إننا مقبلون على حقبة جديدة فى الاهتمام بالإنسان قد تفضى إلى تغيرات عميقة فى الموقف الإنسانى اشبه بالتغيرات التى شهدتها العلوم الطبيعية فى القرن الماضي، وفحوى هذا التغيير هو تلاشى بعض الركائز المعروفة فى العلوم النفسية وبزوغ ثقل جديد للقيمة الأساسية للخبرة الإنسانية.
ج. ف . بوجيننال
الموجز
يقدم هذا المقال عرضا للنسق الجديد من المفاهيم الذى صاغه الاتجاه أو التيار الحديث فى مجال علم النفس والمعروف باسم علم النفس الإنساني، ويتبدى هذا النسق فى التغييرات الأساسية التى يحاول أن يدخلها على التناول العلمى للإنساني، وهو يشمل:
- نظرة معرفية جديدة فى مجال دراسة الإنسان تتجاوز النموذج الوضعى المنطقى التقليدى وتحاول أن تعطى أهمية أساسية للخبرة الإنسانية الذاتية بوصفها أساس كل أنواع المعرفة.
- تصور لطبيعة الشخصية الإنسانية يضع فى الاعتبار كليتها وديناميتها وتفردها وإرادتها الفاعلة.
- نظرة غائبة تعطى للقيم والغايات أهميتها ودورها فى التطور الإنسانى إلى مستويات أرقى وأكمل.
-صورة عملية ناجحة للعلاج النفسى الذى يحترم الخبرة الإنسانية المباشرة ويسعى إلى تعميقها فى اتجاهات المسئولية والاختيار الحر والاحساس بالذات، والنمو بها نحو آفاق غير محدودة.
* * *
فى نوع التعرف الاجرائى تحدد دراسات الرابطة الأمريكية لعلم النفس الإنسانى دوره على النحو التالى:1
”يمثل علم النفس الإنسانى بالدرجة الأولى اتجاها نحو كلية أو وحدة علم النفس أكثر مما يمثل ميدانا أو مدرسة محددة، وهو يناصر احترام القيمة الذاتية للأشخاص واحترام الاختلافات فى الاتجاه، وتفتح العقل للطرق السديدة، والميل إلى الكشف عن الجوانب الجديدة للسلوك الإنساني. ويهتم “كقوة ثالثة” فى علم النفس المعاصر بالموضوعات التى تحتل مكانة ضئيلة فى النظريات والنظم القائمة مثل الحب، الإبتكار، الذات، النمو، الكائن العضويorganism, إشباع الحاجات الأساسية تحقيق الذات، القيم العليا , الوجود، الصيرورة، التلقائية، اللعب، المرح، السجية الطبيعية، الدفء، التسامى بالأنا، الموضوعيه، الإستقلال الذاتي، المسئولية، المعني، الشجاعه، الخبره الساميه وخبرة القمةpeak experience وما يرتبط بهذه الموضوعات من مفاهيم.
يتضح هذا الاتجاه فى كتابات ألبورت، روجز، ماسلو، فروم، جولدشتين، هورني، اتجوال، آخ , موستاكاس، فرتيمر، وإلى حدما فى كتابات يونج، وأدلر، وعلماء النفس التحليلين المهتمين بالأنا ego-psychologists وعلماء النفس الوجوديين والظاهريين”.
لأول وهله يبدو التعريف الذى يقدمه هذا المقتطف واسعا وضعيف الترابط بشكل لا يمكن معه رؤية أية حدود أو تحديدات، وتتضاعف الحيرة إذا كان لدى القارئ درجه معقوله من المعرفه بالإسهامات التى قدمها بعض أو كل الأسماء السابقة إذ أنها متشعبه ومتباينة بدرجه هائلة يصعب أو يستحيل معها جمعهم فى نسق واحد له قواعد وحدود وتكامل نظرى بحيث يصبح لصفة “إنساني” من الدلالة الواضحة ما تثيره صفات مثل ” فرويدي” أو “سلوكى “.
إلا أن الأمر يمكن تداركه إذا قلنا إن المقصود هنا لا يمثل نظرية أو مدرسة مستقلة فى علم النفس بالمعنى التقليدى أو الصارم لهذه الكلمات وإنما هو أقرب إلى أن يكون فلسفة جديدة… نموذجا جديدا… أو بنوع من الشمول رؤية جديدة new orientation فى التناول العلمى للإنسان كموضوع لعلم النفس.
من ناحية أخرى فإن مثل هذا التصور الواسع الخالى من صرامه التحديد يبدو متسقا إلى درجة كبيرة مع الطبيعة شديدة الدينامية ذات النهاية المفتوحة لهذه الرؤية الجديدة كما سيتضح فى تفصيل الحديث عنها.
وعلى الرغم من الرحابة وضعف الحدود والاتساع الذى يسمح بشمول صيغ عديدة ومتفرقة، بل وأيضا إسهامات من علماء ومفكرين من خارج مجال علم النفس فإن للرؤية الجديدة معالم واضحة وعميقة وجذرية بالدرجة التى يمكن معها أن نصفها – دون شبهة المبالغة – بأنها تشكل ثورة حقيقية.
ومع التشعب والتنوع والثراء الشديد فى الأعمال والكتابات التى تقدم أو تحاول التعبير عن علم النفس الإنسانى فلقد وجدت صعوبة شديدة فى إيجاد نسق مترابط يمكن من خلال تقديم معالمه الأساسيه بصورة واضحة وشاملة ومختصرة بشكل غير مخل، إلا أننى فى النهاية تصورت أن هذا يمكن تحقيقه بشكل لا بأس به اذا عرضنا لعدة نقاط محددة: أولها ..الرؤية الجديدة التى يقدمها فى منهج دراسة الإنسان وفلسفة العلم، وثانيها… رؤيتة المتميزة فى طبيعة الشخصية الإنسانية، وثالثها ..المكانة الخاصة التى يفردها للقيم والغايات والتطور الإنساني، ثم رابعها… التطبيق الحى لمبادئه فى ممارسات العلاج النفسى الإنساني.
أولا: فى منهج دراسة الإنسان وفلسفة العلم.
