الأدب: نافذة على النفس
الإنسان من خلال رواية مجهولة
“حقيبة خاوية” (1)
محمود حنفى
الموجز
هذه ليست دراسة نقدية، ولكنها بداية متواضعة من خلال نافذة جديدة لمعرفة أعمق عن النفس الإنسانية، ويمثل هذا الأديب الضيف غير المعروف ذلك الجيش المجهول من صانعى الحضارة (أو من يحاولون ذلك مهما كانت النتائج) وهذه الدراسة تقدم الرواية من بعد سردى شامل، ثم تنتقى عينات خاصة لها قيمة نفسية معرفية ذات دلالة فى مجالنا هذا، وقد يضعها النقاد حيث ينبغى مما لا نعرف، ولكننا كما تعهدنا نحاول، ونتعلم.
حين بدأنا المحاولة فى إرساء دعائم الوسيلة (2)لم تكن الأهداف واضحة الأبعاد، أو أقل إنها كانت متعددة متصاعدة حتى لتبدو كلها وسائل وسيطة بدورها إلى هدف ما غير واضح المعالم بدرجة أمينة، وقد أقترح أحدنا (3)ما بدا لى هدفا هروبيا فى حينه، ذلك أنه رأى أن الهدف الذى يستأهل أن نضع فائض نتائج عملنا لندعمه ماديا بادئ ذى بدء هو أن نشجع النشر للأدباء الذين لا يجدون مجالا لذلك (أو قال الأدباء الشبان: لست أذكر)، وساعتها لم أكن قد ألممت بدرجة كافية بأبعاد تيار السحق الذى يمكن أن يخفى فى طياته أى عمل جيد أو واعد أو “مختلف”، لم أكن أعلم – بهذا الوضوح – أنه لكى يسمح للأدب أن يصافح ورقا بحروف مطبوعة لابد أن يتحدث عن “الطاغى فى مقابل المطحونين “، أو عن “مسيرة الجماهير الجوعى ونهاية السلطان وحريمه وأعوانه لصالح الطبقة العاملة “أو لصالح “سفهاء”الدراويش، أو أنه لابد كبديل مناسب أن يقف الكاتب خطيبا (أديبا أيضا، وهكذا يسمى أحيانا) يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وفى أحوال مختلفة يسمح بالنشر لما هو جنس أو ما يلتحف بالرمز أو يتصور أنه النقد إذ يتناول بعض الأسماء الشائعة ليواكب الركب والسلام، هذا من حيث الموضوع، أما من حيث الفرصة العملية فقد تبينت أن الثللية هى الأصل فى النشر فى كثير من الأحوال.
وهكذا تذكرت توصية صديقنا الذى تركنا منذ حين، ولما كانت طموحاتنا أكبر من قدراتنا عدة مرات فقد تراجع هذا الهدف مرحليا وفضلنا أن نصدر هذه المجلة ابتداء، ليبدأ الحوار مع هؤلاء المجهولين الصامتين فى نظر من لا يسمع، أو من لا يسمح، وقد كنت من قبل أتساءل عن جدوى هذه الوسيلة (أو الهدف الوسيط) فى مسيرتنا المعاصرة، وكدت أنقص من قدرها باعتبار أن أغلبها يصدر من جانب شباب رافض يمثل الأطروحة المضادة، ونحن أحوج ما نكون إلى من يعانى مشقة الولاف، لا من يكرر النداء الرافض والتهييج السلبى بلا مسئولية بناءه قادرة على الاستمرار.
ثم جاءنى بمحض الصدفة على عنوان المجلة وباسم رئيس تحريرها هذا العمل الروائى المتواضع الذى يصف صاحبه نفسه بقوله “… كاتب قد لا تكون عرفت عنه شيئا “، ويقدم عمله بتحية رقيقة لعملنا (فى إصدار هذه المجلة وغيره) وكأن “رسالتنا”قد بلغته فأحس ببعض معاناتنا إذا يقول “… ولكنه (الراسل) يعتز بك (بكم) كصاحب هم ثقافى فى حقبة عصيبة من تاريخ أمتنا … خلال زمان أصبح الغالب الأعم من الناس فيه فاقدين الأعتدال والوضوح”، ثم يأمل الكاتب أن “يشاف”قائلا “… ولا يرجو مثل هذا الكاتب أكثر من أن تكون واحدا من شهود عمله المتواضع”.
ولا شك أن سرنا أن “شافنا”صديق لا يعرفنا ولا نعرفه، حتى أن تعبيره “أصحاب هم ثقافي”كان أنسب ما يصف ما نحن فيه، وإن كنا نفضل غالبا أن نكون أصحاب “هم حضاري”كمفهوم أشمل للهم الثقافى وغيره من هموم (ولو كان هما واحدا لا حتملته، ولكنه هم وثان وثالث).
وقد بدا من عمله – رغم تحفظاتنا على ماقدمه به على ظهر الغلاف (وسنعود لذلك فى النهاية) – أن ثمة وظيفة واضحة وإيجابية لمثل هذا الجهد الشريف المتألم المتواضع فى مرحلتنا هذه، وهنا تذكرت توصية زميلنا البعيد، وقلت أن أنسب المناسبات هى تقديمه هذا العمل المجهول (ومثله) كمثال للإسهام المعرفى لما هو نفس، وما هو إنسان من خلال لغة الأدب، وقد بدأنا هذه المحاولات فعلا فى الأعداد السابقة من خلال القسم الثانى للمجلة، كما كنا حذرين منذ البداية ألا نبدأ بأعمال الرواد من أمثال صاحب السبق والعمق أستاذنا نجيب محفوظ، حيث قلنا له مباشرة فى العدد الثانى ردا على تحيته الرقيقة للمجلة “.. وخفنا أن نقع فى خطأ وقع فيه غيرنا من استعمال ذيوع إسمك مبدعا مطية لذيوع إسمه ناقدا”.. وهكذا يصبح فى تقديم هذا العمل تأكيد على أصالة وظيفة الأدب الرائدة فيما هو تطهير وتوعية، ولما هو معرفة وإضافة لفهمنا للنفس الأنسانية بلغة الفن العظيمة.
