الحداثة
بينى حرير الإنفراد وشوك المشاركة
أحمد زرزور
- 1 –
الذين يتحلقون شجرة الشعر العربى – عموما – وغصنها المصرى خاصة – تنتابهم رعدة خفية، تتحول شيئا فشيئا إلى خشية قوية تهجس باحتمالات مصيرية مؤلمة لا تقف عند حد اصابة عشاق الشجرة باليأس من ديمومة الاخضرار المبدع; وبالتالى: الانفضاض من التفاهم الخالد حولها، ولكنها تكاد ترهص بتدمير القصيدة ذاتها كأبداع عريق له ثبوتيته فى الذاكرة العربية وذلك بالنظر إلى واقع الحياة العربية فى شمولها التراجيدى المتسمم بالفوضي، المزهو بالتناقضات، والمستغرق فى انسحاق روحى مميت، فكيف يزدهر الإبداع – فى كليته – وسط هذه الحالة من التيه والضلال اللذين يكتنفان الوطن وهو يتخبط فى تلابيبه المشبوكة بالمسامير متعددة الجنسيات!؟
- 2 –
ليكن معلوما – إذن – أن أزمة القصيدة العربية الحالية: لا ترجع إلى مبدعيها فقط ; بل انها تعود فى الأساس إلى الغياب النقدى وبالتالى الغياب الجماهيرى المؤثر، صحيح أن هناك حضورا نقديا كميا، ولكنه حضور سكونى جامد يستهلك مقولاته المدرسية أو المذهبية; والتى مازالت تتنفس هواء سحيقا لاينتمى إلى واقع ظواهر التطور التحديثى فى الفن عموما، والقصيدة خصوصا، الأمر الذى يساهم فى تكلس الذائقة الاستيعابية للشعر لدى الجمهور بحيث يحول دون الحضور الحقيقى الفاعل للمتلقين الذى بدونهم لا تكتمل الكتابة الشعرية.
وطبيعى أن أزمة القصيدة ا لعربية هى التجسيد البارز لأزمة الذهنية العربية التى هى جماع الأزمة العربية فى جوهرها، ومن ثم فالقضية هى وطن الأمل الذى نتوسم فيه ألا يفقد حلمه بالتجاوز الخلاق لبرودة وملالة حاضر المهانة والتخلف والاتباع، وهى المؤهلة وحدها لقيادة العقل العربى الذى تأسس على الاعتداد التاريخى بالشعر وقت أن كان ديوانا للعرب . . .
- 3 -
وليس هناك من شك أن القصيدة العربية الجديدة تعانى صراعا حادا يرفرف بجناحيه الكئيبين على مخاضها الصعب; هذا المخاض الذى يجاهد . . فى مشقة بالغة – من أجل ذرح جنينه الخاص الذى يحمل قسماته هو، بتفردها وتميزها، فى نفس اللحظة التى تمارس فيها – هذا الجنين الشعرى – اتصاله وشرعيته بالانتماء الأصيل لسلالة الشعرية العربية فى جوهريتها ..
ما الذى يحدث – إذن – فيعطل هذا الميلاد الجسور؟!
وما هذا الصراع الحاد الذى يرفرف بجناحيه الكئيبين على مخاض القصيدة الصعب ؟!
لننطلق – بداية – من العالم إلى الخاص، فنقول أن حركة شعرية فى العالم لم نتعرض لتداخل والتباس واختلاط المعايير مثلما حدث ويحدث للحركة الشعرية العربية المعاصرة، حيث نصطدم شعراء / نقادا / متلقين بالممارسات الشعرية / النقدية / الاستيعابية المتضادة والمتصارعة والمتباينة تماما، وليت الأمر يقف عند مجرد اختلاف الاتجاهات والعقائد الفنية، لكن الذى يحدث – مع شديد الأسف – أن التراشق الذى يبدأ شعريا / نقديا / ثقافيا ينتهى اتهاما بالعمالة والتبعية الى حد التخوين!
وسط هذه المهاترات الفجة; تجاهد ترحم الإبداع الشعرى الطليعى الشاب من أجل ولادة تفض هذا الاشتباك المريب، وحسم الموقف برمته فى اتجاه المستقبل انطلاقا من الحاضر ودون القطيعة مع الماضى – وفى نفس الوقت دون الوقوع فى براثنه….
هكذا نعتقد، وهكذا نظن الولادة الشعرية الجديدة، مع التأكيد على أننا لانتحدث هنا عن نموذج جاهز حاضر كامل، بل عن تجربة تسعى للتشكل، من حقها أن تكون لها فرصتها، وهكذا هو واجب عشاق القصيدة; فماذا كانت النتيجة؟!
لقد تحالفت الأضداد ضد القصيدة الشابة التى يمارسها ما اصطلح على تسميته بجيل السبعينات العربى والمصري، ومن العجب أن هذا الموقف العدائى يشتد أواره جليا وواضحا وشرسا فى مصر أكثر من غيرها: حيث يتكتل كل من حراس القصيدة التقليدية فى نزعها الأخير، وورثة قصيدة التفعيلة الصبورية / البياتية / السابية فى مواجهة تجربة مغامرة مقتحمة تبحث عن التفرد والتميز وضخ دماء جديدة فى شرايين شجرة الشعر..
