الطبيب معايشا .. والمناخ معالجا
.. والمجنون إنسانا(1)
د. ر فعت محفوظ
يتميز هذا الكتاب الذى بين أيدينا بعدة صفات هامة، هى التى دفعتنى إلى محاولة عرضه وتقديمه إلى قراء المجلة. أولها أنه يصف لنا تجربة حية وممارسة واقعية فى مجال الطب النفسى، كما حدثت فى مصحة عقلية فى المجر على مدار ثلاث سنوات (1954 – 1956). وقد التزم المؤلف بالأمانة الشديدة فى نقل الحقائق والصعوبات، دون اللجوء إلى تزيين الصورة والمبالغة فى النتائج الإيجابية والتقليل من السلبيات، واعتقد أن ذلك النوع من الكتابة نادر فيما ينشر فى هذا المجال. وثانى هذه الصفات أن د. بنديك، وهو صاحب التجربة والكتاب، استطاع أن يصنع عالما يموج بالحركة والفعالية لعلاج المرضى النفسيين والعقليين. وهذا فى حد ذاته درس يطمئن إلى أن ضعف الامكانيات المادية فى حد ذاته لا يعوق عن إمكانية عمل شىء مفيد وحقيقى فى مجالنا هذا. أضف إلى ذلك ما اتسمت به التجربة من إبداع حقيقى، ومحاولة لا تهدأ، وتعلم مستمر. مما جعلها مادة ثرية للاستفادة منها.
وفى تقديمى لمادة الكتاب، سوف أمهد لها أولا بالهدف منه، ثم استعرض ثانيا بعض عناصر التجربة المتعلقة بقضايا هامة فى الممارسة الإكلينيكية للطب النفسى، مع التنويه بما يقابل ذلك فى تجربتنا المصرية(2)، وقبل أن أنهى العرض بتعليق عام، سوف أشير إلى جانب هام فى الكتاب ، ألا وهو العلاقة بين الجنون والشعر والفلسفة.
أولاً – الهدف من الكتاب:
يقول د. بنديك أن الهدف الرئيسى من الكتاب هو الكشف عن “مدى إنسانية الشخص المجنون” وبالتالى “حاجته إلى معالجة إنسانية”، وذلك لأن من لا يعرفون المختل عقليا يعتقدون اعتقاداً جازما بأنه ليس بإنسان. ثم يضيف قائلاً: ” … ففى تلك المصحة العقلية الغريبة التى دفعتنى إلى كتابة هذا الكتاب، اكتشفت شيئا ينبغى أن يكون صرخة فى آذان الرأى العام وليس فى آذان المهن الطبية – فهم بالتأكيد ليس لديهم آذان لمثل تلك الأشياء – .. ويمكن للمجتمع بالتالى أن يدفع أبناء المهن الطبية إلى فتح آذانهم”.
هذه الكلمات، وبالرغم من مرور ما يقرب من ثلاثين عاما على كتابتها، تحمل لنا نفس المعنى، فنحن مازلنا فى حاجة إلى مثل هذه الصرخة، بل ربما إلى ما هو أشد منها، وذلك على مستوى من يمارسون المهنة، وكذلك على مستوى الرأى العام.
يتناول الكتاب تلك السنوات الثلاث التى قضاها د. بنديك – ومن معه – فى “صراع مع نزلاء إحدى المصحات العقلية ومن أجلهم”. وكان عليهم أن يحاربوا “على كافة أنواع الجبهات، فى الداخل والخارج معا، ضد الرياء الاجتماعى، وضد الصعوبات البيروقراطية والاقتصادية، وضد الجهل والقسوة لدى القائمين بالتمريض، وضد المرضى أنفسهم، وضد التحيزات العلمية، والمخاوف الخرافية لدى العامة، وضد غيرة الزملاء”. ونحن فى أيامنا هذه ما زلنا فى حاجة إلى ذلك الصراع، وتلك الحرب، وعلى نفس الجبهات التى ذكرها المؤلف؟!.
ويقول المؤلف أنه التزم فى كتابه بعدم ذكر أى شىء سوى الحقيقة، وأنه يقدم ما لاحظه، واكتشفه، وتعلمه، ليستطيع الآخرون أن يتعلموا منه أيضا. كذلك. يقول: “.. لا أحاول أن أجعل القارئ يظن أننى قاتلت دون أن تخور قواى ابدا، فلقد كانت هناك سلسلة من التقدم والتقهقر المتبادل ..”؛ ثم يضيف قائلا: “… ومن المؤكد أيضاً أن ما أبدعناه قد أتينا به – من الناحية العملية – من لا شىء، ولم يكن نقص المادة أساسا هو الأمر الذى يصعب التغلب عليه بل كانت الروح السلبية”.
ثانيا – العناصر الهامة فى التجربة:
1- البيئة العلاجية: Therapeutic Environment
يعتبر هذا العنصر من أهم مكونات ومعالم التجربة، بل هو يعتبر حجر الزاوية للعلاج فى أى مستشفى تقام بهدف علاج الأمراض النفسية؛ لأنه يعبر عن “الروح السائدة” فى المستشفى (أو المصحة)، ويعبر عن “الفلسفة الحقيقية” التى يعتقنها، ويؤمن بها، ويمارسها القائمون على العلاج، وهو “الأرضية الأساسية” لكل علاج آخر يقدم للمرضى.
ولندع د. بنديك يتكلم عن البيئة العلاجية التى حاول جاهداً أن ينشئها فى مصحة جرانج؛ فهو ابتداء يذكر أن المرضى العقليين – وخصوصاً الحالات المستعصية منهم – يختلفون كثيرا، وكل منهم حالة مستقلة، ولكنهم يتشابهون فى ناحية واحدة: “أنهم قد فقدوا صلتهم بالمجتمع، ولم يعد لهم انتماء على الاطلاق”؛ فهم عاجزون عن الانصياع والمواءمة، كذلك فإن المجتمع لا يتقبلهم.
