تربية المعالج النفسى: خبرة شخصية
د. رفعت محفوظ
المقدمة:
أن تربى معالجا نفسيا بالمعنى الحقيقى للكلمة، وهذا المعالج يحثك فى مجال عمله بمئات، بل بألاف، الأفراد الذين يطلبون المساعدة والنصحية والعلاج، ويؤثر فيهم تأثيرا ايجابيا، وهؤلاء بدورهم يؤثرون فى الآف الأشخاص الذين يتعاملون معهم فى أسرهم وفى مجال عملهم، وقد يكون منهم من هو مسئول مباشرة عن أعداد كبيرة من الأفراد: كرب الأسرة، والزوجة، والمدرس، والرئيس والمدير فى عمله، وهم ينقلون بطريقة أو بأخرى هذا التأثير الايجابى الى كل من يحتكون بهم.. وهكذا تتسع دوائر التأثير.. أضف الى ذلك أن هذا المعالج الذى تربى تربية حقيقة، من الواجب عليه أن يحمل على عاتقه أمانة نقل الخبرة الى زملاء له آخرين، بمعنى أن يكون هو الشخص المسئول عن تربية معالجين يكون لهم أثرهم الفعال كما ذكرنا.. أقول أن يكون مهمتك الأساسية هى هذه.. فتلك رسالة خطيرة وعظيمة…
أما بعد.. فلا أجد عندى تحية أخرى أحبى بها المربى الدؤوب الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوي، الذى يرجع اليه الفضل كله فى تربيتي، وتربية العشرات غيري، من منطلق الأهمية القصوى لتربية المعالج من حيث أنه الأداة البشرية للتقويم والحكم والتشخيص والعلاج، وهو الذى يأتى فى المرتبة الأولى قبل أى شئ فى مجال ممارسة الطب النفسى.
وعلى الرغم من الصعوبة الشديدة فى نقل هذه الخبرة، ومع علمى بأن مالا أستطيع التعبير عنه فى الألفاظ قد يكون هو الجانب الأهم من هذه الخبرة، ،مع علمى أيضا بأن بعض جوانب الخبرة قد يتسطح ويفقد حيويته من خلال الألفاظ… بالرغم من كل ذلك فأننى سوف أحاول، لعله قد يكون فى محاولتى هذه بعض الفائدة….
وسوف يتضمن الجزء الأول من المقال محاولة توضيح ما أعنيه بالكلمات التى وردت فى العنوان: خبرة شخصية، المعالج النفسي، التربية. أما الجزء الثانى فسيحتوى على بعض الوسائل الهامة فى تربية المعالج النفسي، ثم أخيرا الصعوبات التى تحدث أثناء تربية المعالج.
أولا : الخبرة الشخصية
لقد كان المدخل الرئيسى لتعليمى أسس مهنة الطب النفسى هو التركيز على شخصى كانسان له مقوماته وصعوباته التى تحد من رؤيته ووعيه وفعاليته فى مهنته وفى حياته بصفة عامة. وأنا أنقل هنا بعض العبارات التى كانت تقال ([1]) لى المرة بعد المرة، وفى أكثر من سياق، وأحيانا بطرق مخالفة، وذلك لتوضيح مدى ارتباط نوعية وجود المعالج بنوعية ممارسته الطبنفسية:
- ما يصل للمريض ويساعده هو أنت من حيث ما تحاوله مع نفسك، وموقفك من الحياة، وما يعكسه سلوكك الخاص، وليس فقط علمك وشطارتك فى مهنتك.
- هل أنت تحاول أن ترى فى نفسك ما تحاول أن تريه للمريض فى نفسه أم لا؟.