ألم المعايشة إبداعا ونقدا
وقد عشت مع صديقنا الألم الشائك على مستويين (على الأقل)، الأول وأنا أتمثل معاناته فى رحلته مع الناشرين حتى اضطر أن يكون هو الناشر بما يترتب على ذلك مما لا يعلمه إلا من كابده، والمستوى الثانى أثناء رحلتى مع معاناة أبطاله الخيرين المظلومين والأشرار الظالمين على حد سواء، تلك المعاناة التى تناولها بشرف الرؤية بدرجة توقظ كل صاحب حس سليم إذ يواجه هذا العمل الأدبى الصادق والشريف.
ولكن هل يمكن أن يوصف العمل الأدبى بأنه شريف؟
الجواب بكل وضوح: نعم، وشرف العمل الأدبى يتناسب مع درجة وعى صاحبه، وصدقه فى مواجهته دون محاولة الإسراع بالأنضمام إلى أى جانب من احتمالاته، بحيث يلغى الجانب الآخر تماما، نعم إن تقدم الكاتب الروائى يتحمل أمانة رؤيته إذ يصيغها فى شكلها الأدبى لا ينحاز لأى حل سهل تخفيفا لألمه، هو شرف عمله وهو هو أصالته، وهو المؤهل لبقائه، مهما كان ثمن ذلك من جانب الكاتب ألما ووحدة، ومن جانبنا نحن تجهيلا أو رفضا، وقد دفع كاتبنا الثمن وحدده كما يقول (بطريق غير مباشر) ص 19 “… ولا يكمن الجمال الحقيقى إلا فى معاناة الاكتشاف تلك، وهو جمال قد تجد نفسك مضطرا فجاءة إلى دفع حياتك ثمنا له”إن جمال هذا الاكتشاف الذى يبرر هذه الفدائية حتى بالتضحية بالحياة ذاتها هو هو الذى يجعل كاتبا شريفا يعرى كل تبرير يصور به نفسه (أعنى بطله) بالأتزان والتعقل والهدوء والحكمة.
”.. حين أحاول التستر بصراحتى الخبيثة تلك الآن، أجدنى مفتقرا إلى الأمان الكامل، وأستشعر إحساسا غير مريح بلا جدوى كل ما أفعله …، حتى لو كان ما أفعله هو الاعتراف بغية التطهير أو بغية العبث..”
بهذه الصراحة “الخبيثة”يعرى الكاتب “التعري”(ذات نفسه) بلا تردد، وهذا البعد الجديد فى رؤية النفس الانسانية وهى تتحايل بادعاء رؤية التحايل يفضحه كاتبنا بلا انقطاع، فهو يرفض أن يكون لبس ثوب الصراحة مبررا لإخفاء ماهو ألعن وهو العجز والفرجة، كما يعلن أن مجرد الاعتراف ليس تطهيرا لذنب الفشل والتقاعس.
”… تلك الأسباب الراقدة بالقطع فى أعوارك، بدافع الجبن أو الخجل أو العجز الفاضح عن مواجهة النفس فتصبر على ما أبتلاك به الله – أو نفسك على الأرجح – مؤثرا السلامة على جنون وارد محقق”(ص32)
نعم، هذه هى كلماته، وهى ليست وصفا للحيل النفسية الأعمق فى كتاب فى السيكوباثولوجيا (4)، وهى مرحلة أكثر إزعاجا وإيلاما لا يستطيع أن يعرضها هكذا إلا عمل أدبى هو فى ذاته تطهير ذاتى بالضرورة.
ولكن دعونا قبل أن أن نستطرد نرجع لنتتبع أحداث الرواية فى عجالة (مخلة بالضرورة).
يعود بطل الرواية (الراوى لأحداثها) من إعارته فى إحدى “بلاد النفط السعيدة”فيخبره صديق قديم بموت البطل الحقيقى للقصة وهو صديقهم “عادل”، وهذا الأخير كان يمثل التحدى الدائم والمغامرة غير المحسوبة والثورة المتصلة بين خمسة من الأصدقاء وأمام مواجهات المجتمع وتحدياته ومحاولاته سحبه إلى حظيرة “الاشياء الصغيرة”و “النسيان المنظم”، لكنه يأبى طول الوقت حتى يظل وحده تماما حتى مع زوجته التى “لم يكن يطلمها على تجاربه احترامنا منه لتواضع إدراكها الثقافى “(ص 116)، يمضى وحيدا وحيدا رغم أنه الرجل الذى “… لم يكره فى حياته قدر كراهيته للوحدة”.
ويبدأ البطل الراوى يبحث فى صمت عن المسئول عن موت صديقه (البطل الراحل)، وكأنه يعلن من البداية أنه “حتى الموت ليس مجرد قضاء وقدر، وإنما له أسبابه التى تعددت”، يقول بداية الجملة (ص6) ولا يذكر آخرها أبدا على لسان أى منهم وكأنه يعترف أن الأسباب تعددت لكنه لا يعترف أن “… الموت واحد”، وهو يبحث فى دأب عن سبب موت صديقه وكأنه يبحث عن متهم هو فى الحقيقة ذات نفسه إذ يسقطها عليهم الواحد تلو الآخر، من خلال شعوره بذنب ما وهو “قادم من بلاد النفط السعيدة، محملا بزينة الحياة الدنيا: المال والزوجة والأطفال “(ص10)، ويظل الراوى يبحث فى صمت المتهم القاضى المذنب فى آن واحد عن أسباب موت صديقه وكأنه هو قاتله بلا جريمة، وبعد رحلة طويلة دار فيها كالمحقق على أفراد الشلة القديمة يخبره أحدهم أنه مات بعد أن تخلى عنه صديقاه (إسماعيل: تصدير واستيراد ووظيفة حكومية تسهيلية) وعبد الحميد: صيدلى (تاجر)، إذ رفضا إقراضه تكاليف عملية جراحية كان لزاما أن يجريها بمائتى جنيه (لاغير)، يبلغه ذلك الصديق الخامس وهو “علي”ذو التاريخ الماركسى القديم الذى أفاقه الزمن فبدأ يتحسس طريقه إلى الأمان الجديد ساعيا إلى إعارة – هو الآخر – لبلاد النفط السعيدة.
