قصة قصيرة
عودة العصفور الأخضر
يسرى عبد الغنى
كثيرون منكم من هنا من هذا المكان، وهم يضعون أصابعهم فى أنوفهم ويكتمون أنفاسهم تقززا من الروائح الكثيفة المنكرة التى ظلت تتبختر عبر الجدران.. جدران هذه الحفرة، أما أنا فقد وجدت نفسى مكرها على مواصلة الاستلقاء وربما الى الأبد، وسط هذا الفيض الهائل من الأجساد المهشمة، والسيقان والرؤس والأذرع الممزقة والأرجل المنتعلة، والعادية، هذا المزيج العجيب من الركام البشرى المتعفن صديدا ولزوجة وروائح كريهة.
سيارات كثيرة كانت قد جمعت هذه القطع البشرية والقتها فى هذه الحفرة، حدث ذلك فجأة وباتقان عجيب غريب، لعله لم يكن صدفة على الاطلاق، قبل أقل من ثلاثة أيام لم تكن ثمة أى حفر فى هذا الجانب من مدينتي، أذكر أننى مررت هنا، من فوق هذه الحفرة بالذات ليلة الأربعاء الماضي، كانت ريح غاضبة تصفر بجذوع الأشجار ولشدة ما أدهشنى أن بعض الغربان كانت تجوب سماء المدينة رغم تأخر الوقت وانطباق الظلام، لم يكن خافيا على أحد ولا حتى على الأشجار والأزقة وفوانيس الشوراع أن عيونا كثيرة للموت كانت تطل من كل ناحية، لعلها كانت اللامبالاة. أو شيئا شبيها بذلك.
أذكر الآن، أننى أحكمت اغلاق معطفى على صدرى وأننى مضيت عبر هذا الزقاق المعتم الذى أراه الآن يمتد الى أقصى يمين هذه الحفرة وحين ولجت باب غرفتى كانت كل الظواهر تومئ بانفجار عاصفة شديدة.
قلت لنفسى وأنا أهم باطفاء النور فى غرفتى أن هذه العاصفة التى توالت نذرها لن تكون أكثر مدعاة للفزع من سابقاتها، صخب وضوضاء وبما امتد الى مساء اليوم التالى ثم تعود الأجواء الى مثل ما كانت عليه من الحلكة والتبلد، وسمعت وأنا أقفل مفتاح النور وأتقلب على سريرى الى الجانب الآخر فى مواجهة الحائط ارتطام الكتاب بالأرض، كنت قد تعودت فى مثل هذه الظروف أن استجلب النوم بالتثاؤب عبر صفحات أحد الكتب النظرية المعقدة.
صباح اليوم التالى اجتاحنى ذهول مطبق، كان الظلام غير عادى يلتهم كل منافذ الغرفة، لم تكن أشعة الخريف تتسلل كالعادة عبر شقوق الستائر.شئ ما – أكثر مما كنت آتوقع – جعل لكل ستائر غرفتى خرقا مدلاة ممزقة الأطراف، كانت أصوات قوية ومرعبة تملأ رأسى وتغتال من كل الأزقة سكينة الصباح وكان ثمة ضجيج مزعج يختلط بأصداء أنين وولولة بشرية. اجتاحنى – الى حين – احساس ما: بأننى ما زلت تحت وطأة كابوس فظيع مثل تلك الكوابيس التى كانت تصيبنى بعد مشاهدة الأفلام الحربية الرخيصة.
ماعدت أذكر الآن مقدار الجهد الذى بذلته لأتاكد أننى فى كامل صحوي، تطلعت الى الناحية الأخرى من السرير حيث الطاولة الخشبية الهرمة التى اعتدت أن أكوم فوقها كتبي، ولشدة ما عجبت اذ وجدتها راكعة وقد تقصفت آرجلها وأنهارت أكوام الكتب من فوقها على بلاط الغرفة كالأخشاب المندلقة، عبرنى هذه اللحظة احساس ما: أن الجاحظ كان محظوظا وبشكل يثير الحسد حين تطايرت روحه تحت أكوام الكتب ولم تذهب رخيصة تحت الأقدام، وحين أمعنت النظر فى زوايا الغرفة الشاحبة وجدت أن كل شئ فيها قد ارتجف حتى النخاع، وشماعة الملابس سقط أحد طرفيها، الصحون والأكواب لن تسلم من لوثة هذا الارتجاج فقد تراكمت فوق بعضها كما تتراكم الآن كل هذه الاجساد المهشمة فى قعر هذه الحفرة، لم يكن حب الاستطلاع وحده هو الذى دفعنى الى الخروج، كانت رغبة أخرى ملحة تشدنى للاندفاع فى ذلك السيل من الأنين البشرى الذى يتجاوب، كان يتجاوب عبر مداخل الأزقة، أنين فاجع يعلن بحزن ساطع عن وجود بقية من حياة تحت ركام الأنقاض التى خلفها الزلزال الكبير.
كانوا يقولون، خاصة حين يختتمون صلواتهم، أن الكوارث الطبيعية لا تصل هذه الأرض التى بورك حولها، ترى هل الذى يحدث الآن مجرد طوفان أم أنه الزلزال؟؟ علمت أن الزلزال يهدم، ولكنه ما يلبث أن يهدأ حتى يخرج الكثيرون أحياء من تحت الأنقاض، ولكن هذا ليس طوفانا ولا زلزالا على كل حال.
لحظة سقطت على مدخل الشارع كانت الأشجار غبراء مشعثة تتدلى فروعها، وأعمدة الهاتف والكهرباء ممزقة الأسلاك، وروائح الدخان والبارود تملأ كل شئ وحتى أديم الأوصفة المحترقة. ،كانت أصداء الحريق الناشب فى كل مكان تهدد حتى الموتى بالاحتراق.
أيها السادة: وها أنى أتحدث اليكم الآن من أعماق هذه الحفرة اللعينة، سيارة ما: قبيحة كغراب، وسخة كناقلات القمامة، قامت بطرح بقايا جثتى وسط الزحام الموتى فى هذه الحفرة، لم يكن ثمة أى شئ سليم فى جسدى ما عدا الرأس، أطرافى كلها بقيت فيما عدا الجسد على مدخل الشارع الذى يفضى الى غرفتي،شئ ما: صاعق تماما، هشم كل أنحاء الجسد، جسدى وما عدا الرأس، من منكم يستطيع الآن وبعد كل هذه الساعات الثقيلة والطويلة أن يتعرف على أطرافي.
أيها السادة: من أعماق هذه الحفرة المليئة بالقطع البشرية أنا سيدكم، من يعثر على قطعى الضائعة فليلقها هنا فوقي، اذا حدث أن أغلقت هذه الحفرة بعد فوات الأوان، فأننى أتوسل اليكم أن تدفنوا كل أطرافى فى حديقة تلك الغرفة التى كنت اسكنها فى الفناء الشرقى قرب النافذة تماما الى اسفل جذع شجرة العنب.
ترى هل روت لكم جداتكم ذات مساء حكاية الطائر الأخضر؟ وأن لم يكن قد حدث فرجائى أن تفعلوا ذلك. فربما أتيح لكم أن تسمعوا حكاية الطائر الأخضر.