- هل تحاول أن ترى وجه الشبه بينك وبين المريض أم لا؟
- ما تطالب به المريض فى مجال الفعل، هل أنت تفعله بأى قدر، أو تطالب به نفسك، أم لا؟
ولتوضيح مدى الأهمية والجدية والاحترام فى العلاقة بالمريض، كما يقال لى – على سبيل المثال:
- ما ترضاه لنفسك، وما ترضاه لأى شخص عزيز عليك قريب منك، يجب أن يكون هو الشئ الذى ترضاه للمريض.
- من أجل أن يشفى المريض، يجب عليك أن تأخذه معك وأنت ذاهب الى بيتك. بمعنى أن يكون حاضرا فى داخلى مشغول به وأنا فى بيتي، وألا تنقطع علاقتى به بمجرد تركى مكان العمل.
- علاقتك بالمريض يجب أن تقوم على الصراحة والوضوح.
- لا تكذب على المريض مطلقا.. ولا تخدعه.. ولا تعده بما أنت غير قادر عليه.. واذا وعدت المريض بشئ ثم نسيت ذلك، أو لم تستطع الوفاء بما وعدت، فعليك أن تعتذر للمريض بصدق عن ذلك.
ويجب على أن أنبه هنا أن هذه العبارات السابقة، وغيرها الكثير الكثير، لم تكن تقال لى بالبساطة والسهولة التى قد تبدو عليها، وأنما كانت تصلنى فى حينها على أنها قضايا أساسية وحيوية لا غنى عنها وكنت أحس بثقلها وجمرها، ولم يكن تقبلى لها سهلا بسيطا.
وبالرغم مما كنت أحسه من مشقة وصعوبة ومعاناة، وأنا أحاول الالتزام بكل ما كان يقال لي، الا أننى لم أتعلم ما هو مفيد فى مهنتى وفى حياتى الا من خلال معايشة كل ذلك، ولم أستطع أن أفعل شيئا للمريض أفخر به بينى وبين نفسي، وأحس تجاهه بالرضا، الا من خلال الاجتهاد فى الالتزام بذلك. من هذا المدخل تعلمت وتعمق احساسى بمعانى الكثير من المفاهيم الأساسية اللازمة لممارسة الطب النفسى، مثل: معنى الخبرة المعاشة وأهميتها الحيوية والأساسية فى التغير والتواصل، معنى العلاقة الحقيقية، معنى المشاركة، معنى المسئولية عن آخر، معنى الكلمة الطيبة ومدى فاعليتها، معنى احترام الآخر، معنى أن يعامل المريض كانسان أولا وقبل كل شئ…. وغير ذلك الكثير…
ويمكننى القول، أنه من كل ذلك، وصلتنى رسالة أساسية مضمونها: لكى تكون معالجا فعالا يجب أن يكون اهتمامك بمرضاك اهتماما حقيقيا نابعا من داخلك. وأن تحاول دائما مع نفسك حتى تحافظ على حركتك وتغيرك ونموك، ومن ثم تزداد فعاليتك فى دوائر تواجدك المختلفة.
وهناك جوانب أخرى هامة فى تربيتي، سوف أشير اليها سريعا، منها تعلم احترام العقل والمخ البشري، من حيث العناية بصقله وتغذيته بكل ما هو مفيد من فروع المعرفة المختلفة، مع محاولة ربط المعلومات بعضها ببعض، ومحاولة رؤية العلاقة بينها وبين الحياة العملية، مع العناية بطرق التفكير، مع الحث على الشجاعة فى التفكير وابداء الرأى.
وكانت هناك وسائل محددة لكى أتعلم ذلك من خلالها، منها: الحث على المشاركة فى البحث العلمى المنظم منذ بداية الطريق، الانتظام فى الحصول على الدرجات العلمية المتاحة فى مجال التخصص، الانتظام فى الحصول على ليسانس الآداب – فرع الفلسفة – المشاركة فى الندوات الثقافية التى تنظمها الجمعية، الحث المستمر على الكتابة والنشر….. الخ.