فى هذا المجال يقوم علم النفس الإنسانى بإعادة نظر نقدية فى الافتراضات الأساسية للمنهج السيكولوجى الذى احتذى لنفسه نموذجا للعلم مأخوذا عن علم الطبيعة وهذا التأثير لعلم الطبيعة ليس قاصرا على علم النفس فقد تمكن هذا العلم بتطوراته الهائلة وصدارته وسبقه بين العلوم من فرض تأثيره على نظرية المعرفة عموما. بل إن نموذجه قد وصل إلى النظرة العامة للجماهير الواسعة من الناس.
وهذا النموذج للعلم المبنى فلسفيا على الوضعية المنطقية يمكن التعبير عنه من خلال عدد من المعالم صبغت منهج البحث فى علم النفس بشكل غلاب وأهمها:
1- العلية الحتمية الميكانيكية والبحث دائما عن التعليمات الناموسيةnomothetic (أى الكشف عن القواعد والقوانين العامة التى تربط بين الظواهر والتغيرات), فلا مكان فى هذا النموذج لمفاهيم مثل التفرد أو العلية الغائبة.
2- النظرة التجزيئية حيث لاتحاول المدرسة الوضعية النظر إلى الإنسان نظرة إجمالية وإنما مهمتها أن تجد حقائق صغيرة تحت شروط مضبوطة… فالحقيقه تتقيد بأن تكون صغيرة طالما أن الثبات يمكن الحصول عليه كقاعدة فقط حينما يتناول الفرد قطاعآ جزئيا محدودا من السلوك… وكليات السلوك غير حقيقية بحيث أن العالم الوصفى يعتمد إلى إغفالها، بذلك فإن الإنسان فى هذا النموذج تكوين مركب من وظائف جزئية تمثل وحدات تبدليةinterchangeable units قابلة للقياس الكمى وتطبيق قوانين شبه ميكانيكية.
3- النظرة الكمية …والصياغة الرقمية…والاستخدام الواسع للمناهج الإحصائية كمؤشر للحقيقة فكل شئ فى هذا النموذج يمكن تناوله بالقياس والصياغة الكمية والرقمية وغير ذلك مشكوك فى موضوعيته.
4- التصور المحدود للحركة بوصفها نتاج للضغوط ومحتومة بها. وهو تصور ميكانيكى يساوى بين الإنسان والكائنات غير الحية (متضمنة الماكينات) والكائنات الحية الأولية ويرتبط بهذا النظرة للإنسان بوصفة كيان راد للفعل reactiveوليس بأى حال كيانا فاعلا proactive ذو أداء نشط.
5- اتجاه عام للتمركز حول المنهج method centered أكثر من التمركز حول المشكلة problem centered… وقد أدى هذا إلى إيجاد كم هائل من الحقائق المتفرقة الجزئية على حساب النظرة المترابطة للشخص الإنسانى ككل.
6- تصور عام متناهى للكون بوصفه نظام مغلق به كم ثابت من المعرفة المتاحة والعلاقات بين المتغيرات والظواهر… ويمكن بذلك الاعتماد على دراسة أى ارتباط منعزل بين متغيرين على أمل أن هذا الإرتباط فى النهاية سوف يتصل بغيره.
ويتبدى التأثير الكبير لهذا النموذج بمعالمه السابقة إذا ألقينا نظرة فاحصة على مدى تمثله فى التيارين الرئيسيين السائدين فى علم النفس المعاصر: السلوكية والتحليل النفسي.
فالسلوكية بمفاهيمها عن الموضوعية، والملاحظة المضبوطة للسلوك الخارجي، والتجريبية، والمعملية وحيوانات التجارب، والأساليب الاحصائية والدراسة الدقيقة للظواهر الجزئية….إلخ هى التمثيل المباشر والعيانى للنموذج الوضعى المنطقي.
فى نفس الوقت فإن مدرسة التحليل النفسى التقليدى بالرغم من أساليبها التى اعتمدت أساسا على خبرة الممارسة الإكلينيكية وملاحظاتها فإنها فى مفاهيمها وتصوراتها لم تستطع أن تخرج عن سجن نموذج علم الطبيعة الوضعى المنطقى الغلاب، فالإنسان فى تصورها العام كائن شبه آلى راد للفعل quasi-mechanical reactor محكوم بشكل حتمى وسببى بقوى طاغية هى البيئة والهو”id والأنا الأعلي، كما أن تصوراتها عن ديناميات الشخصية كانت متأثرة إلى أبعد مدى بمفاهيم علم الطبيعة والميكانيكا الكلاسيكية.
وقد يكون بديهيا من منظور موضوعى وعملى أن نقرر أن النموذج السابق قد قدم أسهامات جليلة للإنسانية، وقام ولازال يقوم فى مجال العلوم الطبيعية والإنسانية بما فى ذلك علم النفس بدور إيجابى فى نمو المعرفة واتساعها وتطبيقها بشكل نفعي…. إلا أن الأمور تأخذ شكلا سلبيا ومعوقا لتطور المعرفة البشرية إذا غاب عن إدراكنا أنه يمثل مرحلة تطورية لابد أذا ما استوفت أغراضها من أن يعبرها الإنسان إلى مرحلة تالية برؤية جديدة ونماذج جديدة وأنه برغم إنجازاته الهائلة محدود فى نسقه المعرفى ومفاهيمه ووسائله بمجال محدد ونسبى إذا تجاوزناهم أو تجاهلناهم وانسقنا لوهم ان مايمثله مطلق ونهائى وقابل للتطبيق فى كل العلوم وعلى كل مستويات الظواهر الطبيعية والإنسانية أصيب التطور الإنسانى كله بالتجمد والعقم.
