حالات وأحوال
الاخوة الأربعة (1)
الجــزء الأول: الأرضية
فى هذا الجزء نقدم الجو الأسرى والتاريخ العائلى الذى ظهرت فيه حالات هؤلاء الأخوة الأربعة، ونتناول ضرورة الحذر من المبالغة فى تقويم مدى صحة المعلومات المستقاة من مصدر واحد أو من منهج جامد، كما نحاول أن نجرب طريقة محورة فى تناول منهج “دراسة الحالة” تؤكد على ضرورة تسجيل انطباع الفاحص ورأيه ومناقشته فى نفس الوقت الذى نسجل فيه المعلومات المتاحة.
أشرنا فى العدد السابق إلى هذه العائلة وأسباب تقديمها، وكان العنوان الأخوان زاهر وزهران والأخ الأكبر وآخرين، لكنه تغير إلى الإخوة الأربعة، إذ ما كاد العدد الماضى يظهر حتى أخبرتنى الزميلة د. أمانى الرشيد (طبيب مقيم بالقصر العينى) أن عندها حالة يبدو أن لها علاقة بالحالات المزمع نشرها، وبالفعل ثبت أن الأخ الأصغر قد أصابه الدور، وقد كان هذا الأخ الإصغر يبلغ من العمر 8 سنوات سنة 1959 حين قمت بفحص إخوانه، وهكذا تكتمل الحلقة بشكل يندر تكراره.
وقد بينت فى العدد السابق الأسباب التى دعتنى إلى تقديم هذه العائلة التى اكتملت بمرض الأخ الأصغر، ونوجز هذه الأسباب ثانية فى أن هذه الحالات: تمثل أسرة كاملة، من بينها توأمين متماثلين، وأنه أجريت لكثير من أفرادها بعض الاختبارات النفسية بطريقة تتبعية منتظمة، وأن أثر البيئة والوراثة معاً متداخلان بشكل دقيق، ثم إن هناك فرصة تقديم فحص أفراد العائلة بأكثر من فاحص فى أوقات متباعدة.
وفى هذا العدد سنثير مشكلة الحصول على المعلومات، ومدى إمكان الاعتماد على مصادرها ونحن نحاول أن نتبين ظلال الأرضية التى أنبتت هؤلاء الإخوة.
أولا: بالنسبة للتاريخ العائلي:
إختلفت البيانات المسجلة فى أوراق مختلف أفراد الأسرة بهذا الشأن: ففى حين أن الفحوص للإخوة الثلاث فى حياة الوالدين وبتصورهم (زاهر: فحص عبد العظيم 60، زهران فحص الرخاوى 59 الأكبر: فحص الرخاوى 60) قد أثبتت أن تاريخ الأسرة سلبي لكل الأمراض العصبية والنفسية أو ما شابه، نجد أن الاوراق التالية قد أثبتت غير ذلك، ففى أوراق زهران (فحص عرفه 78) جاء أن ابن عم الوالد “كان عنده جنون وراح العباسية”، ” وابنه برضه (ابن ابن العم هذا) كانوا بيقولوا عنده نفس الحالة”، كما جاء فى أوراق الأخ الأصغر (فحص أمانى الرشيدى (1980) أن الجد للوالد مات فى مستشفى العباسية للأمراض العقلية، وأن بعض الأعمام يتعاطون الحشيش وأن هناك إبن عم كان عنده صرع ومات فى مستشفى العباسية كما أن هناك إشتباه فى اضطراب نفسى أصاب أحد الأخوال.
المناقشة:
أولا:
(1) تثير هذه المراجعة أهمية الحذر فى أخذ المعلومات من المرضى أو من الأقرباء دون فحص مباشر، وخاصة إذا ما كان الهدف هو البحث العلمى الذى قد يترتب عليه بعض التعميم الخطر.
(2) قد يكون العامل الذى أخفى هذه المعلومات هو أن المعلومات السالبة أخذت من الوالد اساسا فى حياته وقد تحرج أو أنكر أو أغفل أو تناسى أو نسى ذكرها، أما بعد وفاته فقد تكلم عنها الأبناء و” الأخت الراعية” بدرجة أقل حرجا.
(3) قد تكون بعض وهذه الأمراض قد حدثت بين الفحص الأول والثانى وإن كان هذا مستبعد جدا، وخاصة بالنسبة للجد والأعمام بطبيعة مثل هذا المرض وتذكر السن التى يمكن أن يظهر فيه.
