مقتطف وموقف
حرية التفكير … وفعل الفلسفة فى مواجهة:
الدولة، والدين، والسياسة، والجامعة
(المقتطف من : ” شوبنهار” تأليف: د. عبد الرحمن بدوى وكالة المطبوعات (الكويت)
” دار القلم – بيروت: لبنان” ([1])
يقول المقتطف:
* …… فــــ ” ليبنس” لم يكن حرا فى بدنه، وأخشى أن أقول أيضا فى روحه، لأنه كان خاضعا للدولة، وخاضعا للكنيسة معا: زج بنفسه فى السياسة الأوربية، فاكتوى بنارها، شأن من يفعل فعله من المفكرين دائما …، و ‘كنت’ خضع لشيء آخر صار من بعد – خصوصا فى أيام هيجل وعلى يده – تنينا لا يقل خطرا كثيرا عن التنين السابقين (الدولة والكنيسة) ونعنى به الجامعة … فقد كانت هى الأخرى … مصدرا لسلطة من أشد السلطات قسوة فى مصادرة حرية الفكر، وهيجل جمع فى صدره كل هذه القيود:
قيود الدولة والكنيسة والجامعة، فاختنق أو كاد….
* …. فكل ما يجب على المفكر أن يطلبه من الدولة هو أن يقول لها ‘لا تمسيني’; وكل ما يجب على الدولة أن تطلبه من المفكر أن تقول له دعنى أسألك سبيلى كما أريد.
. . ..
*…. وهذا الرأى فى الساسة، كما يلاحظ نيتشه، رأى يمتاز بسمو عقلى عند المفكر لأن المفكر الذى يكرس نفسه للالهام الفكرى الفلسفى لا يبقى مجالا فيها لأى الهام سياسى، فخليق به أن يدع السياسة والحزبية، لأن كل تدخل فى السياسة من جانب غير الموهوبين سياسيا، فيه للدولة افساد شديد.
* وواجبها (الدولة) هى أن تدعه (المفكر) وشأنه فلا تحفل بأمر من أموره، ففى اهتمام الدولة بالفلسفة خطر عليها، أى الفلسفة، ما بعده خطر، وما يسمونه ‘حماية الدولة’ الفلسفة هو فى الواقع حكم على الفلسفة بالاعدام … كما ان الدولة اذا جعلت لنفسها فلسفة رسمية، فسيكون لها وحدها الحق فى اختيارها، أى أن الدولة ستضع نفسها موضع الحكم الذى يستطيع أن يميز بين الفلسفة الجيدة والفلسفة الرديئة …، يضاف إلى هذا أن تخص فلاسفتها المختارين بمراكز معينة، عليهم فيها أن يؤدوا عملا نحو طائفة من الناس بأن يكونوا أساتذة فى الجامعة مثلا، فقل لى بربك من هو هذا الفيلسوف الذى يستطيع أن يقول لطلابه شيئا جديدا كل يوم؟
* فالمبدأ الذى يستخلص .. هو أنه لا يمكن للمرء أن يجمع فى نفسه بين الفلسفة الحقة وبين التدريس فى الجامعة، وأن لما يحدث ‘لفيشته’ لعبرة … فقد غض النظر عن معتقدات الدولة وهو يضع مذهبه الفلسفى الخاص، فكان جزاؤه الطرد من الجامعة ونقمة الشعب عليه …. ولكى يتمكن من العودة إلى الجامعة اضطر إلى تعديل مذهبه بما لا يتلاءم مع هذه المعتقدات: فوضع مكان ‘الأنا المطلق’ … ‘الله المعشوق’.
ومن منا لا يذكر هذه النغمات المؤثرة التى بكى بها رينان على حظ فكتور كوزان و .. كوفييه فى مقدمة كتابه ‘ذكريات الطفولة والشباب’ لقد أفسدت الدولة عبقرية كوفييه وخنقت روح كوزان المتوثبة…، وفرضت الفلسفة الجامعية على الفكر الفرنسى، فسلبته كل حرية وابداع.
…………..
*( كما) أن “كنت” لم يكن فى محاضراته يدرس مذهبه الخاص، بل فصل تماما بين كنت الفيلسوف وكنت الأستاذ، وشتان بينهما، فانه لن يفترق حينئذ فى شيء عن أى محصل لمعلومات قديمة ميتة، يلقيها على المستمعين جامدة ميتة كذلك، وأحسن ما يقال عنه حينئذ أنه عالم قدير.
