مثل وموال
التناسب والفروق الفردية
(من الامثال الشعبية)
أما أن “صوابعك مش زى بعضها” فهذا مثل شائع لدرجة أن الناس يستعملونه وسط الكلام باعتباره حقيقة جارية، وليس تجريدا يستشهد به، يعلن اختلاف الناس عن بعضها.
ومبدأ أن الناس تختلف عن بعضها البعض، يبدأ من منطلق عيانى بسيط تثبته دراسة البصمات، بدءا من بصمات الأصابع حتى بصمات الصوت فى التسجيلات الحديثة، ولم يخلق الانسان الفرد بكل هذا
’التفرد’ لاستخراج بطاقة شخصية، أو فيش وتشبيه، أو لتسهيل مهمة البصاصين والمتصنتين، للتعرف على الجناة والمتآمرين والثوار، فلابد أن هذا التفرد يعنى شيئا شديد الدلالة، فهو يقول ابتداء، أنه مهما تشابهت الصفات العامة، والاستعدادات الوراثية، والظروف الأسرية والتربوية فسيظل كل فرد هو نفسه، من عمق بذاته.
وتطبيقات هذه الحقيقة الشديدة البساطة، الشديدة الأهمية، فى مجالات التربية والسياسة ،الرأى، هى تطبيقات بلا حدود، فعدم احترام الاختلافات الفردية هى سر فشل سقوط الحكم الشمولى، والاختلافات الفردية هى أصل الحوار فى كل ما هو حوار بين فردين، (ومضاعفاتهما)، والاختلافات الفردية هى وراء التصنيف والتوجية والانتقاء فى التربية والتخصص، ورغم أهمية الاختلاف، فنحن نعلنه ونحدده سعيا الى اتفاق، ولكن شتان ما بين اتفاق وتماثل، مثلما بين الحوار وترديد الصدى.
وتتجسد هذه الحقيقة أكثر فأكثر فى الأسرة الواحدة، ذات الظروف الواحدة والتطبيق العملى لهذه الحقيقة فى مجال علم النفس فالطب النفسى والمعالجة النفسية أظهر من أن يشار اليه، فمهما كان التشخيص واحدا ([1]) (مثلا) فأن التناول يختلف من فرد الى فرد، حتى يصل من النقيض الى النقيض، واعجب معى لمن يصر على تسمية مرض باسم مشترك، وكأن اسم المرض سيصنفه مع من يحملون هذا الاسم، والأمر ليس كذلك.
واحترام هذه الفروق التى بين البصمات، والأصابع، والناس، والطباع، والمزاج هو الاطار الحقيقى الذى يمكن أن يسمح بالحركة ‘معا’، لكن التمادى فى تقديس الفروق الفردية حتى التسليم لها باعتبارها حقيقة أزلية، يباعد بين الناس، ويجعل الحوار أشبه بالاخبار، وليس بالتفاعل للتغيير، فالفروق الفردية ينبغى أن تكون منطلقا متجها لاتفاق واثراء، ومواكبة، وتعاون، فهى بذلك ليست نهاية مطاف للتباعد، والوحدة، والحساسية الذاتية، واليأس من الأخر.
والمثل الشعبى يعرف كل ذلك وأكثر، ويؤكده، وهو يتناول هذا الأمر ومتعلقاته من أكثر من جانب بدءا من أن (1) “صوابعك مش زى بعضها” الى ما هو أكثر تحديدا أو تعميما :
(2) “ما زول زى زول، ولا الصلاية زى دق الهون”
والزول هو ‘الشخص’ الفرد، والكلمة تستعمل فى شمال السودان أكثر من استعمالها فى العامية المصرية الحالية، والتقابل هنا له عمق غائر رائع، لأنه بعد أن أعلن اختلاف الاسم، أعلن اختلاف الفعل، وكنا نتوقع التبسيط ودقة المقابلة أن يكن بقية المثل : ‘ولا الصلاية زى الهون’ ([2]) ولكن ذكر ‘ دق الهون’ هنا، مع حذف ‘دق’ قبل الصلاية (فلم يقل ايضا : دق الصلاية زى دق الهون) ينقلنا فجأة وباصرار الى أن ما يترتب عن الاختلافات الفردية هو اختلاف الأداء، أى أنه ليس المهم أن تستقبل الاختلاف وتحدده، ولكن الأهم هو أن تجعلك رؤية هذا الاختلاف تتوقع من ‘زيد’ ما لا تتوقعه من ‘عبيد’، من كل حسب ما هو.