وقد لا يكون من المصادفات أن أول تجاوز لهذا النموذج قد بدأ من داخل علم الطبيعة نفسه، بل أنه قطع شوطا فرض به نفسه بالفعل على المعرفة البشرية. ويقدم هييتزنبرج 1- عالم الفيزياء الرائد- نقدا واضحا حين يقرر أن الإطار الذى طوره القرن 19 للعلوم الطبيعية والذى تأيد بالمفاهيم الأساسية للفيزياء الكلاسيكية فى المكان والزمان والمادة والحركة والعلمية …الخ هو إطار جامد إلى حد بعيد… بل “لقد كان هذا الإطار ضيقا وجامدا للغاية بحيث كان من الصعب أن نجد فيه مكانا للكثير من مفاهيم لغتنا مثل العقل، والروح الإنسانية .. والحياة”. وقد أمكن لنتائج الفيزياء الحديث أن تصل بنا – ما يقرر – إلى التخلى عن هذا الإطار الجامد، وشكلت المفاهيم الأساسية التى قدمتها نظريات النسبية ميكانيكا الكم وثورة هائلة وأطاحت بمفاهيم الطبيعة الكلاسيكية وميكانيكا نيوتن وأنزلتها من عرشها المطلق والنهائى إلى وضعها النسبى المناسب.
وبوضوح أوبنهيمر1 – الذى يبدى أسفه لجمود علم النفس عند نموذج علم الفيزياء الذى انتهى عهده تماما – عدد فى المفاهيم الأساسية التى تغيرت بواسطة علم الفيزياء الحديث:
1- العلم الفيزيائى ليس محتوما كلية، فالفيزياء تنبؤية .. ولكن داخل حدود , عالمنا خاضع لنظام ولكن ليس عليا كلية.
2- فكرة الكلية، كل شئ ليس قابلا للتجزئة إلى عناصر أدق وتحليلية كذلك كما تقول الفيزياء الكلاسيكية .. فلو نظر فرد إلى ظاهرة ذرية بين البداية والنهاية فسوف لا تكون هناك نهاية وإنما ستكون ظاهرة مختلفة فكل حدث ذرى هو حدث “فردي… فهو ليس فى أساسياته مستولدا.
3- فى مواجهة افتراض الموضوعية المطلقة .. الذى يمثله موقف ملاحظ أو أداة ملاحظة وظاهرة تجرى عليها الملاحظة فقد أثبتت الفيزياء الحديثة التلازم واللاانفصالية بين ما ندرسه والوسائل المستخدمة لدراستة، وكذلك الاتصال العضوى بين الشئ والملاحظ .. وأن الملاحظ ذاته يدخل تغييرا فى الشيء موضوع البحث
والملاحظ فى الفيزياء ليس إنسانا (وإنما أداة على درجة كبيرة من الدقة والتعقيد) ولكن فى علم النفس يكون الملاحظ فى بعض الأحيان إنسانا.
بتعبير آخر أكثر شمولا فإن ما نلاحظه ليس أبدا الطبيعة كما هى وإنما هو الطبيعة فى تفاعلها مع طريقتنا فى سبر أغوارها.
4- ويضيف بوجينتال1 بعدا جديدا حين يقرر أن العلم فى الوقت الحاضر يميل بصفة عامة (سواء العلوم الفيزيائية أو البيولوجيه أو الإجتماعية) إلى الإعتراف بأن الكون غير متناه .. والمعرفة غير متناهية وبالتالى لا يمكننا الاعتماد على دراسة أى ارتباط منعزل بين متغيرين كما يفرض النموذج الوضعى المنطقى على أمل أن ذلك الارتباط فى النهاية سوف يتصل بغيره.
وإذا انتقلنا إلى علم النفس فإن الثورة على النموذج الوضعى المنطقى ومحاولة تجاوز مرحلته إلى منهج جديد يتناسب مع الطبيعة المتميزة للظاهرة الإنسانية، ويفتح آفاقا أوسع وأعمق لمعرفتنا عنها قد بدأت تأخذ معالما تتضح بشكل مطرد على يد رواد علم النفس الإنساني. ويعتبر ماسلو1 عن هذه النزعة بشكل واضح حين يقرر أن “علم النفس وهو فى مرحلة طفولته كعلم ينبغى أن يسعى لبناء فلسفته الخاصة ومنهجه الخاص فى البحث .. بما يتلاءم مع طبيعته ومشكلاته وأهدافه. ويقدم روجرز1 عرضا ممتازا للمحاولة التى يقوم بها علم النفس الإنسانى للإسهام فى بناء هذه الفلسفة الخاصة والمنهج الخاص … وهو يبدأ بمقدمة يقرر فيها أن “هذا التيار الجديد يحمل فى طياته بذور فلسفة جديدة للعلم لا تخاف من أن تجد مكانا للشخص – الملاحظ والخاضع للملاحظة – فى حالته الذاتيه والموضوعية.
ومن المنظور الذى تتقدم به الفلسفة الجديدة يحاول روجرز أن يناقش ويعيد صياغة بعض الأسس المعرفية ويبدأ ذلك بفرض رئيسى يقرر فيه “أن كل أنواع المعرفة تتضمن بشكل ما الاتساق مع ما هو ذاتى وظاهراتى ( فينومينولوجى ) … وهذا يتضح حين نحاول تحديد أو تعريف أنواعه الممكنة … وهى فى تصوره ثلاثة:-
1– المعرفة الذاتية:
وهذه يمكن وصفها بأنها عملية تكوين لفروض داخلية من تيار الخبرة الجارية داخل النفس إذ تعيش فى تفاعلها الذاتى مع الأحداث الداخلية والخارجية. هذه الفروض يتم تصحيحها واختبارها بالرجوع إلى تيار الخبرة الداخلية حتى تصبح أكثر تميزا وأكثر دقة وتحديدا.
وهذا النوع يمثل طريقة المعرفة الأساسية .. فهو نوع من حس الكائن الحى organismic sensing عميق الجذور … ومنه تتميز مفاهيمنا ورموزنا الواعية إن بداية العلم هى دائما فروض داخلية ذاتية لها قيمتها العالية لدى الباحث حيث تصيغ من خبرته حسا ذو نسق.
