قصة قصيرة
الـتـيـه
السيد نجم
ـ 1 ـ
أنا الآن وحدى. هاهنا فى الشقة الصغيرة الضيقة، شقتنا التى كنا معا.. نعيش الجدران، الأوراق المنثورة، وحبيبتي
هنا أنا بمنجى عنه، عنها، عنهم. عن كل شئ. أما الأنباء الواردة عمداً، الشمس الساطعة الغافلة عمدا، الرياح الهجاء، والريح الطيب عمداً، والزمهرير واقيظ المتتابعان عمدا.. و..أصوات الخريرالهزيم، الهديل والنعيق، الحفيف والفحيح، التغريد والنواح، كلها، كلها من هناك.. لم أعرها اهتماما، أطل من خلال زجاج النافذة.. أضحك.. أرض مبتلة، أفزيز يعلوه شجرة مرعوشة لا تقوى على الصمود.. أناس يعدون يخبئون رءوسهم داخل فكرة النجاة فتغوص أقدامهم عفوا فى المستنقعات العفنة. أطل عليهم ثانية.. أضحك.. أرض جافة.. أفريز يعلوه الغبار الشمس الهاجرة تقدح فيتشسق الزفت القاتم. هواء مغبر جاف يحرق أوراق الأشجار الهامدة، وأناس يعدون، يخبئون رءوسهم داخل أمنية الخلاص فتغوص أقدامهم عفوا فى الحفر الغائرة المتربة الجافة.
فأضحك، فأضحك، فأضحك!
ـ 2 ـ
منذ أن دخلنا ذلك اليوم البعيد الى شقتنا العلوية، وبين يداى راحتاها، وفى عينى نظرتها المتسائلة الحائرة قالت، كانت دائما تقول:
(أنى أسمع أصواتا الأقدام خلف الجدران)
أرد غير عابئ:
(لعلها لأطفال تلهو)
ترمى رأسها على صدرى:
( لا ليست لأقدام بشرية)
فأقبلها فى عينها اليمنى ثم اليسرى.. أضحك، أقول:
(ربما لهرة تلهو وذكرها، ودعيهما)
تلتصق بى أكثر، أشعر بحرارة لحمها. تقول:
( لا ليست لذوات أربع)
فأدغدغها، أشعث شعرها الناعم، أضم رأسها بين عضد وساعد ذراعى اليسرى، وأهزهزها.. صامتا هذه المرة
ولما كانت عيناى تنظران فترى، ولا أستطيع أغض الطرف دوما، وجدتنى مجبرا أن أنظر الى أعلى الحائط قبالى. بجوار صورة مكبرة تجمعنا، اطارها ذهبى وخلفيتها شجرة صناعية ردئية الطالع.
لمحت صدعا متعرجا ثعبانى المشهد دقيقا يكاد لا يرى. الأمر يحتاج الى وقفة تأمل دقيق، والوقت غير مناسب فرأسها على صدرى. مشغول بها أذن.
شعرت برغبة فى أن أطمئنها، فأضحك ثم أضحك!
– 3 –
داخل الشقة الضيقة الصغيرة لم يكن يعوزنى شئ. كنا كروحين هائمين… نبحث عن جسد واحد. نستنطق الأشياء فننطقها. مقعد واحد فنجلس، طبق واحد فنأكب، كتاب واحد فنقرأ. أما مرقدنا العريض تمردنا على سعته حتى تقعرت حاشيته فدمعت عينانا ضحكا. نعم، تأكدنا أن المرقد ارتسم على هيئة علامة اللانهاية الجبرية أو الشدة الممدودة فى لغة الضاد.
من حولنا الجدران الصامدة والصامتة.. شفافة.. حبيبتى، كانت تنظر من الجدران وترى العالم . فتقول:
( بحور العالم.. زرقاء كعينى فتاة جميلة. سطحها هامد.. وعمقها تمويه، خداع. مواربة.. وصراع)
رمال الدنيا.. صفراء كسنبلة قمح باسقة. أراهم يسعون، يهرولون، يقفزون.. من أجل حبة منها.. ناضجة.