هذا هو الجانب الأول والأساسى فى خبرتى الشخصية، وأعنى به خبرتى ومعايشتى لعملية التربية من حيث كونى مشروع معالج نفس، يربى على يد أستاذ مربي، وعلى طول هذا الطريق الطويل كنت أحاول وأستسلم، أتذكر وأنسي، أنجح وأفشل، أقدم وأتقهقر، أخاطر وأهرب، أبصرو أعمي، أمل وأياس… وبالرغم من مرور أكثر من 13 عاما حتى الان، فأننى ما زلت أحس فى قرارة نفسى أننى مشروع معالج نفسى يحتاج دائما الى المحاولة الجادة والاجتهاد المخلص، وأحس أننى أتخلق كمعالج أمام كل مريض جديد، وذلك على قدر نجاحى فى التواصل و الفعالية مع هذا المريض….
أما الجانب الثانى من خبرتى فهو يتصل بزملائي، الذين بدأوا الطريق معى فى نفس الفترة الزمنية، والذين بدأوا بعد ذلك على فترات متعاقبة، وخبرتى هنا هى نتاج تفاعلى معهم من حيث كونى رفيق طريق وكذلك من حيث كونى طرفا مسئولا – بدرجات متفاوتة- فى عملية التربية.. وهذا الجانب علمنى الكثير من حيث تأكيد الجانب السابق، ومعرفة مدى صعوبة أن تكون مسئولا عن جانب أو آخر فى عملية تربية المعالج النفسي، وأكد لدى بعمق مدى أهمية تربية المعالج النفسى…
ثانيا: المعالج النفسى
وماأقصده هنا بالمعالج النفسى هو كل من يتصدى لمساعدة وعلاج من يعانون من أمراض ومشاكل ومعاناة نفسية بطريقة علمية مهنية منظمة، وذلك باستعمال كل الوسائل المتعارف عليها لعلاج النفس (العلاجات الكيميائية والفيزيائية، الكلمة، العلاج النفسى المنظم بأنواعه وأشكاله المتعددة، الأنشطة العلاجية المتنوعة… الخ.
والمعالج النفسي- بصفة عامة- يجب أن تكون له مواصفات معينة، يسعى طوال الوقت الى اكتسابها من خلال العملية التربوية، كما أنه يحاول دائما الحفاظ على هذه المواصفات وتنميتها. وهذه المواصفات – وباختصار- تتعلق بالالمام بالأسس العامة للتخصص ومتابعة اتجاهاته المختلفة، مع العناية بالاطلاع فى المعارف والعلوم الانسانية الأخري، ومسايرة الأحداث اليومية وأن يحاول دائما أن يكون له موقفا فعالا فى الوجود، من خلال رؤية فى الحياة، مع استعداد للتغير والتطور بوعى واختيار ومسئولية، وذلك فى حياته المهنية وحياته الخاصة، مع رؤية العلاقة الشديدة بينهما، على أن يكون فى كل مراحله مهتما اهتماما حقيقيا بالناس، ويزيد من هذا الاهتمام من خلال الاحتكاك والممارسة.
وهذا المعالج عندما يواجه المريض، فى المواقف العلاجية المختلفة، فأنه يكون حريصا طوال الوقت على أن يكون حاضرا معه بكليته، ويكون همه الأكبر هو التواصل معه، من خلال أقامة علاقة علاجية حقيقية، يتجاوز معها، يتعالى على معارفه النظرية ويصبح وجودا انسانيا فى تفاعل وحوار حى مع وجود انسانى آخر، هادفا ابتداء الى تخفيف معاناته، ثم الى مساعدته على التغير والنمو، على أن يتم ذلك فى اطار خطة علاجية متكاملة الأبعاد.
ثالثا: التربية
أن عملية تربية المعالج النفسى عملية شاملة ومركبة، أذ أنها تحتاج الى عناصر كثيرة، كما تتضمن فى داخلها عدة عمليات هامة، بالأضافة الى تعدد أبعادها ومستوياتها. وسوف أشير فى النقاط الآتية الى جوانبها الهامة كما عايشتها وخبرتها بالنسبة لنفسى وزملائى.