2– المعرفة الموضوعية:
فى هذا النوع من المعرفة تنبنى الفروض من خلال إطار مرجعى خارجى ويتم اختيارها بواسطة ملاحظة عمليات خارجية بالإضافة إلى استدلالات inferences بالتعاطف مع ردود فعل مجموعة مرجعية …عادة من العلماء الزملاء .. حيث يفهم الباحث ويتقمص الإطارات المرجعية الداخلية لهذه المجموعة . فهذه الطريقة إذن تتعامل مع موضوعات قابلة للملاحظة الخارجية .. أى أن عناصر المشكلة قيد البحث يجب أن تكون قابلة للملاحظة العامة من آخرين .. وقابلة للتكرار تحت نفس الظروف….. وهى إذ تختص بالموضوعات objects الحية وغير الحية فهى تحول كل شئ تدرسه إلى موضوع .. أو تدركه فقط من جوانبه كموضوع وطبيعة التحقق فى هذه الطريقة هى فى حقيقتها نوع من البينذاتيةIntersubjectivity بين الملاحظين الذين يشكلون المجموعة المرجعية reference group وكلما أتسع مدى الأفراد الذين يمكن أن تضمهم هذه المجموعة كلما كان الأساس المعرفى لهذه المعرفة أكثر وثوقا وصدقا.
وهناك خطأ شائع بأن المعرفة الموضوعية موجودة ” هناك فى الخارج لا شخصية ذاتية …. ولكن من خلال هذا المنظور فإننا لا نملك إلا أن ندرك أنها على العكس إنسانية (ذاتية ) إلى أبعد حد فى كل مراحلها .. فهى تعتمد على الاختيارالشخصى الذكى والحدسى للعروض واختيار العمليات الكافية لاختبارها ثم الاختيارالحكيم لمجموعة مرجعية …. مع اعتبار الفهم المتعاطف empathic understanding لخبرات هذه المجموعة إذا حدث وكررت هذه العمليات.
3– المعرفة البينشخصية أو الظاهراتية.
فى هذه الطريقة للمعرفة يتوجة التعاطف إلى الشخص الآخر … وتختبر الفروض تربطها بأدق صورة يمكن الحصول عليها لاطاره المرجعى الداخليinternal frame of reference
كما يمكن زيادة التحقيق منها من الفرد نفسه أو من خلال الصدق المشاركى consensual validation التحقق من صدق الظاهرة بالمشاركة مع رؤ ية آخر). وهذه الطريقة محدودة بالقدرة على التعاطف ودرجة أو عبقرية المقدرة على الوصول إلى الإطار المرجعى الداخلى للكائن الحي.
والمعرفة التى تعطيها هذه الطريقة وإن كانت خاصة بفرد معين إلا أنه يمكن منها تكوين تعميمات تختبر بنفس الطريقة.
وليست هناك مفاضلة بين هذه الطرق الثلاثة فى المعرفة فلكل منها دوره فى تكامل العملية المعرفية، وينشأ خطأ كبير من محاولة استخدم أحد هذه الطرق بمعزل عن بقيتها ودون الإشارة إليهم …. وهو خطأ السلوكيين فى التركيز على الموضوعية… وخطأ الوجوديين فى التركيز على الذاتية كما يحدث خطأ إذا خلطنا ولم نميز أى الطرق يستعمل لفرض بذاته أو ساوينا بين النتائج المتحصل عليها من الطرق المختلفة.
ولعل المبرر الأساسى لعرض الصياغات السابقة بنوع من الأفاضة هو أنها تعطى شكلا واضحا ومتميزا للأساس المعرفى للإتجاه الجديد الذى يقدمه علم النفس الإنسانى والمتمعن فى هذه الصياغات يستطيع أن يميز فكرة محورية وأساسية تلتف حولها كل عناصر هذا النسق المعرفى ألا وهى القيمة الكبيرة للخبرة الإنسانية الداخلية المسماة بالذاتية أو الظاهراتية.
كما أنه يمكن استخلاص نفس الفكرة المحورية من التصور الذى يقدمه روجرز لمعالم المنهج الجديد الذى يعبر عن العلم الجديد أو كما يحب هو أن يسميه ” التيار الجديد فى الثقافة الحديثة وتتبدى تلك المعالم فى النقاط التالية:-
1-يسعى هذا العلم الجديد إلى الاستعمال الواثق لفروض ذاتية وحدسية يصيغها العالم إذ ينغمس فى مجال دراسته ويحس بالنسق أو النظام الذى قد لا يستطيع التعبير عنه أو التوصل به سوى جزئيا.
2- كما يسعى إلى ملاحظة طبيعية naturalistic متعاطفة empathic وحساسة لعالم المعانى الداخلية (الظاهراتي) الموجود داخل الإنسان الفرد .. وبذا يصبح المدى الواسع للموقف الإنسانى مفتوحا للتقييم.
3-فى مواجهة النمط التقليدى لمفاهيم علم النفس المختصة بعناصر ساكنة وتجريدات فإن هذا العلم يسعى إلى صياغة مفاهيم مبنيه على نوع الملاحظه السابقه وتحمل نوعية الجاريه process quality وتختص بالأفعال والأحداث الجاريه. ويشمل هذا التصور مفهوم الخبرة الجارية experiencing الذى يسير إلى الاحساس الجارى بوجوب خبرة… ذلك التيار ناقص التشكل من الإحساس الذى نملكه فى كل لحظة والذى يقع فى مرحلة قبل – مفهومية (قبمفهومية) preconceptualسابقة على الرمز وتحتوى فقط على معانى ضمنية implicit.
4- يسعى إلى ابتداع خلاق لخطوات ووسائل إجرائية واضحة لقياس السلوك الذى يمثل متغيرات الخبرة الذاتية والداخلية.
5- يسعى إلى عبور هوة التباين الثنائى بين الذاتى والموضوعى من خلال دراسة العلاقات بين المتغيرات الداخلية والأخرى الخارجية.
6- وأخيرا فهو يسعى إلى صياغات نظرية متعلقة بظواهر داخلية ذاتية غير قابلة للقياس المباشر قد تحمل من الصدمة إلى علماء النفس التقليدى ما حملته نظريات الفضاء اللا إقليدي[1] لعلماء الطبيعة التقليديين.