من هذا المنطلق يأتى دور مصحة جرانج، كما يراه د. بنديك: “… فبدلا من المجتمع الحقيقى، ينبغى خلق مجتمع مصنوع من أجلهم. عالم يوائم نفسه لهم، منزل لمن لا منزل له، يستطيعون فيه أن يحسوا أنهم فى منازلهم حقا”. وهذا المجتمع المصنوع ينبغى أن يقام من “شئ حقيقى، ومنزل حقيقى، وحب حقيقى، وثرثرات وشجارات حقيقية، وعمل حقيقى، وأهداف حقيقية، وتسلية وصداقة حقيقيتين، وحرية ونظام حقيقيين”. أى أنه مجتمع مصنوع من عناصر ليست غير طبيعية .. أى يجد المرضى أنفسهم فى بيئة تشبه من أغلب النواحى عالم الأسوياء .. فهم يجب أن يعيشوا حياة حقيقية، وينبغى أن تكون البيئة التى يعالجون فيها مليئة بالحياة .. وهى مع ذلك صناعية لأنها تضع فى الاعتبار حاجات المرضى الخاصة.
ويعترف د. بنديك أن “هذا ليس بالعمل السهل كما أنه لا يمكن إنجازه بالنسبة لكل مريض”. والسؤال الهام الذى يطرح نفسه الآن هو: كيف يتحقق ذلك؟ أن ذلك لا يمكن أن يتحقق، كما يقول هو، إلا إذا تشارك جميع العاملين فى المصحة فى خلق هذه البيئة، فهى ليست مهمة مقصورة على الطبيب أو الممرض. أن عليهم جميعا أن يسهموا فى ذلك طول الوقت.
من هذا نفهم أن العنصر البشرى، وفى المقام الأول نوعيته، هو الأول والأخير فى خلق هذه البيئة العلاجية. وهو يقول عن نفسه “أننى لم أكذب على المرضى مطلقا”… كذلك يقول: “لقد عشنا مع المرضى ولم نخدعهم”. كما وصف زوجته (السيدة الأولى) بأنها كانت تحب المرضى حبا قويا دون تملق، “وكان هذا الحب القوى بالغ التأثير”، وفى كلامه عن إحدى الممرضات يذكر أنها “كانت معلوماتها قليلة جدا، ولكنها كانت تتميز بصفة واحدة لا تقدر بمال وهى: أنها تحب المرضى وذلك يمكن أن يصنع منها ممرضة جيدة”.
لقد اهتم هذا الرجل منذ اليوم الأول له فى المصحة، بأن يربى، أو بالمعنى الصحيح يعيد تربية، جميع العاملين معه. وفى اجتماعه الأول معهم بغرض شرح أهداف المؤسسة، أخذ يحدث نفسه: “… لماذا كنت أتحدث إلى أولئك الأجلاف؟ فيم كانت كل تلك التهويمات؟ لقد كنت أتناول قضايا كبرى فى الطب العقلى لم تكن تثير حتى اهتمام أولئك الذين تعينهم”. وفى سياق آخر يقول: “لقد كان ممرضونا بالفعل بالغوا البدائية والجهل وعدم التقبل للارشادات النظرية. ورغم ذلك فقد أصبحوا فريقا ممتازاً خلال ستة شهور. ولم يكن ما اكتسبوه هو النظرية بل (الروح)” ثم يضيف قائلاً: “كيف فعلنا ذلك؟ لم يكن لدينا نظام خاص. وكنا ودودين، وأحس الممرضون بالخجل وأصبحوا ودودين كذلك”.
إننا نرى الكاتب الطبيب يهتم دائما بذكر ما يسميه “روح للجرانج”(3) وهذه الكلمة تعنى الكثير جدا، لأنها جوهر الوسط العلاجى، هى روحه، وهى العامل الأساسى فى تربية العناصر البشرية المسئولة عن هذا الوسط، ويكون من المنطقى أن فقدانها يعنى بيئة بلا “حياة”. فكيف تعالج هذه البيئة التى بلا حياة المرضى العقليين الذين يصفهم الكاتب كثيرا بأنهم: “مومياءات حية” .. “الموتى الأحياء”.. “جثث حية” .. “يعيشون بدون حياة”؟!. كذلك كيف تصلح هذه البيئة لتربية المعالجين؟! إذن فهو الاهتمام بروح البيئة العلاجية هو الذى يحافظ على حيويتها وفعاليتها وكفاءتها العلاجية، وكذلك يحافظ على جعلها المناخ الصالح لصنع معالجين بالمعنى الصحيح للكلمة.
وبعد ذلك يأتى الكلام عن “العمليات التنظيمية والبنائية” System of Structuring Processes. سواء كانت هذه العمليات خاصة بتنظيم أوقات المرضى، وشغلها بالعلاجات والنشاطات المختلفة الهادفة، أو تنظيم العمليات التعليمية التربوية الخاصة بجميع العاملين فى المستشفى أو المصحة؛ على أن يكون التنظيم (أو الشكل) متسقا مع الروح (أو المضمون)، وكل منهما يغذى الآخر، ولا يصح أن يكون بديلا عنه. وفى هذا المجال حاول د. بنديك كثيرا، وفى محاولاته تلك تجلت الكثير من إبداعاته.
