حــــوار
حول القصيدة الحداثة (التجربة الجديدة) …. الخ
أحمد زرزور / يحيى الرخاوى
أحمد زرزور: لاأعرف بالضبط كيف يمكننى – بالقصيدة – أن أحقق عكس نبوءتك الأليمة لنا نحن شعراء التجربة الجديدة.
الرخـــاوى: لاأذكر يا أحمد أن لى نبوءة أليمة أو مفرحة بالنسبة ‘لنا’ نحن شعراء التجربة الجديدة، ولست واثقا إن كان يحق لنا أن ننقل حديثنا الشفهى المتقطع إلى هذه الصفحات ليشاركنا فيه القاريء أم لا، ولكن دعنا نغامر كما تعودنا أن نفعل فيما لم نتأكد من صوابه:
والذى أذكره بشأن ‘هذا’ الشعر الذى تسميه التجربة الجديدة أو يسمونه الحساسية الجديدة، والذى لا أحب أن أدعوه لا هذا ولا ذاك، بل أنى أسميته مرة: الشعر الشعر وأخرى الشعر الفعل وثالثة: الشعر: جدل اللغة والوجود، فأنا لا أرضى لهذه التجربة الرائعة والرائدة أن تظل موصومة بالتجريب، بمعنى إحتمالية الفشل فالتراجع، لقد كان هذا – دائما- رأيى المعلن، فماذا أقلقك؟
زرزور: كثيرا ما فكرت فى إستياءاتك النقدية الدائمة من قصائدى الأحدث؟
الرخاوى: أرجو ألا تخوننى ذاكرتى وأنا أنفى عن نفسى كلمة ‘الدائمة’، ثم أنى لا أستطيع أن أدافع عن نفسى أمامك بدراستى النقدية لشعرك فى ‘القاهرة’ بعنوان ‘هوامش وهواجس’، فقد احتطت أنت للأمر إبتداء وقلت ‘الأحدث’ وإليك الإعتراف برمته:
فبعد أن بذلت كل هذا الجهد فى قراءة قصائدك بالقلم على الورق، بعد أن قرأتها ‘بالعين على الوعي’ ، إنتبهت إلى خطورة المسيرة، ورغم أن أصدقاءك تصوروا أنى أتحيز لك، فإن آخرين (د. شاكر عبد الحميد مثلا ) إنتبه إلى الهواجس أكثر من الهوامش- وقد لا حظت أنك لم تنتبه إليها بالقدر الكافى، فخفت عليك، وعليهم، وعلينا- ورحت أردد على مسامعك المحاذير والمخاوف مما يبدو أنه كاد يعيقك والعياذ بالله.
زرزور: أتساءل ماذا تماما؟ ما الذى يريده الدكتور العطوف بالضبط، ولا أجد إجابة ما…!!
الرخاوى: سيدي، كدت أشطب كلمة العطوف من هنا، فأنا لا أعطف على أحد بالمعنى الشائع، وإن كنت أحبك لا محالة، أحبك بما تمثله أكثر مما أحبك بما تتصور أنه أنت، فإن كنت تسمى هذا عطفا فليكن ذلك لك دوني، فأنا لا أسميه كذلك، وإنما أسميه ‘إنصاتا وجدية’، هذا هو غاية ما أستطيعه تجاه شاب (شباب) نقى متحمس آمل نشط، أما حكاية العطف، أو الصداقة الثللية، فهى ما آخذه عليك وعليكم، وعلى صفحات الثقافة فى بعض الصحف اليومية، وعلى مجمع المقاهى الثقافية، والثلل الإذاعية، ليست المسألة مسألة أنى أعرفك أو أعرف غيرك فأعطف (أستغفر الله) أو لا أعطف وكم رفضت نشر كتابة صديق صادق لأنها ليست هي، رغم ظهور اسمه عند مطبوعات ثلل أخري، لهدف آخر، وأنت تعلم ذلك، وأنا لا أرفض بذلك الصداقة الثقافية، ولكنى أراها للحوار لا للعطف والإئتناس فحسب، ثم أنى لا أريد شيئا بذاته، اللهم إلا أن تحسن الإستماع، وتعذر خوفي، وتقدر أن هذا الباب الذى تفتحونه – نفتحه- هو باب للمشى على الصراط وتحتنا النار، ومن حولنا السباع الجائعة، فلتكن المهارة والمعاناة هى هى زاد المغامر على السلك الرفيع، وليس أمامنا إلا المشى عليه، ربما بلا نهاية فى أفق الوعى الحالي.. إذن، ليس ثمة سبيل للتراجع أصلا، وربما أبدا، ألا أن المراجعة، حتى لو تعرضنا للسقوط هى ألزم اللزوم.