”ولم لا … ؟ هل ظروفى أحسن من ظروفكم ؟ فى هذا الزمن اللعين لا يبقى لك سوى بيتك وأولادك “(ص92)
”… إن ميكيافيلى خالد كخلود الشر مثل الكونت دراكيولا أو إبليس .. حى ومتجدد..”(ص 93).
ويعرف الراوى من صديقه هذا أن عادل (المرحوم) قد مات بعد أن تخلى عن عونه صديقاه اللذان يملكان إمكانية العون ولو على سبيل الدين، وأنهما “.. حتى لم يذهبا للعزاء … أولاد الكلب الأوساخ “هكذا وصفهما “علي”قبل تصنيف الناس فى عصر “إحتضار التضامن الإنساني”إلى واحد من ثلاثة:
”إما ساقط، أو مهرج، أو مواكب للركب”.
”وكل النظم السياسية – هى التى بؤرة الشر فى الوجود الإنسانى المعاصر تغذى هذا التقسيم المدمر لكرامة الإنسان، والمهزلة التى تدور حولنا هنا فى مصر، أننا منذ زمن قريب رحنا نتهافت كالمتسولين من أجل أن يكون لنا نصيب واضح فى ذلك الإنجاز التاريخى ..”(ص 101، 102).
ولكن الراوى لايذهب مثلما يفعل قصيصوا الأحزاب والكوادر إلى المبالغة فى الاستقطاب الطفلى بين الفقير الشريف فى ناحية والغنى الطاغى فى ناحية أخري، رغم إدراكه أين تقع الكفة الشريفة.
إن “هؤلاء الفقراء هم ملح الأرض وبكارتها، وهم كبرياؤها الباقى “(ص74).
كما أنه لا يتخذ موقف البطل الخطيب المشفق على ما آل إليه الناس والزمان، يثير جوانب المرارة فى الآخرين بلا مسئولية ذاتية، بل إنه يواصل بحثه عن تهمته هو إزاء وفاة صديقه (مقتولا بالفعل) فيتساءل فى صدق مؤلم رائع محير:
”غير أن المسألة برمتها إنما تضمر تهديدا خفيا وخاصا بي،.. فماذا لو كنت قد عاصرت بنفسى الحدث فى حينه؟ وماهو السلوك الذى كنت سأتبعه إذ ذاك، وعلى أى صورة من الصور كنت سأختار تعلاتى ومبرراتى ؟ لقد أنتهت اللعبة المريضة وحان حين المواجهة الساطعة مع النفس ولكن هل أستطيع ؟ “(ص 103)
إلى أن قال ”… فياله من اتزان رخيص ذلك الذى يلفني، ويلتف حولي، يحصننى ضد أى أحتمال ولو ضئيل من الاحتجاج أو الأستنكار أو الندم، لقد أدركت فى لحظة خاطفة أنى لا أفضل عبد الحميد أو إسماعيل فى شئ، اللهم إلا براعتى الشيطانية السوداء فى الألتفاف حول المشاعر ومرواغتها والتغلب عليها بتسكينها “(ص 104).
أما البطل الحقيقى الذى مات قبل أن تبدأ الرواية فقد صوره الكاتب بواقعية أمينة إذ يفشل فى الدراسة (نسبيا) فيواصل الحياة كما هى دون تعويض أو تحايل أو استسلام، فيركب البحر (عاملا بحارا) فتكسر ساقه فيرجع ولا يتردد فى أن يعمل حامل شنطة (أو تاجر شنطة) ليفشل بشجاعة غير تجارية، ويفلس وهو مصاب بأمراض جسدية متعددة يهملها جميعا ومنها ماأودى بحياته، يفعل كل ذلك وهو ملتحم بالبشر وبالواقع، وهو آمل طول الوقت بلا مبرر أو منطق، يقظ طول الوقت حتى لا تسرقه إيدلوجية نظرية مخدرة، أو معتقد بعدى مؤجل، أو طمع برجوازى متسحب، هو بطل الأبطال لكنه ليس بطلا على الإطلاق، فهو لم يرسمه ذلك الرسم الأبله المكرر الذى يضفى عليه كل الصفات الأسطورية التى تعفى الكاتب والقارئ معا من السعى إلى الأتصاف بها، كما أنه ليس “بطل المواقف” أى أنه ليس فارس الحلبة أمام ضغوط محدودة بطبيعتها وهنا تتميز هذه الرواية باختفاء البطل بالمعنى الملحمى القديم، ولا تستبدله ببطل رمزى مضحك، إذ أنه لا وجود له إلا كمهرب من المسئولية الفردية حين يحاول بعض المتعجلين أن يستبدلوا بالبطل الفرد الأسطوري، بطلا رمزيا خياليا (الشعب هو البطل… العمال “هو”البطل.. “المجهول”هو البطل … إلى آخر هذه المهارب السهلة قصيرة العمر عند الممارسة على أرض الواقع).
ثم تنتهى الرواية بالمواجهة المرة التى تثير تجربة “إنكارية” تكاد تشبه الجنون.
”فجأة قلت إنى حر، وأن الطبيعة خمر رباني، فتجردت من ملابسى دفعة واحدة وصرت عاريا …، استقبلنى الموج عنيفا هادرا … الخ”(ص106).