(انتهى المقتطف)
الموقف:
يثير هذا المقتطف (من ص 6 إلى 14) عدة قضايا تلح علينا، أو ينبغى أن توقظ لتلح علينا، وخاصة هذه الأيام (1987) !! (باقى 13 (إلا ..) على سنة “2000!!!” نستطيع أن نحددها فى التالى:
فنبدأ من البداية
اذا كانت هذه القضايا قد تناولها الفكر عبر عصور التاريخ، واذا كانت قد مثلت فى وعى المفكرين بهذا الوضوح والحدة كما تأكدت عند شوبنهاور هكذا (فيما أورده عبد الرحمن بدوى)، فأين هى الآن، وماذا حل محلها، وكيف؟: أين هى على مستوى العالم؟ وأين هى على مستوى العالم العربى؟ وأين هى فى مصرنا الآن؟ وأين هى عند الشباب المتدين والمتمركس على حد سواء؟ بل وأين هى عند الشباب المتوظف ([2]) والمتسلسل ([3])؟ نتراجع ونتواضع ونختزل المسألة إلى مصرنا، هذه الأيام، فى مجالى السياسة والجامعة أساسا، والنشر الثقافى بدرجة أقل، ونتخذ لنا موقفا يقول:
أولا: ان كلمة الفلسفة لم تعد مرادفة للتفكير أو بتعبير أدق لــ ‘فعل التفكير ‘ (ولا أقول: للفكر، ولا للتجريد فكلاهما ليس فلسفة بالضرورة)، وترادف استعمال ألفاظ الفيلسوف، والمفكر عند عبد الرحمن بدوى لا ينبغى أن يستدرجنا إلى تصور أن الفكر هو تلك الفعلنة التجريدية أو الموسوعية، فناقل الفكر، وحافظ الفكر، ودارس الفكر، ومراجع الفكر، ومصحح الفكر، ومفسر الفكر، كل هؤلاء ليسوا فى قليل أو كثير من المفكرين بمعنى القائمين بممارسة :”الفعل الابداعى المتجدد فى النظر الحى القائم: يعايش الوعى، بما هو حياة، وحين نقول أننا نفتقر إلى الفلاسفة، بل نتمادى فنقول أننا لا نسمح أصلا بظهور فلاسفة، فنحن لا نتهم أحدا، ولا نغمط أحدا حقه رغم كل شىء.
يقول أستاذنا توفيق الطويل([4]): ‘أن فى مجتمعنا العربى فلسفة جديدة لم ينشئها أصحابها من عدم لأن ذلك غير ممكن فى القرن العشرين، وإنما تشيع كل رائد من رواد الفلسفة الجديدة لمذهب معروف، وزاد فى عرضه أفكارا جديدة لتفنيد ما يقول خصومه تماما كما فعل آير (ألفريد آير) وغيره، ولسنا ندرى لماذا يعد الانجليز أمثال ‘آير’ فلاسفة جددا ونرفض نحن أن نعد رواد المذاهب الجديدة من العرب فلاسفة جددا؟ لم يضف أمثال (آير) شيئا فى أصول الوضعية المنطقية لكنه أضاف حججا وأدلة وهذا ما يفعله المشتغلون بالفلسفة من العرب حين يتشيع الواحد منهم لمذهب ما، ومن ثم أقول: لدينا فلاسفة عرب لا يقلون شأنا عن كثير من فلاسفة الغرب المعاصرين وبالتالى لدينا فلسفة عربية’. قالها أستاذنا الطويل بطيبة مشجعة، بعد أن أعلن أننا لا نقرأ جادين ، وأن المناخ الثقافى لا يسمح، ولا يحاور .. الخ، وأحسب أن تطييبه خاطرنا بهذه الكلمات هو دون أدنى متطلبات فخر الانسان بعقله، ووعيه، وحقه فى إعادة النظر، فنحن نعيش مرحلة هامدة، مقهورة، محدودة، محكومة، ولا يكفى أن نتشيع لهذا الفكر أو ذاك، فنحن – حقيقة وفعلا – ممنوعون من التفكير، صحيح أننا نبذل الجهد الكافى لاكتساب أدواته، لكن أدوات الفكر الأولى ليست مادته وأبجديته ولكنها أساسا هى حق التفكير (ونحن محرومون منه حتى فى الأحلام)، وهو حق زحفت عليه كل من السلطة الدينية والسياسية، ثم السلطة الأيديولوجية، فما بقيت لعقولنا أية مساحة للحركة أصلا، فمن أين تنشأ الفلسفة؟ ومن الذى يجرؤ على إعادة النظر، أميا كان أم خريج جامعة، أم أستاذا بها؟ حتى هذه المجلة حين فتحت باب الحوار، فتحته من شبهة التقاط الحكمة الملقاة على قارعة شطط العقل، وحين انتقل الحوار الى قضية المعرفة، والمنهج، فرحنا فرحا شديدا، وخفنا عليها وعلينا بنفس قدر الفرحة وأكثر، ثم يا سيدى ‘همس، هس’ – لم يعد يكتب لنا أحد شيئا فى ‘هذه’ المسائل لا جاد الرب، ولا محمد السماحى، ولا حتى محمد عبد السلام، وحين نراجع تاريخنا الحديث قد نلمح ارهاصات محاولة فلسفة، مثل: ‘وحدة المعرفة’ و ‘التعادلية’ من غير مختص (وربما كان هذا أفضل)، أو قد نلمح ‘الجوانية’ من مختص لم يتلق ما يثيره ليكمل، أو قد نلمح طرقا على باب لمحات انسانية([5])، فاذا ما بالغ أحدهم وقال بفلسفة أصيلة ‘الأجدوانية الوجدانية'([6]) (واشتط حتى اعتبرها الفلسفة الواحدة الوحيدة) أهمل حتى أنسى (بضم الهمزتين) فنسى. وهوامش أستاذنا زكى نجيب محمود على الوضعية المنطقية انتهت به (أو انتهى منها) الى انشقاق وسيلتين متوازيتين لما هو معرفة: العقل والقلب، ثم علت همساته الى أسطح طبقات الوعى ليستمر صوته منفردا على مستوى الصحف اليومية، فأين نحن بالضبط؟
ولماذا هذه المجلة ان لم تقم بدورها فى هذا المجال بالذات؟ وهل تقوم به بمناجاة نفسها، أم بالتقاط شذرات لنظريات فجة توهم أصحابها جدتها والحوا فى النشر دون اضافة أو مراجعة، وحين حاورناهم بقسوة يئسوا فانصرفوا؟
فهذا – من حيث المبدأ – ما أثاره فينا هذا المقتطف عامة من تذكرة عامة، بموقفنا العام، ثم نعود لمحتواه تفصيلا.
ثانيا: ينصح المقتطف – ربما للخروج من هذا المأزق السلطوى المانع لحركية التفكير – أن تحدث عملية فض اشتباك بين الدولة (السلطة) والمفكر، هو يقول لها ‘لا تمسينى‘، وهى تقول له ‘دعنى أسلك سبيلى كما أريد’ وموقفنا ازاء ذلك أنه: دعنى أسلك سبيلى كما أريد’، وموقفنا ازاء ذلك أنه: يا فرحتى يا هنائي!!! نعم، قد يطيل فض الاشتباك هذا عمر الفيلسوف من حيث مساحة النشر وفرصه، لكن مثل هذا المفكر – خاصة عندنا – متى خرج عن الدائرة الرسمية، أوقف بكل وسيلة، نعم بكل وسيلة بما فى ذلك وصاية أساتذة الجامعة بحجة ‘التخصص’ – ثم ماذا يتبقى للمفكر، ولماذا يفكر اذا لم يكن هناك أمل أن يرى فكره: ‘فعلا’، بل ان الفكر لا يكون ‘فكرا’ – بمعنى الفلسفة لا التفلسف – الا اذا كان ‘فعلا’ فى ذاته، و ‘فعلا فى بعثه’، و ‘فعلا فى غائيته’، حقيقة أن الوقوع فى خطأ التسرع والتعميم (مثل أمل أفلاطون قديما وتجربة الماركسية حديثا) سيعرى الفكر لدرجة أن تحسب عليه أخطاء التطبيق، فورا وتماما، حتى يتشوه أو يصبح غير ما هو، لكن المطلوب ليس هو الوصاية (الفلسفية) على الساسة والحكام، ولكن المطلوب هو الاسهام بالرأى فى حدود الرؤية الفعل، وتحمل مسئولية ذلك.