ثانيا: فى الشخصية والطبيعة الإنسانية:
من خلال النموذج الوضعى المنطقى بنظرته الميكانيكية والتجزيئية … شاع عن الشخصية الإنسانية تصور بنيانى Structuralistic تبدو فيه كتكوين مركب من عدد هائل من السمات المنتظمة والعمليات والوظائف الجزئية .. بهذه الصورة فإن الكيان الإنسانى يمكن فهمه تماما إذا كان لدينا فحسب قائمة شاملة بأجزائه.
وبرغم الاختلاف البادى فى التصورات والديناميات التى تقدمها مدرسة التحليل النفسى للشخصية الإنسانية إلا أنها لا تبتعد كثيرا عن نفس النموذج بعليته الحتمية ومفاهيمه الميكانيكية التجزيئية. فالإنسان من منظورها كائن شبه آلي- راد للفعل تحكمه بشكل حتمى قوى طاغية تتمثل فى البيئة والهو”id” والأنا الأعلى والقوى اللاشعورية للشخصية الإنسانية تحكمها بدرجة لا يمكن معها التخلص أبدا من الاستيحاش والشهوة وكل مكونات ما يسمى بالعملية الأولية .. وفى ذلك يكون الإعلاء هو أفضل ما يمكن أن نأملة فليس ثمة تحويل أصيل للدوافع.
فى مواجهة هذه المفاهيم المسيطرة تماما على نسق الفكر فى علم النفس يحاول مفكرى علم النفس الإنسانى تقديم تصور جديد ومناقض عن الشخصية الإنسانية.
ويقوم هذا التصور بشكل أساسى على التركيز على وحدة الشخصية الإنسانية وتفردها وأنه إذا أمكننا الحديث بشكل تحليلى عن أجزاء ومكونات الشخصية .. فإن الكل الذى تمثله أكبر من مجموعة أجزائه كما انه مختلف عنها فى نوعيته فهو كل دينامى له نوعية. العملية الجارية process quality وبعيد تماما عن التصورات الساكنة ( الإستاتيكية) الشائعة فى النموذج القديم.
وعلماء النفس او المفكرين الذين تناولوا بالبحث الشخصية الإنسانية … والذين يمكن إدراجهم تحت اتجاه علم النفس الإنسانى عديدون،… وتتباين معالم نظرياتهم إلى درجة كبيرة الا أن تصوراتهم ومفاهيمهم يمكن تتبعها لتتجمع فى النهاية عند فروض أساسية محددة [2]:
1- للشخصية الإنسانية نظام ونسق يرجع إلى الوحدة المنظمة لطبيعة الشخصية… وهذا النظام مستعرض وطولى فى نفس الوقت .. فهناك وحدة عند أى لحظة يصنعها تلاقى سمات الشخصية فى تحديد عملياتها المعرفية والانفعالية وفعلها … ثم هناك وحدة على المدى الطويل من الوقت ( وهذا لا يعنى قالبا جامدا وإنما عملية جارية لها خصائصها المميزة بالنسبة للفرد الواحد).
2- الشخصية الإنسانية ليست كيانا رادا للفعل reactive … وإنما هى كيان فاعل proactive ذو أداء نشط. فالإنسان لديه عمليات وتركيبات داخلية (إحتياجات، غايات … الخ) لها تأثير مسبب على الإدراك والتفكير والإحساس والمؤثرات الخارجية ليست هى محددات النشاط الوحيدة ولا الأساسية، وإنما للخصائص الداخلية النابعة من الذات اهمية كبرى وقد تكون الأكبر فى تأثيرها المحدد للسلوك من القوى الخارجية.
وهناك تفاعل بين الأداء الفاعل للشخصية والعوامل الخارجية حيث تميل العوامل الخارجية إلى وضع حدود لاحتمالات السلوك المتاحة للفرد… بينما يسعى الفرد ايجابيا إلى تخطيها.
3- الإنسان كائن يتميز بالتعقل rationality فى سلوكه وأدائه … وهو محكوم بخصائص واعية مثل الأهداف بعيدة المدي… خطط العمل.. وفلسفة الحياة.
وهذا الفرض يناقض التطرف الفرويدى الذى يعتبر أن محددات السلوك هى فى الأساس نزعات اللاوعى غير المتعلقة وأن التعقل مجرد دفاعات لإخفائها أو إعلائها .. وهو فى رفضه للنموذج الفرويدى لا ينكر وجود العمليات غير المتعلقة وإنما يدرك وجودها جنبا إلى جنب مع العمليات المتعلقة فى الشخصية الا أنه يعتبر أن تعقل النية الواعية conscious internationality والاختيار والتخطيط أكبر فى طاقة قوته من اللا تعقل والدفعات اللاواعية … وغير القابلة للتحكم.
4- الإنسان كائن على درجة كبيرة من التفرد كنوع وكأفراد.
ويرى بعض مفكرى هذا الاتجاه الإنسانى (مثل ألبورت) أن الإنسان متفرد كنوع إلى درجة أن محاولة فهم سلوكه من خلال استعمال الحيوانات الأدنى تعتبر غير ذات قيمة إلا أن آخرين لا يذهبون إلى هذا المدى ويعتبرون أنه وغم تفرد فأنه يشترك مع الأنواع الأخرى فى خصائص معينة. نفس الشئ بالنسبة لتفرد الشخصية بين إنسان وآخر … فهناك من يصل إلى آخر المدى فى اعتبار أن القالب الناموسى nomothetic model لا يصلح وغير قابل للتطبيق … بينما يرى آخرون وبدرجات مختلفة أن بالرغم من التفرد لكل شخصية إنسانية على حدة .. فإن هناك قوانين عامة للشخصية الإنسانية.
5- للشخصية الإنسانية احتياجات needs أو ميول أو نزعات dispositions وهى قوى لايمكن تعريفها من خلال نسق الاستجابات والضغوط البيئية وإنما هى قوى ذات دور فاعل ومنظم ومحدد للسلوك والفعل ومحقق للتكامل فى الحياة وهذا التصور يتضح أكثر إذا عرفنا أن هذه الإحتياجات ليست فقط تلك التى تخدم مجرد البقاء الفسيولوجى والتى لايتميز فيها الإنسان عن الحيوان كثيرا (مثل احتياجات الطعام والماء…. والأمان … والإنتماء … الخ) والتى يسميها ماسلو بالاحتياجات الدنيا Lower needs… وإنما هناك احتياجات أعلى higher needs مثل تحقيق الذات والاحتياجات المعرفية.. وهى تعكس إمكانات بيولوجية كامنة فى الإنسان بشكل متميز ولا تخدم مجرد البقاء بقدر ما تثير الحياة بشكل يحقق النمو والتطور.