1 ـ العناصر الأساسية لتربية المعالج:
(أ) تحتاج عملية تربية المعالجين النفسيين – ابتدلء -الى مربى مسئول له مواصفات معينة، ليس لى أن أدخل فى تفصبلاتها الآن، ويكفى هنا أن أشير الى أنه يجب أن تكون له رؤية فى الحياة، وفى الانسان، وفى الصحة، وفى المرض، وفى العلاج، وفى التربية، ويتمثل كل ذلك فى موقف وجودى متسق. ويمثل هذا المربى القدوة الواضحة الصادقة لما يطلبه من تلامذته وكل من يتعهدهم بالتربية والصقل.
(ب) تهيئة الوسط أو البيئة المناسبة، وهو مكان العمل المشترك الذى يجرى فيه مساعدة وعلاج المرضي، وتربية المعالجين، ويجب أن تسود هذا الوسط فلسفة معينة، وروح علاجية واضحة ومتميزة، مع حد أدنى من الاتساق والمرونة والسماح، على أن ينعكس ذلك على كل الأفراد المساهمين فى تشكيل وبناء هذا الوسط، كما ينعكس على تنظيم الوقت والعلاقات داخل الوسط.
(جـ) الوسائل المناسبة التى تساعد على انجاز خطوات ومراحل التربية( مما سنعرض له لاحقا).
(د) وبديهى أن عملية التربية تحتاج الى الشخص الذى يرغب فى أن يصبح يوما معالجا نفسيا على الحقيقة.
2 ـ العمليات الأساسية فى التربية:
(أ) تحتوى التربية على عملية النمو النفسى بكل أبعادها ومراحلها. وتعتبر هذه العملية جوهر وهدف عملية التربية. والمقصود بها هو اطلاق الطاقات والقدرات الكامنة فى الفرد – مشروع المعالج النفسى – لكى تتكامل مع بعضها، مع ما هو قائم فعلا، على أن يتم ذلك فى اطار واقعي، ويتحقق فى فعل يومى وبذلك يزيد ويعمق وعى ورؤية المعالج، كما تزيد وتعمق فعاليته، باختصار يتطور نوع وجوده كانسان وكمعالج.
(ب) تحتوى التربية على العملية التعليمية، والتى تتكون من شقين أساسيين، الشق الأول والهام فيها هو الجانب الأخلاقى والقيمى والشق الثانى هو الجانب العلمى. ويكون التركيز فى الجانب الأول على تأصيل قيم أساسية تتصل بتحصيل ونقل المعرفة، وتتصل بالعلاقات بالآخرين، منها: الاتقان، والأمانة بصفة عامة والأمانة مع الكلمة بصفة خاصة، والاحساس بالمسئولية… الخ. ويكون التركيز فى الجانب العلمى على تحصيل المعرفة المنظمة والبحث فى مجال التخصص، ومحاولة الالمام بالجوانب الهامة فى المجالات المعرفية الأخرى التى تهتم بما هو انسان، على أن يكون الموقف فى العملية التحصيلية ليس فقط موقف المتلقى السلبى وأنما المتلقى الايجابي، وليس موقف من يحفظ ليردد ويتباهى وأنما من يحاول أن يهضم ويستوعب ويربط معلوماته التى يكتسبها بحياته العملية ويتم ذلك فى اطار من تعلم كيفية التفكير العلمى المنظم.
(جـ) العلاقة بين المربى ومشروع المعالج هى فى صميمها عملية حوار حقيقى خلاق، ويزداد هذا الحوار ويعمق وتتحسن نوعيته وتزداد فائدته المتبادلة مع استمرار العلاقة.