بقى أن أشير إلى تجربتنا، فى هذا المجال. وابتداء أحب أن أقول أن الوسط (البيئة) العلاجى Therapeutic Milieu، بشقيه، هو همنا الكبير، وقضيتنا الأساسية، وبالرغم من أننا قد نختلف عن التجربة المجرية فى تفاصيلها حتما، إلا أننا نتفق على الأهمية القصوى التى أعطاها الكاتب لهذا الركن الأساسى فى التجربة. ومع أن عمر التجربة المصرية يربو على العشر سنوات، تعلمنا من خلالها الكثير، إلا أنها مازالت تعانى من نفس الصعوبات؛ وأهمها: “الحفاظ على الروح”، و”تربية العناصر البشرية الواعية والمسئولة”، ولقد لاحظنا أن أية تنازلات تقدم، أو أى تراجع عن هذا، تحت أى ظروف، هو من قبيل معاول الهدم للتجربة من أساسها، ويكون بمثابة اللطمة الكبرى لمن يهمهم الأمر(4).. أنها مسئولية صعبة وشاقة، وهى فى نفس الوقت شريفة وأمينة .. المسئول فى هذا الوسط العلاجى يحاول طول الوقت أن يثبت أقدامه فى عالم الواقع، وما يستلزمه ذلك من نجاح بنفس المقاييس السائدة، حبذا لو اختلتفت النوعية والوسيلة، على ألا ينسيه ذلك مهمة أن يكون باعه طويلا فى عالم “الجنون” والأمراض النفسية بصفة عامة، وذلك يلزمه فى نفس الوقت أن يحاول أن يرى نفسه ويقترب منها، وأن يوجه كل طاقاته وإمكانياته لما هو أبقى وأنفع؟!! بهذا يمثل هذا المعالج المسئول السبيل الذى ينقل المجنون من عالمه الخاص جدا، إلى عالم الواقع المعقد جدا، آخذا معه، أى المجنون، بعض النتائج الإيجابية لرحلته الجنونية داخل نفسه، فيزيده ذلك ثراء، وارتباطا بالحياة، وبنفسه، وبالواقع(5).
لو كان ذلك كذلك؛ فهو صعب .. صعب .. صعب، ولكنه ليس من قبيل المستحيل، وعينات من المحاولة الجادة فى اتجاهه، ولو مع قلة قليلة من “المجانين، تثرينا كثيرا، وتعمق رؤيتنا، وتزيد من فعاليتنا، وتذكرنا بجوهر القضية(6)، ويكون كلامنا عن “الإنسان والتطور” كلاما ذا معنى .. (والله المستعان على كل شىء).
2- العمل – العلاجى: Work Treatment
وهذا النوع من العلاج يعتبر من الأركان الأساسية فى التجربة المجرية، وأنا لن أتكلم عن أنواع العمل التى كان يقوم بها المرضى فى مصحة جرانج، وإنما سوف اتعرض أساسا للمفهوم كما ورد ذكره فى كتاب الإنسان .. والجنون.
وابتداء يذكر المؤلف الطبيب أن “العلاج بالعمل” تعبير خداع، ينبغى أن نكون فيه على حذر، “فمن الخطأ البين الاعتقاد بأن جعل المرضى يعملون هو ما نعنيه بالعلاج بالعمل”. نعم أن هذا التعبير أصبح يطلق، من ناحية، على الاعمال الروتينية الفارغة من المعنى والهدف، اللهم ألا شغل وقت المرضى، ومن ناحية أخرى يطلق على خبرات علاجية حقيقية تهدف إلى كسر اغتراب المريض عن جسمه ونفسه، بل والحياة كلها(7)، وبناء على ذلك فإنه محق فى تحذيره لنا.
وحين بدأ د. بنديك تجربته لم يكن يعلم أن المرضى يحتاجون إلى ما هو أكثر من مجرد “الانشغال”، أى جعلهم يشغلون وقتهم بطريقة ما، حتى يقل الوقت المتاح لجنونهم. وفى خبرته “لم يحدث أن شفى أحد بمجرد العزق بالفأس وقطع الأخشاب”، وإنما، وكما يذكر المؤلف، “ينبغى دفع المريض إلى الاستمتاع بعزق الأرض، وإلى أن يصبح تقطيع الأخشاب أمرا ذا معنى لديه”. وهو يرى أن “العمل يقدم مساعدة بالغة، بل أنه قد يصنع الأعاجيب .. يستطيع أن يبعث الحياة فى الموات”. فهو يعطى لحياتهم مضمونا، ويعطى معنى للمتعة والراحة التى تعقب العمل.
وهنا بعض النقاط الهامة التى ينبهنا إليها الكاتب، وأولها قوله: ” لا تتوقع من المرضى أن يتلاءموا مع العمل، ولكن يجب أن يتلاءم العمل مع المرضى”. والنقطة الثانية الهامة تتلخص فى قوله: “خرجنا كلنا سويا وعملنا مع المرضى، مشجعين لهم، مادحين إياهم، أو موبخين، وفقا لما يستحقونه”. وهنا نجد مبدأ المشاركة الكاملة من جانب المعالجين للمرضى فيما يعملونه، والتواصل معهم، مع استخدام مبادئ العلاج السلوكى أثناء العمل.
أما النقطة الثالثة، وهى من الدروس المستفادة فى هذا المجال، هى “أنه يمكن عن طريق الدقة والحزم الأخوى الحصول على عمل ممتاز من بعض المرضى الذين فى أقصى حالات الاضطراب العقلى”. فاعطاء المريض فرصة العمل، فى وجود علاقة علاجية، يساعد كثيرا فى التعرف على إمكانياته، وتوجيهها الوجهة الصحيحة.
وأخيراً فإن د. بنديك يؤكد: “ليس العمل هو الذى يسبب الشفاء، بل البيئة التى خلقناها للمريض”. ومن هنا تتضح العلاقة بين البيئة العلاجية والعلاجات الأخرى التى تستخدم فيها؛ وسوف يأتى ذكر ذلك بشىء من التفصيل.
أن تجربتنا هنا فى مصر تؤكد الأهمية والفائدة من مثل هذا النوع من العلاج. أما بخصوص المعالم الرئيسية للعمل العلاجى كما نراه ونمارسه فهى كالآتى:
(أ) الهدف الأساسى هو “إعادة التنظيم”، على المستوى النفسى والجسمى للمريض، وذلك نم خلال العمل الذى يتأكد كقيمة فى حد ذاته.
(ب) بالرغم من أن هذا العلاج يستعمل المبادئ الأساسية للعلاج السلوكى، الا أنه يختلف عنه فى التأكيد على تعميق بصيرة المريض، كما أنه يؤكد دور المعالج الذى يشارك المريض فى العمل مشاركة كاملة وفاعلة.
(ج) ليس العمل العلاجى نوعا من اعادة التأهيل بهدف تحسين مهارات المريض، وأنما يسعى الى اعادة تنشيط الطاقات الكامنة وتوجيهها الى” فعل هادف ومفيد”.