6- النمو development والتوجه المستقبلى future orientation يقرر معظم مفكرى الاتجاه الإنسانى أن الشخصية الإنسانية بشكل أساسى تكتسب بالتعلم فالطفل فى البداية يسلك ويستجيب ككل … كوحدة بدائية ثم تبدأ مختلف مكونات الشخصية فى التميز من خلال التعلم حتى تصل إلى درجة كبيرة من التعقيد وهذه العملية تتضمن بشكل حيوى وجود وعى فعال ومؤثر. وهذا التصور يحرر الطبيعة الإنسانية من سجن الغرائز والتثبيتات الأولية الذى وضعتها فيه تصورات سابقة .. ويجعل من النمو عملية مستمرة مفتوحة الإمكانيات طوال الحياة.
ويرتبط بهذا التصور مفهوم التوجية المستقبلى .. الذى يشير إلى الحركة الهادفة دائما للشخصية الإنسانية … ونزعتها نحو النمو السيكولوجى أو التميز الاعلى المتصاعد والتكامل والذى يستمر طوال الحياة , وهى نزعة أصيلة وطبيعية وأساسية لفهم الإنسان.
وفى صياغة أخرى … يمكننا القول بان الشخصية الإنسانية نظام مفتوح … متفاعل بلا توقف مع المحيط البيئ… والصيرورة محرك لهذه الشخصية لا يقل فى اهميته – إن لم يكن أهم – من المكونات فى ماضى الشخص.
وإذا كان لنا أن نستخلص من هذه المعالم تصورا عاما لرؤية علم النفس الإنسانى لطبيعة الشخصية الإنسانية فيمكننا القول بأنها فى اجمالها رؤية ايجابية تركز على الإنسان بوصفه كيان دينامى متفرد متعلق وواعى … وهادف فى حركة صاعدة وتطور مفتوح النهاية لا يتكشف سره بواسطة التحليل المختزل لوجوده … ولكن فحسب من خلال تصور العملية التى تحل محل المجموع الكلى للوظائف الجزئية، وبواسطة التتبع لمسار صيرورته بطريقة متكاملة.
فالتركيز كبير لدى مفكرى هذا الاتجاه على أهمية السعى إلى معرفة الإنسان بجملته وكليته … وهم فى هذا يذهبون إلى المطالبة بمواجهة كل المعرفه المتعلقه بالإنسان، ليس فقط كما يكشف عنها علم النفس بل كما تتضح فى نتائج العلوم الأخرى مثل البيولوجيا وعلم الأجناس وأيضا نتائج علم التاريخ والفن والفلسفة وعلى نفس القدر من الأهمية.
ثالثا: فى القيم و الغايات
الشائع والغالب وفقا للنموذج التقليدى أن العلم يتناول الحقائق وليس القيم وأن مشكلات الغائية تقع خلال نطاق البحث التجريبي… إلا أن مفكرى علم النفس الإنسانى يعترضون فى رؤيتهم الجديدة على هذه الفروض… ويقررون بأنه ليس لأى علم معنى بدون هدف وأى نشاط علمى أو تطبيق يتم لصالح غرض أو قيمة يختارها أشخاص بطريقة ذاتية.
ومن هنا يبرز تساؤل واضح: إلى ماذا يسعى علم النفس بالإنسان ؟ أو ما الذى يهدف اليه الإنسان من دراسته “لنفسه؟.
وفى الإجابة على هذا التساؤل تبرز مفاهيم مثل … الصحة النفسية .. الشخصية السوية.. الشخصية الناضجة.. الأخلاق .. النمو والتطور … الإبداع .. إلخ، وكلها تقع فى منطقة القيم والغايات[3].
ويجمع مفكرى علم النفس الإنسانى على إدانة القصور الشديد فى معالجة علم النفس لهذا المجال فعلماء النفس يركزون فى دراستهم للدوافع الإنسانية على جانب الإحتياجات بينما يلقى جانب الغايات أو الأهداف الإهمال.
ويدين ماسلو[4] هذا القصور والسلبية فى علم النفس ويرى أن هناك تناقصا بين معرفتنا عن المرض النفسى واهتمامنا غير الكافى تماما بالصحة النفسية وهو يرى أن علم النفس مطالب بأن يكون أكثر إيجابية .. بأن يكون لديه مستويات أعلى وألا يكون وجلا من الإمكانيات الأسمى للكائن الحى الإنساني، ولعل صعوبة المهمة ترجع إلى اختلاطها مع المنعطفات الفلسفية المتعددة وخاصة فى مجال نظرية القيم بالإضافة إلى مشكلات أخرى منهجية وإكلينيكية وثقاقية إلا أنه يعتقد أن سيكولوجية الصحة سوف تغير حتما من تصوراتنا الأعمق عن الطبيعة الإنسانية ” وسوف تجعلنا نكف عن عاداتنا الشائعة غالبا فى اعتبار السواء كحالة خاصة من اللاسوية وتعلمنا بدلا من ذلك أن اللاسوية حالة خاصة من السوية .. وأن المرض النفسى مكابدة حيال الصحة”. وفى مجال الحديث عن القيم والغايات التى يمكن ان تسعى اليها الشخصية الإنسانية لابد وأن تثور تساؤلات عن نوعية مثل هذه القيم وعلى رأسها القيمة الشاملة يمكن التعبير عنها بالشخصية السوية أو الناضجة.