(د) تحتوى التربية على ما يمكن أن يسمى عملية التربية الذاتية، حيث يبذل من يحاول أن يتعلم كيف يصبح معالجا جهدا حقيقيا مع نفسه فى محاولة الانفتاح على المصادر الأخرى التى تفيده فى عملية التربية، ومن أهم هذه المصادر المرضى والأملاء والآخرين لصفة عامة، ويزداد حجم هذا الجانب تدريجيا مع تقدم مراحل التربية، ويتناقص معه – من الناحية الأخرى – تدريجيا العبء الملقى على عاتق المربى الأول، ولكن دون تخل عن المسئولية فى أية لحظة.
(هـ) كما تتضمن عملية التربية أن يحث المربى – فى الوقت المناسب – من يقوم بتربيتهم على تحمل جزء من المسئولية التربوية فى جانب أو آخر، بمعنى أن كل فرد يتحمل مسئولية تربية زملاء له آخرين أقل منه على سلم العملية التربوية، ويصبح التنظيم داخل نطاق المجموعة الواحدة تنظيما هرميا على قمته المربى الأول وفى قاعدته كل من هو فى بداية الطريق. وهذه التنظيمة الهيراركية فى تسلسل المسئولية التربوية مفيدة جدا فى تعميق الاحساس بالمسئولية، والأسراع بالعملية التربوية.
3 ـ الفروق الفردية فى العملية التربوية:
بالرغم من أن العملية التربوية لها أطرها وأسسها العامة، الا أنها تحترم الفروق الفردية، وتدخلها فى حساباتها كعامل هام وأساسي، وعلى ذلك فان مدخلها قد يختلف من شخص الى آخر، ويختلف تبعا له ترتيب الأولويات، فكل معالج ينمو بطريقته الخاصة حتى يحقق ذاته بامكانياته المختلفة.
4 ـ عملية التربية كمراحل متصلة:
وفى النهاية، فأن عملية التربية هى عملية مستمرة مفتوحة النهاية، ولها مراحلها المتصلة والمتصاعدة تدريجيا، ونجاح أى مرحلة يفضى بالضرورة الى المرحلة اللاحقة، كما أنه شرط أساسى للدخول فيها، كذلك فى كل مرحلة يعاد تقويم العملية التربوية للفرد الواحد على أساس نتاج هذه المرحلة، وقد يعدل بناء على ذلك ترتيب الأولويات، أو الوسائل المختلفة، مع محاولة ضبط الجرعات وضبط توقيتها طوال الوقت. ولسبب أو آخر قد تتوقف عملية التربية عند مرحلة بعينها لشخص بذاته، بما يسمح بنوعية معينة من الممارسة الطبنفسية، دون غيرها، وبما يستطيع معه استعمال وسائل علاجية معينة دون غيرها، وتكون مسئولية المربى التنبيه على هذا الشخص وآعلامه بكل ذلك.
وأود فى نهاية هذا الجزء التأكيد على أن العملية التربوية فى جوهرها واحد، وذلك فى جميه مجالاتها المتعددة(التربية فى المنزل، فى المدرسة، فى الجامعة، فى أى مجال عمل… الخ) وهدفها فى النهاية هو دفع عملية النمو النفسى بكل أبعاده، حتى يصبح وجود الفرد وجودا إنسانيا حيا هادفا مبدعا فعالا، وما يختلف من مجال الى آخر هو وسائل التحقيق وطرق توصيب الرسائل، وترتيب الأولويات، والجرعة، ونوعها، وتوقيتها….
رابعا: وسائل تربية المعالج النفسي
وهنا سوف نتكلم عن مجالات الاحتكاك والممارسة، التى تتيح تربية المعالج النفسي، ومن خلالها وبها يستطيع المربى توصيل ما يريد توصيله الى تلميذه، وذلك من خلال خبرتى مع هذه الوسائل.
