يحيى الرخاوى طبيب نفسى
ومازال الحوار متصلا
د. يحيى الرخاوى و د.السماحى
نحن أحوج ما نكون إلى أن تشغلنا “قضايا” حية يساهم فيها كل من موقعه، قضايا قد تبدو نظرية، أو حتى مغتربة قد تلهى المثقفين عن أنفسهم ومجتمعهم، ولكنها فى واقع الحال هى خبز العقل اليومى وهى الضمان الوحيد لتأمين مسيرة البشرية بتوازن مناسب بين قضايا المعدة والأحشاء الملحة فى ناحية، وقضايا الوعى والإبداع المهملة.
والحوار أحد وسائل تنمية هذه القضايا الأخيرة وهو السبيل المشروع لتأكيد بشريتنا المشاركة.
الحوار هو أثرى ما فى الوجود، وإدعاء الديمقراطية فيه إدعاء مضحك، والمطلوب هو أن يحتوى الكلام “معني” فيشير فى “الآخر” “قضية” فيكون أمينا مع نفسه فى قبولها أو رفضها أو مراجعة سابق معتقداته من خلالها، ونحن نعلم صعوبة كل هذا، ونبدأ مثلما يفعل غيرنا بإدعاء حرية الرأى الآخر، آملين فى وقت قريب أو بعيد أن يصبح معنى الحرية هو إخلاص الدفاع عن قضية كل منا بدرجة فيها من الاحتمالات ما يفتح أبواب المراجعة “فى وجود وبسبب الحوار مع آخرين”.
بدأ الحوار فى العدد الماضى حول أكثر من موضوع واشترك فيه بعض المساهمين فى التحرير وبعض الآملين فى المسيرة، ومنذ العدد الأول والصديق جاد الرب يمثل المحاور الأساسى فى هذه المجلة، ويبدو أنه أصبح علامة من علاماتها، ثم ها هو د. محمد السماحى بعنفه الفكرى ينزل إلى الساحة فيضيف بعدا جديدا جعلنا نجمع المحاورين معا فى الساحة، منتظرين الشهود العدول والمشاركين الجادين حتى يستمر فعلا بالمعنى الذى قدمناه، وأستأذن صديقنا جاد الرب فى الترحيب بالصديق القادم لتوه إلى الساحة بتبادل الحوار معه أولا.
أولا: د. محمد السماحى:
حول العلم والبحث العلمى والتطور
د. السماحى: أريد توضيح بعض النقط لمجرد الحوار الفكرى (الثنائي) معك حول تعليقك على مقالتى عن خرافات العلم:
- لست أعتنق أى مذهب فلسفى جاهز رغم أن نقدى للعلم يشبه الوضعيين المناطقة والشكاك واللاأدريين.
المحاور: بلا استئذان، جعلت الحوار جماعيا وليس ثنائيا، ثم أقول قد يصح وجه الشبه مع الشكاك واللاأدريين، أما التشابه مع الوضعيين المناطقة فقد يحتاج إلى إيضاح أوفي.
د. السماحى: ليس كل ما عندى هو الهدم، لكن آمل أن أتمكن من إكمال العمل الذى قام به عدد قليل من الذين يسمونهم فلاسفة العلم وهم يحاولون البحث عن أسس أفضل للعلم الطبيعي، وهى مهمة شاقة، لكنى أعمل بها منذ عام 1973 حيث قرأت بتمعن فى المنطق الصورى والمنطقات الحديثة المختلفة ثم عن المشاكل التى خلقتها نظرية النسبية ومن بعدها الكوانتم Quantum وقرأت أبحاث فلاسفة الرياضة والثائرين على الصفر والجذر التربيعى لعدد سالب.
