوجود تلك هما الضلال بالمعنى الغائر المتصل اتصالا مباشرا بالوعى من جهة، وبالجسد (تركيبا وحركة) من جهة أخرى.
وعلينا لكى نفهم هذه العلاقة الهامة أن نتذكر علاقة الكلمة (المفهوم) بالجسد، فالكلمة فى حيويتها الأولية هى كيان جسدي، وليست رمزا عقلانيا منفصلا عن الوعى والوجود، وان كان استعمالها فى هذه الصورة المعقلنة الرمزية قد غلب وطغى حتى أصبح نوعا من الاغتراب (المعادى للأسف). ولكن هذا لا ينسينا أصل الكلمة كنبض بيولوجى يبدأ بنشاط المخ، أو فى نشاط المخ، متصلا اتصالا لحظيا، وكاملا، مع كل خلايا من الخلايا الجديدة، بشقيها الحسى الواعى الحركى المعبر.
فاذا كانت الحياة العصرية المعقلنة قد جعلت الكلمة تبدو مستقلة عن الجسد والوعي، اللهم الا بعلاقتها بالجسد كأداة، والوعى كأرضية، فان الأمر ليس كذلك فى حالة المعتقد، وخاصة اذا اتخذ المعتقد قوة اليقين كما فى حالة الضلال والعقائد[9] .
وقد اتضحت لنا علاقة المعتقد الضلالى (وغير الضلالي) بالجسد من خلال خبرة نوعين من العلاج (1) العلاج بالحرمان من النوم Sleep deprication centre و (2) العلاج التنشيط وخاصة: العدو المثابر Persistent running.
ففى العلاج الأول، يحدث اختراق لطبقات الوعى السائدة، وذلك حين يحال دون التبادل بين وعى اليقظة ووعى النوم بأن يستمر المريض مستيقظا (مع المعالجين بداهة) ليلة يوما فيوما، فليلة فيوما، وهكذا …، حتى يحدث هذا الاختراق الذى يعلن بتفجير وعى النوم فى وعى اليقظة، ألا فى تحريك ما فى اتجاه ابداع ما، يهييء لولاف وعيى تكاملى أعلي، من خلال استيعاب هذا الاختراق بما يليه من تأهيل وتنشيط، وأثناء هذه الخبرة، يهتز الضلال فيما يهتز الوعي، ومع اهتزاز الضلال يتبين أنه متخلخل للوعى كله، وليس مجرد فكرة خاطئة ظاهرة، وحين يتخلخل الضلال، مع تخلخل الوعى يصبح أقرب الى التجاوز (وليس الاقناع، أو يسقط لعدم الحاجة اليه ما دام الوعى الجديد قد نشأ بمحتواه الجديد، وحتى لو ظهرت الفكرة الضلالية بعد خبرة تخلخل الوعي، فانها تظهر منهكة خالية من رسوخها ووهجها، وكأنها بقايا ذكراتية أكثر منها موقفا شاملا غائرا.
أما فى علاج التنشيط، ومثال ذلك العدو المثابر، وخاصة العدو الهرولة (لا السريع ، ولا التنافسي، ولا المنتظم الراتب) فاننا لاحظنا أن الضلال يتعتع (ويتخلخل) بقدر نجاحنا فى فك تصلب الجسد من ناحية، أو اقتحام نمط الحركة من ناحية أخري، ولا يصلح هذا أو ذاك الا اذا ظهرت من المريض مقاومة خاصة لا تتناسب مع زعمه بتعب وانهاك لا يبررهما، أى قياس فسيولوجي، أى أن هذا الغرض لم يتحقق فى كل حالة ضلال، وكأن المسألة تتوقف على ما اذا كان الوعى المصاحب للضلال (أو قل بلغة أصح: المنغرس فيه الضلال وهو هو الوعى المتغلغل فى الجسد أم أن التنشيط الجسدى يجرى وعى آخر، وحتى لو كان النشاط الجسدى يجرى فى وعى آخر، فان المعالج قد يستطيع أن يتجاوز ذلك فى حوار[10] علاجى نشط حتى يلبس الضلال فى “الجسد / الوعي” حالة كونه نشطا، وهنا تبدأ المقاومة وتترجح الخلخلة.