(4) قد تكون المعلومات التى وصلت إلى المدلى بها (الأخت) بين الفحصين، وهذا مستبعد غالبا.
ثانيا:
(1) إن هذا التاريخ الأسرى يشير إلى أهمية عامل الوراثة فى الإعداد للاستهداف لأمراض هؤلاء الأخوة، إلا أن هذا ليس واضحا وضوحا صريحا، والعلاقة تبدو غير مباشرة على الأقل، وهى أبعد ما تكون عن العلاقة السببية.
(2) إن الوالدين كانا فى صحة سوية على ما يبدو، أى ليس بأحدهما مظاهر أى من الأمراض المشابهة والجسيمة، ومع ذلك فقد تبين- كما سيرد- بعض ما يشير إلى غير ذلك.
(3) إن تنوع الأمراض فى الأسرة (جنون مزمن غير معروف النوع-جنون متكرر- صرع- إعتماد على العقاقير-اضطرابات نفسية غير محددة) قد يشير إلى طبيعة المرض النفسى الموحدة (بما فى ذلك الصرع) والتى تتغير مظاهرها السلوكية باختلاف المتغيرات الأخري- داخليا وخارجيا- أثناء ظهورها.
(4) لم يظهر فى ظروف البيئة ما يشير مباشرة إلى أى طرفه بذاته يعد مسئولا عن مرض بذاته مما يزيد من الحيرة حول طبيعة العلاقة بين البيئة والوراثة.
(5) لا يكاد يعرف عن الحالات التى عرضها التحليل النفسى إشارة واضحة سببية بين الوراثة والمرض بما فى ذلك حالات فرويد المنشورة، (ورغم القول بأنها كانت حالات عصابية حيث تقل أهمية الوراثة، وقد ثبت عدم صحة ذلك بالمراجعة) وهذا ينقص من الإلمام بحقيقة التكوين الحقيقى للاضطراب السلوكى المسئول عن الصورة الإكلينيكية.
وبعــد:
فاذا كانت هذه هى الأرضية الوراثية: غامضة غير متجانسة، فما الذى حدث فى هذه الأسرة لتخرج هؤلاء الإخوة الأربعة يعانون من هذه الأمات العاتية؟
لنتقدم خطوة نتعرف على الوالد رحمه الله.
ولكن كيف نتعرف عليه حقيقة وفعلا؟ من الأوراق طبعا !! لكن يا ترى هل تقول الأوراق ما يفيد ، أو ما يغنى؟
هذا هو بعض ما قصدناه من نشر هذه الحالات بهذا المنهج لنثير فى القاريء موقفا نقديا أكثر مما نفرض عليه معلومات جاهزة وكأنها الحق طول الوقت.
الوالد:
1- ورد فى أوراق زهران (ديسمبر 1959) (2) أن الوالد كان عمره حينذاك 56سنة، وأن الناس تقول عنه أنه
“عظيم جدا ومتواضع وما بيستغلش سلطته”، و قد كان يعمل مـفـتش ضـبـط (ضابط بوليس)، أما رأى زهران فيه حينذاك (15 سنة)” فهو أنه “رزين وهاديء” وقد علق على علاقته بالأم بأنها “علاقة معتدلة، بيتخانقوا بسبب عمتي”.
2- لكن فى أوراق زاهر (التوأم) فى نفس الوقت تقريبا (1960) (فاحص آخر) ورد أن الوالد مازال حيا، ضابط بوليس، رجل قاسي، أب شديد، وهو طاغ ويضرب زوجته.
3- أما ما جاء بعد ذلك بتسعة عشر عاما وبعد وفاة الوالد بعشر سنوات فى أوراق زهران (1978) أنه:
”كان طبعه هاديء، لما يغضب كان يضرب ماما، كان ماسك فى الصدق، ما بيزعقش!!، كان منطوى مابيحبش الناس ولا يختلط بهم ، كان شكاك، يغير على والدتي”.
4- أما أوراق الأخ الأصغر (1980) فقد جاء فيها أنه “كان طيب، كان بيحاول يوفر لنا حياة سعيدة”.
المناقشة:
وهنا مرة أخرى نتوقف فى ألم ناتج عن تساؤل متحد لنقول “من هو هذا الوالد؟” وكيف نتعرف عليه من خلال هذه المعلومات أحيانا المتناقضة أحيانا؟، (ويالخدعة وجود تاريخ مالشخص ما أو لحقبة ما).
