الصندوق (قصة)
أحمد زغلول الشيطي
كانوا هناك، فى الضوء الشحيح يتشاورن. كنت أسمعهم رغم صفير البواخر. كان أحدهم مصرا على الأ يبيت فى الميناء. لقد خالف أصدقاءه مرارا، وقاطعهم. أما الاخر الذى بدا فى صوته أحساس بالمرارة واليأس فقد لزم الصمت أخيرا وجلس فوق حاجياته يتطلع الى النجوم المتألقة فى الضفة الأخري. لقد حذرونى دائما من مغبة الغفو ولو للحظة فى مثل هذه الظروف. كنت مرتديا معطفا من معاطف جنود الجيش، أعطانى إياه ذلك الكورى الذى حاول طيلة الأمس أن يكون لطيفا معي. قال أنه اشترى هذا المعطف لنفسه من أحد الجنود الانجليز أثناء الحرب العالمية الثانية. كان الأمر بالنسبة لى لا يختلف. غطيت أذنى ووضعت يدى فى جيبى المعطف. كانت الحركة فى الميناء أكثر هدوءا عن الظهيرة، فقط الصفير المتقطع المرعد يذكرنى بالسويس وأمي.
لم يكن شئ آخر يزعجنى لدرجة مرعبة، ولا حتى هبات الرياح الثلجية، تغرس أبرا فى وجهى وعينى طيلة نهار اليوم وأثناء المساء الذى هبط فجأة بعد أن صارت السماء بلون الدم كنت أرقب السفن فى دأب علنى أرى سفينة عربية وفى كل مرة يتضح أن أحد السفن الأمريكية تقصد البحر الكاريبي.. عددت طيلة الوقت السفن ظننت أنها عربية. كنت أفعل ذلك من باب التسلية. والآن لم يكن أمامى الا أن انتظرهم لقد قيل لى بالأمس فى المكتب التابع لشركة تشغيل المهاجرين أنهم يأتون عادة الى الميناء. وأن على أن أنتظرهم، وهذا هو عملي. فأذا ما أتوا أخيرا على أن اصحبهم الى فندق انتركونتننتال وأعطى خبرا لمكتب تشعيل المهاجرين من خلال التليفون. لم يكن هناك شئ يجعل الوقت يمر لسرعة أكثر. وكانوا قد فرغوا من نقاشهم وارتكنوا الى حاجياتهم. ظننت أنهم قرروا أخيرا أن يبيتوا فى الميناء. لكن أحدهم كان يقفز فجأة محدثا ذعرا فى الاخرين ويصرخ فيهم. كانوا أتراكا أو ايرانيين. أنهم أكثر الناس اختلافا وضجيجا عندما يأتون كجماعة. أنهم مختلفون عن اليونانيين. لأن اليونانيين اذا اختلف أحدهم مع الآخر ذبحه فى الحال.
لو ينقطع هذا الصفير!
يبد أن بعض السفن لم تكن لتفعل ذلك الا لتثبت أنها مستيقظة ذلك لأن عصابات اللصوص ما كانت تهدأ خاصة بالنسبة للسفن الآتية من أمريكا وأوربا، والمتجهة الى الدول المطلة على البحر الكاريبي. لم يكن قد مر وقت كثير على التحاقى بهذا العمل. قال الرجل الأمريكى والذى يسمونه مستر دوفال:Give me work – I give you Dollars.
- لم يكن الصفير ينقطع حتى هذه اللحظة من الليل، وكان خليط من جنسيات كثيرة يمرون أمامى صاعدين الى مداخل المدينة. فى بادئ الأمر كنت أقول لهم أنا مصري. وكنت أتوقع فيهم أحد المصريين غير أن أحدهم بصق ذات مرة. فأمتنعت عن أن أقولها وأكتفيت بالنظر فى وجوه الآتين من البواخر. وفى وجوه عمال الشحن والتفريغ وبحارة السفن، وفى يوم قال مستر دوفال أنه قليلا ما تأتى السفن المصرية الى هنا.
فقط: لو ينقطع الصفير الملعون
كنا نقف على شاطئ القنال ونلوح للخواجات بأيدينا، كنا نقول هاللو مستر جاك. وكانوا يلقون علينا بقطع من الشيكولاته اللذيذة الطعم وفى مرة سألتنى فتاة من الخواجات. ترتدى ثوبا أحمر. ولونها أحمر وهى كالتفاحة الطازجة ما اسمك ؟.