وهو يلجأ إلى الجنون كما فعل ويفعل بعض القصصين ممن لا يعرفونه فيجعلونه “الحل”لعقدة قصصهم، أو الوسيلة الى يقولون بها على لسان المجنون ما يريدون مما لا يعرفون، حتى صار المجنون “نهاية سعيدة”مثل الزواج فى الأفلام المصرية (قديما على حد تاريخى معها) تحل عقدة الروايات، ودمتم …، لا، لم يفعل صديقنا ذلك إذ يبدو أنه لا يخاف الجنون، فيعرفه، فيحترمه، ويحسن توقيته، فيجعلها خبرة عابرة تقول شيئا حقيقيا بلا ابتذال ولا تماد، أو هو يقف على مشارفه بلا هزيمة أو ادعاء بطولة كاذبة، هو جنون “سرى مؤقت”ينتهى بالإسراع إلى نمط الحياة العادى (زوجته) وكأنه يستغيث بها بمحاولة الأختباء فى جسدها (عودة للرحم هربا من تناثر الجنون):
”وجعلت أضغط بجسدى عليها كما لو كنت أبغى اختراق جسدها والأختفاء داخله”ص 109.
إلا أنها لا تسمع استغاثته، وتسقبلها استقبالا داعرا لا يرد عليه إلا بالعجز الجنسى (الذى قد يرمز إلى ما هو أبعد).
****
ويستحيل بداهه لمثل هذا العمل رغم صغره (ص118 صفحة من القطع الصغير) أن يترجم فى مثل السطور السابقة، على أن ما يعيننا بالتعريف به ليس التسلسل الروائى المتقن الذى حذقه كاتبه بقدر ما يعيننا إظهار تلك المستويات من النفس التى وصل إليها الكاتب بحدسه، يكشف عنها الواحدة تلو الآخري، فهو يجعلك تتراجع فى كل حال عن حكمك على الشر وعلى الخير، وعلى البطولة، وذلك إذ تلهث معه فى إيقاع سريع خلال رحلته اليقظة الواعية بين “داخله”وبين “ما فعلوه هم”إذ هو هو فى داخله، وما الفرق إلا فى ظاهر السلوك ليس إلا، وفى مقابل ذلك هو لا يدعك تصفق لأحد، وحق البطل الراحل ذات نفسه لم ينزهه عن النقائص والعشوائية، لم يضف عليه – كما قلنا – ذلك النقاء الطفلى الساذج.
”… أتتعمد البله أم أنك غبى حقا؟ إنه لم ينج بدوره من الأذى .. هو جزء من الخراب الأعظم، وحياته كانت سلسلة من التخبط على غير ما تتصور “(ص 117).
ورغم التزام الكاتب بالإيقاع السريع الواقعى المباشر، فإنه لم يدع البعد الإجتماعى (التبريري) يطفى على الأحداث أو يسمح بالتخلى عن المسئولية الفردية (مسئوليته بالذات، بل حتى مسئؤلية البطل الراحل)، حتى أنه لم يجعل من موت البطل منبرا خطابيا يلعن به الفقر وحده ويبرر به كل ما آل إليه اضمحلالنا، فالمصيبة كامنة أيضا – وأصلا – فى داخل من حصلوا على يبعدهم عن تلك المظنة .. ولم تحلها قروش النفط أو صفقات الاستيراد أو تجارة الدواء، فالكل متهم فى زمن ملعون من كل جانب، “تعددت الأسباب”والموت ليس واحدا، لكن اللعنه شاملة:
…. ويحق لى بعد ذلك أن أضيف إلى لعن زوجتى لعن أبيها المخرف، ثم لعن النظام الإجتماعي، ونظام 23 يوليه، الذى استدرج إلى الكذب على نفسه قبل أن يكذب على الناس، وأخيرا وقبل الجميع . لعن نفسى لعجزى عن (أن) أكون ثائرا ولاستمرائى الإفصاح عن هذا العجز…”(ص 59).
فالكاتب فى رحلته هذه يتمادى صادقا شريفا حتى ليعرى الشرف ذاته، ومع كل ذلك فلم أستشسعر فى أى لحظة أنى أمام كاتب “ساخط”أو “عدمي”، وبرغم ما قلبت هذه الرواية فى داخلى من جروح دفينة، وعلى الرغم من أنها شجبت “كل محاولة”بلا إستثناء، فإن اليأس لم يطل على بديلا واحدا من خلف أى قناع سقط.
فالجنون – أعظم مظاهر اليأس وأغباها – لم يتم إلا فى رحلة بهيجة مؤقته، محكومة النهاية قبل أن تبدأ.
والانتحار – لم يطرح أصلا.
ولذة الضياع والحكم التفلسفى على الأحداث بدت شائهة منفرة منذ البداية بل إن النهاية الحزينة – الأكثر حزنا من موت البطل “المرحوم”ذات نفسه – وهى فقد أعماله الإبداعية التى كانت خليقة أن تؤكد استمراره أو إستمرار ما يمثله، تلك النهاية التى رمزت لها وأعلنتها حقيبته الفارغة.
”… لم يكن بالحقيبة (التى تركها المرحوم) سوى عقد إيجار، وبعض الإيصالات وقصاصات صحف وبعض الشهادات الطبية، وأوراقها لا قيمة لها “(ص116).
حتى هذه النهاية الفاحصة الى أسمى بها روايته “حقيبة خاوية”كانت مغلفة بالتفاؤل قبلها، ثم ألحقها بالرجاء فالتحدى فورا:
يقول (بعد تخلصه من الذنب المزعوم على ما يبدو).
”… لقد شفت نفسى وتجردت من أحايبلها الخرقاء، وسرى فيها الحزن عميقا ونقيا، وتحول السخط إلى إرادة، – محددة نعم – ولكنها مفرحة وعامرة بالأمل ..”(ص114).