قد يفيد أن أذكر إنطباعى الشخصى عنه إذ أتذكره بعد مضى مايقرب من عشرين عاما:
”كان ضابطا مصريا ذو” كرش” صغير محترم، و”لغد” متوسط، أقرب إلي السمنة، قليل الانفعال بشكل ظاهر، كنت أتعجب وهو يحضر لى الولد تلو الآخر وعنده ما عنده مما يزعج العالمين، لكنه يحكى عن أعراض أولاده الواحد تلو الآخر بهدوء عجيب، هل كان يتألم؟ نعم بكل تأكيد،… لماذا لم يكن يظهر ألمه؟ هل هى بطولة الأب المصرى البرجوازى الصغير الشجاع، هل كانت جرعة الألم أكبر من قدرة التعبير؟ هل كان قد ارتاح لأن الذى يحذره قد وقع؟ قد يكون كل ذلك حاصلا فعلا، ولكن أين الحقيقة “العلمية”؟
أذكر أنى لم أحبه ولم أكرهه، كنت أحترمه وأعجب منه.
تعجبت حين أحضر لى زهران، وكان زاهر قد دخل قبله وسألته “فيه إيه”؟.
فأجاب: (من نص الأوراق) :
1- الولد وحشه أخوه قال ييجى يشوفه.
مش بيذاكر، كان جاله الدور وخد كهرباء إنما الظاهر متحسنش قوى عشان مكملش العلاج…”.
ثم طلب أن يمكث الولد مع أخيه (التوأم) يتعالج “بالمرة” لأنهما لا يفترقان فى العادة.
لم ألاحظ فيه أنه كان طاغيا أو إنطوائيا، لم أستشعر قسوته أبدا، لكننى أشفقت على الأم، ليس منه بالضرورة ولكن ربما من “كل شيء” مجتمعا، أحسست أن علاقته بأخته المطلقة (العمة – وهى علاقة مشهورة فى المجتمع المصرى) هى الظالم الأول للأم، (الظلم واقع من العلاقة لا من أطرافها) إذ يبدو أن قدر العواطف الذى تحمله أفراد الأسر البرجوازية المتوسطة هو قدر كمى استاتيكى، ولا يكفى أكثر من عدد محدد من الوحدات البشرية، ولابد إذا أن يتم حب أحد الناس على حساب حب الآخر، فى حين إنى اكتشفت فيما بعد أن المفروض (أو العادى والصحيح) هو أن تكون عواطف البشر طاقة متحركة متولدة متزايدة: كلما أحب الواحد أكثر فاض الإنتاج العاطفى أكثر فأكثر ولكن ماذا كان يعمل الأب والكم محدود ومحجوز عليه مسبقا، والاختيار صعب، والتركيب البشرى متجمد من الخوف،ولكن دعونا نتعرف على هذه العمة أولا: ورد فى أوراق زهران (1959) وكما سجلت أنا حينذاك ” تزوجت مرتين ثلاثة (كلام زهران) كانت متجوزة واتطلقت عشان (الله أعلم) (3)، فكانت عايشة مع بابا فى بيته، أخلاقها بطاله وبتذل ماما وأنا بكرهها وهيه بنت كلب، الناس بيقولوا عنها وحشه (يجوز إن هؤلاء الناس هم أمه فقط) هيه بتكره بابا (من أدراه؟) وبتتصنع إنها بتحبه “”واحنا صغيرين جت لنا عمتى وانكسر الصينى بتاع ماما بسببها (لم يقل كيف؟ وإن كان يقصد الحسد فى الأغلب)”.
فى الأسرة المصرية المتوسطة البرجوازية محدودة الوعي، تصبح هذه الصورة عادية تقريبا، لكن هل يمكن أن يكون ما هو عادى إذا حدث فى إطار وراثى معين، مع جرعة متزايدة من عدم الأمان، أن يكون سببا فى نضوب معين العواطف من كل مصدر حتى ينشأ هؤلاء الأطفال فى جفاف فلا يلبث أن تتشقق نفوسهم عطشا (التناثر المرضى) من جراء القسوة
أما عدم الأمان هذا فقد كان هو القاسم المشترك الأعظم الذى وصلنى من كل هؤلاء الأفراد، المرضى منهم والأصحاء على حد سواء، أما المرضى فكانوا يعلنونه عن طريق الأعراض بالإنسحاب أو بالتفكك حيث أن التماسك أو المواجهة قد يضطرهم إلى مواجهة الحاجة إلى الأمان أو الدفاع عن الكيان (التماسك)، أما الأصحاء (“الناس دون أعراض” بلغة أدق) فكانت اللامبالاة الظاهرة هى الدرع الواقى ضد إعلان عدم الأمان الذى وصلنى منهم، وربما الذى أوصلهم وأوصل أولادهم إلى ما وصلوا إليه.