وان كان المثلان المتقدمان قد أعلنا الفروق الفردية بفعالية موضوعية، فانك تشم رائحة تمييز طبقى وسلطوى فى أغلب الأمثال الأخرى التى تتناول النصح بضرورة التمييز بين الناس، ونبدأ الأمر بالتنبيه الى التلميح بهذه الطبقية فى قولهم :
’ايش جاب لجاب’
والمثل يضرب هكذا تعميما أحيانا، كما قد يضاف اليه تفصيل لاحق (انظر بعد) وبمجرد استعمال ‘ايش جاب’ نشعر بهذه التفرقة الطبقية بشكل أو بأخر، حتى لو جاء بعده لفظ جديد منحوت لدلالته
الصوتية وتركيبه الأطول والاكثف فحسب، أى بلا مضمون متفق عليه، يظهر ذلك حين يقول المثل :
’ايش جاب التين للتنتين’
وقد حسبتها خطأ مطبعيا وقرأتها لأول وهلة ‘التنين’ ([3]) لكن شرح أحمد تيمور أكد على أن ‘- 2 – كلمة التنتين لا معنى لها وانما أتوا بها فى معنى شيء يشبه التين وليس به’ وان كنت أضيف أن الزيادة فى المبنى تحمل ترجيح الزيادة فى المعنى، يتأكد ذلك بتكملة المثل بقولهم :
ايش جاب التين للتنتين
وايش جاب الترعة لابحر
فالتنتين يفوق التين بما يفوق به البحر الترعة، والبحر يطلق هنا على الترعة الكبيرة أو الريح (بحر موسى – بحر وهبه الخ)، وليس على البحر بمعناه الأصلى، فهم عادة يضيفون كلمة المالح أى البحر المالح اذا أرادوا به بحرا غير الترعة الكبيرة وكلمة ايش تستعمل عادة فى المثل العلمى اذا اريدبها التهوين (والتحقير) أحيانا، متضمنا النصح بأن يلزم ‘الأقل’ حدوده (لاحظ الطبقية من جديد) وذلك فى مثل قولهم:
’ايش عرف الحمير فى أكل الزنجبيل’ ([4])
(وكذا) ايش لك فى الحبوب يا جعبوب (أى يا صعلوك)
أو ايش لك فى القيرات يا ظراط (بتشديد الراء : أى كثير الكلام) وكل هذا يضع ‘ايش’ فى الموضع الذى رجحناه
وننتقل خطوة فى التفرقة الطبقية حيث يقول مثل ك
”ايش جاب أحمد للحاج أحمد”
وأغلب الظن أن ‘الحاج’ تستعمل هنا ليس بمعناها الدينى، ولكن بمعناها الطبقى، فالحج كان دائما أبدا دليلا على القدرة المالية قبل أن يكون دليلا على الورع، فضلا عن استخدام التجار للقب الحاج، تسهيلا لتجارتهم، وتأكيدا لموقفهم المالي.
ثم تظهر الطبقية فيما هو أكثر صراحة فى قولهم :
’ايش جاب العبد لسيده’
وان كنا نتوقف عند صورة أخرى لهذا المثل حيث يكمله البعض قائلين :
‘ايش جاب العبد لسيده
قال : لدا طلعة ولدا طلعة’
فالرد هنا ‘قال’ يعلن أن لكل منهما ما يميزه ، فنحن لا نحسب عادة أن للعبد ‘طلعه’، اذ نتصور أنه ‘نكرة’ أو مجرد ‘كمالة عدد’ أو ‘اداة’، لكن تكملة هذا المثل هكذا قد تخفف قليلا أو كثيرا من التأكيد على الطبقية، ومن هنا فعلينا أن نفرق بين الطبقية، وبين التمييز والتحديد، فأن تضع كلا فى مكانه، وأن تحسب لكل طلعته، ليس بالضرورة اعترافا أو تأكيدا لطبقية بالمعنى الأحدث، وانما قد يكون تحديدا لمنطلقات وبالتالى فهو تأكيد ضمنى للفروق الفردية ابتداء، ثم يأتى بعد ذلك ما يأتى، واعلان الحقائق الفارقية كمبتدأ هو اكرم وأعدل من ادعاء المساواة المثالية، وقد يؤكد أن المسألة مجرد تمييز، ليس بالضرورة طبقى النغمة، فأن هذا التمييز يمتد الى الملبس، والمكان على حد سواء، ففى قولهم :
”ايش جاب لجاب
العايقة لأم حجاب”
لا نستطيع أن نتبين تأكيدا من هى الأفضل من واقع هذا المثل الا فى استعمالاته التى قد يحددها السياق، فاذا كان مدحا لأناقة ‘العايقة’ فهو يرجح كفتها، واذا كان مدحا لوقار و ‘حشمة’ أم حجاب فكفتها هى الراجحة (وان كان بعد التطور الأحدث لبدعة الحجاب فى صورتها العصرية، أصبحت العايقة هى أم حجاب وليس العكس).