فالمسألة اذن تحتاج الى تحديد واع لكل مريض على حدة، واختيار دقيق للمعالج، ورصيد لتبادل حالات “الوعى فى الجسد”، مع تحديد فلبس الضلال فى كل آن، يسرى هذا على علاج الحرمان من النوم وعلى علاج التنشيط الجسدى[11].
(5) الأبعاد الفارقة لما هو ضلال
اذا كان الضلال اذن هو: حالة من الوعى الجسدى ذى المظهر الفكرى فى شكل معتقد خاطيء، وكان هذا هو الحال بالنسبة للمعتقد المفهوم الراسخ (الدينى عادة أو الايديولوجى أو الطبقى أو التخصصى … إلخ) فإننا أحوج ما نكون إلى تحديد الحد الفارق بين الاثنين من أبعاد أخرى بالاضافة الى بعدى “الخطأ” “والعجز عن التصحيح”، وذلك قبل أن نقدم على خلخلة الضلال لمحاولة ازاحته أو كف اعاقته أو تجاوزه أو استيعابه، فنحدد ذلك على الوجه التالى:
(أ) ان الضلال ينبغى أن يكون معلنا فى الشعور[12] (الوعي) فى شكل فكرة (أساسا) أو سلوك مرصود.
(ب) ان الضلال لكى يكون ضلالا، لابد أن يبعدنا عن الواقع، ويحل محله عادة.
(جـ) انه يغنى – عادة – عن الناس (الآخر) بمعنى الموضوع الحقيقيReal Object وان كان يظل يستعمل الناس فى اطار منظومته ولخدمتها.
(د) انه يجمد النمو، وهذا ما عنيناه بتصلب الشخصية) وكأنه بتلبسه فى الوعى بالجسد مع قطع المواصلات مع الواقع والآخر، يوقف الحركة المرنه والتغير النوعى ويستبدل بهما الحركة الدائرية أو الاغتراب التسوياتى Comporomised alienation.
(هـ) انه مغلق فى مواجهة أى جديد، سواء ان كان الجديد هذا هو منطق آخر (وهذا ما نعنيه بعدم امكان تصحيحه فكرا بالمنطق (السليم) أو حوارا مع آخر، وخبرة أخرى…الخ.
(و) انه معيق.. [فى أى مجال من المجالات السابقة وغيرها].
(6) المواجهة العلاجية مع الضلال.[13]
مما سبق، ظهر لنا ان الضلال لا يصير كذلك لمجرد انه معتقد خاطيء، وانما لما يترتب عليه من اعاقة وتجميد وعزلة، (ونضيف، هنا: وخطر – فان تمادى الخطأ فى اطار سلوك منطلق لا يحده واقع ولا يعدله آخر.. قد يترتب عليه ايذاء فعلى فى شكل جريمة مثلا أو ما يعادلها).
1- وأول قواعد المواجهة مع الضلال هو أن نحدد ما يميزه.
2- ثم تأتى بعد ذلك خطوات العلاج وأهدافه بحسب التعاقد المعلن والخفى مع المريض وأهله والمجتمع من جهة، ومع الطبيب والمساعدين والوسط العلاجى من جهة أخرى.
ولا يكتفى بالرفض المبدئى المعلن من خلال التمسك بالخطأ لنزعم أن العلاج يتم برغم المريض، لأن ثمة تعاقدات أخرى تتم حتما بناء على افتراضات ضمنية تقول:
1- التمسك بالحل المرضى (الضلال) ليس مطلقا لأنه يحمل مقومات فشله (العزل، والوحدة، والاعاقة، والتهدئة..الخ).
2- إن المريض يحتاج إلى من يدرك ضرورة تخطى مقولة الخطأ فى مقابل الصواب، وكأنه بمجرد أن يدرك أن المسألة (العلاقة) تجاوزت محاولات الإقناع، فإنه يفتح أبوابا أخرى لتعاقدات أخرى.