(د) التركيز على جسم المريض ككل بهدف تحسين علاقته به. وعلى العموم فأن المهم هو كسر الاغتراب الموجود، سواء كان اغترابا عن الجسم، أو اغترابا عن العمل العقلى المنظم.
(هـ) يشترك” العمل العلاجى” مع” العلاج النفسى” فى الكثير من المكونات مثل: تعميق البصيرة، المشاركة، التغلب على المقاومة من جانب المريض بمساعدة المعالج.
ومن هذا المنطلق، فان العمل العلاجى قد يضيف بعدا هاما فى الممارسة الاكلينيكية الطبنفسية، مع العلم بأنه يعتمد على” الوسط العلاجى”، والعلاقة العلاجية. وهو ليس بديلا عن أى نوع آخر من العلاج، ولكنه بالتأكيد يسد فراغا فى الممارسة المعاصرة، ويأخذ دوره ومكانته فى” الخطة العلاجية المتكاملة” للمريض، ونتائجه تعتمد- أساسا- على مدى ايمان المعالج بالفلسفة الحقيقية(أو الخلفية النظرية) التى وراءه.
وأهم ما وجدناه فى خبرتنا( ونشرنا بعضه فى المقال المشار اليه) هو استجابة المريض للعمل مع الطبيب جنبا لجنب باعتبارهما ذوى مشكلة واحدة، كما لاحظنا أن هذه المشاركة وذاك النشاط يؤثران على الاستجابة للعلاجات العضوية الأخرى، وكان هذا النوع من التدخل العلاجى من أهم العوامل التى تكسر الخيالات المريضة وسجن الأفكار الخاصة لحساب الواقع والأرض والناس: غاية الصحة والحياة.
3– الأنشطة العلاجية الجماعية الأخرى:
لم يكن العلاج بالعمل هو الوسيلة العلاجية الوحيدة فى تجربة مصحة الجرانج،أنما كان هناك العديد من الوسائل مما يسمى الآن” العلاج النشاطى”Activity Therapy، نذكر منها: مباريات كرة الطاولة، وكرة القدم، ولعب الورق، ومشاهدة الأفلام، والنزول الى حمام السباحة، والرقص، والقراءة.
ومن التجارب الجديدة والمثيرة هى تجربة “الأمسيات الثقافية”، والتى كانت تعقد ثلاث مرات أسبوعيا. لقد فاقت نتائجها ما توقعه المؤلف منها، فقد حضرها عدد أكثر من المتوقع، منهم فصاميون ومكتئبون وصرعيون وضعاف عقول، وهذا يؤكد، كما يرى الكاتب،” ان الحاجات الروحية ليست قاصرة على المثقفين”. ومن المدهش حقا فى هذه الندوات” أن بعض المشتركين الأشد اقبالا على الحلقة الأدبية لم يفهموا شيئا مما كان يقال لهم، ولكنهم استمتعوا”باللعبة”،…. أن هؤلاء الذين لم يفهمو أظهروا اهتماما أكبر من الذين فهموا”. ويضيف الكاتب قائلا:” مخطئ من يظن أن البلهاء ليس فى مقدورهم الاهتمام بهاملت، وجيار دوتو أو عصر النهضة. ومخطئ أيضا من يظن أن الحديث البسيط المفهوم فى هذه لا يهضمها الا الصفوة الممتازة، وأنما على المرء أن يتعلم كيف يقوم بتوصيلها، بحيث يتقبلها أى فرد”.
ومن الأفكار الممتازة أيضا والمذكورة فى الكتاب، فكرة تقديم عروض مسرحية، يقوم بالتمثيل فيها المرضى من الفصاميين، وضعاف العقول، وغيرهم.
وأخيرا فأننى أحب أن أذكر أن تجربتنا المصرية، والتى تشتمل على الكثير من الأنشطة العلاجية السابقة الذكر بالاضافة الى غيرها، تؤكد مدى الفائدة التى يمكن ان تعةد على العلاج من تلك الأنشطة حيث أنها تهدف الى تحريك وتحرير طاقات المرضى وامكانياتهم، ثم الاستفادة من ذلك فى اعادة بناء شخصية المريض.
والنقطة الهامة هنا هى كيفية استخدام كل هذه الوسائل المتعددة بطريقة تكاملية فى اطار الخطة العلاجية، فعلى سبيل المثال يسير البرنامج العلاجى لمجموعة من المرضى فى بعض أيام الأسبوع كالآتى: الخروج من المستشفى الى مكان بعيد عنها به ملاعب للكرة ومزرعة، ثم يأتى دور اللعب الجماعى(كرة القدم، الكرة الطائرة، وكرة اليد)، ويلى ذلك جلسة العلاج الجمعى، ثم بعد ذلك العمل العلاجى، ومرة ثانية اللعب، ثم الراحة وتناول الطعام، وأخيرا رحلة الرجوع الى المستشفى. مع العلم بأنه فى رحلة الذهاب والعودة(حوالى ساعتين أو اكثر) يتم نوع من الغناء الجماعى المنظم والحر. وفى يوم آخر يسير البرنامج العلاجى هكذا: القراءة الجماعية للجرائد اليومية، ثم جلسة للعلاج الجمعى، بعد ذلك الرقص الجماعى المنظم والحر. من هذه العينات للبرامج العلاجية اليومية، نلاحظ المعين يكون بمثابة اعداد المريض للنشاط الذى يليه، فاللعب يساعد على تحريك المريض، وزيادة قدرته على المبادرة، فيصبح أكثر قدرة على التفاعل والتعبير أثناء جلسات العلاج الجمعى، وتساعد الأخيرة على تعميق بصيرة المريض، كما تساعده على الاستفادة مما تحرك فى داخله أثناء اللعب، ومن ثم القدرة على استيعابه، كذلك فان قراءة الصحف اليومية تساعد على ارتباط المريض بالعالم الخارجى، كما أنها تساعد على تنظيم العمليات المعرفية لديه، وبالتالى فأنها تعده للعديد من النشاطات العلاجية الأخرى.