والتفرقة لا تقتصر على الفروق الفردية وانما تمتد الى الانشغالات، والاهتمامات وغيرها، مثل قولهم :
الريس فى حساب والنوتى فى حساب
فما يشغل الرئيس غير ما يشغل المرؤوس (والمقصود هنا رئيس المركب، والبحار)، وهذا المثال يشير الى ما هو تحديد اختصاصات اعتقد أنه لابد أن يترتب على تحديد الفروق الفردية الجبلية فالمكتسبة بالمركز والحرفة.
كذلك فأن التأكيد على الاختلاف قد يمتد الى ما يشغل كل فرد، حتى ولو توحد الموقف، وثبت المتغير المثير، كما يظهر فى قولهم :
ما للجنازة حارة
قال كل منهو بيبكى على حاله
****
فاذا كانت الفروق الفردية واضحة كل هذا الوضوح فى الحدس الشعبى، فأنها لم تتضح لمجرد التصنيف والتمييز حتى لو كان التمييز طبقيا، وانما اتضحت للتطبيق والوعى العملى بما يترتب عليها، فبادئ ذى بدء ومهما اختلف عن غيره، ومهما تميز غيره عنه، وفى هذا يقولون :
’وحشة وعاجبة نفسى، وأشوف الناس تقرف نفسي’
.أو حتى :
’كل انسان بربوره على حنكه حلو’
فما دام هو جزء منه فهو قد قبله بما هو، ورضى به، بل واستطعمه!! ولكن هذا لا يعنى تحبيذ العمى الكامل بالنفخ فى الذات، بالقبول غير المشروط لما هى حتى بعيوبها، ولكنه الدفاع الأولى الواجب فى بدء المواجهة، وذلك بأن تكون أولى الخطوات هى التمسك بما هو ‘أنا’ كما ترونى ‘وحشه’ أو ‘ذا بربور’ الخ أما الجولة الثانية فهى مع الداخل، وهى تختلف باختلاف الرؤية، ولكن الحدس الشعبى قد وصل الى تقرير جذور القلق (بما هو)، دون تناقض مع قبول الظاهر (كما هو) (فى المواجهة على الأقل) وعدم التناقض هو الذى يولف بين القبول والألم لزوم الفيض الفعل فقولهم :
’كل قناية متضايقة بميتها’
قد ابلغنى هذا البعد الواعى بما يضيق به الداخل اذا لم تستوعبه الامكانيات المتاحة أو تفجره الفرص الحقيقية للانطلاق والرى.
والرضا بما هو ‘أنا’ ليس هو الرضا بفرصى كما هى، أو محدودية رزقى، ولكنه الرضا بحكمى على الاشياء، وحقى فى السخط على غير ذلك.
وزعوا العقول عالناس ما حدش عجبه الا عقله
ووزعوا الأرزاق ما حدش عجبه رزقه’
****
3 – وانطلاقا من هذا الاعتراف بالاختلاف والتمسك بالقبول المبدنى للذات يأتى تطبيق عملى يعلى من قيمة التناسب الواقعى من أكثر من منطلق.
(أ) فمن ناحية الصفات الفردية وانتقاء ما يناسبها ما دام الاختلاف بهذا التحديد يقولون :
’كل واحد يبرد لقمه على قد بقه’
وهنا يظهر فعل الاختيار الارادى، والتصرف التفصيلى فى حدود القدرة الفردية، وفى نفس الوقت قد يظهر هذا التناسب بغير ارادة صريحة، ولكن بتوجه تلقائى بناء على اختيارات من واقع مستويات أخرى من النفس، بما ينتج عنه هذا التناسب كنتيجة يرصدها الوعى الشعبى فى قولهم :
’كل شيله (شى له) يشبهن له’
فالفرد يقتنى ويمتلك ما يتفق مع ذوقه أو طيفه (أو فروقه الفردية) المتميزة، فاذا تمادى المثل لغرض سخرى آخر فى سياق آخر فأنه يضيف
’كل شيله يشبهن له
حتى الحمار واللى قانيه’
(ولاحظ استعمال حتى هنا، فأنه يخفف من التعميم ويحدد الانتقاء)
3 – ثم يؤكد المثل ناحية أخر التلاؤم مع ما يحيط، والتصرف فى حدود واقع الحال، وواقع القدرة، وحدود التميز فنجده يقول :
’كل واحد ينام عالجنب اللى يريحه’
أو ‘على قد لحافك مد رجليك’
والعكس، أى : ‘على قد فلوسه يمرجح رجليه’
ثم يمتد الحدس الشعبى ليعلن نوعا من الانتقاء الغائى، لا يتوقف فقط على اختيار ارادى واع، أو على اختيار لا شعورى ضمنى، وانما يعلن أن المطلوب يحدد طالبه، مثل قولنا أن ‘المهنة تنتقى شاغلها’، أو حتى مثل قولنا فى قانون التطور أن البيئة تحافظ (وتبقي) على من يتلاءم معها، وينقرض من لا يستطيع ذلك، وفى هذا، ومن بعد القرار الضمنى القابع فى الغاية جذبا لمتطلبات تحقيقها، تتبادل الارادة بين الطالب والمطلوب تكاملا تلقائيا، وفى مثل ذلك يقول المثل :
كل لقمة تنادى أكالها
أو كل هدمة تنادى لباسها
وقد تكون القراءة الظاهرة لهذين المثلين فى حدود التأكيد على قدرية ما نتصوره صدفة، وفى الحقيقة أنه ‘مكتوب’، ولكن قد يكون البعد الذى قدمناه محتملا أيضا.
