حول حاجة البشرية إلى التدين
د. محمد السماحى
نشعر أن الحديث حول الدين ينبغى أن يفتح على مصراعية لكل صاحب فكر يتحمل مسئولية شرف وعيه ، ولن يضار الدين الحق بمحاولة السعى نحو الحق، والدين لاينبغى أن ينظر إليه ككائن هش يحتاج إلى الرعاية الفوقية، فكل محاولة صادقة مستمرة لابد أن تصل إلى جوهر الحق، والمجلة – فى نفس الوقت – لاتبنى كل ما يكتب فيها تفصيلا وإن كانت تدافع عن حق صاحب الرأى أن يقول رأيه ما دام يدفع الثمن حرية و معاناة.
التدين غير الديانة… و التدين ظاهرة سيكلوجية أساسا وقد عرفها الأنثروبولوجيون بأنها الإعتقاد فى قوى فوق طبيعية supernatural ، ومن ناحية المنطق فان القوى فوق الطبيعية تساوى تماما القوى غير الطبيعيةunnatural وبذلك تفقد الكلمة هذا السحر الذى تملكه عندما يقال “فوق الطبيعية” وإن كان ذلك لايقلل من أهيمة الظاهرة (وإنما يضعها فى مكانها ). وما يميز المتدين عن غيرة هو اعتقاده بأن ليس كل ما يحدث فى العالم يمكن تفسيره وفهمه فى إطار العلية المادية، أو قوانين الطبيعة شبه الآلية ولهذا فإنه يعتقد فى أن ظواهر كالقدر والصدفة والحسد والنجاح المفاجئ أو الموت المبكر قد تكون ناتجة عن رغبات طارئة لكائنات أقوى غير مرئية لها القدرة على تنفيذ أهوائها كالجن والمردة (على سبيل المثال ) وبالملاحظة نجد أن هناك عنصرا آخر فى اعتقاد المتدين وهو الاعتقاد بأن هذه الظواهر أوبعضها على الأصح، يمكن منعه فور حدوثه بالتدخل فى تواضع لدىهذه القوى بالدعاء لها و إرضائها وتقديم القرابين إليها (كدم الهدهد و الأحجبة والصدقة للفقراء أو زيارة الضريح أو اتخاذ الكاهن أو القس وسيطا) وربما كان هذا العنصر الأخير فى التدين وهو الخاص بالقدرة على إثناء القوى الغيبية عما يدور فى خلدها هو سر استمرار التدين نفسه. وذلك ولأنه يمثل الشق المنفعى أو المصلحى فى العقيدة وهو مبث الأمل ، وهو أيضا ما يخفف الخوف والشعور المشوب بالرهبة اللذين يميزان اعتقاد التدين فى قدرة القوى الغيبية على التحكم فى الأحداث المتعلقة بالبشر (كما أنه سر ظهور الوسطاء من العرافين وطاردى الجن و صانعى الأحجبة وبعض أنواع رجال المعابد). ومن خلال شقىالدين و هما شق الإيمان بوجود قوى غير طبيعية لا تخضع لقوانين الفيزياء، وشق قابليتها للإقتناع بتقرب البشر وإمكانية إرضائها (وهو يسمى غالبا بالعبادة فى الحالات الكبرى) يمكن إضافة الجملة التالية إلى التعريف المعمول به لدى الانثروبولوجبين:
“والاعتقاد فى إمكانية استرضائها بوسائل التتقرب المختلفة “وذلك لكى يصبح التعريف العملى الأقرب إلى القبول للدين هو “الاعتقاد فى قوى غير طبيعية مع الاعتقاد فى امكانية استرضائها بوسائل التقرب المختلفة “
وهكذا يكون سلوك المتدين متجها دائما نحو إسترضاء القوى الخفية هذه عند الضرورة على الأقل مع عدم إغضابها فى جميع الأوقات. ولقد أخفقت كل اللغات فى إيجاد تسمية مقبولة للعلاقة بين الإنسان والكائنات غير المرئية والتى تشكل الآلهه جزءا منها. فهى ليست علاقة عبودية بالمعنى الآدمى slavery و علاقة خادم بمخدوم حيث يقال فى الإنجليزية server of Gods.
لم يكن التدين عميق الأبعاد بقدر ما كان عند اليهود ثم باقى الديانات السامية (السماوية ) وعندما جاءت الأديان السامية Semitic التى نشأت فى منطقة الشرق الأوسط بداية باليهودية، فانها قد طورت مفهوم التدين كثيرا وأضافت إليه أبعادا لم تكن موجودة فى الديانات من قبل ، وتلك هى الأبعاد الإجتماعية الأخلاقية التى صيغت بهدف خلق مجتمع ملتزم متكامل وقادر الاحتفاظ بهويته ووحدته دون تفكك أو تمزق ولافردية ، وأن يكون كل هذا فى إطار العقائد والتعاليم المنصوص عليها وتحت قيادة كبار المؤمنين الموثوق بقدراتهم ونزاهتهم والذين يضعون حلولا للمشاكل العقائدية الطارئة بحيث يمكن إزالة معظم التناقضات من الفكر الدينى مع إبقاء مع العلم الفيزيأئى و العلوم الطبيعية.
وهذا التناقض ليس ضارا كما قد يبدو إذ أنه يقدم حلولا سيكولوجية لما عجز عن تقديمه بل ربما تسبب إلى المحافظة على العقيدة باستثارة عداء المؤمنين الطبيعيين وتسميتهتم بالهراطقة أو الزنادقة و ربما بالملحدين و هذا أسلوب فعال جدا فى زيادة تمسك المتدين بما يعتقد فيه حتى ولو لم يجد له تأييدا علميا فالشعور بان الخصم لا يشاركنى الاعتقاد يجعلنى أتمسك بعقيدتى ضد الخصم ، ولكن المهم هو إثارة هذه الخصومة.