المحاور: يا شرف مهمتك الشاقة، ويا خطورتها، وإن كنت لا أستطيع ملاحقتك فى هذا الفيض الزاخر من الاطلاع، إلا أنى أتحسس طريقى حاليا فى كتيب متواضع عن تاريخ الرياضة، وهو عمل مبسط رائع، أقنعنى حتى أكاد أجزم من خلاله (إذ قدم الرياضة الاقليدية فاللا إقليدية فالنسبية.. الخ) باستحالة التقدم فى تعميق مفهوم العلم دون استيعاب هذه اللغة الجديدة، أما ما يهم قاريء هذه المجلة، فهو وجود هذا الاحتمال: “أن يهتم شاب بجدية مميزة بمشكلة حقيقية، هذا الاهتمام الصبور الفائق مما يذكرنا بمشاكل الأوائل وشرف العقل البشرى مهما أغرته المهارب”.
د. السماحى: أعد منذ ذلك الوقت بحثا جامدا (لسخافة مادته) عن الأفكار الفيزيائية لاستبعاد المصادر الفاسدة مثل المنطق العام common sense الحدس الشخصى Personal Intuition والخبرة اليومية everyday experience ((1)) لأنها تخلق نوعا من الحدس غير الملحوظ والعادات الذهنية الثابتة (مثل فكرة علمية قديمة بأن الذباب يتوالد من البراز وأن الحجر الكبير يسقط على الأرض أسرع من الحجر الصغير.
المحاور: لا أكتمك القول يا صديقى أنى جزعت وأنت تطيح بضربة واحدة بهذه الأسس الجوهرية لمسيرة البشر، وإن كنت أتفق معك على خطورة “سوء إستعمال هذه التعبيرات” وضرورة تنقية الغث من السمين منها، إلا أنى من واقع خبرتى الكلينيكية وموقفى الفنومنولوجي، أشعر أن المطلوب ليس هو استبعاد هذه المصادر الفاسدة، هكذا باعتبارها فاسدة برمتها، لمجرد الزعم بأنها شخصية، وإنما المطلوب هو التمييز بين ما هو “شخصى شخصي” منها، وما هو “شخصى عام” لاحظ استعمالك لتعبيرات المنطق “العام” والحدس “الشخصى معاً” فإذا تذكرنا ديكارت حين يذهب إلى إصراره على المنهج فى الوقت الذى يؤكد فيه وسيلة معرفية أولى (وربما أخيرة) وهى الحدس، لاستبعدنا تلقائيا أن يكون حديثه عن حدس شخصى (راجع أيضا “جدل” أفلاطون) ولكن الأرجح أن يكون حديثه عن “حدس عام” يتمثل فى “شخص” خاص يمثل العام بشكل أو بآخر، فالأمر هنا يرجعنا إلى قضيتنا الأولى وهى إهمال الأداة البشرية كمقياس أولى لما نقول به ونمارسه ونراه، وهذا الإهمال فى التقويم يتبعه إهمال فى الإعداد لا محالة، ومع كل هذا الإختلاف بيننا: فحيرتنا واحدة، وإن كان يبدو أن طريقنا مختلف أشد الإختلاف فى الإتجاه إلى حلها، إذ أنى أتصور أن الأمل فى إعادة العلم إلى ما يشرف به ويعين من خلاله مسيرتنا إنما يكمن فى إحياء “تصنيع العلماء” أساسا، وهذا أمر خطير وصعب صعب، بل لعله أكثر خيالا (وربما سخفا) من مهمتك فى البحث عن أسس جديدة للعلم الطبيعي.
د. السماحى: إن معظم أفكار فلاسفة العلم اليونانيين ومنها نظرية الذرة (تقع مع المصادر الفاسدة) ولكن بعض هذه الأفكار (التى أحسن نيوتن إحياءها) غير صالحة للاستعمال حاليا.
ورأيى الحالى فى العلوم أنها فى مرحلة جنينية أو طفولية.