4– العلاجات الفيزيائية…… وعلاقتها بالبيئة العلاجية:
يقول د. بنديك أنه كان يمارس ما يسمى” بالعلاج الفعال”- يعنى به العلاج الكهربائى والأدوية-، شأن أى مستشفى آخر للأمراض العقلية” ومع هذا كان ثمة فارق”.0 وفى هذه العبارة الأخيرة يكمن سر علاجى خطير. فلنحاول ان نتعرف على بعض جوانبه من خلال ما اثبته المؤلف عند الكلام عن خبرته فى العلاج بما يسمى الصدمات الكهربائية(E.C.T)
أولا يذكر أن عملية العلاج هذه كانت تتم فى سرية تامة، حيث كان يقوم بها بطريقة خفية لا تجعل المريض يفلح أبدا فى مجرد ملاحظتها، وذلك لأنه أشفق أن يعيش مرضاه فى الرعب الذى يسببه الوعى بالصدمة الكهربائية أن العلاج فى حد ذاته ليس مؤلما ولا متعباً ولكن المهم هو الخوف والذعر اللذان يعيش فيهما المريض وهو فى انتظار ذلك العلاج”. وكانت الطريقة بسيطة، وهو ان يتم العلاج تحت تأثير التخدير، ينام المريض ولا يخبر بأنه سيتلقى العلاج الكهربائى بعد ذلك. وهو هنا ليس صاحب سبق فى ذلك، وأنما المهم هو اهتمامه بمريضه واشفاقه عليه من الرعب السابق على العلاج، وهو يقول”.. ويبدو أن التيار الكهربائى يصبح أكثر فاعلية اذا استخدم برفق”.
النقطة الثانية، والجوهرية، هى نظرة هذا الرجل الى العلاج الكهربائى. فهو يقول أن هذا العلاج” يتطلب وقتا وصبرا وما هو أكثر من ذلك. فعندما يبدأ المريض فى الاستيقاظ بعد برهة من نومته المريحة… كان يجب أن يكون بجواره أحد.. ليباشره فى لحظة الميلاد الجديد هذه. شخص تتوفر فيه الطيبة والرفق بالمريض ليسترده ثانية للحياة”.. أنه هذه العبارة القصيرة تحتوى من الفروض العملية والمبادئ العلاجية ما قد يحتاج شرحه الى صفحات عديدة،و الأهم من ذلك، أن التدريب عليها واستيعابها من جانب الطبيب الممارس لهذا العلاج قد يحتاج الى سنوات طويلة، وهى على قصرها أيضا تعتبر من أحسن ما كتب عن هذا العلاج، وقد تتعدى فائدتها عشرات الأبحاث والمقالات المنشورة فى المجلات العلمية.
أما النقطة الثالثة، والهامة جدا، فتتخلص فى قوله:” لقد آمنت أن هذه البيئة، أى ظروف الجرانج، قد تغير حتى نتائج العلاج الكهربائى، تماما كما حدث بالنسبة لمرضى الصرع الذين قلت نوباتهم هنا، رغم أنهم يتعاطون العلاج الذى يقدم فى أى مكان آخر، بل واصبحت تكفيهم جرعات أقل”. ويقول فى سياق آخر:” لم أكن أعتبر العلاج البيئى معجزة تشفى كل شئ، ولم أتصور قط أنه سيجعل جميع المرضى يتحسنون، ولم أفكر انه يمكن أن يلغى أى جانب من العلاج الفعال. ولكننى أومن أن الشفقة(8)والبيئة المناسبة ضروية لنجاح العلاج الفعال”.
هذا الكلام يوضح ويؤكد ما هو المقصود بتفاعل” البيئة العلاجية” مع العلاجات الأخرى التى تستخدم مع المريض، حتى العلاجات الفيزيائية منها. فقد يعطى “علاج ما” “لمريض بعينه” تحت” ظروف معينة” ثم لا يكون له التأثير المتوقع منه، فاذا انتقل نفس المريض الى ظروف علاجية أخرى – أى وسط علاجى آخر- وأعطى نفس العلاج، فان النتيجة تكون مختلفة وايجابية، بالرغم من أنه قد يعطى جرعات أقل.
وهناك جانب هام آخر فى العلاج الكهربائى، يذكره د. بنديك عند كلامه عن مريض لم يكن يتوقع نتائج من علاجه علاجا كهربائيا، فهو يقول” ولكننى كنت أرجو أن اقترب منه خلال حالة الغيبوبة التى تلى الصدمة العلاجية. وكان هذا ما حدث بالضبط”.. بعد ذلك” بدا هذا المريض وكأنه وجد فى الحياة- الى حد ما- مؤقتا على الأقل”.
أخيرا يذكر الكاتب أنه لا يستطيع أحد أن يمارى فى تأثير العلاج الكهربائى المفيد، اذ يعتبر واحدا من” أكثر أسلحة الطبيب العقلى قيمة” ومع ذلك، للأسف الشديد، فأننا نرى فى أيامنا هذه أن بعض المراكز العلمية فى العالم، تحرم استخدام هذا العلاج، وقد يعتبره بعض الأطباء، ممن رقت قلوبهم، لدرجة شديدة، نوعا من التعذيب والقسوة لا يصح أن نستعمله مع المريض.. وقد يكون لهذا التحريم اسبابه الوجيهة؛ فأما أن تستعمل هذه الأداة استعمالا حسنا أو توقف على الاطلاق، ولكن هل تطبق هذه القاعدة ايضا على باقى العلاجات الأخرى، مثل العقاقير النفسية التى أصبحت بعض أعراضها الجانبية- من زيادة الجرعات وطول مدة الاستعمال- مادة ثرية للبحث العلمى نتيجة لما ظهر لها من مضاعفات خطيرة وباقية؟!.
أما بخصوص خبرتنا نحن هنا فى مصر، فأنها تؤكد الكثير من الجوانب الهامة السابقة الذكر؛ فبالنسبة للعلاقة بين البيئة العلاجية(أو الوسط العلاجى) والعلاجات الفيزيائية، فأننا لاحظنا نفس ملاحظات د. بنديك، أما بخصوص العلاج الكهربائى فأننا نتعامل معه بطريقة تتسق فى الكثير من جوانبها مع خبرة ذلك الرجل.