وكنت فى مدرسة الجلاء الثانوية. لحظتها نسيت اسمي. كنت مأخوذا وكانت السفينة برتقالية. نعم برتقالية. وفيها شريط أحمر بالطول. كانت رغم لهفتى تمضى مسرعة تجاه بورسعيد. وجريت بطول الشاطئ. ناديت. آلاف القبضات تدق آبواب قلبي. سقطت فوق تلال الرمال.. نهضت.. كنت أتقافز وأطير. بينما هى تغيب لا محالة. تعثرت فى دشمة أحد المدافع وسقطت وسط الآسلاك الشائكة. وأذ أيقظونى بوقت ما كنت أردد: اسمى مستر أحمد! أن ذلك بعيد الآن.. على أن أخبئ أذنى جيدا، لأن المرء اذا دفأ أذنيه. عم الدفء سائر الجسد. خاصة وأن أبواق السفن لا ترحم، ولعل نفس الصفير جذب أبى فى دوامته يوما، ولعله ارتاح فعلا فى سن مبكرة.
لقد آتى الى البيت فى أحد الأيام. وبعد غياب ثلاثة أعوام، داخل صندوق من الخشب. مبطن من الداخل بصفائح من الصاج والكرتون الاسفنجى بينما اسمه مكتوب بالأصداف بطريقة عديمة الذوق. قال لنا أحد أصحابه أنه غرق فى المياه الأقليمية لايطاليا. ذلك لأن عرقا من الخشب سقط عليه فى نفس الوقت الذى تحطمت فيه السفينة. فلم يستطع مقاومة الأمواج وقال أن بالحقيبة دولارات واسترليني. وعدة صور قديمة من قبل أن يسافر. لعبنا كثيرا فوق سطح بيتنا بالصندوق.
وكان الذى يغلب يمثل دور الميت فى حين أن أمى وأختى صباح كلما وقعت عيناهما على الصندوق امتنعتا عن الطعام والشراب وراحتا تبكيان.
كنت أعرف أنها لا تريد أن تترك أحدا منا يفلت من يدها. كانت تضرب حولنا حصارا. وأذا رأت جواز السفر معي.جفت دموعها. ورفضت أن ترى وجهى بعد ذلك. وسمعتها تقول لأختى صباح.
- هل أراهم جميعا فى صناديق؟!
- كانت الرياح محملة برائحة الأسماك والملح والبترول. أعرف أن تحريك الجسم فى هذه الأحوال مفيد للأطراف فيحفظ للدم سخونته وتدفقه. أخرجت من جيبى سندوتش السجق. كان باردا وميتا كالسمك الميت على وجه الماء. أنه يفقد مذاقه اذا ما برد. كان الايرانيين قد استغرقوا فى النوم. بينما ظل أحدهم ساهرا الى جوار الحقائب. كان منكمشا ويتطلع فى ا لسماء التى ازدحمت بالسحب الداكنة. كانت الساعة تقترب من الثانية. وعلى أن أتصل بمكتب التشغيل لأبلغهم أن أحدا لم يأت. لكنى قد أذهب فيأتون ولا يجدونني. سألت مرة مستر دوفال. فقال أنه لا يحب من يسأل كثيرا. وقال أن عملى أن أنتظرهم. فى حين سيمر على عامل من مكتب التشغيل فى فترات متباعدة ليطمئن على الأحوال.
فى الفترات الأولي. والى الآن. وربما لوقت طويل قادم لم أشعر بالاطمئان الا مع كيم الكوري. الذى حاول دائما أن يكون حنونا ولطيفا معى كان يدعونى لاتناول الغذاء عنده أيام الأحد. وكانت زوجته الطاعنة فى السن تقول فى كل مرة أننى صغير جدا لدرجة أننى أقارب سن ابنها الذى قتل فى سنغافورة مع الشيوعيين. وكان زوجها يبتسم لي من جانب خفى قائلا: لا تهتم!
- مرات عديدة وددت أن أسال مستر دوفال عما اذا كان عامل مكتب التشغيل ملتزما بأن يمر على فى أوقات محددة؟ غير أن غضبى السريع منعنى دائما. لم يحدث أبدا أن جاء عامل مكتب التشغيل. ولم يحدث أبدا أن جاء رجال يعلقون إشارات حمراء على صدورهم. وكنت أقف طيلة ثمانية عشر ساعة عدا يوم الأحد. وكنت أطمئن كل يوم على الشارة النحاسية على صدري. كان مستر دوفال يهتم بذلك جدا. ويقول بتفاخر: أنت الآن تابع لأكبر مؤسسة للعمل فيما وراء البحار.