المحاور: ولم لا…؟ والجدير إذا (1) أن نتواضع فى التعصب (الديني) لمعطياتها (حتى لنثبت بها الدين السماوي، ويالسخف المحاولة (2) أن نهيى أحسن الفرص لنمو الجنين فى رحم حضارى معرفى مناسب (3) أن نواصل الحرص على تتبع نبضات قلبه وشقلبات أطرافه حتى لا تتعثر الولادة (4) أن نعيد النظر فى الأصول والجذور مع اهتمامنا (أو قبل إهتمامنا) بالفروع والأوراق الذابلة المتساقطة والمقلدة من منتجات البلاستيك والنايلون.. وماشابه.
د. السماحى: أعتقد أيضا أن نظرية التطور المنسوبة ظلما إلى داروين وحده قد عفى عليها الزمن لأنها قامت على أساس غائى من ناحية وشاعرى من ناحية أخري، فالتطور عند داروين هادف نحو الأرقى والأصلح وهذا لا يفسر ظهور الحمير مثلا بين الفئران والخيول أو البقر وهلم جرا، والتنوع الفظيع فى أشكال الحشرات يوحى بوجود طفرات جينية تغير الصفات أكثر من محاولات التطور (لا توجد سلسلة إلى أعلى بل حلقات جانبية) وهكذا، لذلك فنظرية الطفرة قد تكون أقرب إلى الصواب إذا قيست بانخلاق أطفال يكادون يكونون من سلالة غير بشرية إما بالوراثة أو بمرض الأم أثناء الحمل مثل من عندهم شيخوخة مبكرة جدا وضعف بصرى وتخلف عقلى متوسط Werner،s، أو من لهم قياس زمنى تتبعى Chronologic scale خاص بهم أقرب إلى بعض الكائنات قصيرة العمر سريعة الشيخوخة 0مرض البروجيريا Progeria… الخ)
المحاور: عندك عندك، لقد كدت تصيب المجلة وهدف إخراجها فى مقتل، ومع ذلك فلن يحافظ عليها إلا هذا النوع الجاد من التوعية المسئولة من خلال مثل هذا الحوار فقد ألمحت إلى عدة قضايا هى من أهم ما تصورنا أن من واجبنا إيضاحه مع خروج هذه المجلة واستمرارها، وتلك هى قضايا “الغائية”، و”التطور الطولى والعرضي” ثم “الطفرة” (فى مقابل وراثة العادات المكتسبة بداهة).
ولا أكتمك حديثا إذا قلت أن توازنى يختل بشكل قليل أو كثير حين أشعر أن “الغائية” يمكن أن تثبت عبثيتها وخداعها، وأن الطفرة هى بديل “وراثة العادات المكتسبة” لاستحالة المقولة الأخيرة (كما صور مندل ووايزمان ومن بعدهما لبضعة عشرة سنة ثم تراجع الأمر كثيرا) أقول إنى أفقد توازنى بحق حتى أشك فى منطقية إيمانى بهذا الدين الجديد، فما دمت أختل إلى هذا المدى إذا ما تهدد هذين المبدأين، فيبدو أنه لابد من مراجعة حاسمة لنفسى طول الوقت، وأنا معك فى أن استعمال الغائية بشكل سطحى هو أمر سخيف ومخل (وأذكرك بهجوم أستاذنا محمد كامل حسين عليها بلاهوادة فى “وحدة المعرفة” ثم بهجوم البنيويين المحدثين من أمثال فوكوه ولا كان وشتراوس مؤخرا بشكل محق إلى درجة ما)، إلا أن العقل البشرى بقصوره لابد وأن يسمح لنفسه بمساحة ما تستوعب بعض القيم اللازمة لتواصل الهارمونى بما بعده مثل قيمة الغائية وقيمة الخلود، الأمر الذى قد يحتاج إلى تفسيرات جديدة وترجمات جديدة بلغة جديدة، أما أن نهيره هكذا بضربة غرور متحدية (وربما خائفة من الغموض أو الشمول) فهذه مسألة يطول حولها النقاش بل قد يحتد النزال، ومرحبا مرحبا.