يقول الوالد وهو يقدم ” الأخ الأكبر” ليدخل مع إخوته إلى القسم الداخلى بنفس الهدوء سالف الذكر ”حالة الولد النفسية زى إخواته وألعن، ابتدأ يضطرب ويختل وعند رغبة إنه ينتقم من أمه”.
كنت أشعر- على قدر ما أذكر- أمام هذا الوالد أنى أمام بطل مهزوم، كان مهزوما من الداخل من زمن لا أعلمه، (تبين فيما بعد أن والده مات فى مستشفى للأمراض العقلية) ثم أعلنت هزيمته من الخارج فى شكل هذه الزهور المتساقطة الأوراق (الإخوة الأربعة). .
كنت أجلس معه فأحترمه إحتراما يخجلنى من نفسى، ومع ذلك فلم أكن أدرك لماذا لم أفهمه (وأنا أعرف عن نفسى شبهة سرعة ووضوح رؤيتى للوالدين مستعملى أولادهم، ومبادرتى باتهامهم داخل نفسى على الأقل). لم أشعر إزاءه بطموح الوالد البرجوازي، ولا بحزنه (على مستقبل الأولاد الضائع). لم أسمع “عديدا” (4) على فضائلهم التى أضاعها المرض وأنهم ” كانوا وكانوا ” ثم هاهى العين ” قد صابتهم و” يا حسرة على البخت ” و”إشمعنى أنا ” لم يحدث أى من هذا الذى يحب أن يتصوره الناس، وأعرف عن نفسى أنى كنت – ولمرحلة ليست قصيرة – أحب أن أتصيده فى الوالدين لألقى عليهما اللوم كما أوحى إلى زمنا من جراء الشائع وأوهام سوء فهم التحليل النفسى والأفكار شبه التحررية، وبذلك أرتاح وكأنى وجدت السبب (!!)
رحمه الله ولكن:
ما هو دوره فى مرض الأولاد، هل يمكن أن أضع صفاته (المتناقضة أحيانا، المتباعدة أحيانا) التى وردت فى الأوراق) فى داخل هذا الإطار الذى وصلنى فوصفته كما تذكرته: لم لا ؟ فلنحاول:
- لابد أن تقول الناس عنه- من واقع هدوئه البادي- أنه عظيم جدا ومتواضع (كما فعلت أنا مثلا لتوي).
- وأن يقول عنه إبنه زهران أنه رزين وهاديء (لعله يشير إلى اللامبالاة سالفة الذكر).
- أما أنه رجل قاس وأب شديد (كما قال زاهر) وأنه طاغ يضرب زوجته فهذا هو الوجه الآخر لهذه الصورة الخارجية، إذا ما فقد وخلع قناع اللامبالاة، فانفجر.
- والطغيان عموما لا يتناقض مع الطبع الهاديء (ظاهريا) ولا هو متعارض مع الانطواء، بل إن الطاغى هو منعزل بالضرورة، بل لعله طاغ لأنه وحيد وهو أيضا وحيد لأنه طاغ.
- وقد ينشأ عن كل ذلك موقف يغلب عليه التحفز الذى يظهر عادة فى شكل شكوك، ولو كانت هناك فرصة لتطورات إلى ضلالات صريحة.
- أما ذكريات الأخ الأصغر عن “طيبتة”، ومحاولاته توفير حياة سعيدة للأسرة فلاشك فى صحتها من وجهة نظره، إذ يبدو أن أصغرهم قد التقط ما فى داخله من ضعف إنسانى منهك، وما فى خارجه من محاولات الأب المصرى المكافح لإسعاد أولاده.
يا خبر!! لم يعد ثمة تناقض أصلا.
لعل هذا هو عين الحق . . أو هو أمر قريب من الحق.
ويجدر بنا أن نحذر من رؤية الناس من خلال أوصاف لفظية محدودة متباعدة، لو زادت المسافة بينها لبدت وكأنها متناقضة.
ولكن عندك !!!