وفى هذا المجال تتعدد المفاهيم والآراء إلى حد بعيد. فهناك توصيف لمثل هذه الشخصية فى إطار مفاهيم مثل المطابقة أو المسايرة conformity والتوافق والسلوك الإتفاقيconventional behavior والتكيف … الخ ويرفض مفكروا علم النفس الإنسانى عموما الطابع السلبى للأهداف التى يسندها علم النفس بشكل شائع وغالب للشخصية الإنسانية مثل العمليات الدفاعية … واستعادة الإتزان الحيوى homeostasis وحماية الذات والسلام … والامان … مما يصور الحياة بوصفها عملية تجنب للألم ومحاربة للتعاسة . ويقرر فرانكل[5] بجلاء أن هدف الإنسان حقيقة ليس هو استعادة الاتزان الحيويhomeostasis وخفض التوتر .. وإنما مايسميه الديناميات الراقية noddynaamicsأى ذلك النوع من التوتر الملائم optimum الذى يحتفظ بالفرد موجها بثبات نحو تحقيق قيم محددة .. نحو إقرار معنى لوجوده الشخصي.
وهدا أيضا ما يضمن ويحفظ صحته النفسية , والهروب من أى موقف ضاغط سوف يؤدى إلى وقوعه فى الفراغ الوجودى existential vacum وبنفس التوجيه الإيجابى يرى ماسلو[6]أن الإنسان ينزع إلى أن ينمو بدرجة أقوى وعلى نحو أكثر حكمة وصحة وإلى أن يحقق إمكاناته , وإلى أن يكون منطلقا ومنقبا .. وإلى أن يتعجب ويتفلسف… وإلى أن يكون مبدعا , وهو لا يتكيف فحسب , ولكن يتمرد أيضا.
ويصل ماسلو فى تصوره لنوعية الوجود الذى يمكن أن يصل اليه الإنسان إلى مستويات متسامية يعبر عنها بالخيرات النهائيةend experiences فالإنسان يصل إلى أسمى مستويات الحياة فى لحظات الخلق والابداع والبصيرة والابتهاج وخبرة الحب بين الجنسين والخبرة الجمالية … والخبرة الصوفية أو خبرة القمة peak experience
ويختار روجرز[7] فى تصوره لطبيعة الشخصية فى شكلها السوى مجموعةمن القيم تركز على عناصر لها نوعية العملية الجارية process quality أكثر منها خصائص ثابتة:
1- فالإنسان فى هذا التصور عملية صيرورة… من خلال نمو إمكاناته.
2-وهو عملية تحقيق للذات .. متحركة نحو خبرات أكثر تحديا وإثراءا .
3- وهو يدخل فى عملية توافق بطريقة خلاقة مع عالم جديد ومتغير باستمرار.
4- كما يدخل فى عملية ترقية للمعرفة ذاتها.
وإذا كنا نستخلص من رؤية مفكرى علم النفس الإنسانى القيمة الشاملة التى يصب فيها سعى الإنسان الهادف والدائب .. فهى فى تصورى التطور المفتوح النهاية للخبرة الإنسانية نحو آفاق غير محدودة وغير قابلة للتحديد.
رابعا: العلاج النفسى الإنسانى
ينبع التطبيق الحى لمبادئ علم النفس الإنسانى فى العلاج النفسى بشكل طبيعى ومنطقى من الرؤية السابق عرضها لطبيعة الإنسان بوصفه كائن حى متفرد ذو احتياجات متصاعدة يتميز بالتعقل والوعى المسئول ونزعة أصيلة للنمو والسعى الهادف نحو قيم وغايات ثم إمكانات للتطور بلا حدود وممارسة العلاج النفسى وفقا للفروض الجديدة لعلم النفس الإنسانى لا تخدم فقط تخليص المرضى من معاناتهم من خلال طريقة لها أصالتها وحيويتها وإنما هى مجال خصب للدراسة والبحث من أجل تأكيد وتعميق وتنمية هذه الفروض بنفس الطريقة التى ساهمت بها فى اكتشافها وصياغتها منذ البداية.
وتتبدى ملامح العلاج النفسى الإنسانى فى كتابات عدد من مفكرى هذا الإتجاه مثل روجرز وماسلو وماى وفروم وغيرهم .وبالرغم من الإختلافات والتنويعات الواسعة فى نظرياتهم العلاجية إلا أن تصوراتهم تسير فى خطوط عامة[8]: ـ
1- يتمثل الهدف الأول من العلاج فى مساعدة الفرد على أن يصير أفضل صيغة ممكنة لذاتة the dest possible version of himself ككائن حى إنسانى فالاهتمام الأساسى إذن هو بالفردية المتزايدة، بأن يكون الفرد ذاته.. أو كما يعبر ماسلو “تحقيق الذات.
والإطار المرجعى بذلك ليس معياريا normative ولا إحصائيا لأن الإنسان المتوسط لايبدو فى حالة يمكن الإشادة بها من الرضا أو التكامل أو الإنتاجية كما أنه ليس فى سلام مع نفسه، وإنما تتحدد الأهداف بما ينبغى أن يصير عليه إنسان معين فى ظل أمثل الظروف بالنسبة له.
2- تنطوى الآراء المتعلقة بهذا العلاج النفسى على قيم مثالية:
– فالإنسان ينبغى أن يكون حرا فى تنظيم وضبط سلوكة الذاتي.
- وينبغى أن يكون فى سلام مع نفسه ومع الآخرين بقدر الإمكان.
- كما ينبغى أن يسعد بحياته … وسروره ورضاه أفضل من المعاناة.
كما أن تفرد الإنسان وفرديته وتلقائيتة أفضل من التقنين standardisation والآلية الإنسانية mechanisation.
3- هذا النوع من العلاج موجه بالطريقة الظاهراتية ( الفينومينولوجية) إذ يقوم على تقبل الخبرة المباشرة للمريض كبيانات أساسية (وبنظرة عابرة فقط على تطابقها مع الأحداث الخارجية).ويعتبر الخبرة ذاتها حقيقة على أساس مالها من آثار على السلوك (اتفقت أو لم تتفق مع الواقع الخارجي).
4- وهو يعطى قيمة للمقدرة على الخبرة capacity for experience وبحاول زيادة تحمل الشخص للخبرة.