د. السماحى: عندما تصبح مادة البحث فى العلوم والفلسفة صعبة ومتناثرة والمنهج عاجزا عن صياغة الملاحظات فى شكل “علم” أو “مذهب” يتحول الباحثون إلى ثلاث طرق:
1 – الروتينية والإضافة الأنسيكلوبيدية (الموسوعية) إلى ما سبق دون مبالاة. وأغلب الباحثين يفعلون ذلك بوعى أو بلاوعي.
2 -الثورة ولكن ما يتبعها هو الرفض (مثل موقف هيوم من قضية العلية وموقف الوضعية المنطقية من الفلسفة).
3 – الإعتماد على الذات وعلى الله فى شكل حدسى أو توحيد المعرفة حلا للإشكال بقبول كل مصادر المعرفة وكل مناهجها فى آن واحد، وهذا نوع من التعالى على مشكلة حقيقية، ولكن بفعل إيجابى مغامر على عكس الرفض.
(لست أدرى إذا ما كان ذلك مقبولا لأنى لم أستشهد بأمثلة كافية).
المحاور: هنا يا صديقنا تثير قضايا هامة جدا باعتبار أن قضية البحث العلمى هى قضية “وجود” أساسا.
وقبل أن أعقب فى إختصار على ما أثرت أذكرك بحقيقة سابقة مهددة لمجتمعنا العلمى أصلا (ثم مجتمعنا عامة بعد ذلك أو معه) وهى أن البحث العلمى فى مرحلتنا هذه (وربما عصرنا هذا) يكاد يختفى كمشكلة معرفية شخصية، لتحل محله بعض المحاولات التطبيقية المحدودة، أو بعض الإضافات المكررة (المشوهة فى الأغلب) وذلك باعتباره وسيلة وظيفية للحصول على موقع بذاته فى كادر بذاته (فى أغلب الأحوال) ومن الأسف المرعب أننا وأولادنا معنا من بعدنا لا نعرف أصلا “قضية” إسمها قضية العلم والبحث العلمي، التى هى قضية الوجود البشرى فى شكله المعاصر، والتى أتصور أنها يمكن أن تكون الشغل الشاغل لأسرة تجتمع حول كوب شاى (أو طبق من البطاطا المشوية)، يشارك فيها الصغار بتلقائية الإستطلاع المعرفى ويعايشها الكبار بألم العجز الوسيلاتي، ولكن يبدو أن الطريق أبعد من كل تصور بل إنى أتصور أن هناك من سيقرأ هذا الحوار محتجا وكأننا لا نتحاور حول مشاكل هى من صلب وجودنا ومعالم هى وقع خطواتنا اليومية، وكأن الحوار ينبغى أن يقتصر على وسائل الإستذكار وأسرع الطرق للحصول على السعادة ودرء الخوف وكسب الأصدقاء؟!
يا صديقنا ياليت ما قلت من مهارب كانت مطروحة أصلا (علينا) إذا لكانت هناك “مشكلة” تحتاج أن نهرب من مواجهتها فى هذه المهارب!! وهذا طيب إلا أنه يبدو أنه ليس بواقع، ومع ذلك فلنعد إلى مهاربك فنقول (1) أما عن الإضافة الموسوعية فلا غبار عليها لو تمت بأمانة إذ أنها ستزيد من “أبجدية” المعرفة وبالتالى من إمكانية صناعة الجمل العلمية المفيدة الجديدة (2) أما عن الثورة فهى ليست بالضرورة ملازمة لرفض يتبعها… ويا حبذا ببناء يشرعها (3) وأما عن الإعتماد على الذات وعلى الله فى شكل حدسي.. الخ فهو أمر لو تم من خلال ضرورة موضعة ما هو ذات بدوام محاولة إقترابها من “ذات عامة” (سواء كانت الشعب أو الدولة أو المطلق عند هيجل أو كانت الله عند المتدينين)، ومن إجتناب الإعتماد الإغترابى بالسعى إلـى تعميق الإيمان وسيلة معرفية موازية للوسائل الأخرى فقد يفيد هذا الذى أسميته “مهربا” فى إثراء المعرفة بشكل شجاع، وإن كان خطرا وصعب الضبط لا محالة.