حيث أننا ننظر اليه كوسيلة- اذا أحسن استعمالها باعداد المريض لها عن طريق العلاجات أخرى ومواكبة المعالج لمريضه ثم التأهيل المناسب اللاحق- توقف نشاز كهربى فى المخ، للحظات محدودة، أملا فى استعادة عمله بطريقة متسقة ومتناغمة.
5– الخطة العلاجية…. والعلاج التكاملى الشامل.
وهذا يعنى وضع خطة علاجية(Treatment Plan) لكل مريض على حدة، على حسب تشخيصه وعوامل أخرى كثيرة، وتحدد هذه الخطة الأولويات العلاجية، وجرعاتها، ومدتها، مع المرونة والتغيير فيها وفق النتائج وما يجد من متغيرات، مع مراعاة أن تتكامل هذه العلاجات المختلفة فيما بينها(Integrated Therapeutic Approach) ،واضعين فى الاعتبار التشخيص الشامل المتعدد الجوانب والمستويات للمريض(9)وكذلك احتياجاته المختلفة، وتحريك كل ما يمكن تحريكه من امكانياته الكامنة وقدراته المعطلة، كل ذلك يتم فى اطار البيئة العلاجية الحية.
ولقد لاحظ د. بنديك احتياج المرضى لمثل هذا التناول، فهو يقول:” لا ننكر أن ثمة عددا قليلا من المرضى الذين لا يحتاجون العلاج بالعمل ويمكن شفاؤهم عن طريق” العلاج الفعال” غير أنه من الثابت أن ثمة حالات أخرى لا يصلح لها العلاج الفعال الا كأساس أولى ثم يأخذ العلاج النفسى والعلاج بالعمل دورهما فى إعادة المريض الى الحياة الاجتماعية السوية، كما أن هناك حالات معينة لا تستجيب للعلاج الفعال على الاطلاق حتى تبدأ بالعلاج البيئ.”.. وفى حديثه عن علاج أحد المرضى، ذكر أن هذا العلاج “لم يقتصر على العلاج الكهربائى فحسب، ولكنه كان يشكل جانبا هاما من العلاج البيئى الشامل”.
كذلك فأننا نلاحظ أن البرامج العلاجية اليومية فى الخبرة المجرية، كانت تحتوى على العديد من النشاطات المختلفة، والتى تهتم بالجوانب العديدة للمريض. فهو يذكر البرنامج العلاجى لمجموعة من المرضى كالآتى:” أنهم يحملون الطوب أثناء عمليات الهدم، الأمر الذى يتضمن الذهاب والعودة بالاضافة الى مهام جانيبة مدهشة، فالطوب يجب أن يصنف، وينظف ويوضع فى العربة، وتسحب بعيدا، وتفرغ وتعبأ من جديد. وبعد ساعتين أو نحو ذلك ثمة استراحة تحت شجرة الكستناء، حيث تقرأ لهم روزى بصوت مرتفع. ثم يمارسون العزق وتمهيد الممر.. وبعد الطعام يخرجون الى بستان الخوخ حيث تحتاج جور البطاطس الى عناية. ثم تدير روزى الجرامافون، وتطلب من المرضى الجامدين الأغبياء مراقصتها، أو يذهبون للسباحة فى حوض السباحة… برنامج جديد يومياً، ملئ بالمتغيرات والأفكار،،.
وعلى ذلك يتضح لنا أهمية وعى د. بنديك بأهمية التخطيط عند علاج المريض، وكذلك وعيه بجدوى الطريقة الشاملة المتكاملة فى العلاج، أو ما أسماه” العلاج البيئى الشامل”. بقى أن نذكر هنا أنه كان يهتم بالتاريخ المرضى للحالة، والدراسة الطولية والمستعرضة لها، مع محاولة فهم” معنى العرض” وما يسمى” بالعلة الغائية” له، وهو يقول:” اذا عشت بين مرضى العقل فسوف تستنتج أنهم يختلفون كلية عما تصفهم الكتب المدرسية(10)“. كذلك كان يهتم بعمل الجلسات النفسية، وينصت جيدا الى ما يقوله المريض، كما أنه لا ينسى أهمية تتبع الحالة بعد خروجها من المصحة” لأن بدونه لا يستطيع أحد أن يحكم على انجازات مؤسسة للأمراض العقلية”.
وتجدر الاشارة هنا،الى أننا فى ممارستنا الاكلينيكية فى الخبرة المحلية، نحاول أولا أن نقوم بتشخيص المريض وفهمه على مستويات وابعاد تشخيصية متعددة: فهناك المستوى الوصفى للأعراض، ثم مستوى وظائف الأنا، ثم درجة النشاط البيولوجية للمرض، ثم المستوى التركيبى وكيفية ظهور الأعراض، ثم المستوى الدينامى، بالاضافة الى متغيرات أخرى كثيرة. وبناء على هذا الفهم نقوم بوضع خطة علاجية(مبدئية على الأقل)، نتصور فيها تتابع العلاجات المختلفة، وجرعاتها، وفتراتها. وكيفية اعداد المريض لها، والخطوات اللاحقة…. وهكذ، مع العلم بأننا ننتبه الى أى متغيرات لم تكن ظاهرة لنا فى البداية، وما قد يستتبع ذلك من تغيير فى الخطة العلاجية.
ثالثا – الجنون..الأدب …. الفلسفة:
نظرا لأنه قد قيل الكثير ، ومازال يقال، عن التشابه بين الشعراء والفلاسفة والمجانين، فانى اردت أن أعرض- بشئ من التفصيل- ذلك الجانب الرائع الهام من الكتاب، والذى قد يلقى بعض الضوء على المنطقة المشتركة، بالاضافة الى أن مؤلف الكتاب تعلم من الأدب بصفة عامة، ومن اشعار الفصاميين بصفة خاصة، بعض الحقائق الهامة عن مرض الفصام ومعاناة الفصاميين؛ فهو يذكر، على سبيل المثال، أن دستويفسكى قد وضع أصابعه بدقة على جوهر الفصام، فى وقت لم يكن الأطباء فيه صنفوا ذلك المرض بعد.
