عدد يناير 1985
قراءة خاطفة فى:
خريف الأزهار الحجرية
تأليف: د. ماهر شفيق فريد
نعم، هى مجرد قراءة أولى، حفاوة بالكاتب، وشكرا على الثقة، وقد انتزعت انتزاعا من صلب الافتتاحية لما طالت أكثر من طبيعة التنويه، وفضلنا أن تنشر ” هكذا” لأنها أكثر تناسبا مع حدود غرضها المتواضع. وهى ليست أكثر من اشارة الى بعض القضايا الجديرة بالدراسة المتأنية، منا أو من غيرنا :
فالكاتب قد نقد نفسه – ابتدأ – نقدا لاذعا لدرجة الظلم المبين، ففى ص”45″ وقبل المجموعة يكتب صفحة واحدة (من الحجم الصغير – حجم الكتاب ) يقول فيها المؤلف عن مجموعته “….. انها خليط مربك من رومانطيقية عفى عليها الزمن، وعجز عن الانسلاخ عن الذات وبلوغ الموضوعية التى هى شرط لازم لكل فن جيد …..الخ ” واحساس الكاتب بالجانب السلبى من موقفه الابداعى – من حيث المبدأ – هو أمانة رائعة، لكنها قد لا تكون حقيقة موضوعية تماماً ثم يأتى تضخم هذا الاحساس حتى الاعاقة، حين يصف الكاتب بعض عمله بأنه “…. اصطناع لأوضاوع مسرحية لافتة للنظر، وركام من الأفكار والعواطف والعبارات الرثة المتداولة، وقدر لا بأس به من الزيف الوجدانى” لا … ليس هو كذلك تماما، رغم أمانته، وشهادة ناقد أديب مبدع مثل الدكتور نعيم عطية – الذى قدم العمل – لابد أن توزن جنبا الى جنب مع هذا النقد الذاتى الظالم اللاذع، يقول د.نعيم عطية(ص13)
” ….. فأصبح( كاتبنا) يكتب القصة برقة الشاعر، وألوان الرسام، وأنغام الموسيقى، وصرامة الناقد” ولا ينكر د.عطية أنه يحب الكاتب، ويحب قصصه، لأنه “يشاركه” “عشق اللوحات والتماثيل”، كما يشاركه ” حب الشعرالمترجم”، ويبدو أن هذا الحب الشخصى للتشابه أو المشاركة قد أطلق قلم الناقد مادحا بما لم يخطر على بال الكاتب وربما لا يرضيه، فأين تقع المجموعة بين هذين الطرفين:
مؤلف يظلم نفسه حتى الاعاقة، وناقد يمدح العمل بفيض من الحب والحاجة الى المشاركة ؟ .
ليس فى هذه العجالة مجال لتفصيل ولكنها مجرد تعريف بعمل جديد صادق، وكاتب أمين، وأحسب أن الخروج من هذا المأزق (ظلم الكاتب نفسه،مع مدح الناقد المحب) قد يمكن حينما نحاول أن نرد على تساؤل الكاتب عن نفسه فى نفس المقدمة (الصفحة): ” هذا كاتب أوتى حظا لا نزاع عليه من الموهبة الفطرية والثقافة، فلم لم يؤد اجتماعهما الى صنع قصة واحدة جيدة؟”، ورغم أننا لا نتفق معه على هذا التعميم، ولا على أن علة النشر هى طرح” سجل فشله”، فاننا نحاول الاجابة عليه، وعلى مثل ما يمثله، ولو أن لدينا سببا يجعل الاجابة محدودة وهو عدم ذكر تاريخ كتابة القصص بعد كل قصة، اذ كيف لنا أن نحكم على تطور كاتب، أو عكس ذلك، إلا بهذا التاريخ الواجب؟ ذلك لأن الأمر يختلف اذا ما كانت قصصه تزداد نضجا بالمداومة واضطرد الابداع، أم أنها تزداد انغلاقا، وتتجمد تكرار، بالقراءة الموسوعية الطاغية، وتفاقم الخوف ؟.
نعم : إننا نتصور أن هذا الكاتب قد أضطر قبل الأوان، وأكثر من اللازم، أن”يتبع” اذ يجمع ويجمع ويجمع، فازدحم البيت بكل نفيس وغال من عطاء البشر السابقين والمتفوقين،أزدحم حتى لم يعد يسع مجالا لجديد، بل انه لم يعد يسمح بالحركة لصاحب البيت نفسه، بالحركة: أى حركة، فهو أحرص ما يكون على تحف عقله الثقافية، وبالتالى تتحدد حركته بتلميعها المرة تلو المرة، فاذا ما أزاح بعضها فى صيوان زجاجى مغلق تنفس الصعداء وأغمض عينيه متمطيا، وفى هذه اللحظات فقط ينطلق خياله الى رؤية بعض ذاته بعيدا عن أصنامه فتنطلق منه صور شعرية بديعة تعلن أنه “إله مسجون” وليس قربانا فى مذبحهم فحسب، ” أحيانا أشعر أن فى الهواء أعمدة، أعمدة هوائية لاترى ولكن لها كيانا، أجسامها الصلبة الباردة تتدلى من سلاسل فضية كبيرة لتهتز فى الهواء” ( مباراة شطرنج ص47)، وهو ( البطل أو الكاتب) يحس بسجنه هذا ويرفض تماما أن يعتبروها” هذيان حمى، فهى لا تفارقنى ولو كنت سليما معافى” بل انها تختفى – بعكس الآسوياء – حين يمرض ” حين امرض لا ارى اشباحا “، (ص50 ).