1 ـ الممارسة الطبنفسية العامة:
وهى تتيح للمعالج – على طريق التربية -ما يأتي:
(أ) الاحتكاك بعدد كبير من المرضى.
(ب) الاحتكاك بنوعيات كثيرة من المرضى.
(جـ) الاحتكاك بنوعيات تشخيصية كثيرة.
(د) الاحتكاك بعدد كبير من أهالى المرضى.
(هـ) مقابلة تنويعات كثيرة من الصعوبات الشخصية والعلاجية.
ولكى يكون هذا الاحتكاك مفيدا ومثريا للمعالج والمريض معا، يجب مراعاة الآتي:
(أ) أن تتاح فرصة هذه الممارسة والاحتكاك داخل مستشفى للأمراض النفسية، حيث يقيم المعالج أطول فترة ممكنة مع المرضي، تحت ظروف ومواقف متنوعة.
(ب) التدريب المستمر على طرق الملاحظة المباشرة والمنظمة، مع القيام بتسجيل ذلك كتابة.
(جـ) أن يقوم المعالج بتمريض المرضى بنفسه، وذلك ابتداء من العناية بنظافة المريض، وملبسه، ومأكله، واعطائه الأدوية، مع الجوانب التمريضية الأخرى. وهذا الجانب هو من أهم جوانب الخبرة والتربية، ومن أهم العوامل التى تساعد على أقامة علاقة علاجية بين المعالج والمريض.
(د) عند الجلوس لسماع المريض يراعى المعالج أن ينصت جيدا لما يقوله، وألا يستعجل فى اصدار حكم أو تشخيص، أو يتسرع فى اللجوء الى طريقة علاجية معينة، وبذلك يتعلم ويعود نفسه على عدم الاستسهال، وتزيد قدرته على تحمل الغموض والمتناقضات، والصبر على الصعوبات.
(هـ) القدرة على تحمل الفشل، وعدم الفرحة الزائدة بانجاح، والتتبع المستمر للمريض.
(و) الاحتكاك بأهل المريض، ورؤية المريض وهو يتعامل معهم، وهم يتعاملون معه، ويستحسن زيارة البيئة الأصلية للمريض فى منزله، ولو استدعى فى عمله.
كل ذلك يتبح للمعالج فرصة كبيرة على تقوية حسه الاكلينيكي، وتزيد فرصته فى التفتح للتعلم، ومعرفة وادراك أهمية الفروق الفردية بين مريض وآخر، ومن الناحية التشخيصية يتعلم المعالج عدم النظر للمريض كمجموعة من الأعراض، وأنما يرى المريض فى دوائرة المتعددة( كل عرض فى سياق الصورة الاكلينيكية العامة، والصورة الاكلينيكية فى سياق المريض نفسه، وهذا المريض فى سياق عائلته، ثم فى سياق بيئته……. الخ)
كذلك يتعلم المعالج ويتدرب على أن للتشخيص أنواعا ومستويات متعددة، ويتعلم أن الأعراض والأمراض النفسية لغة أو شفرة لها معني، وكلما اقترب أكثر من داخل المريض ومن حياته وعلاقاته استطاع أن يفك رموز هذه الشفرة. وكل هذه المعرفة تتبلور فى النهاية فى وضع خطة علاجية للمريض لها أهدافها العلاجية ومراحلها.
2 ـ العلاج النفسى الفردى
أى جلوس المعالج والمريض، وجها لوجه، فى اطار علاقة علاجية، لمدة تتراوح بين 45 – 60 دقيقة، مرة أو أكثر فى الأسبوع، لفترة قد تمتد لسنوات عديدة.