وبعــد:
فما أسعد المجلة بهذه البداية.
وما أحوجها إلى مشاركين فى الحوار.
وما أحوجنى إلى أن أرجوك يا صديقنا ألا تبخل علينا بالاستمرار، وألا تمنعنا من الأمل فى أن يكون الحوار سبيلا للتغيير لا مجرد حافز للجدل.. مهما اختل توازننا ونحن نخطو على الصراط بين “ما هو نحن” و “ما هو إحتمال آخر” (أى إحتمال آخر).
ثم:
مع صديقنا جاد الرب
عن “بابل” “والأنهار الثمانية”، “وتهمة احتقار التاريخ”
يا صديقنا الكريم محمد جاد الرب الأخناتونى البابلى طويل العمر والأمل نرجو أن تقبل حركتنا الدائمة فى تغيير مواقعنا منك رغم ثبات أقدامك فى مواجهتنا بصبر وأمانة وعناد وطيبة أهل مصر، وأن تشعر أن إتساع مجال الحوار مع أكثر من محاور هو أملنا الحقيقى مع الإحتفاظ لك بحق السبق (وبحق سبق حائز تفضيلا.. مستحوذ ثنائى الجميلا)، وأخيرا أن تعذرنا على إضطرارنا لانتفاء عينات الحوار التى قد لا تمثل كل رأيك والتى لا نملك إزاء إختيارنا إلا أن نتحمل أى مسئولية تترتب عليه ونقبل أى تصويب منك أو من غيرك ودعنا نبدأ الحوار.
جاد الرب: إطلعت على العدد الرابع من مجلة الإنسان والتطور ولست أدرى لماذا وجدتنى أكتب لك مقترحا دمج المشروعين فى واحد مشروع المجلة العربية “الإنسان والتطور”، والمجلة الإنجليزية التى لم تحددوا إسمها بعد، وإن كنت أقترح الإسم BABYLON الذى هو اسم بابل بالنحوى “أى مع تنوين اللام الأخيرة”.
(ثم ذكر تاريخ كلمة بابل، وبناء البرج.. أو ناطح سحاب، ومرادفها مع مدينة حمورابى… الخ (2).
المحاور: مازلت ياسيدى تمثل لى تحديا خاصا إذ تهتم كل هذا الإهتمام بالأسماء والأشكال والشعارات، وأنا لا أنكر أهمية كل هذا إذ هى إفراز لما يجرى وتتويج لما هو قائم، أما أن نضع شعارا ثم ننضوى تحته فهذا خلافنا معك ولن أكرر ما سبق أن قلته فى العدد الماضي.
أما المجلة الإنجليزية الموعودة فسوف تكون خاصة بالطب النفسى التطورى أساسا، ووظيفتها مؤقتة محدودة، ذلك أن من واجبنا أن نخاطب العالم بلغتهم العلمية الشائعة حتى نعرض عليهم لغتنا العربية فيما بعد من موقع تقدم علمنا ولغتنا معا، وقد شعرنا أن ممارستنا الطبية المتواضعة فى فرع الطب النفسى وما أثارته من تنظير حول ماهية الإنسان فيها من الأصالة ما يستأهل أن يعرفه العالم باللغة التى إعتادها مما سيضطرنا إضطرارا إلى هذه الخطوة التى نرجو أن تكون مؤقتة فعلا.
وبهذا تصبح المجلة الجديدة متخصصة لا نستطيع أن ندرجها مع شقيقتها العربية تحت إسم بابل (حتى ولو كانت اللام منونة!!) أو حمورابى أو غيرها.. فلتدع لنا بأن نخرجها بإتقان وأصالة حتى ترفع عنا الشعور بالنقص، وتضعنا حيث نستأهل وحيث يحق لنا ويليق بنا أن نستمر، ونتبادل مع غيرنا العطاء بعد أن عجزنا حتى عن الأخذ من جانب واحد بالإتقان اللازم.