واذا كان التناسب قد تأكد فى النصح بأن يتصرف كل واحد فى حدود قدرته ومسئوليته، فأن تناسبا مقابلا ينصح بأن يكون موقفنا نحن أيضا فى حدود ظروف (وفروق) من نتعامل معه، وفى ذلك يقول المثل :
على قد فوله كيلو له
وعلى قد زيته خايل له ([5])
ويمتد الوعى بالفروق الفردية الى احترام الفروق الواردة من اختلاف فرص المعرفة الخاصة لكل واحد بشئون نفسه وظروفه المختلفة عن الآخرين حتما، وفى ذلك يقولون :
كل واحد عارف شمس داره تطلع منين
أو كل واحد من صندوقه يلبس
ولكن كل هذا التأكيد لا يعنى بالضرورة أن الفروق الفردية دائمة : والا لكانت هى التوقف والجمود، والواقع انى ضقت ذرعا بهذا الافتراض، لأنه لو ثبت لكان ضد التطور، ومع ذلك فأن التمادى فى تصور امكان تغير الشخصية، أو تغير الطبع، هى خدعة خطيرة، وأعترف أن المثل العلمى قد بدا لى ساكنا سكونا مزعجا فى هذا الصدد، وكأنه ضد احتمالات التغير (والتطور!!)
وقد استسلمت لهذا الافتراض الصعب، ولم أحاول هذه المرة أن أبحث عن التوازن المقابل الذى يخفف عنى من تحدى السكون القابع فى هذه الأمثال المستسلمة، مثل قولهم :
’مكتوب على باب الحمام لا الأبيض يسمر ولا الأسمر يبيض’
والألعن :
وكل الفلاح سنتين تفاح تضربه علقه
ينزله جاوين (أو جعضيض) ([6])
أو ما ما يطلع الطبع الا ان طلعت الروح
لكن يا ترى، اليس من الأفضل أن نعتبر هذا اليأس (الواقعى) هو هو التحدى الحافز؟
(عودة الى البحث عن مبرر !!!)
****
[1] – أنظر ” حالات وأحوال” فى هذا العدد (الأخوة الأربعة).
[2] – الصلاية هى وعاء خشبى مستطيل الارتفاع نسبيا يدق فيه الثوم والكفتة بيد خشبية، والهون أشهر منه وهى أقل ارتفاعا ويدق فيه بيد نحاسية ثقيلة، ويشاهد حاليا فى السبوع أكثر من استعماله فى المطابخ بعد الاغارة العصرية الأحدث.
[3] – التنين: بتشديد النون. وقد بحثت عن احتمال فعل تنتن المشتق منه تنتين فوجدته فى الوسيط “تنتن”: ترك أصدقاءه وصاحب غيرهم ولا أحسب أن هذا المعنى ورد على خاطر الحدس الشعبى أصلا، وينفى ذلك السياق أيضا.
[4] – يقال فى بعض اللهجات الجنزبيل، ومع أن أكل الزنجبيل ليس مما يتميز به علية القوم خاصة، الا أننى أعتقد أن النغم والمبنى وندرة زرعه وشربه، هو الذى برر استعماله هنا بشكل أو بآخر لأداء المراد، ناهيك عن احتمال الصدفة الصوتية.
[5] – المقصود هنا خيال الظل، لأنهم يوقدون فيه القطن بالزيت لأظهار الخيال.
[6] – الجلوين، والجعضيض نباتان ينبتان وسط البرسيم تلقائيا عادة، يجمعها الفلاح بالمجان، ويأكل بها العيش (الحاف) معظم وقت عمله بالحقل.