لقد وجدت بين الأوراق رسما بيانيا عليه إسم الوالد وكذلك ورقة إجابة لاختبار منيسوتا المتعدد الأوجه عليه نفس الاسم، وقد كنت قد نسيت أنى حاولت أن أطبق عليه (سنة 1960) نفس الاختبارات التى طبقت على المرضى من الأسرة، حاولت أن أطبقها على الأفراد “بلا أعراض” ولم ينفذ ذلك سوى الوالد، وهذه هى أوراقه، هل تعلمون ماذا ظهر؟ لقد ظهرت الصفحة النفسية أبعد عن السواء من أولاده ذوى الأعراض الخطيرة (زاهر وزهران بالذات)، وتبين أن مقياس الإنطواء والاكتئاب والفصام هم أكثر المقاييس إرتفاعا، ولست أميل إلى اعتبار أى من هذه الألفاظ ذات دلالة خاصة إلا أنى أشير إلى أهمية مثل هذه القياسات (رغم التحذير المتكرر من سوء إستعمالها) فى السماح بإظهار ما هو خاف عن النظرة الكلينيكية السريعة. وقد كانت الصفحة النفسية صحيحة، ولا مجال هنا لتفصيلها إلا أن اقتراحا قفز إلى عقلى يقول: لو أن العناية بقياس الأهل بمثل هذه المقاييس وبالمقاييس الإسقاطية (من ذوى خبرة) قد أخذت ما تستحق من اهتمام لأثرتنا ثراء علميا متزايدا أكثر من تطبيق نفس المقاييس على المرضى أنفسهم الذين قد تحول حالتهم الكلينيكية دون أداء ذى دلالة على بعض مثل هذه المقاييس.
(دعوة : فلينشط محبوا القياسات ويثرونا بتحقيق فروض مغرية لا حدود).
وقد آن الآوان لننتقل إلى الأم:
الأم:
ولكن دعونا هذه المرة نبدأ من الاتجاه الآخر، فأقول إنطباعى على قدر ما أذكر، ثم نرى كيف وصفوها (وأنا منهم حينذاك).
لا أكاد أذكرها بنفس الوضوح الذى أذكر به الوالد حاليا، ولا أستطيع أن أقول عنها إلا أنها كانت أمرأة مصرية بدينة بيضاء، تنازلت عن جميع حقوقها الإنسانية باستسلام فى غاية القسوة (على نفسها وعلى الآخرين معا)، ودفعت ثمن ذلك أمراضا جسمية غير واضحة.جاء فى أوراق زاهر وصفا لها (1959): “ست مريضة تعبانة” أما فى أوراق زهران (1959) “عندها مرض فى القلب” “كويسة بس عصبية بسيط” أما ما جاء بعد ذلك بعشرين عاما (تقريبا) فى أوراق زهران (1978) ”كانت تتنرفز وتزعق باستمرار واتعالجت عند فلان (أستاذ أمرض عصبية) “ (أنكرت الأخت هذه المعلومة حين سئلت عنها، ولم يعرف أيهما أصدق؟).
يبدو من كل ذلك أنه ربما كانت أمراضها الجسمية ليست سوى تعبير عن هذه الهزيمة التى رضيت بها شبه مختارة (ظاهريا). وقد كان فارق السن (18 سنة) بينها وبين زوجها غير ظاهر، وكأنها فى إستسلامها وإهمالها نفسها قد قررت أن تتنازل عن بعض سنى عمرها أيضا….
أما “طيبتها” فقد أجمعت عليها كل التقارير:
وصلت فى أوراق زهران (1959) إلى درجة أن تصبح عرضة : لـ “الإستعباط” (من العمة أساسا).
وحكاية “طيبة الأم المصرية” هذه تحتاج إلى مراجعة متأنية، فطيبة الضعيف المغلوب أمر مشكوك فيه، إذ قد تفيد “أمنا الطيبة” من حولها، وقد تستعمل بالشكل الذى يريده أى ممن يتصل بها، ولكنها هى هى؟ أين هى؟ وأين حقوقها؟ طيبة!! إذا ماذا؟، إنى أعتقد أن هذه القيمة جديرة بالمراجعة بحق.