جاد الرب: إننا لا نلتقي، وذلك يعطينا الحرية فى التصرف فى أوراق بعضنا البعض بالقبول أو بالرفض (إلى أن قال) وأنا أفهم أنك طبيب وأنكم أطباء، وأن حاجتكم إلى من هم مثلى حاجة هامشية، أو هكذا يمكن أن تنطق الأعداد الماضية خصوصا وأنتم تركزون على الكلمة (مجلة علمية.. الخ).
المحاور: يا سيدى سامحك الله، إن أغلب ما تقوله صحيح ، وأصح منه أنه لم تأتنا المادة المتفقة مع أهدافنا التى أعلناها فى أول عدد وكررناها فى الأعداد التالية، والمتفقة مع الشكل الذى إلتزمنا به ولعله قد وصلتك فى العدد الأخير صرختنا بأن هلموا إلينا (بشروط بداهة: وهى عدم النشر للنشر، وحتم الإضافة، وتفضيل الأصالة)، ولعل أبلغ دليل على حرصنا على غير الأطباء هو إصرارنا على إستمرار الحوار معك حتى لو قلت (كما يقول أهل بلدنا) “ريان يافجل”” فسوف تجدنا نحاول أن ننادى عليك من الشط المقابل “لوبيا يا فجل لوبيا” أو فى القليل “طرى ياخيار أخضر” أما حكاية “علمية” فهى ليست إحتكارا لمجال بذاته، ولعلك تراجع حوارنا مع صديقنا د. السماحى حتى تعرف خيبة العلم القوية، وهو يتحسس طريقه فى مرحلته الجنينية المهددة بالإجهاض لسبب الإستعجال والغرور” فليكتب من شاء، ولنتعاهد أن نحاول باستمرار، شريطة ألا يكون الأمر هو تكرار لما يحدث فى أى مجلة أخري، تخرج لأهداف أخرى أفضل من ذلك أو غير ذلك.
جاد الرب: ولكن رغم ذلك فأنا مسئول عن عرض إقتراحى كاملا، فأنا أتصور أن فكرة التقويم لا يجوز النظر إليها فى سخرية إذا كان العلم طريقنا، إننى أقترح قيام المجلة الجديدة BABYLON بابل بإبداع تقويم جديد خاص بها، وهذا التقويم الجديد هو “النهر” حيث يتألف “المحيط” أو “السنة” من ثمانية أنهر والنهر الواحد 45 يوما : 45 x 8 = 360 بحيث نحاول إصدار كل عدد فى خلال نهره الخاص، أى مطلوب إصدار ثمانية أعداد فى السنة من BABYLON بابل رئيس التحرير.. عربية إنجليزية للأدب والفن والطب النفسي، وينبغى من المحيط خمسة أيام أو خطوات وهى أيام الحج فى التقويم المصرى القديم أيام الأعياد ويجب أن نترك الحديث بشأنها الآن إلى فرصة أخرى إذ يجب علينا أن نحتفل يوما بشامبليون وآخر ب. .. وثالث ب… ولكنى أتحدث عن أسماء الأنهار الثمانية لأنها فى نظرى يجب أن تكون كالتالى:
(1) نهر بابل- حمورابى (2) نهر خاتون – آخناتون (3) نهر الناصرية (قرية عيسى بالجليل بفلسطين) (4) نهر قرطاجة (مدينة هانيبال العظيم) ويمكن لكم بالطبع أن تفكروا فى أسماء الأنهار الأربعة الأخرى لأن الإحتفال بأسماء المدن القديمة ليس إحتفالا عبثيا وإنما هو فى الواقع سوف يقترح الطريق أمام العلاج الجماعاتى الذى ننشده.