أما بعد اللطمة المفاجئة (الحقيبة الخاوية) فقد فتح باب الأمل بمسئولية حذرة.
”… لقد وجدتنى أناشد الله أن يعفى أولادى من مصير الفشل والإخفاق الذى أحاق بجيلى كله”(ص 118).
ولكنه كالعادة لا يترك الإيمان والدعاء يبدوان وكأنهما الحل الأغترابى الموجل، بل يسارع ويلحقنا قبل البلاهة الأستسلامية:
”… ومع ذلك فلابد أن أعترف أن ذلك الإيمان الذى يبدو عنيدا ومغرقا فى التهافت ومريحا للنفس، لم يعفنى فى لحظات تلت من استشراف الجنون”(118).
واستشراف الجنون هو غير الجنون حتما لمن يعرفون، أو بتعيبر أدق لمن يجنون دون أن يجنوا، إنه التحدى الذى يوقف الأندفاعة إلى الجنون وفى نفس الوقت يوقف التراجع إلى اليأس ويحول دون التبلد، هذا الأستشراف هو ما تركنا عنده الكاتب فى آخر سطر من روايته وهو هو المؤكد لى بإنعدام الدعوة إلى العدمية فى هذه الملحمة الأمينة شديدة الإيلام والإيقاظ.
عينات معرفية “عن النفس” من خلال مقتطفات مختارة:
فإذا أنتقلنا بعد ذلك إلى بعض التفاصيل لنتعرف على أنفسنا: “من نحن”و “كيف”؟، فإننا نرجع إلى عنوان المقال حيث نريد أن نؤكد أن هذه الأغوار لا يستطيع أن يلمسها بهذا الرفق وهذا الوضوح إلا من يغامر برحلة الداخل فى خبرة الإبداع الأصيل، ورحلة الداخل ليست استبطانا ولا تأملا، ولكنها معايشة وانطلاق.
1- ص 10: “كنت أهبط إلى داخلي، منسابا بلا عوائق، أشبه بمتسلل عبر بوابة نجاة .. نحو عالم من الحزن المكثف الرحيب..
ياله من حزن، هو بدوره .. هش عقيم”
إن هذا الهبوط المتسلل بلا عوائق إذ ينتهى إلى بحار الحزن ماهو إلا نوع من ارتداد الطاقة (اللبيدو باللغة التحليلية) وهو يكاد يصف نوعا من النكوص إلى الاكتئاب (القديم)، وهذه الفكرة حديثة نسبيا إذ تعتبر “الاكتئاب”موقفا تطوريا (نمويا) يمكن التراجع إليه، وهو غير اكتئاب المواجهة الذى يعرفه كاتبنا حق المعرفة، إن الاكتئاب النكوصى هنا يسارع بشجبه الكاتب باعتباره مخادع هش عقيم أما الاكتئاب الآخر: (ص114).
”لقد شفت نفسى .. وسرى فيها الحزن عميقا ونقيا”.
أليس فى هذا الحدس الفنى مايدعو الزملاء الأطباء إلى الصبر على النظر فى الداخل بصدق الطلبة المجتهدين.
ولنتذكر (فى عجالة غير لائقة) آخر ما كتب أستاذنا نجيب محفوظ فى هذا الصدد فى الفصل الختامى لروايته الأخيرة “أفراح القبة”فنجده يصف حزنا ثالثا يمكن أن نسميه حزن الغيبوبة.
”… إذ غيبوبة الحزن لم تنسنى تطلعاتى الكامنة “
”أريد أن أنسى الحلم ولو بمضاعفة الحزن، غير أن الحزن عندما يغوص حتى يرتطم بالقاع ترتد منه إشعاعات غريبة ثملة براحة خفية “.
وغيبوبة الحزن هذه ليست هى هى بالضرورة ما يعرفه الأطباء تحت اسم سبات الاكتئاب Depressive Stupor ، وحتى لو كانت هى هي، فهم فى الأغلب قد لا يعنيهم كثيرا كيف يغوص الحزن حتى يرتطم بالقاع فترتد منه اشعاعات غريبة ثملة براحة خفية (5)
2- ص 21 “وليست غير مفهوم، لم أسلم من إحساس بالخجل أيقظ فى داخلى آلام جرح غائر”.
كان هذا الخاطر استجابة لسماع خبر وفاة صديقه، وتكاد تعتبر هذه الفقرة محور الرواية فعلا، وهى تعبر عن حقيقة كيف أن أحداث الخارج (البريئة نسبيا) إنما تثير فينا نحن أحداثنا الغائرة، وتنكأ جروحنا القديمة، دون ربط صريح، فهذا التحدى الذى كان يمثله الفقيد هو جزء من تكويننا (وتكوين الراوى البطل وتكوين الكاتب قبل ذلك) فى مواجهة اختلافنا معه، ومتى افتقدنا صاحبه فى الخارج تحرك داخلنا بديلا عنه لتبدأ قصتنا نحن (فيما يخصه) ينهايته هو، فيثور فينا ما هو نقيض ظاهرنا، ويبدأ الجدل: فإما نسير إلى النمو أو إلى الجنون (أو ليتبلد الوعى وتتبدد الطاقة تحت ضربات اللامبالاة والهرب من جديد).
3- ص 36 “كانت نفسى قد امتلأت بالشكوك …. ما أبشع خطورة تلك الهواجس اللعينة … فى الأمر شئ بلا شك .. ويفترسنى خوف ذليل جبان، أيكون من الحكمة أن أحاول تفادى مثل تلك الأحتمالات ؟ لقد عادونى الإحساس الغريب الذى كثيرا ما كنت أخرج ممتلئا به عبر الأزمات الكبيرة التى مررت بها: الأنشطار، ولكنه أنشطار أشد تعقيدا من أن يقدر على استيعابه الغالب الأعم من الناس.