ألا أننى لم أعد أهتم، فكرت منذ فترة فى الرحيل لأبدا حياة أخرى ذلك لأن سلسلة ظهرى صارت تؤلمنى لدرجة فظعية. كنت أشعر بنشر فى عظامى عند النوم. وترتطم رأسى بالوسادة فأشعر بجسدى يتحول تدريجيا الى جثة. غير أننى أجلت وانتظرت مرارا.. كنت أخشى أن يطول انتظارى دون طائل. ذلك لأننى انهزمت نعم. أعترف.. لقد جاءت بالليل نفس السفينة. ونفس الخوجاية الحمراء نفس اللون البرتقالى والشريط الأحمر بالطول. أو التفاحة الطازجة وسألتنى عن أسمي. وكان الميناء خاليا من البواخر و الصفير وكنت متذكرا اسمى بصورة قاطعة. الندبة فى رأسى ودشمة المدفع ،الاسلاك تلال الرمل. والتعثر واللهفة… بينما كل شئ يغيب.. السفينة.. التفاح.. وتبقى الندبة.بينما هى سابحة فى الموانئ وأعالى البحار.. وفى بلادها البعيدة المدهشة. لا شئ يترك فرصة للنسيان.
قلت: اسمى أحمد… أحمد فقط
حقا أنا شغوف وملتاث. كل شئ هادئ ومتيقن أنا من بقائه بين يدى بدأ دبيب الحمى فى رأسي.. قلبي. صدري. جسمي.
قالت: ستنتظرني!
صرخت بكل الحمى واليأس: لا
قالت كأنما تقرر مصيرى ستنتظر. ستفعل ذلك لأجلي
قلت ماذا فعلت لأجلي!؟
قالت أناديك باسمك.. مستر أهمد
قلت سأرحل..بلدى وأهلى ينتظرانني
قالت لن تفعل
واختفت كذلك السفينة، اختفت. والصفير الأنين لا ينقطع، أنه ينفذ من جسمى ويحدث ثقوبا. تهب منها الريح الثلجية. لم يكن شئ أكثر أرعابا من ذلك. حاولت التحدث مع الايرانى المستيقظ غير أنه مال على الحقائب ونام. لم يعد أمامى الا أن أترك كل ذلك وأرحل. لابد أنهم خدعوني. والا ما معنى الانتظار. والشارات والعلامات الخفية ما معنى غضب مستر دوفال من الأسئلة. سأحزم أشيائى فى الغد وأرحل، كم اشتقت لأهلي.. للاجتماع حول الطعام، ادعاء أمي. والكحل فى عينى أختى صباح. لسمائنا المشمسة. لابد أننى أخطات منذ البدء.. جريت دائما وراء الوهم.. على أن أرحل. يجب الا ترانى أمى فى صندوق. لابد أن الحزن أنهكها وصارت أكبر سنا. على ألا أبطئ. سأبصق على كل هذه النفايات قبل رحيلي. سأطلب سلفة من كيم.لن يبخل علي. أنه يعتبرنى مثل ابنه. وامراته تحبنى سأقول لهم أننى كرهت الغربة. الموانئ. والصفير. السجق الميت.. والسجن الكريهة. كرهت اللغات التى لاأعرفها ولا أفهمها. سأخذ منهم صورا وأعطيهم صورا لى وربما التقطنا بعض الصور التذكارية ولن أرى دوفال. فقط على أن أكمل عمل اليوم. كان الفجر على وشك البزوغ. لم يبق الا وقت قصير وأنعتق من هذا الرعب……
***********
الكورى كيم. وأحياناشك وفى بعض البلدان عبد الظاهر وربما مرزوق جاء مع الفجر الى الميناء التقى بأحمد خليل الحلو. وتناول معه بعض الأطعمة وأكد الايرانى الذى كان مستيقظا أنهما كأنا يتبادلان الحديث فى ود بالغ وقبل أن ينصرف بقليل قال له بلهجة مثيرة.
- مستر أحمد مؤسسة N.S.B تبلغك أنك أديت دورك باقتدار منقطع النظير ولذلك فقد صرفت لك مبلغ 5000 دولار مكأفاة. وهذا هو الشيك كلفتنى بأن أسلمه لك…
فى نفس هذا الصباح اكتشفت سلطات الأمن بالميناء جثة بلا رأس وكان ثمة بمبلغ 5000 دولار بجيب الجثة. وأكد الايرانى أنها جثة الرجل الذى قابله كيم عند الفجر. وبعد ذلك لم يحدث شئ بالغ الأهمية اذا وضع السيد/ أحمد خليل الحلو فى صندوق مبطن بالصاج والكارتون وكتب اسمه بالأصداف بطريقة خالية من أى ذوق !.