3- ان داخل كل مريض ضلالى نداء ملح يقول “لا تصدقونني، ولكن انظروا الى ما اضطرنى الى أن اختار هذا الموقع المتفرد محتميا بهذا المعتقد الراسخ”.
ونستطيع أن نسمى هذه المرحلة باسم مرحلة “التعاقدات” المتعددة المستويات; باعتبار ان المستويات المطروحة هى:
1– مستوى الرفض اللفظى (الفكري): بل أنا على صواب وأنتم لا تصدوقنى.
2- مستوى العناد الشخصى: لن أكون أنا اذا تنازلت عن رأيى / معتقدي، فهو ليس فكرة، ولكنه أنا.
3– مستوى الشك التحفظى: وماذا عندك لى اذ أنا تنازلت عن معتقدى.
4- مستوى الاستنفاذ الخفى: اياك ان تصدقنى فتزيدنى وحده.
5- مستوى الشروط الخفية: هيا نجرب على شرط الا تتركنى..
6- مستوى حتمية المغامرة المجهولة: مستعد أن أخطو اذا لم يكن ثمة طريق آخر، ولكن كيف؟ ومع من…….. الخ.
(3) بعد مرحلة التعاقدات المتعددة المستويات[14] هذه، (ومعها تنتقل المواجهة العلاجية الى تحديد وظيفة الضلال الآتية، فاذا كان الضلال قد اكتسب صفته المرضية من مؤشرات الاعاقة، والعزلة، والتجمد، فانه يكتسب شرعية وقوة يقينه من وظيفته ودلالته .
وللضلال وظائف عديدة لا مجال لتعدادها هنا، وان كان يجدر بنا ان نذكر أن أهمها هو “تماسك الشخصية”، و “حماية الذات” (لاستمرارها ذاتا، بأى نوعية كانت)، ثم يلى ذلك وظائف مثل اعلان الاستقاذ…، ووظيفة صيحة التحرر… الخ.
وأهمية “فهم” معنى ودلالة الضلال، هى ألا نسارع بالتخلص منه على حساب ما يؤدى من وظيفة، بل علينا أن نقدم للمريض – بديلا عن الضلال، مما يمكن أن يقوم بنفس الوظيفة بطريقة أكثر واقعية وأنفع تكاملية، فمثلا يحل “الآخر” المتقبل والرائى والمحاور والمطارد – دون سحق – محل ضلال الاضطهاد والاشارة، أو يحل الفخر بحيوية الوجود الشخصى المتفرد بتوثيق العلاقة بالحياة، وموضعة (جعلتها موضوعية) المكاسب اليومية البسيطة، محل ضلال العظمة.. وهكذا.. وينبغى أن يتقدم البديل العلاجى وهو متضمن داخل التعاقدات المتعددة المستويات، ومن البداية، وقبل ومع الخلخلة فالتمثل، والازاحة فالتأجيل.
وهذه المرحلة لا تحتاج الى “تحليل نفسي” ذكرياتى طويل، [وان كانت المعلومات عن المريض بمايتعلق وموقع الغرائز والعلاقة مع الآخرين تفيد تماما] ولكنها تحتاج الى فهم “تركيبي” و “غائي” مباشر.
(4) مرحلة الخلخلة (للتمثل).
فى الحالات المناسبة، وبعد وضوح واتمام المراحل الأولى (والتى قد تستغرق ساعة أو بضع ساعة حتى تصل الى عدة أيام أو عدة شهور أو لا تتحقق اطلاقا: حسب المريض وحسب المعالج !! يمكن التقدم الى محاولة خلخلة الضلال من خلال ما ذكرنا من علاجات اختراق الوعى (الحرمان من النوم) أو علاجات هرولة /انهاك: الجسد (ملتحما بضلالاته).
وسوف نشير هنا الى بعض مظاهر هذه الخلخلة فى اطار علاج التنشيط بالجسد، ويمكن أن نفترض بحسابات دقيقة أيا من المرضى يمكن أن تتعتع ضلالتهم، وبأى جرعة تنشيط، وذلك قبل بداية المحاولة.