ويغلب على ظنى أن هذا هو ما أعاق كاتبنا عن اظلاق ابداعه كما يحب ويقدر، فالعافية عنده فى السجن داخل هذه القضبان، والمرض الذى يجعل الخيالات هوائية لاترى هو الحرية والسلامة، ويستحيل – والأمر كذلك – أن يتمادى فى مرضه – ابداعه – بعيدا عن أشباح السلامة والعافية !!
وتبلغ وصاية واعاقة هذه الأعمدة الموسوعية حين يضطر الى التنظير المباشر أثناء السرد أو الحوار، فينقلب الابداع الى درس أو تعليمات” فالمرأة التى نحبها ليست مخلوقا كائنا فعلا بقدر ما هى اسقاط لأشواقنا ورغباتنا….. الخ (ص71) أو – مثلا – حين يقتطف سبينوزا قسرا ” ان الذهن الانسانى أو العقل حين يؤكد ذاته من شأنه أن يعين صاحبه على التحرر من غل الحواس والمغريات الخارجية…..” (ص98)، ولاتكتفى موسوعيته بالاستشهاد بنص مفكر بذاته بل تدفع به – دون مبرر ظاهر – ليعدد فهرس المحتويات للكتاب الذى اتفق مجلس القسم(قصة: متوازى المستطيلات ص136) على اصداره : (بلاوتونس،وتيرنس وشيشرون وكاتولوس، وقيصر وسلوست، ثم الأوغسطيون : فرجيل وهوراس وليفى وبروبرثيوس وأوفيد، ثم الامبراطورية الباكرة: فيدروس وسنيكا ولوكان وبترونيوس، ثم فترة السلام الامبراطورى: كويننبليان ومارتيدال وبلينى وجوفينال وتاكيتوس وسوتوبنوس ثم فصل عن كتاب شمال أفريقيا : أبوليوس وترتوليان والقديس أوغسطين” …..
(24 اسما!!) أى والله ورد كل هذا فى صفحة فى قصة قصيرة، وكأنى به لم يستطيع أن يوقف قلمه أو عقله عن ” التسميع” “بالقصور الذاتى”، بل ان هذه الوصاية عادت تطل حتى فى المواقف الوجدانية حتى بهت بها حدسه الابداعى بلا مبرر، ففى حين التقط عمقا تجريديا متوحدا عاما فى محبوبته التى لم تكن من لحم ودم، ” قدر ما كانت تجريدا منتزعا من نساء كثيرات، مركبا من الأم والأخت والزوجة والحبيبة” تسارع موسوعيته بنسخ هذا الحدس الجيد باضافة” مجموعة متناقضات فهى فى آن واحد : جيا، سيبيل، فينوس، بالس أثينا،أرتميس، نيوبى، بنيلوبى، فيدر، هيلين، اريادنى، كلاتيمنسترا، ايفجينى كاسندرا، ميديا، ايزيس، كليوباترا، سارة، هاجر، استير، دليلة، راعوث، كينيثيا، هيلوزا، بياتريشى، لورا، أوفيليا، مرجريت” (28اسما!!!) أى والله……. (ص 176، 177).
ولابد أن كاتبنا معذور أشد العذر! اذا هو تعجب اذ لم ينطلق كما يقدر، ويستحق، ويعد، فهو الذى يطل بشاعريته وحدسه رغم كل هذه الوصاية بالموسوعية، والخوف القديم المتجدد، أليس هو الذى يقول” أحلم – فى صمت بنقطة السكون تحت أوسع أشجار الظهيرة” ( ص177) أو ” اللابيرنث! كأنه تلافيف أذن أو أغوار رحم، ” مسألة ميتافيزيقية” (ص182)، أليس هو الذى لاعب نفسه ( الآخر من داخل)
الشطرنج حتى أعاق نفسه ( الظاهر المعاق) عن لقاء محبوبته وأسقط كل ذلك فى انشقاق ابداعى رائع، كشفه بابداع ناقد د. عطية فى تقديمه للعمل ؟.
وأكتفى بهذه اللمحة فى افتتاحيتنا هذه، لعلى أشكره بها على ثقته بنا، وأدعوه من خلالها، بكل ما يعد من ابداع: أن يسمع نصحية خلف الأحمر لأبى نواس بعد أن حفظ ما أمره أن يحفظه قائلا : لا آذن لك ( فى قرض الشعر) حتى تنساها” ولم يقرض أبو نواس شعرا حتى نسى ” الشكل والصورة واللفظ ولم يبق فى خاطره الا الجوهر والمعنى “.
أما ما وصلنى عن شخص هذا المبدع من خلال هذه المحاولة، فهو ” أنه تلميذ دائم، يتضور شبقا الى اسهام أصيل، ويخاف من نفسه الناقدة أكثر مما يتيح له أى حركة جديدة، وتبهره روائع الآخرين ” هناك” حتى ليكتفى بالعيش فى ضوئها دون اشراقة شمسه، ويمضغ الألم مع الوحدة بدرجة لا تسمح له حين يقترب من آخر – حتى نفسه – الا أن يبدو عدوانيا بلا حدود، وما هو كذلك “ .
شكرا – سيدى – وفى انتظار اسهامك وابداعك الواعد أبدا