أما حكاية السياسة فى ناحية والتفكير فى ناحية فيذكرنا بتصريحات السادات عن حرية التفكير حالة كونك فى حجرة مغلقة وياحبذا بلا قلم او ورق أو صوت، كما يذكرنا بالحوار مع الجماعات الدينية شريطة عدم الخروج عن كذا وكيت، ولا حول ولا قوة الا بالحق.
ثالثا: ويجرنا هذا الى ما ورد فى المقتطف بشأن ‘ غير الموهوبين سياسيا’ – وكأن السياسة هبة خاصة، ولا سيما حين يستعمل المقتطف تعبير ‘الالهام السياسى’ (تذكر أحاديث م. حسنين هيكل، د. محمود فوزى لعبد الناصر على سفينة ما حين تركوه لالهامه السياسى، ثم تذكر الهامات السادات مرة هنا ومرة هناك).
ونقف ازاء ذلك لنقول: انه برغم كل هذا النقاش الرائق من شوبنهلور، بعيدا عن الوطن الأم)، فاننا يستحيل أن نتغافل الأثر الخطير لدور المفكرين على السياسة من أول أفلاطون حتى جون ستيوارت مل([7])، وحتى الأديان ودخولها الى السياسة لم يكن من باب الوحى بقدر ما كان من باب الاحاطة بفكر جديد، ثورى فى البداية، (ثم حسب الحالة).
رابعا: ومع اعتراضنا الشديد من منطلق موقفنا هذا، الا أننا نلمح فى المقتطف جانبا ايجابيا مبدئيا، اذا يبدو أن المنصوح به هو: أن يتوازى كل من نشاط السياسة ونشاط الفكر دون اشتباك مباشر، وبهذا تتمادى السياسة فى ‘النظام’ (معشوق شوبنهادر المقدس) ويتمادى الفكر فى ‘التجديد’، دون صدام مباشر، ثم ينهل كل تيار من زميله، ولو بطريق غير مباشر. (من يدرى؟)
ثم ثمة جانب ايجابى آخذر ورد فى المقتطف بشكل مباشر، وهو ألا يصبح صاحب الفكر أداة لصاحب السلطة، كما ظهر أخيرا – بوعى أو بغير وعى – حين استعمل ما سمى بالطب النفسى السياسى ديكورا لنشاطات سايسية ليس لها أدنى علاقة موضوعية بما هو طب، وان كان لها علاقة ما بما هو نفس، ولكنها نفس الساسة بالهامهم السياسى وقوتهم المحركة، والمحركة، (بفتح الراء المشددة ثم كسرها) الظاهرة والخفية!!
خامسا: ثم نأتى أخيرا الى حكاية العمل بالجامعة، وأحسب، عبد الرحمن بدوى (سنة 1942)، وقد كان فى شبابه وثوريته يبحث عن منطلق وتبرير ينقذانه من روتين الجامعة وتكرار المقولات المحنطة، قد أظهر هذا الجانب اظهارا بينا بهذه الصورة الجيدة والدالة، ولابد أن نعترف معه كيف أضرت الجامعات – وخاصة عندنا، وخاصة الآن – بالفكر حقيقة وفعلا، فأولا: ان الالتزام بمقرر محدد ومتفق عليه يضيق من فرصة الفكر الحقيقى فى النمو ثانيا: ان تعديل هذه المقررات عن طريق القوى (اللجان) (المتعددة الجنسيات!!!) يخرج ناتجا ملفقا لا يسمح بأى ابداع حقيقى أو اضافة فردية ثالثا: ان الالتزام بمنهج، مستورد فى العادة، محكوم بالأقدم، يسمح بالبحث العلمى المكرر دون الطفرة المنشودة رابعا: ان الرسائل على مستوى الماجستير والدكتوراه أصبحت – على أحسن الفروض – مراجعات للتراث وتكرارا للمعاد، أكثر منها اكتشافا فى المناطق غير المطروقة بواسطة مفكرون مسلحين بأدوات التراث([8]) – فاذا كان الأمر كذلك بصفة عامة، فهو أكثر من ذلك وأخطر فى مجال دراسة وتدريس الفلسفة فى جامعاتنا بوجه الخصوص، وعلى من يبالغ فى تقديس المسار الجامعى باعتباره أعلى مراتب الاجتهاد العلمى، أو باعتباره الفرصة الثمينة للابداع الفكرى، أن يراجع نفسه كثيرا كثيرا ..، ثم لا نكمل