كما يمكن اعتبار أول “جولة تنشيط” هى بمثابة اضافة الى التشخيص التركيبي، أى أن تفاعل المريض أثناء النشاط هو الذى سيدل على ما اذا كان الضلال حاضرا فى هذا “الوعي” “الجسدي” أم انه مزاح، فى وعى مواز، جاهز للإنقضاض على الوجود الجسدى فور تخلصه من النشاط الآنى (بعد انتهاء الجولة مباشرة) ومهما كانت نقطة البداية (تشخيصا مبدئيا، وتجريبا استطلاعيا) فان الفرصة متاحة من خلال واقع استجابة المريض وتوقيت مقاومته وتغيير وعيه… الفرصة متاحة للمراجعة واعادة التشخيص وضبط الجرعة…الخ.
ونستطيع أن نحدد بعض معالم اكتشاف الضلال “فى الجسد/ الوعي” ومن ثم العمل على خلخلته من خلال التنشيط الجسدى بالانتباه الى (مثلا):
(أ) الانهاك المبدئي، والسريع، والمتصاعد (دون تفسير فسيولوجي).
(ب) ازدياد المقاومة فجأة، وبتحد، لا يفسره أى مظاهر سلوكية أو ظاهرة.
(جـ) تغيرات الوجه والعينين نحو التنويم الذاتي، أو نحو الافاقة الاضطرارية مما يشبه التنويم.
(د) سرعة عودة ظهور المقاومة حتى بعد اختبار الراحة (لو حدث ذلك)
[وغير ذلك مما لا مجال لتفصيله الآن].
(5) مرحله الاستيعاب والتمثيل (وبدائلها التسوياتيه) اذا صدقت الخلخله ولو بجرعة تنشيط واحده (أو جولة حرمان من النوم واحده) وجب التواجد المحيط بجرعة مسئوله لامكان الاستفاده من خلخله الضلال – دون تناثر الشخصيه وللقيام بمهمة الاحلال الصحي، وفى النهايه للسماح باستيعاب مفردات الخبره فى كليه الوعى المتكون من جديد.
وهذا هو اروع ما يمكن الخروج به من هذه الخبرة، لانه يجعل المريض يمتلك خبرة الضلال لصالح نمو الشخصيه ، ويضمن بذلك عدم عودتها – كما هى على الاقل.
ولكن هذا الهدف بعيد المنال عادة، ثم انه يحتاج الى وقت طويل لاحق. حتى لو لم يجر فى هذا الوقت علاج نشط مكثف لان تمثل ناتج الخلخلة يحتاج لمسار طويل وجرعه واقع مناسبه ومتصاعده مع جدل حيوى متصل.
وحتى يتم ذلك فان الضلال قد يفقد رسوخه وقد يتحول الى فكرة خاطئة، او ذكرى عزيزة (أو غير ذلك) لكنه لا يعود بنفس درجة التداخل فى الجسد الوعي، ولا تعود له نفس وظائفه الملحة القديمة.
كما قد يحدث حل آخر، وهو ان ينتقل الضلال الى اللاشعور (كما هو وهذا يشككنا فى درجة الخلخلة، ويصير الضلال ذا مفعول غير مباشر فى شكل حيل نفسية (ميكانزمات) ومواقف سلوكيه تصف اضطـراب الشـخصيه النمـطى المتحـدى عاده وهذا حل وسـط، وفيـه تخـتفى الأعـراض (الضلال) لكنه ليس هو غاية مثل هذا العلاج المكثف، وان كان على المعالج ان يرضى به حتما، وان كان رضاء مؤقتا فى انتظار جولة قادمة.