المحاور: لا شك أنك أوقفتنى عند حدى حين حذرتنى من السخرية من إقتراحك ولا شك أنك تلاحظ أنى لا أسخر أصلا من أى كلمة تقولها أو يقولها غيرك، بدليل أنى أهاجم وأرد وأعاتب وأقبل وأرفض، وقد سعدت أن أصبح حوارى معك جزءا من حوارى مع آخرين حتى لا تصبح المسألة ذات طابع خاص يحمل أى مظنة غير جادة، ومن هذا المنطلق: أسمح لنفسى بأن أعيد الصراخ أن “لا” ليس هذا هو سبيل التغيير أن نغير “الشهر” إلى “النهر” والسنة إلى “المحيط” و “اليوم” إلى “الخطوة” ، لا يا سيدى وألف لا ومرة أخرى أقول أن هذا لا يعنى أنى لا أهتم بالشكل، ولكن أيهما يسبق الآخر.
ولتتطلع معى من حولك لترى الفتيات المرتديات زى الإسلام والفتيان المطلقى لحاهم، فهذا شكل الإسلام وهو – فى الأصل – إعلان عن قوم يتحلون بحضارة الإسلام.. فهل هذا صحيح ؟ هل تغيير الشكل السابق للإلتزام بالجوهر (أوحتى البديل عن الإلتزام بالجوهر) قد أدى واجبه؟
وهذه الأحزاب التى تغير إسمها ومحل إقامتها ومجالس إداراتها، هل أدى تغيير الأسماء إلى تغيير الجوهر.
وهؤلاء الأشخاص الذين يلبسون الأحمر يوما والأبيض يوما والمخطط يوميا حسب مقتضى الحال وطلبات مخرجى السياسة. هل غيروا الجوهر؟
بل إن أخشى ما أخشاه أن يكون التغيير من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وبالعكس ليس إلا تغييرا فى نوع القوة ومقاليد القوة دون أى هدف حقيقى يتبع وسيلة حقيقية للنهوض بالعقل المصرى والعقل البشرى من حالة التنويم المخدرة لدرجة فقدان الوعى الكامل.. إلى حالة الوعى النامى باستمرار يا سيدى
طريقنا طويل يحتاج لآلاف أو ملايين من الأنهار والمحيطات (أعنى الشهور والسنين) بلا سخرية ولا تأجيل مخدر.
فاعذرنا عن عدم قبول اقتراحك.
واقبلنا ونحن نخدش جبل الركود الصلد الأملس بإبرة المعرفة المتواضعة حتى لو لبس ثوب العلم ظاهرا.
جاد الرب: ولكنى حتى الآن آراكم تحتقرون أى حديث يتعلق بتاريخ الإنسان وتاريخ المدن التى أبيدت وكانت منارات عظيمة، أبيدت فى غير رحمة وكانت تؤدى نفس “العلاج الجماعاتي” الذى تحلمون به وإلا فماذا تكون خوتاتون أو قرطاجة… وأنا أتصور أنك الآن سوف تنظر إلى كلماتى فى أسف شديد لأننى لا أهتم بآلاف الإيرانين أو العراقيين الذين يموتون فى كل يوم بينما أهتم بتدمير مدينة خوتاتون قبل 3322 سنة أو قرطاجة قبل ميلاد عيسى الناصري، ولكنك لو فعلت لوجب عليك أن تمنع نفسك عن التفلسف أو الكتابة الأدبية، حينذاك سوف لا تدعو إلى إنسان بلا هوية ولا تاريخ.