إن الفارس الهمام يواصل “سقوطه المزرى”
وإنى لأجزم أن هذه الفقرة ليست “معلومة نفسية”وضعها الكاتب فى سياق روايته، بل إنى لابد وأن أعلن أن هذا النوع من “الإنشطار المعقد”هو حقيقة لا يعرفها حتى معظم أهل الحل والعقد فى علم السيكوباثولوجى أو علم الطب النفسى أو علم النفس، رغم أنه كحل للأزمات الكبيرة شائع شيوع النوم والأحلام، ولكن غير الشائع عنه هو إدراكه بهذا الوضوح، وأصعب منه مئات المرات هو استيعابه، ثم بعد ذلك يأتى التحدى الأبلغ حين يفضح الكاتب كل هذه الرؤية العميقة باعتبارها مجرد مهرب يغطى به الفارس الهمام مواصلة سقوطه المزري.
يا صديقنا الأمين:
لك الله فى نفس بطلك هذه – أو نفسك – إذ ترى كل هذا من خلال أزمة بطل روايتك، فتعلمنا كل هذا بتلقائية الفنان، دون أى أمل وأنت تكتبها أنك – يوما ما – “ستشاف” إلى هذا المدي، ويبدو أنه لا يغيب عنك – سيدى – أن هذه الخطوة الصعبة هى هى مشارف الجنون (دون جنون) … فما أصعب الكتابة المعايشة بحق، وما أندرها بالتالي:
4- ص 41 “لاشك أن هذا التصور نابع من أزمتى الخاصة … أجل، فعقدة الإثم ما برحت تنهش كيانى حتى أسلمتنى إلى حال من البلادة المقينة هى السر وراء أنى صرت أتقبل كل الأشياء”.
(حدث هذا) ص42 “…. عبر سلسلة من التنازلات قدمتها فى غفلة متعمدة خبيثة تحيزا لوهم الأستقرار، فى حين تتضخم عقدة الإثم ثم تترسخ حتى تصير جزءا من تكوينى الخاص”.
”إن هموم هذا اليوم كلها إنما مصدرها الدقيق هو الإحساس بالذنب، رحم الله مخلوقا عرف قدر نفسه ولو كان كلبا متفسخ الروح، فلكى أهرب من وخزات عقدة الإثم جعلت من ذكريات عادل وسيلة أدارى بها قروحى الداخلية .. يالها من لعبة حقيرة”.
فى هذا التصوير لجذور عقدة الإثم الناشئة أصلا من قهر السلطة (الوالدية خاصة) نستطيع أن نتابع آثارها إذ يغزو إليها كاتبنا “البلادة واللامبالاة ووهم الأستقرار وذكريات الحزن على الفقيد “هكذا فى ضربة واحدة، وهذا هو مانعنى به العطاء المعرفى فى الكشف – للأدب – عن طبيعة النفس وتركيب تفاعلاتها، فالمعروف لدى المختصين – بحسب الشائع – أن عقدة الإثم هى نواة مرض الإكتئاب ومحوره (دون غيره فى الأغلب)، والواقع أن الكاتب بحدسه قد تخطى هذه المرتبة ليعلن مسئولية هذا الذنب عن كثير من المظاهر الواقعة على مساحة سلوكية مترامية فعلا، والواقع أن هذا الأثم الدفين الذى كاد أن يعتبر محور الديانات بأكملها (أو فى القليل مجموعة فرق ونحل من مختلف الديانات) لم ينل حقه من الدراسة الأعمق، إذ ينبغى أن يحتاز التصوير الدينى لخروج آدم من الجنة، حيث قد يثبت أنه يقوم بوظيفة ضبط جرعة التقدم والأندفاع (النابعة من العدوان)، فإذا تمادى عوق المسيرة وثبت الخطى وكرر السلوك.. مما لامجال لتفصيله هنا، وكل ما نشير إليه هنا هو أهمية هذا الطرح الأدبى الذى يفتح آفاقا جديدة للمعارف بلا حدود.
5- ص 43 “كان هذا الوجه الضامر المعذب يسطع فى خيالى أثناء فترات التعب التى تمر بي، شفافا وآسرا، فأستشعر نوعا من الأسى المختلط بالراحة، …….، ويالها من حقارة مبعثها تهتك الروح…، أهذا كل ما نحرص عليه من إنسان عرفناه: شقاؤه وتعاسته ؟؟، …..، أجل أجل فلقد كان عادل يستعوض عنى كل أحلامى فى التمرد والرفض، ……، و لا أخفى أنى تمنيت كثيرا – حتى وأنا أتخذ منه موقف الرفض – أن يقبل ما سمحت به فى سريرتى ، فيتمادى وحده ويخفق وحده ، وينزف حياته وحده … عوضا عنى”.
وهذا هو مقطع آخر هو عصارة الأمانة والألم فالعلم، فهو غذاء معرفى لمن يريد أن يعرف ماهو إنسان، إنها تعرية صريحة لموقفنا من الأبطال الحقيقيين (إن كان ثمة أبطال حقيقيون) أو المتخيلين، إذ نريدهم أن يقوموا عنا بما عجزنا عنه مقابل أن نمجدهم ونرسمهم كما يريد خيالنا وعجزنا، لا كما “هم”، فنلغيهم بذلك، ونرتاح (ظاهرا بالضرورة) إذ نذهب نتحدث عن النقاء الثورى والتضحية، والشهامة، والفدائية، كل ذلك فى رخاوة أو تشنج يفضحها الكاتب ابتداء باعتبار مثل هذا الموقف “حقارة مبعثها تهتك الروح”، بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك حين يصور البعد الأنتقامى (العدواني) الكامن فى هذا التقديس وهذه التبعية، والمتمثل هنا فى الرغبة فى “الإفشال”، الذى متى ما تم: استيقظ فى داخلنا غول الشماتة ليمجد فينا حكمة التعقل وفضائل الشطارة – يفشل البطل؟ نعم، ولكن يموت هكذا فجأة .. لا وألف لا ..، ليكن الذنب، وليكن البحث عن القتلة، ولتكن الرواية. ثم ياتري: هل يكون البعث .. أو العبث؟.