جبال اليابسة أوتاد كعنادك من أجل حبى.
ويخرس لسانها فجأة، تحوطنى بذراعيها، تمرغ وجهها الملفوح بشمس الظهيرة، الندى بعرق يعلو أنفها، وبشفتيها الجافتين المرعوبتين تلملم لحم صدرى ثم تنطقها مقضومة الكلمات غير مفهومة…
( زبدا، هى.هى.هى، أقدام لقادم لا محالة)
فأحملها فوق ساعداى أرفعها، أطرحها فى الهواء، ألقى بها إلى مرقدنا، أصك شفتيها حتى لا تنطق… بشفتاى…
فتصمت.
وأكتفى بالنظر بعيدا، أبدو كمن دسوا فى عينيه غمامة غاصت الى عقر مخه.
لحظتها لم أر سوى الشق الثعبانى الدقيق الذى يغوص فى الجدران.
بلا رغبة وحتى أطمئنها، افتعلت الضحك.. فضحكت ضحكة ممجوجة!
– 4 –
وقتها ما كان يخطر على بالنا من أشياء لا تكون الا لتملكها، وملكنا السماء الجارية فوق رأسينا.. بنجومها وأقمارها وسحابها وأثيرها. الصقناها فوق الجدران.
يوم رغبت فى الحكى، سألتها وأجابتنى….
قالت:
(سألونى ذات مرة .. هل تحبينه؟
همست إليهم: يارفاق، عندما يكون ميعاد لقاء… تزغرد الخطوات من قدمى وترقص سيقان الناس من حولى. وبعد أن أتركه ليغيب عن وجهى، يطوقنى عقد من أنفاسه.. شهيقى من زفيره، عبيره بغير شبيه).
مبتسما لاحقتها، قلت:
(ما أن تهفو نفسى اليها، التقطت عينيك من بين عيون العالم، أجذبهما أدفعهما نحوى، أطرحهما الى بساط يكفينا من جدائل شعرها الأسود.. و.. أطير، أشرد، وأتوه)
فترد رائعة العينين…
(التيه، وأنا معك، وأنا بعيدة عنك)
ترفع رأسها غاضبة السحنة تقول:
(ماذا بك؟ هل حان وقت التذكر.. ألم تعد تحبني؟)
أجذبها وأضمها حتى تتلاشى فى جسدى. الا أنها سرعان ما أنفلقت عنى ومنى… صاحت بصوت مذعور زاعق:
( ها هو الصوت الخرافة، الحقيقة… قادم.
ها هو صوت أقدام تجوس خفية خلف الجدارن لقادم لا محالة).
وجهها يشحب، عيناها تدمعان، أطرافها تعجز عن احتوائى هذه المرة، وأن حاولت.
سرقنى مشهد الشق الغائر داخل الجدران بجوار صورة تجمعنا.. شهقت، حاولت افتعال الضحك …. عجزت حتى عن بسمة شمعية كاذبة!!
ـ 5 ـ
عندما أكدت له بكل حواسها المقهورة المشلولة، وأكدت أن الصوت قادم. لم يصدق.
اليوم تناسى أنه قبرها منذ قليل، و دار خلفها فوق كل الطرقات الضيقة بالشقة، بين كل الأشياء الجامدة والباردة فيها وداخلها… يستنطقها فتنطق.
واختفى الصوت الخرافة والحقيقة والعابث، الخبيث من خلف الجدران.
.. الآن وحده فى شقة يلهو بنظرات ولادة، تلك الشقة الضيقة والصغيرة التى بلا سقف وبلا أبواب.
(كتبت هذه القصة بعد وفاة زوجتى .. وأهديها الى روحها)