زرزور: أكتب أو لا أكتب؟ صدقنى “………..” أننى أترقب دائما هذه الإنطباعات “…….” ([1]) المهمة جدا.
الرخاوى: هذا هو المحظور ذاته، أنا أعلم أن قراءاتى لك ولغيرك هى إجتهاد جاد جدا، لكنها أبدا ليست حكما أو وصاية، فمنذ أعوام قريبة لم أكن أفهم ما أفهمه الآن، أو قل كان وعيى (النقدى) أضيق من قدرته على إحتواء هذه الرسائل المكثفة، وبعد أعوام (إن عشت) لا بد وأنه سيتسع أكثر فأكثر، ولعل ما أرفضه الآن هو إعلان لضيق وعيي، أكثر منه حكما يهددك بالتوقف. وإن كنت أحترم هذا التردد ولكن لتصلك رسالة تتساءل بعدها ‘أكتب كما أنا، أم أكتب كما أصير’ وليس أبدا ‘أكتب .. أو لا أكتب’ فالكتابة للشاعر ليست إختيارا جائزا ولكنها وجود حياتى جوهري، وكم أعلينا من قول هامات شكسبير ‘أكون أو لاأكون’، ثم تبينا أو تبينت أن هذا السؤال ساكن محدود، وخاصة إذا اعتبرنا اللا كينونة مرادفة للعدم، والكينونة هى تحقيق الذات (كما يقول ماسلو) – فى حين أن اللاكينونة هى خطوة ضمنية حتمية نحو الصيرورة، فيكون السؤال ‘أكون أو أصير‘ (مارا بالاكينونة فى جوف التحول الجدلي)- ولعل هذا هو ماأردت أن أبعثه إليك فى لقاءاتنا المتقطعة، ومن خلال هواجسى المنشورة، ولعلى كنت حادا أكثر فأكثر حتى عجزت عن أن أبلغك رسالتى تحديدا.
زرزور: وهذا يجعلنى أيضا فى خوف وحذر إنتظارا للتدشين الجميل منك، وفى كل مرة تصيبنى إمتعاضاتك فى مقتل لا يلبث أن يدفعنى دفعا إلى الحزن فالكتابة.
الرخاوى: هنا أقول : يافرحتي، وصلت الرسالة، وبعد رفضى البديهى لحكاية التدشين، فأنت تعلم جيدا كيف أقف عاريا أمام قصيدة حديثة، مثلما أقف تماما أمام جنون حى متناثر، فإذا وصلتني، تتلمذت عليها أتعلم منها، وإذا حال قصورى (أو تناثرها) دوني، عدت إليها، وهكذا، ورغم دفاعى عن جنون أساتذتى مرضاي، إلا أنى لا أدافع عن جنون قصيدة، والخط رفيع تماما بين الإثنين، وحين أكتشف أن جرعة الجنون أكبر من جرعة التجاوز، وأن الأخيرة لا تحتوى الأولي، ‘أمتعض’ (شاكا فى عجزى لا محالة)- فإذا كنت تلميذك (تلميذكم) المجتهد، فكيف – ومن أين لي- أن أجيب عن تساؤلك ‘أى كتابة’؟
زرزور: ما هو المطلوب منى بالضبط؟
الرخاوى: طلبت منك ذات مرة- إن كان من حقى أن أطلب- جمالا قويا غائرا.