6- ص 56 “وقد دهمنى خوف ثقيل على الطفلين (طفلية) كان مبنعه حب خرافى مجنون، فتمنيت لو احتضنتهما وننصهر معا ثم نتلاشى جميعا … نذوب فى فناء مطلق، مطلق..”.
وتعتبر هذه الفقرة – ظاهريا – اعتراضية بالنسبة للتيار الروائى العام، إلا أن لها دلالتها العميقة، إذ تعلن كيف يدفع الشعور بعدم الأمن (والذنب والأتهام) إلى “الألتهام حتى التلاشي”تحت دعوى الحب الخرافي، وهذا هو ما يكمن وراء ما يسمى بالأنتحار الجماعى (لرب الأسرة بعد قتل أفرادها جميعا فى العادة: رحمة بهم كما يتصور).
وهكذا ترى أنه حتى الهوامش الأعتراضية تقول لنا عن النفس ما ينبغي.
7- ص 98 “ولقد فهمت مؤخرا لماذا كان يلح دائما على فكرة الديمقراطية، ويردد باستمرار تحذيره من الفهم الخاطئ لها، وأنها سلوك يلتزم به الفرد فى حياته الشخصية قبل أن تكون نظاما ينبنى عليه كيان الدولة”.
والكاتب بهذه الكلمات يثير قضية من أعقد القضايا النفسية (والعامة وخاصة فى مجال السياسة والأقتصاد)، وهى علاقة الحرية الداخلية (بما يشمل مساحة الرؤية والقدرة على العدل) بالحرية الخارجية (الممارسة السياسية والعدالة الأجتماعية)، وهو يتجنب بداهة أى تنظير معطل، ولكنه يدعونا لإعادة النظر فى شعاراتنا المعلنة دون أن نربطها بوجودنا الفردى السرى الخاص، ولا أحسب أن أحدا منا بقادر فعلا على قبول هذه الدعوة الصعبة (بل ولا حتى هو نفسه رغم ما تبين له فى رحلة إبداعه – وراجع ظهر الغلاف، يجوز !!).
الأرضية:
وقد جرت أحداث هذه الرواية فوق أرضية واقعية محددة، وقد أتخذ الكاتب الأسكندرية (التى لا يخفى عشقها البنوى) مسرحا، كما أتخذ أحداث عصرنا القريب علامات توقيت وراء الأحداث فى إيقاع منتظم بدءا بثورة 23 يوليو وخلع الملك (فى الأسكندرية) ثم نصر 56 (الذى سرعان ما شجبه) ثم هزيمة 67 بمرارتها (ولكنه يتوقف فجأة دون نصر 73، فهل ياترى كتب أحداث الرواية قبل ذلك رغم سنة النشر أم أن لهذا الإغفال تفسير شعورى أولا شعورى لا نعرفه) ؟
ولم تنفصل هذه الأحداث المواقيت أبدا عن أحداث الرواية بل تداخل العام والخاص فى سلاسة غير منزعجة، فلا هى خطابة اغترابية سياسية عسكرية تلغى الأحداث الفردية الصغيرة، ولا هو غرام مشبوب يجرى فى راحة منعزلة عن الأحداث (سامح الله الجميع).
الخلاصة والتعقيب وغيرها:
ويمكن بعد هذا الأستعراض القاصر أن نخلص إلى عدة أمور تستحق المناقشة والمراجعة.
أولا: نعود إلى ما كتب المؤلف على ظهر غلافه عن “السادة الكبار والأدب الجديد “، وقد أحسست بمرارة معاناته، ومع ذلك لم أتفق معه فى أن الذى عرضه هو “أدب جديد”(ربما لأنى لا أفهم معنى “الجديد”هذه الأيام)، وقد أعتبره أدبا “أمينا”، أو “أدبا صادقا”أو “أدبا يقظا”وإن كان أفضل الأفضل أن يكون “أدبا فقط”، فالأدب هو جديد دائما بالضرورة، ويستحيل أن يصنف حسب سن صاحبه أو سنة نشره، أما حكايات “شرب الحنظل “وما “أوصلونا إليه “، فهذا أبعد ما يكون عن طبيعة ما أبلغنا الكاتب من وقائع روايته، فياترى من أين يأتى هذا التناقض ما بين “إلقاء اللوم”على ظهر الغلاف وبين “مواجهة المسئولية الفردية حتى النخاع داخل الرواية”، وحتى التحدى الذى جاء فى آخر سطور الغلاف لا يحل أزمة هذا التناقض، وخاصة حين يتمادى فى تصويرهم و “أنهم يبغون أن يدفعوه (هم) إلى الجنون”، صراحة لم أفهم كل هذا التجنى رغم تقديرى لعظم جرعة الألم وإحساسى بمرارة الوحدة التى يعانيها، لم أفهم ذلك حتى خفت عليه، وعلى قضيتنا أن تضيع فى هذه المعارك الجانبية حتى مع كبار الكبار، وأحسب أن الأستمرار فى العطاء الخلاق هو الرد الوحيد على احتمال الاضطهاد، إن وجد أصلا، قد يوجد الإهمال أو الغباء (عدم الفهم) أو الخوف، لكن الأضطهاد؟ ليسمح لنا صديقنا أن نختلف ثم ليسمح لنا أن نقول له ما يحقق له ولنا قوله من خلال تبادلنا رؤية بعضنا البعض بقدر ما من الموضوعية، ياصديقنا: إننا نعلن: أن كل ألمك النابع من تجاهلم إياك كما يبدو هو حقك، لقد أغفلت حتى أعدمت (أو كدت) ومع ذلك فقد لا يبرر أى من هذا تصويرك لجيل بأسره مهما بلغت أخطاؤه أو قسوته – بأنه يدفع جيلا أصغر لمثل ما تقول.