هل يمكن أن نحترم هذه الطيبة دون أن نتصف بأقصى درجات التجاهل والاستسهال؟
مقتطف واحد يدعونا للتأمل، جاء فى أوراق زهران 1959:
”…إنها طيبة جدا، والناس بيقولوا عليها طيبة جدا (يا فرحتي)(5)
وعمتى بتستعبطها (تستأهل) ” ؟
لكن يبدو أن هذه ليست كل الحكاية، وأن انكار أنها تعانى من أعراض نفسية من جانب الأخت لا يخفى أنها كانت مضطربة نفسيا، لدرجة ظهور أعراض كما جاء فى كلام زهران (1978)”لو قعدت فى بلكونة يتهيأ لها حتقع بها”
ومرة أخرى نلاحظ أن المعلومات عن المرض النفسى لا تظهر (قل لا تجرؤ أن تظهر) إلا بعد وفاة من يهمه الأمر. ولكن هذا العرض بالذات هل يمكن أنه يترجم مباشرة إلى “مخاوف رهاب الأماكن المرتفعة Acrophobia؟ أما أنه يرمز إلى عدم الأمان المطلق (إلا فى قوقعة الداخل) ظاهر للعيان بحيث لا يحتاج إلى تعلق أو حتى تتبع لتاريخ تثبيتى أو “سوء تعليم” شرطى أو خلافه؟
وقد صرت أتساءل (ويبدو أنى “كنت” أتساءل دون أن أدري) ما هى طبيعة العلاقة الجنسية بين مثل هذا الوالد وهذه الأم؟ (حتى لاكاد ارجح برود الزوجة نصف الوقت (منذ بداية الزواج إلى منتصفه) ثم عنة الزوج بقية المشوار،(اللهم إلا إذا نفعهم النكوص وغياب الوعى).
هل جاء هؤلاء الأولاد نتيجة لاقتراب اثنين من بعضهما لتكامل شقى الوجود أم أن التلقيح تم صناعيا من خلال أعضاء بشرية تعمل بالصدفة أو بالضغط الميكنى بعض الوقت استجلا للدفء، وخفضا للتوتر؟
وهل لهذا النوع من الاتصال أى آثار على طبيعة ما ينتظر الأولاد من حياة؟ وخاصة إن كانت مصادر التغذية (الوجدانية) الإنسانية الخارجية مغلقة بفعل الجدران البرجوازية والعزلة الاجتماعية؟.
الأخت:
لم يبق (من غير المرضى) سوى الأخت الوحيدة التى لم تتزوج حتى الأن (36 سنة)، وظلت – كما تقول – متفرغة لرعاية نزلاء هذه الأسرة من المرضى وأنا لا أزال أذكرها بالكاد، ولم أقابلها منذ ذلك الحين (59 / 60) كانت جميلة وديعة (بنت ستة عشر) تمتلىء بشرا وطيبة (!!! إكفى الزلعة على فمها) “أخذت الإعدادية التجارية، وقعدت فى البيت السنة دى، وطباعها كويسة، وهادية(!!) وفى حالها وبتساعد ماما فى البيت” (أوراق زهران 1959).
ويبدو أنها قد عملت فى شركة ما بعد ذلك، لكنها رجعت إلى المنزل بعد وفاة الوالد لأن المعاش أكبر (!!) تقول عن نفسها (أوراق زهران 1978) “… بتأثر باللى حوالى، افضل الهدوء والوحدة”.
هذه الأخت؟ هل هى إمتداد للأم بنفس مصائب الطيبة (والاستعمال الخبيث من الآخرين تحت مختلف العناوين) ؟
لماذا لم تظهر عليها هى الأخرى أعراض مثل إخوانها؟ هل كان إنسحابها “إلى أدني” بعيدا عن ضغوط المجتمع هو الذى حافظ على “السر فى بئره”؟
إن حكاية وظيفة “ربة المنزل” هذه لابد وأن تراجع فى مجتمعنا حاليا بشكل ملـح وخطير، فربة المنزل ودور الأم المتفرغة على العين والرأس على شرط ألا يكف عقلها عن العمل الذى خلق من أجله “التجريد والوعى والمعرفة والتفكير والتقرير (الإرادة)”، فإذا كان جلوس المرأة فى البيت على حساب كل هذا فالأمر يحتاج إلى تشخيص قد يبدو متواضعا رغم عظم خطره، وقد سبق أن شخص هذه الحالة “بلويلر” العظيم ذات نفسه منذ سنة1911 حين تحدث عن ” فصام ربة المنزل” House- Wife schizophrenia باعتباره أحد صور الفصام البسيط (دون أعراض ظاهرة ملحة).