وتأتى الفائدة من هذا النوع من الممارسة العلاجية حين ينصت المعالج جيدا للمريض، ويصبح حاضرا معه بكليته على قدر استطاعته أطول فترة ممكنة من وقت الجلسة، وأن يحاول مشاركة المريض والاحساس بعالمه الداخلي، مع عدم الاستعجال فى اصدار الأحكام، أو اعطاء النصائح السريعة، أو التفسير أو التحليل. وعندما يوجه اليه المريض كلاما عن شخصه – أى شخص المعالج عليه أن يأخذه على أنه احتمال قائم، وعليه أن يراجع علاقته بمريضه باستمرار، وينظر فى علاقة المريض به. وهذه العلاقة الطويلة مع المريض، والتى تتسم فى وقعها بالحركة والدينامية والحوار المتبادل، هذه العلاقة تتيح للمريض أن يتحسن ويتغير وينمو، كما أنها تتيح للمعالج أن يتعلم ويتغير ويتطور وتزداد خبرته، بالأضافة الى أنها تثرى الممارسة العامة فى الطب النفسي، كما تفيد علاقة المعالج بوسائله العلاجية الأخرى.
3 ـ العلاج النفسى الجمعى:
هذا النوع من العلاج النفسى يمثل مستوى آخر، ونوعية مختلفة من الممارسة والاحتكاك بالمرضي، وفرصة أكبر لنمو المعالج وتطوره، ومجالا أرحب وأوضح للمربى فى عملية التربية، وتعتبر جلسات العالج النفسى الجمعى بمثابة المعمل للتغير والتطور، وذلك بالنسبة لكل من يشارك فيها مشاركة حقيقية. ويمر المعالج بمراحل عديدة حتى يستطيع فى النهاية أن يكون مسئولا عن قيادة مجموعة علاجية، حيث يبدأ بالملاحظة عن قرب لفترة قد تطول أو تقصر على حسب استعداده، ثم المشاركة الفعالة داخل المجموعة كعضو من أعضائها، ثم مساعدا لمعالج أكبر، ثم معالجا أساسيا.
والتدريب على هذا النوع من العلاج يساعد المعالج أن يرى نفسه، ودفاعاته، وصعوباته الشخصية، فاذا تحمل كل ذلك وأستمر فى التدريب، وازدادت درجة ايجابيته فى المشاركة فأنه حتما سيتغير ويتطور. وأما من جانب المربي، فإن العلاج النفسى الجمعى يتيح له فرصة رؤية أفضل لتلميذه، وفرصة أكبر لمساعدته على أن يرى نفسه، وينمى تلقائيته وحدسه ونوع معايشته ومشاركته للمرضى.
4 ـ النشاطات العلاجية الأخرى:
وهذه النشاطات تشمل العمل العلاجي، والجرى العلاجي، واللعب، والرقص العلاجي، ونشاطات أخري، وهذه الممارسات العلاجية الجماعية نماثل العلاج النفسى الجمعى ولكمن باستعمال لغة أخرى – أقصد لغة الجسم – والحركة والفعل والإيقاع… و أثناء ممارسة كل هذه النشاطات يتواجد المعالج جنبا الى جنب مع المرضي، يشارك ويمارس نفس النشاط. وهكذا يستطيع المعالج أن يرى مقاومته وصعوباته ودفاعاته ونوع اغترابه، مع محاولة أختراق كل ذلك، وبذلك تتجدد رؤيته لنفسه ورؤيته للمريض من منظور آخر، كما يستطيع اكتشاف قدراته وطاقاته وقدرات وطاقات المريض.
5 ـ المجالات التعليمية الأخري:
وهى المجالات المتعددة التى تهتم بالجانب النظرى واكتساب المعلومات المنظمة فى التخصص، كذلك الاهتمام بالبحث العلمى المنظم، مما لا أرى مجالا لتفصيلها فى هذا السياق.
6 ـ الأشراف المنظم:
وبديهى أن عملية تربية المعالج النفسى تتم فى اطار أشراف ومتابعة مستمرة ومنظمة، وهذا الجانب يتم على مستويات متعددة، وينقسم الى مجالات تتنوع بتنوع الممارسة، وأيضا لا أرى لتفصيلها فى هذا السياق مكانا.