سادسا: ولتأكيد وجود ‘فعل الفلسفة’ فى جوف الحياة العادية العامة، نستعير من تخصصنا موقفا فرضه علينا العلاج النفسى الجمعى خاصة، فنجد أن نوع هذا العلاج الذى نمارسه خاصة هو وسيلة عميقة وخطيرة لاحياء حركة المبادرة لاعادة النظر، ولا يقتصر ذلك على المرضى فحسب بل على المعالج أيضا، وربما قبلا، وقد سبق أن أشرت الى أن معايشتى للعلاج الجمعى قد فلسفتنى، فعشت الانسان فى نفسى ومرضاى بقدر أكبر من كل ما قرأت، وما سمعت أن غيرى قرأ، وكانت تلك خبرة تلقائية فرضت نفسها دون اعداد أو دعوة ‘… نحن لم نفرض مشاكل الفلسفة على (هذا) العلاج، ولكن العلاج هو الذى أحيا مشاكل الفلسفة فى نفوسنا'([9]) باعتبار أن الفلسفة كما حددنا من هذه الخبرة … “… هى المحاولة المستمرة المتجددة للحياة المغامرة فى اتجاه معين فى لحظة ما ..، اذ يتغير هذا الاتجاه حتما مع استمرار المحاولة، ويصحب ذلك عادة درجة من التنظير المعرفى مع احتمال مخاطر الخداع اللغوى …..” …… فالفلسفة مرادفة عندى للحياة النابضة للانسان اذا هو متناه يسعى الى اللامتناه ……..”
فاذا ما قابلنا بين موقفنا السابق هذا، ثم موقفنا الذى أثاره هذا المقتطف من هذه المسألة، لرحنا نؤكد أن الفلسفة (معايشة وخبرة) انما تتم فى ممارسة الأمى والمجنون للحياة اليومية فى وسط مرن مسئول، أكثر مما يحدث فى أروقة الجامعة وقاعات الدرس (وربما بوجه خاص: فى أقسام الفلسفة فى الجامعات)، ثم ان الاشاعة التى تزعم صعوبة الفلسفة، والتى تسخر من التعقيد باعتبار أنه فلسفة، هى اشاعة ‘دفاعية’ نحتمى بها من شرف التفكير المتجدد.
سابعا: نرجع الى شوبنهاور ‘شخصيا’، فنتساءل عن ارتباط آرائه تلك بنشأته ميسور الحال بما يسمح له بالتفرغ لألعاب العقل (كما قيل)، ويطيب له الانسحاب من السياسة ثم معايرة كل من اقترب منها، حتى عير هيجل برؤيته للدولة دون أن يحدد ماذا كان هيجل يعنى بكلمة ‘دولة’ (وكأنه يعير الضباط الآحرار بفلسفة الثورة!!).
فهل لنا موقف من الدافع الشخصى المرجح؟
ننظر فى موقفين من ذلك غير موقفنا، ثم نعرض رأينا:
أولا: كان موقف عبد الرحمن بدوى شديد التعاطف مع شوينهاور، فقد بدا أنه يوافق شوبنهاور فى تعديده عيوب الاتصال بالدولة والارتباط بالجامعة اذ يقول ‘كل هذه عيوب شنيعة، يتصف بها كل من سلك سبيل الفلسفة الجامعية، وصار للفلسفة أستاذا، وهى عيوب استطاع شوبنهاور أن يبرأ منها كلها لأنه لم يسلك هذا السبيل، ولم يضطر الى سلوكه، لأنه لم يكن فى ظروف حياته المادية ما يحمله على شيء من هذا الاضطرار، فلم لا يهنأ بالا اذن؟ وقد هيأ له القدر هذا كله؟’
ثانيا: كان لنجيب سرور موقفا مناقضا مهاجما لشوبنهاور على طول الخط، وبصفة عامة اذا يقول:
” أنت يا أرتور حر
فامسخ العالم ما دام ‘ارادة ..