يعطينا الكاتب مثالا لفتاة فصامية فى الخامسة والعشرين من عمرها، كتبت تقول:
لم الواحد؟ أليس الواحد هو الجوهر…
لا شئ باق مما تراه عيون البشر.
الماضى قد توقف. والمستقبل قد مضى
والسر الآن- تكون أو لا تكون.
لم نعيش؟ ولماذا نعيش؟ الحياة لا تهتم
هل يهم اذا وقفت أو جلست
فتحت أو قفلت؟ من الأفضل الا تحلل
وجودك الخاص، تقول الملحة الشائعة.
هنا يقول د.بنديك أن هذه الفتاة تضم الثلاثة- أى الشعر الفلسفة. الجنون- بين جوانحها، وأنه من خلال قصيدة كهذه يمكن أن نستبصر شيئا عن الفصام، وكذلك عن الميتافيزيقا، فكما هو واضح فى القصيدة نجد أن الفصامى يستغرقه الاحساس” باللاشيئية”، والفتاة كانت تتبين أن الفصام يعنى التعارض القاتل بين أن تصبح متوحدة مع الكل وبين استحالة ذلك التوحد.
وفى تعليق آخر على قصيدة لنفس الفتاة، والتى استعار منها اسم” القفص الذهبى” أو” القفص المموه” كعنوان للكتاب الذى بين أيدينا(11) يقول:” الواقع أن المجانين يعيشون فى قفص مزدوج: يقيمون بأنفسهم جزءا منه حول أرواحهم، ويتكفل المجتمع بالآخر يحاصر به أجسادهم. وتعتبر ازالة قضبان القفص الذى أقاموه بأنفسهم أشد الأمور صعوبة، أن لم تكن مستحيلة”. ثم يضيف:” أننا جميعا بشكل أو بآخر نعيش فى أقفاص”.
وبالرغم من أن الكاتب لم يخض فى أسرار العبقرية والجنون، على حد قوله، لكنه يقول:”.. ليس خفيا أن الشعراء والمجانين مرتبطون مع بعضهم البعض بطريقة ما، فكل من الشاعر والمجنون غير راض، وكل منهما يستريح على وسادة عزيزة من عبادة الذات مثل الشاعر كوستولانى، وكل منهما يوقن أننا لا نساوى الا ما نساويه أمام أنفسنا وهذا فى الواقع ليس عبادة ذات بقدر ما هو اعتراف مطلق يشخصيتهم”.
أنا مع نفسى……. مقياس
كلماتى المنحوتة من الذهب الخالص هى
كلمات السرور
على كل قطعة ذهب تتبدى
صورتى كصورة الملك.. وفى الأعالى
ترى نقش الكلمة المشحونة بالزهو:
أنــا!
ثم يعطينا الكاتب مثالا آخر لشاعر فصامى كتب يقول(12):
تعلمت فى المساء فى احدى القرى
فى حجرة صغيرة، مع التنهدات
أن جدى هو السيد
سلفى السكير، لا أنا
أعرف الآن أن جدى
يضطهدنى، رغم أنه مات
ويحدق فى بعينين زجاجيتين
ويرقص على قمة رأسى
……….
أن أعرف أنه حين الوحش المفترس
ذو الصرخة الطويلة الحادة المنبعثة
يجعلنى أنطلق فى وهدة الليل
فأنه جدى وليس أنا.
والآن سأقول ما أعرفه أنا بمفردى
اذا هاجمنى مرة أخرى معولا
فلن أستطيع أن أصارع من هو أنا
لذلك فأنا أكتب أشعارى على الماء…
يعقب الكاتب على ذلك قائلا:” فى وسع المرء أن يفهم بعض ما يسميه العلماء بالانفصام أو الثنائية، فحين( تنفصم) الروح، ينطلق الشخص الآخر، المرعب من الأعماق، الآخر الذى ليس أنا ولكنه أنا… أن الشئ المخيف هنا أن الشاعر لا يعرف حقا أيهما هو الذات الحقيقية”.
ثمة ذات ثانية فى داخلى
تقتل ذاتى الحقيقية، وهى فى الواقع
قد قتلتها تقريبا، وما أفظع أن أشهد ذلك
……..
وحين تستسلم احدى الذاتين أخيرا
فمن المؤكد أننى سأكون قد مت
وحتى ينتهى قلق تحطم الأعصاب
أريد أن أعرف جواب السؤال – من أنا؟
يعقب د. بنديك بقوله:” أن المرء هنا يساوره الاحساس بأنه لا توجد ذاتين فحسب وأنما ثلاثة، الثالثة هى تلك التى يرعبها مراقبة ما اذا كانت الذات الأولى أو الذات الثانية هى التى تنتصر. لم أفكر فى شئ كهذا من قبل. فالفصامى لا يعذبه الصراع المحكوم عليه بالفشل من شخصيتين فحسب وإنما يزيد فيتعذب من جراء عدم استطاعته معرفة أى الشخصيتين هى الحقيقية. لقد تقبل الاثنين، لكن الشك يسلمه لليأس”.
وفى سياق آخر، يقول المؤلف: “اذا صح أن هناك انفصاما فهذا هو بالتأكيد، انفصام فى الوعى، وفى الشخصية، وصراع بين الأنا والأنا المغايرة، وهو ما وصفه الشاعر يانوس آرانى بصورة أفضل من بلوير:
هل أصبحت شبحا يزور مملكته
أنا أرقب فى ضعف، وصبر وهدوء،
وأسال فى دهش: أما زلت نفسى؟
أم احتل ذلك الآخر مكانى؟”
يكفينا هنا هذا القدر من اشعار الفصاميين، ووصفهم لخبراتهم الفصامية، ومن أشعار الشعراء وتعبيرهم عن تفكك الشخصية، ويمكن أن يراجع القارئ بعض ما نشر من أشعار فى هذه المجلة طوال صدورها وكذلك ما أسميناه” الكتابة الطليقة”، لنرى عمق التشابه، وصعوبة التفرقة بين أبداع شاعر متميز، وبعض ارهاصات انسان متألم.