عذرك معك من واقع ألمك .. ولكن.
ثانيا: لقد تخطى الكاتب بدرجة ما تلك المرحلة الزائطة التى طفت على أدب تلك الحقبة (فيما عدا المستثنى بصدقه) فانطلقت تلبس أثواب الرمز دون مبرر، أو تمجيد البطل (حتى لو كان هو الشعب ذاته)، أو تصنف شخوص الأحداث قبل أن تتفاعل وتتوالد، أو تهرب من وعيها ألاصدق بالإنتماء إلى شكل جاهز، أقول تخطى كاتبنا (المجهول) كل هذا إلى “أدب المواجهة والتحدى “دون صراخ أو أحكام أو استسلام أو حتى عدمية، وهذه وظيفة معاصرة للأدب هى الأمل الحقيقى فى توسيع دائرة الوعى باستمرار.
ثالثا: لقد أجتاز الكاتب بنجاح نسبى هذه الثنائية الأستقطابية بين الخير والشر، بين البطولة والأنتهازية، بين الغنى والفقر، وإن كان لم يستطع فى تصورنا أن يعبر عن التناقض الصعب داخل الفرد الواحد اللهم إلا فى “البطل الراوي”، وبصورة متواضعة، ومع ذلك فهى بداية مشجعة نأمل أن تستمر وتنضج بالقدر الكافي.
رابعا: لم يتوقف الكاتب عند “الحتمية الأقتصادية الإجتماعية “(المجتمع هو القاهر والفقر سبب المصائب)، كما لم يتوقف عند الحتمية النفسية (الناس والظروف !!!) بل حاول (دون نجاح كامل) أن يتخطى هذا وذاك ليبحث عن “معنى الأحداث ودلالتها “وليس فقط عن “أسبابها ومبرراتها “، ونحن نأمل أن ينمو هذا الأتجاه ليقف أمام تيار السببية التبريرية التسكينية التى يسأل عنها جزئيا “سوء فهم”معطيات التحليل النفسي، و”سوء فهم”الحتمية الأشتراكية التاريخية.
خامسا: لقد علمنا الكاتب بحدسه الفنى وصدقه التلقائى ما ينبغى أن يكمل تعلمنا من علماء التجارب والحسابات (دون تقليل من شأن هذه الوسائل فى مجالها، ملتزمة حدودها).
وبعــد:
فلعل الصدفة الطيبة هى التى أتاحت لنا عرض هذا العمل المتواضع الصادق المؤلم المتألم، لنؤكد من خلال ذلك ألتزامنا بالوقوف بجوار المحاولات الصادقة التى يدفع صاحبها فيها ثمنا آخر (غير الصياح الشكوى والتوهم)، ولا نقول المحاولات الشابة، ولا المحاولات الجديدة، وإنما نقول المحاولات الجادة أو المحاولات المغامرة المسئولة، وبأسلوب آخر فنحن نشترط من موضعنا المحدود على من يحاول … أن يحاول، حتى ليفرض نفسه علينا … ولا يتخذ مجرد الشباب أو الرفض أو الجديدية سبيلا لخلق معركة معطلة بالضرورة.
****
وفضل صديقنا البعيد القريب (محمود حنفي”علينا – وعلى من يهمه الأمر – سوف يظل دينا فى عنقنا ما امتدت بنا المحاولة، إذ نوصى بعضنا بعضا بعدم التوقف أساسا، والتعلم دائما، فيحمل كل منا عن نفسه ما يخفف به حمله عن أخيه على الدرب فتخف أحمالنا جميعا وتسرع خطانا إلى حيث نستطيع … ويبدو – كما هو ظاهر – أنه كثير …. كثير.
استدراك
بعد كتابة هذه الدراسة قرأت رواية الأديب الصديق محمود حنفى الأولى بأسم “المهاجر”، وهى شديدة الصدق شديدة الألم كذلك، إلا أنه يبدو لزاما أن نذكر أن الكاتب قد تطور فى روايته الثانية بشكل ملحوظ، ولكن وجه الشبه يبن بطل المهاجر بمرضه الجسمى والنفسى وبين عادل “البطل المرحوم”فى روايته المعروضه هنا – رغم فرق النضج فى العملين – ينبه إلى أن الكاتب الأديب لابد وأن يتخطى أحادية الرؤية خشية أن يكرر نفسه، وقد فعل ذلك فعلا ولكن قد يتطلب الأمر ممارسة إبداعية مستمرة، ومواجهة للأختلاف متزايدة، وإلا فقد تتراجع الخطوات التى قفزها فى عمله الثانى بأسرع مما يتصور، ونحن أحوج ما نكون إلى تطويرها أكثر فأكثر، لا الدوران ولا التكرار، ولا مجال بعد ذلك لنقد أطول ولكن هذا الأستدراك كان لازما حتى يأخذ الموضوع حجمه المناسب بعيدا عن الحماس الناتج عن الحاجة للحوار.
[1]- الناشر محمود حنفى 12 شارع مصطفى المغربى كليوباترا الحمامات الاسكندرية 1980.
[2] – دار المقطم للصحة النفسية التى تقوم بتغطية خسائر هذه المجلة.
[3]- الزميل الدكتور مصطفى أبو عوف.
[4] – لم توصف هذه المرتبة الأعمق من الحيل الدفاعية بشكل كاف فى المراجع العلمية للسيكوباثولوجيا.
[5] – وهذا بشكل محدد غير حزن عمر الحمزاوى فى “الشحاذ” ممالا مجال للاستطراد فيه الآن.