(6) هامش حول العلاجات العضوية
(الكيميائية والفيزيائية)
اذا كان الأمر كذلك، فاين تقع العلاجات (الكيميائيه) لما هو ضلال، وكيف يمكن تفسير اختفاء الضلال بجرعة من هذا الدواء او هجمة من ذاك الجهاز؟
وفى ذلك نقول:
(1) ان الكيمياء (وخاصة العقاقير المهدئه العظيمة) نهدئ النشاط، البدائى خاصه ومن ثم تنقص الطاقه اللازمه كوقود الفكره الخاطئه الظاهره (الضلال)، فتختفى او تفقد شحنتها فتهمد قليلا أو كثيرا.
(2) ان التنظيم الكهربائى بجرعه قصيرة وشاملة (بما يسمى خطأ الصدمة الكهربائيه) قد يساعد فى اخفاء الضلال باتاحة الفرصه للتنظيم النيورونى الاحدث والأقرب الى الواقع للقيام بضبط النشاط البدائى.
لكن كيف يكون هذا وذاك كذلك، مع سبق قولنا ان الضلال ليس فكرة تصدر من المخ، وانما هو وجود ملتحم بالجسد الوعى؟ وهنا:
(1) لابد ان نفرق بين اخماد اعلان وجود الضلال، وبين خلخلته لاستيعابه.
(2) كذلك ينبغى أن نشير الى انه لا الكيمياء المهدئة [15] ولا الكهرباء المنظمة، قادرة على ازالة الضلال المزمن الذى اصبح جزءا لا يتجزا من الشخصيه الشاعرة (وليس من اللاشعور فحسب).
(3) ثم نتذكر ان الكيمياء قد تساعد فى ضبط الجريمه ، وخاصه بعد الخلخلة بالتنشيط الجسدى او اختراق الوعى بحرمان النوم، على ان ضبط الجرعه غير اخماد الطاقه تماما بداهة .
(4) كذلك فان استعمال التنظيم بالكهرباء قد نلجأ اليه مرة او اكثر ، فى مناسبات محسوبة أثناء الاستيعاب أيضا (التأهيل بعد الخلخلة) وكل هذا يحتاج الى خبرة واقعيه ، وممارسة مسئولية وتفصيل ليس هنا مجال .
7 – الخلاصة
1- الضلال هو اللفظ الأفضل لوصف هذه الظاهرة المرضية المقابلة للفظ Delusion ولا ينبغى استعمال لفظى الهذاء، ولا الهذيان.
2- ولا يوجد فرق بين الضلال والمعتقد (أو المفهوم) من حيث التركيب والتماسك.
3- ولا يكفى للحكم على الضلال بأنه كذلك: بمجرد الحكم عليه بالخطأ، أو بمجرد العجز عن تصحيحة.
4- ولكى يكون الضلال ضلالا، لابد من التاكد من غرابته واستحالته، واعاقته، وافسادته، وعزلته، وجموده (وليس مجرد خطئه) واحتمال خطورته.
5- والضلال ليس مجرد فكرة خاطئه ( معقلنه ظاهرة)، ولكن الفكر الخاطئ هو قمة ظاهرة الخبرة غائره فى الوعى والجسد معا، فالضلال هو حالة من الوعى الجسدى ذى المظهر الفكرى فى شكل معتقد خاطئ.
6- ان علاج اختراق الوعى (بالحرمان من النوم) {تفجير وعى النوم فى وعى اليقظة} أو علاج خلخلة الجسد/ الوعى بالتنشيط البدنى المثابر غير المنتظم….يؤديان – فى حالات منتقاة- الى خلخلة الضلال، ومن ثم الى احتمال استيعاب وحداته فى وعى جديد متخلق – أو احتمال ازاحته واخفائه الى حين.
7- ان العلاج الأعمق للضلال يشمل عدة مراحل تتطلب مستويات تعاقدات متعددة، واحلال ما (من) يقوم بوظيفة الضلال (دون ضلال محله، ثم خلخلة تصلبه ومحاولة تمثل وحداته، مع ما يمكن من مساعدة محدودة ومضبوطه من التدخل بالكيمياء أو التنظيم بالكهرباء حسب كل حالة فى كل مرحلة.