– 4-
ومن المشاع من الاتهامات المتداولة التى تتعرض لها القصيدة السبعينية / قصيدة الحداثة: الغموض والاتكاء على روافد شعرية ثقافية تتمحور فى جوهرها على “الأدونيسية” وعلى تجربة ” قصيدة النثر” التى دشنتها مجلة “شعر” اللبنانية، أما الاتهام الأكبر – وهو نتيجة لما سبق – فهو مسئولية القصيدة الحداثية عن انفضاض جماهير الشعر عن الشعر فى المرحلة الراهنة بل والمستقبلية أيضا! ولسنا هنا فى مجال بحث هذه الاتهامات، فهذه مسألة أن تحسمها براعة الخطاب الدفاعى التبريرى الذى ما أسهله، وذلك أن انتزاع “حق المواطنة الشعرية” التى تستحقها قصيدة السبعينات، هو رهن بانجاز ابداعها المتفرد الذى يحدد موقفه من العالم والانسان ودراما الحياة متسلحا – فى مواجهة الاجابات الرتيبة الجاهزة والقاصرة – بحداثة الاسئلة الأعمق التى تفجر الاستقرار العربى الكاذب وطنا / فردا … نقول لسنا هنا فى مجال الدفاع عن التجربة الشعرية الجديدة التى لا تزال تتخلق يوما بعد يوم، ولكننا نود أن نفتح حوارا مخلصا مع أصدقائنا وزملائنا من مبدعى السبعينات الشعراء فنسألهم: هل تعتقدون حقا أنكم سائرون على الطريق الصحيحة لتجسيد الحلم؟
– 5 -
سنسلم معكم بأن هناك عداء نقديا يتحرش بكم لأنكم خارجون على أقانيمه، ولن نختلف كثيرا حول ظاهرة الاستياء والنفور التى تنتاب من قبلكم من شعراء المراحل السابقة أو المتواجدين معكم، فالأسباب معروفة – دون القاء التبعة كلها على طرف واحد – غير أننا نود أن ننظر الى الداخل / داخل تجربتكم – تجربتنا الشعرية، حيث يمكننا – دون سوء نية – فنحن – معا – داخل هذا ” الداخل” الشعرى: أن تضبط بعض الظواهر المرضية فى حالة تلبس وهى تكاد تقصم ظهر الحلم الشعرى المتوثب الذى ننتظره متجسدا حيا وموهوبا…
أن المكاشفة الصريحة المترعة بالمحبة، هى الكفيلة بانجاز المواجهة الشجاعة الذاتية مع النفس تصحيحا للمسار ودعما للتجربة، ولعل أهم ما يمكننا الامساك به من ” ظواهر السلب الداخلية” يا أصدقاء: هو تفشى ظاهرة الاعجاب “بالأنا” – ” والأنا” وحده – تمثلا للمقولة السارترية”:” الجحيم هم الآخرون” …!!
ولن نكون فعالين اذا فسرنا أو استنبطنا هذه الظاهرة الصاخبة ” ظاهرة الغناء فى حمام القصيدة” وقلنا أن شبقا عنيفا ومتوترا يتملك كل “أنا شوية” جديدة لاهثة وراء الانفراد ” بريادة الحداثة المصرية” والاطاحة “بالأغيار” الذين هم شركاء التجربة، ونستطيع أن نتحدث هنا عن جلسات النميمة والغيبة فى المقاهى والغرف المغلقة، وعن سوء النية الأغلب الذى يلون كل – أو معظم – القراءات الانطباعية النقدية التى يمارسها أحدنا من زملاء التجربة لأعمال الآخرين من نفس الموجة، بحيث أصبح من المتعذر العثور على ممارسة موضوعية جادة ومتجردة من هذا القبيل، الأمر الذى يقابله بالتالى توجس جاهز من “تصفية الحسابات” المرضية، الى أخر هذه الحساسيات المضخمة التى تنسف الطموح الجماعى بتأسيس حركة شعرية حقيقية تصبح رصيدا رائعا لاثراء التاريخ الشعرى العربى والانساني، وقد غاب عن زملائنا أن زمن الرائد الفرد أو النجم الأوحد الثاقب / الساطع أو “البطل المعجزة السوبرمان” لم يعد زمنا حقيقيا ينتمى الى حركة العصر، أن لم يكن مشكوكا فى سبق حدوثه يوما…!
نحن أمام عصر العمل الجماعى / بل نحن فيه، ومن ثم فليس باستطاعة أى تيار فنى ابداعى جديد أن يحقق نفسه بعيدا عن المشاركة الجماعية شرط توفر القواسم المشتركة من الهموم الواحدة المتفاعلة فى غير ما” تنافر أو تنميط”……
صحيح أن مبدعا قويا من هذه الكوكبة أو تلك، قد يتمتع – جهدا أو لظروف ومواصفات معينة – بحضور شخصى غير منكور، ألا أنه ومهما كانت درجة الاستطاعة الابداعية المتوفرة لديه: كبيرة / متميزة، لا يستطيع وحده القيام بشرف مسئولية تأسيس تيار ابداعى جديد يفرض حضوره الباذخ على ساحة ما، فى زمان ومكان ما …..
- 6 -
لكى ينمو هذا الحلم بحداثه حقيقة قوية، حداثة الفعل الجماعى المتصل والمتفرد معا، ولكى نتابع – باطمئنان وفرح – فراشتكم /فراشتنا الفولاذية وهى تقتحم ” زجاج التهيب والجمود والرتابة” فى حياتنا الشعرية والأدبية، علينا أن نكسر “زجاج أحلام اليقظة الفردية” كى تتحرر شرانق القصيدة / الوطن من حرير ” الانفراد بريادة الحداثة” إلى أشواك المشاركة الجماعية النبيلة فى صنع وتأسيس هذا البديل المتحدي، والا تكسرت العصى فرادى!