رابعا- تعقيب عام:
لقد اخترت من الكتاب بعض الأفكار التى رأيت أنها تصلح أن تكون بمثابة المبادئ الأساسية فى علاج المرضى النفسيين، وفى اعتقادى أنها كذلك، لأنها نابعة من” خبرة حية مكثفة”و” جهد صادق أمين”و” محاولة مستمرة” مع ” تعديل مستمر وتطوير لتلك الأفكار” من جانب صاحبها. ومن هذا المنطلق، فان تلك الأفكار تصلح أن تكون بمثابة “فروض عاملة”، يتنفع بها من يريد، شريطة أن يعاملها كفروض، وليست كأفكار جامدة أو حقائق ثابتة، حتى يتسنى لكل ممارس أن يؤكد بعضها، أو يعدل منها، أو يضيف اليها، أو يطورها.
ولقد تحاشيت فى عرضى السابق أن أقدم أفكارا أخرى عرضها المؤلف فى كتابه، نظرا لأنها تتعلق أكثر بالظروف الحضارية والنظام السائد فى المجر وقتذاك، كما أننى لم اتعرض لتقسيم الأمراض النفسية ووضعها كما عرضها الكاتب، حيث أنها ذات طابع شخصى يحتاج الى موقف نقدى مقارن مما قد يتطلب مقالا مستقلا.
ورغم مضى أكثر من ثلاثين عاما على تأليف هذا الكتاب فأننى ما زلت أرى أنه يمثل علامة على الطريق، لأنه يكشف مدى النقص والضعف والاختزال فى الاتجاه السائد فى علاج الأمراض النفسية. بهذه المناسبة فأن د. بنديك يقول:” لقد دفع نجاح العلاج الفعال المتزايد الأطباء المعاصرين الى اهمال العلاج بالعمل أكثر مما فعل سابقوهم من الأطباء الذين عاشوا فى فترة الاعتقاد باستحالة علاج مرضى الأمراض العقلية، أما اذا أراد هؤلاء الأطباء المعاصرون أن يحققوا شيئا ذا قيمة فى ميدان العلاج فعليهم أن يجعلوا من المرضى شغلهم الشاغل وينخرطوا معهم فى الحياة. ومن الملاحظ اليوم أن الأطباء يحسون أنهم فرغوا من أداء واجبهم نحو المريض أذا أعطوه الأقراص والحقن والصدمات الكهربائية. ولا يقدرون أن المريض يحتاج كذلك الى الكلمة الطيبة،و الكرامة، والحرية، والشغل والترفية والظروف البيئية الموائمة. ورغم ذلك لا ننكر أن العلاج الفعال هو الذى مكن الأطباء من تطبيق طريقة العلاج الحر على نطاق واسع اليوم… والعكس صحيح فلقد وفرت الظروف البيئية الطبيعية للمصحات التى تعتمد العلاج بالعمل امكانيات أوسع للعلاج الفعال”.
ثم يقول:” وحتى فى الحالات التى ينجح العلاج الفعال فى شفائها، يظل عاجزا عن وضع اللمسات الأخيرة”.
وبعــــد …..
فأنى أتصور أن قراءة هذا الكتاب هى واجب حتمى لكل ممارس لعلاج المرضى النفسى، وبالنسبة للأطباء الأصغر بالذات( وهم الأمل والرجاء) أعتبره لا يقل أهمية عن أى مرجع تقليدى يمتحنون فيه!!.
[1] – الانسان.. والجنون: مذكرات طبيب أمراض عقلية.تأليف د.اشتيفان بنديك. ترجمةد. قدرى حفنى ولطفى فطيم.بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر. الطبعة الثانية 1982(366 صفحة من القطع المتوسط).
[2] – أقصد هنا بالذات ما يمارس فى تواضع مثابر فى المستشفى الذى أتشرف بمسئولية ادارته والتعليم فيه” دار المقطم للصحة النفسية”. ووجود وجه شبه، فى كثير من النواحى، هو أحد العوامل التى شجعتنى على تقديم الكتاب.
[3] – اسم المكان أو المستشفى
[4] – فى بعض أوقات تراجعنا- ياسا أو عقلا(!!)- لاحظنا أن بعض المرضى القدامى الذين عولجوا فى المستشفى فى فترات سابقة نشطة عندما ياتون اليها فى أوقات كهذه،فأنهم يحسون ذلك بشدة ويلحظونه ويعلقون عليه، وكانهم أتوا الى مكان آخر غير الذى يعرفونه! وعندما يحدث ذلك فانه يؤلمنا وينبهنا ويذكرنا ويفيدنا كثيرا.لماذا لا نعترف بأنه” لا يصح الا الصحيح”؟( الكلام عن تجربة:” المقطم”)
[5] – انظر مقال: د. يجيى الرخاوى، العلاج النفسى للذهانيين، الانسان والتطور، عدد يناير 1981. ص 25
[6] – قد يكون الجنون فى حد ذاته من قبيل تذكرة المسيرة البشرية بجوهر القضية(والله أعلم).
[7] – نحن نفضل- من خلال خبرتنا فى مصر- استعمال مصطلح” العمل العلاجى” عن العلاج بالعمل” الذى استخدمه د. بنديك فى كتابه وذلك لكى نتفادى التعميمم أو الاختزال. انظر فى ذلك مقال: العمل العلاجى” الانسان والتطور” (عدد أكتوبر سنة 1980): د. رفعت محفوظ د. محمد حسيب).
[8] – هذا هو التعبير الذى استعمله المترجمان، ولا نعتقد أن الشفقة هنا تعنى” العطف الفوقى” او” التأثر المباعد” وأنما تعنى التعاطف المشارك والمواكبة المـتألمة، وقد نجد هذه المعانى فى اللفظ الأصلى بلغة المؤلف.
[9]- Comprehensive Multidimensional Diagnosis –
[10] – وقد حاول المؤلف من خلال هذه المعايشة أن يكون وجهة نظر فى الجنون.
[11] – اسم الكتاب الأصلى، باللغة الانجليزية، هو:The Gilded Gage
[12] – انظر مقتطف وموقف، الانسان والتطور، عدد أكتوبر 1980 ص 81.