[1] – أ.د. عبد العزيز عسكر أول أستاذ للطب النفسى فى الجامعات المصرية (كلية الطب قصر العينى جامعة القاهرة) 1906 – 1977.
[2] – دليل تشخيص الأمراض النفسية (1979) الجمعية المصرية للطب لنفسى (القاهرة) ص 22.
[3] – وليم الخولى (1976) الموسوعة المختصرة فى علم النفس والطب النفسى. الهيئة العامة للكتاب. القاهرة. أحمد عكاشة (1980).
[4] – أصول الطب النفسي، مكتبة الأنجلو المصرية.
[5] Doros Alphabet de Psychiatric.
[6] – ما بين القوسين من عندنا توحيدا لمصطلح مع اضطرارنا للاحتفاظ بالنص الأصلى.
[7] – Karl Jaspers 1963 Tr.(1932) Gen. Psychopathology.
[8] – الرخاوى (1979) دراسة فى علم السيكوباثولوجى.
ما بين أقواس هو إضافة للنص مستقاة من السياق الكلى فى المرجع بما يوضح السياق.
[9] – قد يكون فى طقس التناول عند المسيحيين ما يشير الى علاقة الكلمة بالجسد وكذلك قد يكون فى معنى الحديث ‘…. خلط الايمان بلحمه ودمه، ليس للنار فيه نصيب’ معنى هذا الاندماج بالجسد الذى نريد توضيحه.
[10] – لا نعنى هنا بالحوار تبادل الكلام، ولكن مواجهة كيانات بكل وسائل التواصل.
[11] – لا يقتصر علاج التنشيط الجسدى على ‘جرى الهرولة’ المثابرة، وانما يشمل أيضا (1) الرقص (وخاصة غير الفنى وغير الملتزم) (، 2) العمل الجسدى (لا اليدوي) غير المعتاد (3) المشى النشط بخطوة غير معتادة فى صحبة آخر مواكب ممارس لنفس النشاط طول الوقت غير معتادة.
[12]- يشير الرخاوى (1979) الى حتمية وجود معتقدات، راسخة، وثابتة، وغير واقعية، وخاطئة فى داخلنا، ونحن لا ندرى عنها شيئا، ومن خلال ذلك يعلن أن ما يسمى ‘الحيل النفسية’ Defonsive mechanism (مثل الكبت والاسقاط والتبرير … الخ) انما يشمل تكوين منظومات ضلالية على مستوى اللاشعور، (انظر دراسة فى علم السيكوباثولوجي).
[13] نقصد هنا بوجه خاص الحالات التى يمثل الضلال فيها المحور الأساسي، أو المحور الوحيد، وهو ما يسمى أحيانا بحالات البارانويا، أما الحالات الأخرى التى ‘بها’ الضلال كعرض مشترك مع أعراض أخري، أو كمظهر جانبى يصبغ جزئية متناثرة من تركيب فصامى متفسح، فان هذا التناول العلاجى قد يلجأ اليه المعالج فى مرحلة لاحقة بعد لم التفسخ بدرجة تسمح بمواجهة الضلال لذاته كخطوة علاجية جوهرية.
[14] – - عمق هذه التعاقدات وصدقها هو الذى يفرق بين خلخلة الضلال أو ازاحته، وبين ما يسمى غسيل المخ مما لا مجال له فى العلاج الحقيقى أصلا.
– يقول ياسبرز: (ص196): ‘يمكن أن نفهم من المحتوي، كيف أن المعتقد الضلالى يمكن أن يحرر الشخص من أمر لا يحتمل…’
ثم يضيف:’ولكن اذا كان علينا أيضا أن نحاول أن نجعل تكوين الضلال فعلينا، وكذلك محتواه، فى متناول الفهم، فان تشخيص أى ضلال (على أنه ضلال) يصبح مستحيلا…’.
[15] – على ان ثمه كيمياء مخلخله مثل عقاقير الهلوسه وان كان استعمالها خطر، وسئ، لأنها خلخلة مصطنعة بلا تعاقدات علاجية ولا تأهيل بعدى…. الخ.