خامسا: الصعوبات .. والتوقف.
وكما يتضح لنا حتى الآن، فأن عملية تربية المعالج النفسى عملية طويلة وشاقة، لها صعوباتها ومأزقها ومخاطرها، مما سنعرض له بايجاز شديد.
1 ـ الصعوبات:
(أ) المعاناة المتزايدة التى تصاحب رؤية المعالج الجانب الآخر فى نفسه، مع محاولة تحمله وعدم الاسراع الى تغطيته باللجوء الى دفاعاته القديمة، وما يصاحب ذلك من خوف، ومقاومة، وتردد.
(ب) مع زيادة وعى ورؤية المعالج، يزداد احساسه بمدى عبء المسئولية التى تقع عل كاهله.
(جـ) شعور المعالج بوحدته أكثر من ذى قبل، ويتعمق هذا الشعور ويزداد، حتى يرى المعالج نفسه وجها لوجه أمام ما يسمى بالوحدة الوجودية والتى عليه وحده أن يتحملها، ومشاركة الآخرين تلطف فقط من حدتها ولكنها لا تلغيها أو تمحوها.
(د) التوقف المؤقت.. حيث أن تغير المعالج وتطوره لا يتم فى خط مستقيم متصل، وأنما يتم فى صورة لولبية متصاعدة، وأمام كل نقلة نوعية فأنه يمر بأزمة حقيقية، قد تزيد حدتها لدرجة التوقف المؤقت، وفى كل مرة يمر فيها بهذا المأزق يجد نفسه يواجه بنفس التساؤلات الجذرية الأساسية، ولكن من منطلق جديد ورؤية أعمق.
(هـ) محاولة التوصيل بين حياته الخاصة وحياته المهنية.. وقد تكون هذه من أصعب المناطق على الأطلاق، وهى ترتبط بشكل عام بدرجة نموه ووعيه ورؤيته وأمانته ومسئوليته.
2 ـ التوقف عن التغير:
وهنا سوف أسوق بعض معالم هذا التوقف الذى قد يستمر، وقد ينظر إليه على أنه نوع من التدهور والرجوع الى الوراء.
(أ) يكتفى المعالج بالتركيز على أعراض المريض وليس على رؤيته ومعرفته ككيان بشرى كلي، مع الاكتفاء بمستوى تشخيصى واحد.
(ب) ترجمة كل ما يقوله المريض ويعايشه الى أعراض مرضية.
(جـ) يصبح الهم الكبير للمعالج هو قمع الأعراض والمرض بسرعة وبأسهل الطرق، وهنا لا يعى المعالج أنه بهذا يقمع المريض ككل، ولا يعطى نفسه فرصة رؤية احتمال آخر.
(د) البعد عن المريض، بمعنى عدم حضور المعالج معه ومشاركته.
(هـ) العقلنة والتسرع فى التفسير والتحليل من خلال اطار نظري، وليس من خلال معايشة ومشاركة وحدس.
(و) يكرر المعالج نفسه من كل مريض، ومع المريض الواحد فى المواقف المختلفة، وبذلك يصبح موقفه وألفاظه جافة لا نبض فيها ولا حياة، وتقل فاعليته تدريجيا ويزداد تسطيحا.
الخاتمـــــــة
وبعـد ..
فلقد حاولت فى هذا المقال أن ألخص خبرتى الشخصية فى مجال هو من أصعب وأشرق وأشرف المجالات، ألا وهو تربية المعالج النفسي، والتى فى اعتقادى أنها لا تختلف فى جوهرها وهدفها عن التربية بصفة عامة، وأخذ هذا الموضوع بجدية تامة ومحاولة أمنية هو من أهم السبل للنهوض بالطب النفسى فى مجالاته المتعددة.
[1] – القول هنا، بطبيعة الحال، للأستاذ الدكتور يحيى الرخاوى.