وحين ذهبت أناقش مع الزميلة التى التقطت حالة الأخ الأصغر عن كيفية التحقق من أى المعلومات الواردة فى الأوراق المتعددة أصح (إذ تناقضت) إقترحت الرجوع إلى الأخت باعتبارها السليمة الوحيدة فيهم، فهل يا ترى أصابت فى حكمها؟ وهل السلامة هى عدم ظهور أعراض؟ وهل لو اضطرت هذه الأخت إلى الخروج إلى المجتمع وتحمل جرعة من المواجهة والعلاقات المرهقة هل كانت ستظل بلا أعراض (ظاهرة) ؟.
(اقتراح إلى محبى البحث: أن يقيسوا نوع التفكير التجريدى خاصة عند مجموعة من ربات المنازل وخاصة اللاتى قبعن فى دورهن بعد مرحلة ما من التعليم ويخبرونا عن أحوال ما آلت إليه عقولهن الكريمة).
ولعل هذه الأخت الكريمة قد صنعت خيرا بتجنبها الزوج – عن وعى أو غير ذلك- أن تكرر مأساة أمها بشكل أو بأخر رغم اختلاف الظروف، لعل.
وقفة وتذكرة:
إلى هنا أعتقد أن الأوان قد آن لنكتفى بظلال هذه الأرضية الأسرية لننتقل إلى أصدقائنا الأربعة بشكل لم أحدده بعد، وليتبادل الشكل مع الأرضية كلما لزم الأمر أثناء معايشتنا هؤلاء الأصدقاء الكرام.
ويكفى فى هذا الجزء من الحالة أن نتذكر بعض ما نريد إيصاله من خلال هذا الباب وهذه الأسرة لنقول:
(1) على الباحثين عن أسباب المآسى (المرضية وما شابه) تبريرا وتعليلا أن يبذلوا جهدا أكبر من أحلام الهروب الروائية. وتصورات العقد النفسية التثبيتية، والمبالغة فى اتهام الظروف الخارجية.
(2) على الجامعين للمعلومات العلمية أن يقللوا من تقديسهم لما بين أيديهم من معلومات عدة مرات دون يهملوا ما حصلوا عليها مهما أصبح “مجرد احتمال”.
(3) على الذين يتصورون أن المرضى النفسيين والذهانيين، خاصة نوعاً آخر غير البشر (غيرهم) نشأوا فى ظروف خاصة من وراثه خاصة، عليهم أن يتراجعوا لينظروا فى أنفسهم مرتين، فقد يجدوا أنهم (الذهان والذهانيين) بداخلهم أقرب من كل تصور.
(4) على من يريد أن ينقل إلينا حالة ” أو” أحوال “ أن يقول لنا “رأيه” مثلما يقول لنا “مارآه” وأن يحدثنا عن ما ظنه بقدر ما يحدثنا عن ما سجله فيتيح لنا أن نحكم أفضل .. رغم أننا قد نعانى أكثر.
وبعــد
فهل يا ترى نستطيع أن نواصل هذا الباب بهذه الطريقة؟
وهل فيها ما يفيد؟
دعونا نحاول…. ونتغير متى لزم ذلك.
وإلى اللقاء مع الإخوة الأربعة أنفسهم فى العدد القادم.
[1]- اشترك فى هذا البحث: أ.د. حسن عبد العظيم (أستاذ طب نفسى فى كندا الآن، كندى الجنسية وكان طبيبا اخصائيا بالقصر العينى حينذاك): فحص وتسجيل حالة زاهر 1959، والأخ الأكبر 1960 وإجراء الاختبارات فى نفس الوقت ثم التعليق والمناقشة العامة 1980، ود. مجدى عرفه: فحص وتسجيل زهران 1978، د. أمانى الرشيدى: فحص وتسجيل حالة الأخ الأصغر 1980
[2] – ابتداء من هذه الفقرة لن نذكر اسم الفاحص وسنكتفى بالسنة اللهم إلا إذا كان هناك فاحصان فى نفس السنة لنفس الشخص
[3] – ما بين الأقواس زيادة على النص
[4] – العديد كلمة عامية تشير إلى تعداد مناقب الميت عن طريق سيدة متخصصة عادة فى ذلك يسمونها “المعددة” وكثيرا ما تكون هى هى مطربة الافراح فى القرية).
[5] – مرة ثانية نذكر إن ما بين قوسين هو تعليق المناقش.