زرزور: ما الكتابة الشعرية/ الجميلة/ المثمرة/ المتواصلة: المأمولة؟
ما العناصر الإبداعية التى تقترحونها لاجتراح قصيدة طيبة؟
الرخاوى: أنا؟ هل أنا الذى أجيب أم أنت/ أنتم، ثم أنك كتبت هذه الرسالة القصيرة بعد أن أعطيتك صورة مسودة دراسة هائلة (حجما على الأقل) هى فى سبيل ظهورها فى ‘مجلة فصول’ عن جدلية الجنون والإبداع (وأنا أشك أنك أعدت قراءتها بحقها)، وقد ميزت فى هذه الدراسة- كما قرأت- ما هو إبداع فائق عن ما هو إبداع بديل، وحذرت من الإبداع المجهض ناهيك عن الإبداع الزائف، وليس هذا مجال لتفصيل ما كتبت، وقد افتقدت فى خطابك هذا القصير أى تعليق على هذه الدراسة التى أنهكتنى واحتاجت منى أن أسافر لها معتزلا كل ما يمنعنى عن إتمامها، وقد حاولت فيها أن أجيب عن بعض ما تطرحه أنت الآن، ولكنى انزعجت حين قرأها بعض الشباب (ممن يشتركون فى النشر أحيانا فى هذه المجلة) ثم سرعان ما أدرجوا إنتاجهم- بأمانة عاجلة – فى خانة الإبداع المجهض، فحزنت وأسفت، فما قصدت أن أعيق أحدا (ولا نفسي، فكم أجهض شخصيا)- وعندى أن الإجهاض هو دليل على سلامة خطوات الحمل، ولا يبق علينا إلا تعهده فى المرة القادمة ليكتمل، أما أن نعتبر الجنين الناقص التكوين هو الكائن التام الدال على طفرة التطور الجديدة، فهذا ما أعيذك منه بكل إصرار ومعاناة.
زرزور: كيف قرأت: “الدخول فى مدائن النعاس”؟
الرخاوى: لم أقرأه سيدى حتى الآن، فاعذرني، وأنا لم أقرأه إهمالا، وإنما تأجيلا حتى أهدأ من ناحيتك/ ناحيتنا، وقد خفت من دراستى السالفة لشعركم على قراءتى هذا الديوان الجديد ، وأنا أعلم معنى صدور الديوان الأول لشاعر متميز مثلكم، لكنى أعيشك شعرا قبل أن تكتبه، فاقبل عذري.
زرزور: وكيف قرأت حوارى معكم: بعيدا عن ‘المعطف الرخاوي’ الذى إقترحتم عمله كحوار فى الإنسان والتطور.
الرخاوى: أرجو أن تصدقنى إذا قلت لك أنى بحثت عنه جادا هذا الصباح ومنذ أيام، فلم أجده ثم أنى فرحت أنى لم أجده، فقد إنتهت هذه القضية بالنسبة لى ولا أريد العودة إليها، قضية الإقتتال مع ‘الأب’ الخروج من تحت معطفه، ورغم معرفتى بحضورى الثقيل والعميق أحيانا، إلا أن معرفتى بحضورى الثقيل والمعيق أحيانا، ألا أن معرفتى بموتى الحتمى هى أكثر نصاعة وألزم حفزا، وقد إستعمل الناقد ‘علاء الديب’ نفس التعبير ‘عبادة الدكتور الرخاوي’ بعد العدد الأول من الإنسان والتطور، ولا أجد فى نفسى ميلا بعد ثمان سنوات، أن أعاود فتح ملف لابد أن التجربة الطويلة ردت على أغلب محتوياته، فما الداعى للألفاظ.
وبصفة عامة، فما زلت رئيس التحرير (المسئول !!) ومازلت آمل فى الأصغر أكثر مما أعطوا فى العددين السابقين، ومازلت أرفض رفضك للشعر الآخر، وأذكرك أنك رفضت تصنيفى للشعر إلى مستويات مختلفة ، وتركيبات مختلفة، وكأنه لا شعر إلا شعر الحداثة، وكأننا سننساق إلى ‘حوار الصم’ : مثل محمد الماغوط والرد عليه من محمد يوسف حسن، وعبد العليم عيسى ([2]) ، هذا يقول أن شعركم نصفه شعر ونصفه غوغاء وتلفيق، وذاك يرد أن شعركم هو ‘الفوضى بعينها’– فالشعر- عندي- ليس شعرا واحدا بل هو كثير كثير، ولكل مستوى أصوله، وغايته، ووظيفته، وأحسب أن ما يبعدنى عنك أحيانا هو إفتقارى إلى رحابة وعيك حتى يثرينا الحار مع المختلف، وإلا فالدائرة مغلقة، والسير : فى المحل.
أما بقية الرد على تعليقك وعن قبول التحدى الملقى عليكم نتيجة لانسحابى المزعوم، فالزمن كفيل بالقيام بالمهمة، إذا لم تتوقف هذه المجلة، لهبوط الهمة أو غلبة الطفلية، أو على الجانب الآخر ليأس الشيخوخة وادعاء الاستكفاء.
***
[1] – النقط بين علامات التنصيص تحوى كلمات فى شخصى هى أقرب الى المديح من أمثال “عطوف”….. الخ فأعتذر عن حذفها دون اخلال بالسياق.
[2] – الأهرام: الخميس 18 والخميس 25 / 12 / 86 .