المحاور: يا خبر يا أخانا جاد الرب، كيف وصل إلى علمكم – وأنت سيد العارفين- أننا يمكن أن نحتقر أى حديث يتعلق بتاريخ الإنسان وتاريخ المدن التى أبيدت (والتى لم تبد)، “نحتقر”؟ هكذا مرة واحدة، إن التطور معناه التاريخ والمستقبل وقد تركزا فى لحظة “الآن” ، “فالآن” هو نتاج التاريخ وهو صانع المستقبل، والتاريخ من منظور التطور لا يرجع إلى الفيروس وما قبل الفيروس فى المرحلة ما بين الحياة واللا حياة، وقد خرجت هذه المجلة فى الظروف التى تعلمها أو لاتعلمها (غير معانة وغير قابلة للإعلانات) لتؤكد تاريخ الإنسان التطورى إذ تساهم فى رسم مساره المؤمل بوعيه الفائق، وإنما كان إعتراضنا ولا يزال على مقولة التاريخ من حيث استعماله مهربا عن الحاضر بمثل الإفتخار به بديلا عن مواجهة الحاضر، أو البكاء عليه أهون من ألم الحاضر، أو إحيائه قبل بعث الحاضر، هذه هى القضية، ولعلك خير من يدرك أن ألم الحاضر هو ساحق بكل معنى حقيقي.، وأن مبررات الهرب منه لا عدد لها، وينبغى لمن مثلى (يعف ذلك) أن “يفوت” أو “يصهين” (أو باللغة العربية الفصحى “يطنبل”) ، حتى يحتمل المسيرة اليومية لهذه الحياة الصعبة، ولكن هذا الأمر المستوجب من باب الرحمة والتعقل هو باب التناسى والتبرير وترديد الألفاظ وعقد الإجتماعات الجوفاء ومنح الجوائز والدوران حول النفس، ويستحيل أن يكون صدور مثل هذه المجلة للإسهام فى أى من هذا، وإن كانت تعترف بضرورة جرعة مناسبة منه، أما أن يكون هو هو القضية، أو نتصور أنه هو هو الحضارة فهذا هو ما نحاربه وسنحاربه إلى أن نحقق النصر عليه أو نهلك دونه، القضية فى نظرنا يا أخى تبدأ بالآن، وهى تبدأ بالفرد “إنت وأنا”، ووسيلتها الوعى الدافع للفعل، وغايتها الإنسان دائم النمو، وعلامتها الحضارة البادئة بالوطن إلى ما بعد حدوده، ومركبها الكلمة إذ تحتوى معناها وتحمل مسئوليتها، وكل ما عدا ذلك:ما قبله وما بعده وما بجواره مقبول كعامل مساعد ودعامة مريحة، ولكنه أبدا ليس بديلا عن إثارة الوعى الحضارى فى ناسنا فردا فردا تحت أى إسم ووفق أى نظام، إن ما أحلم به يا سيدى ليس إستبدال اسم باسم، أو الحصول على شعار يمثل تاريخ كذا أو أرضية كيت، وإنما أنا أحلم أن تدخل بيوتنا مشاكل حضارة الإنسان ووعيه تؤرقنا فردا فردا وتحفزنا فردا فردا إلى فعل ما قبل وبعد ومع لقمة العيش ولا فتة الشهادة وخاتم العرش، صدق أو لا تصدق ولكن هذا هو الشيء الوحيد الذى يبرر ظهور هذا العمل (المجلة) واستمراره إن كتب له الإستمرار بفضلك وعهدنا.
وإلى لقاء الكلمات حاملات المعانى الفعل، نرجو أن يمتليء وقتك “بالحاضر” مهما كان ألمه، وأن تزهو بالماضى مهما كان بعده، لتصنع المستقبل مهما طال إنتظاره
ولك الحب والشكر والاحترام فى كل آن.
[1] – نأسف لوضع الألفاظ مع مقابلاتها الإنجليزية حيث كتبها الصديق بالإنجليزية دون العربية فقمنا بترجمتها مع الاحتفاظ بالكلمة التى استعملها أصلا.
[2] – أتجنب متعمدا ما يرد فى رسائل الصديق جاد الرب متعلقا بشخصى مما به من مبالغات الثناء والأمل، لأن ذكرها لا فائدة منه حاليا، والجرعة الشخصية فيه معطلة لا محالة.. فليعذرنى صديقاً ويتقبل شكرى على حسن ظنه.