وفى النهاية فإنه يمكن القول بلا تردد أن التدين يعبر عن حاجة بشرية أصيلة ولايمكن الاستغناء عنه طالما أن هناك ظواهر قاسية فى هذا العالم كالظلم والفقر والألم. (وهى ظواهر لم تقدم لها حلول علمية أو منطقية بعد).
ومن التاريخ نتعلم أن كل الشعوب صاحبة الحضارات الكبرى بدأت حضاراتها بالتفاف حول ديانة ما بحماس قوى فكان الدين هو مركز الحضارة وملهم الفنان والمفكر و السياسى ومحرك الشعب كله. وأكثر من ذلك نجد الأفكار الملحدة عند موت الحضارات وواقفة عند قبورها.
وهذا يميز بالذات تاريخ اليونانيين القدماء الذين تطابق وقت أفول حضارتهم وانحدارهم ثم نهاية دولهم مع وقت ظهور الفلسات المضادة للدين. والتاريخ يعرض علينا أيضا حقيقة قائمة دأئما وهى عجز البشر عن تحقيق العدالة لنفسهم بنفسهم ولذلك فنحن نلتمسها خارج العالم.
كما يجب التنويه إلى أن وصف المتدين ليس قاصرا بأى حال على المنتمى إلى ديانة معينة بل إنه كل من يعتقد فى قوى غير طبيعية أى أنه يشمل معظم البشر(1) فلو أنك تعمقت فى داخل وجدان من يؤمنون بقراءة الكف والنجوم والحظ ومن يتفاءلون بأشياء معينة تحفظهم من الشرور لوجدت جوهرا متدينا بصرف النظر عن مدى اعتراف شخص ما بانتمائه إلى ديانة رسمية. بل إن بعض المتعلمين يذهبون إلى حد التدين بديانة التاريخ حين يعتقدون أن التاريخ “ يفعل” أحداثا كبرى تؤثر على البشر.فهو قد “ يكرر نفسه “ أو يسير نحو غاية أو يؤدى إلى التطور أولا يرجع إلىالوراء وهكذا وتسمع من هؤلاء تنبؤات أو نفيا قاطعا لاحتمالات معينة استنادا إلى استقراء طبيعية التاريخ وكأنه عقل حى يدبر او إرادة واعية ، ولقد قامت ديانة شهيرة فى فترة إنحدار الهللينية تدعى بالرواقية تؤمن بأن العالم يسير وفقا لإرادة واعية كامنة فيه وبين ذراته ولايعلو على هذة الإرادة حتى أكبر الآلهة فى وقتهم.
مما تقدم يمكن التأكد على أن التدين ، وهو ظاهرة كبرى، ليس مساويا للاعتقاد فى إحدى الديانات العالمية، بقدر ماهو اعتقاد فى قدرة القوى غير الطبيعية المختلفة على التأثير فى حياه البشر وإمكانية استرضائها لتعديل نواياها نحو الإنسان ، كذلك لا يسهل إنكار التدين على من لايتبعون تعاليم الديانات السائدة فى مجتمعاتهم إذ معظم هؤلاء يعتقدون فى قوى غير طبيعية بشكل ما. ولكن هناك أشكالا معدلة أو محورة من أشكال التدين. فتوجد قلة ذات مزاج ميتافيريقى متدين الجوهر بغير إعتقاد فى القدرة على استرضاء أية قوى فوق الطبيعية، وبعض هؤلاء يمزج بين المزاجين الميتافيزيقى والعلى الآلى مثل المؤمنين “بالغائية” teleology” “ أو وجود أهداف نهائيه لقوانين وظواهر الطبيعية ونزوع المادة نحو بلوغ الكمال. وهناك أيضا فئة من ذوى الميل الدينى القوى لا يتبعون تعاليم ديانات مجتمعهم و يكتفون فى التعبير عن مزاجهم الدينى القوى بمعاداة الأفكار العبثية بحجة منطقية غير مصقولة تماما تقول أنه “ لا يمكن أ، تحدث كل هذه الظواهر دون هدف “ وهذه الحجة رغم عدم وضوحها لكونها اعتقاد مسبق أكثر منها استنتاج نظرى لاتدفع معظمهم إلى تبرير ضرورة الصلاة مثلا.
وبالنظر إلى طبيعية النسيج الدينى و لونه الوجدانى يتضح أن كل محاولات المعاصرين للتوحيد بين هذه الطبيعة الدينية عميقة الأصول (والتى ترجع جذورها إلى عصور سحيقة جدا) وبين طبيعة العلم الفيزيائى والمنطق هى محاولات غير أمينة. فالمساحة التى يعالجها التدين لا ينبت فيها علم أبدا، والعكس صحيح و لتوضيح ذلك بمثال بسيط يكفى الإشارة إلى أن الباحث عن الإيمان لن يهمه ما كأن للضوء كتلة أو لو كانت سرعته قد تقل عن سرعة أشعة جاما بقدر ما يهمه إن كان للوجود هدف ومعنى أو لو كان بالعالم عدالة ، وقطعا لا يغطى العلم هذه المساحة الخاصة بالهدف والمعنى والعدالة – كمثال لاحصر.
ملحوظة: لاينبغى أن يمنعنا إيماننا بالدين من الحديث عنه كظاهره إنسانية كما أن الحرج من تحليل الظواهر الدينية هو نوع من الطفولة الفكرية التى تسللت إلى معظمنا مع الأسف بدافع الخوف من الإلحاد.
[1] – ولكن بدرجات تبدأ من مجرد الغيبية superstition إلى الاعتقاد الدينى religious belief ثم الإيمانfaith وقد تصل إلى الصوفية كدرجة أخيرة.