وتصور”
وتصور بعد هذا ما تريد
أنت حر
…………
قل بأن الناس قطعان بهائم
أو دمى عمياء .. قل ان الحياة
شبه كابوس رهيب
وكما شئت تشاءم …. أنت حر
أنا أيضا أتصور ما أريد، أنا حر
فأرى أنك خنزير قذر
حين تدعونا الى أن ننتحر
ثم حيا أنت سبعين سنة
واثنتين
ياخبيث.
أو تكون ابنا ” لبانكير” وتغنى للشقاء،
قدر للكل حتى الأغنياء
ايه يا “أرتو” كم أنت منافق
ما الذى يبقى سوى الزهد لنا … للفقراء؟
الموقف: ما وقفنا نن من ربط هذا العامل الشخصى جدا، وخاصة جانب الرفاهية منه، بفلسفة شوبنهاور عامة، وبهذا المقتطف ثم بموقفه التشاؤمى خاص، فهو يشتمل على أكثر من بعد:
1– فنحن نرفض التعميم ابتداء، لا بالتصفيق على طول الخط، ولا بالهجوم الساحق هكذا.
2– ونحن لا نرفض أن يستغنى انسان عن الاجبار الجارى بالتقليد، بما فى ذلك اللافتة الجامعية، ما دامت الظروف – بما فى ذلك الميراث المادى – قد أتاحت له هذا الاستغناء‘ شريطة ألا يكون الاستغناء للانسحاب، وإنما لمزيد من الحرية فمزيد من فعل التفكير.
3– ثم ان كل مفكر – بما هو، وما أتيح له، قد يضيف أضافة شديدة البساطة، رائعة الجدوى – من خلال ظروف تختلف عن مفكر آخر، وعلينا أن نبحث عن هذه الاضافة ‘الخاصة جدا’ والتى تصدر إلا من ظروف “خاصة جدا” فتكون ثروتنا الاضافية، أما أن نفترض أنه لكى يكون المفكر مفكرا عليه أن يشقى حقيقة وفعلا طول الوقت، أو يجوع، أو يسافر، أو يتأهل، فهذا أمر ينسى حقيقة الفروق الفردية فى الناس عامة والمفكرين خاصة، الذين ينبغى أن نتلقاهم وهم يكلمون بعضهم بعضا على أعماق متعددة.
4– أى أن المطلوب من كل مفكر أن يكون نفسه، بكل عمق وحماس، وأن يتخذ موقفا بكل وضوح وبيان، ثم ليبدأ الحوار، وكان أستاذنا العقاد يدافع عن تشاؤم شوبنهاور بأنه – على الأقل – أفضل من موقف اللامبالاة، أو موقف اللاتشاؤم واللاتفاؤل أصلا الذى يسود حياتنا بشكل غامر.
5– ولكى يكون التفكير “حركة” تدفع (فلسفة) وليس معبدا يزار (معتقدا) فنحن نرى ضرورة أن نعيد النظر فى بعض صفات المديح التى ناصها بالآراء، فالأولى بنا أن نتحدث عن مسامية (أو حيوية) الرأى لا صلابته، وعن مرونة الرأى لاثباته (نقول مرونة لا ميوعة)، عن قوة الرأى لا سيطرته، وهكذا حتى تصبح المعارك الفكرية مظاهر حياة، وليست مؤامرات اعارة.
****
انتهى…
[1] – لا يوجد تاريخ للنشر الأخير، الا أن المقدمة مؤرخة فى مايو 1942.
[2] – نسبة الى تعيينات القوى العاملة
[3] – نسبة الى المخدرات المسلسلاتية
[4] – مجلة القاهرة، العدد 65 (نوفمبر 1986) ص 38
[5] – بعض اجتهادات نظمى لوقا مثلا.
[6] – تيسير شيخ الأرض: دراسات فلسفية – دار الأنوار – بيروت الطبعة الأولى، شباط 1973.
[7] – مارين بــ أرسلو، القديس أوجستين، القديس توما الاكوينى، نقولا ميكيافيلى، توماس هوب، جان جاك روسو، جون لوك، مونتسكيو، امانويل كانت، هيجل، كارل ماركس وبنتام …..
[8] – التراث بلامعنى الأشمل literature العلمى وغير ذلك.
[9] – يحيى الرخاوى “مقدمة فى العلاج الجمعى” دار الغد للثقافة والنشر القاهرة 1979، ص170، 154 على التتالى.