5- تعتبر الحرية والمسؤلية افتراضات أساسية فى العلاج الإنساني، وتبنى الموقف المعاكس القائم على الحتمية ليس خطأ فحسب وإنما يحمل العديد من المخاطر، منها أن البحث عن الأسباب والمحددات العاملة فى ماضى المريض قد يفسد خبرة انفعالية دينامية فى الحاضر ويحولها إلى تأمل ذهنى سلبى للماضي، كما قد تؤدى المبالغة فى تأكيد الأسباب إلى انتهاك قدرات المريض على تنظيم وضبط سلوكه الذاتى فى الحاضر.
والحتمية لها أهميتها فى العلم كافتراض يفسر الكثير ويوفر إمكانية التنبؤ ومن ثم الضبط , إلا أن اهداف العلاج خلافا للأهداف العلمية لا تتمثل فى أمكانية التنبؤ ولا فى الضبط … بل على العكس .. بقدر ما يكون العلاج النفسى أكثر نجاحا … يكون أقل تنبؤا بما يصير عليه الفرد .. لأن جموده يتضاءل بينما تتزايد تلقائيته وإبداعه.
6- يرتبط بالنقطة السابقة أهمية الإقلال من تأكيد التشبيهات الطبية مثل اختزال الأعراض … أو الشفاء أو التوافق … الخ، والنموذج الطبى الذى تؤكده هذه المفاهيم قد يلقى قبولا من المرضى حيث يستخدم كمقاومة لتحمل المسئولية فى حياتهم الذاتية، بينما الشرط الأساسى اللازم للعملية العلاجية النفسية هو اشتراك المريض بمسئولية فى عملية التغيير.
7- وامتدادا لنفس السياق فإن العلاج النفسى الإنسانى يركز على تنمية المسئولية الشخصية ” كخبرة ذاتية أو حالة من الوعى يعتبر فيها الفرد نفسه مسئولا عن أفعاله.
وهى تعنى أن الفرد فى الماضى شعر بنفسه حرا فى أن يفعل ما يعتبر نفسه الآن مسئولا عنه… أى أنها مرتبطة ” بخبرة الاختيار الحر ارتباطا وثيقا، … فبدون شعور قبلى بالحرية فى الاختيار بين البدائل لايرى الفرد نفسه مسئولا.
وعلى نفس المنوال فإن خبرة الاختيار الحر تتوقف على ” خبرة الفرد بذاتة أو إحساسه بالذات أى أن خبرة الاختيار تتطلب إحساسا بالذات … ولكن فى نفس الوقت فإن ممارسة الإختيار هى تأييد للذاتية والتفردية.
فالخبرات الثلاث إذن مترابطة بشكل حيوى يجعل منها وحدة واحدة لاغنى عنها فى هذا النوع من العلاج.
والتصور العام للعلاج النفسى الذى تمثله الخطوط السابقة تصور حب يتعدى المفهوم المحدود والشائع عن محو الأعراض وشفاء المرض، ويمكن التعبير عنه بصورة أصدق بوصفـه طريقة فنية (تكنيك) لدفع النمو العام وتشجيع تحقيق الذات .. وذلك يعنى كما يرى ماسلو[9] – أن الكثير من الطرق الفنية الأخرى التى لا تنضوى الآن تحت العلاج النفسى سوف يتبين أنها تنتمى إليه. فمعنى العلاج يتسع بذلك ليتضمن كل طرق النمو والإنماء… وخاصة الطرق التربوية … وبصفة أخص التربية الابتكارية فى الفن واللعب وفى كل أشكال التعبير التى تشجع الابتكارية والتلقائية والإقدام … والتكامل.
الخلاصة:
قد يكون من المفيد فى النهاية أن نحاول تجميع الملامح الرئيسية التى فصلها العرض السابق فى نوع من الرؤية المركزة عن التيار أو الرؤية أو القوة الثالثة ( بعد السلوكية والتحليل النفسي) التى ظهرت فى مجال علم النفس تحت أسم علم النفس الإنساني.
يحاول هذا العلم الجديد أن يقدم نسقا جديدا من المفاهيم .. تهدف إلى إحداث تغييرات أساسية فى التناول العلمى للإنسان … وفتح آفاق واسعة أمام محاولات تنمية معرفتنا عنه… والسعى إلى الارتقاء بوجوده.
فهو يقدم نظرة معرفية جديدة فى مجال دراسة الإنسان تتجاوز النموذج الوضعى المنطقى التقليدى بعمليته الحتمية ونظريتة التجزيئية والكمية وتصوراته المكانيكية ورؤيته الجامدة للموضوعية، ويحاول أن يعطى أهمية أساسية للخبرة الإنسانية الذاتية أو الظاهراتية (الفينومنولوجية) بوصفها- فى نهاية الأمر – أساس كل أنواع المعرفة الإنسانية الممكنة، والوسيلة التى يمكن من خلالها وضع فروض ذاتية وحدسية وملاحظة عالم المعانى الداخلية ( الظاهراتي) وتكوين مفاهيم لها نوعية العملية الجارية process quality ثم صياغة خطوات ووسائل إجرائية واضحة لقياس السلوك الذى يمثل متغيرات الخبرة الذاتية الداخلية.
وفى ضوء النظرية المعرفية السابقة يحاول علم النفس الإنسانى أن يقدم تصورا جديدا لطبيعة الشخصية الإنسانية بوصفها كيان دينامى فاعل proactive وليس سببا رادا للفعل أو مستجيبا، رؤيتة غير ممكنة بالتحليل المختزل والتجزيئ وإنما ككل له نوعية العملية الجارية . كيان متفرد فى خصائصه ليس فقط عن غيره من الكائنات الحية بل ومن فرد إلى فرد داخل نوعه… كيان يتميز بالتعقل والنية الواعية والقدرة على الاختيار والتخطيط .. والسعى الهادف فى حركة صاعدة وتطور مفتوح النهاية.
وتكتمل الصورة التى يقدمها هذا العلم بنظرته الغائية التى تأخذ فى الاعتبار أهمية القيم والغايات فى تكوين الإنسان ومسار حياته، ونوع التصور الذى يمكن ان تقوم عليه شخصيتة السوية.. الناضجه . وهى قيم لها طابع ايجابى لاتهدف إلى مجرد البقاء وحفظ الاتزان الحيوى homeostasi وتتجنب الالم والمعاناة وإنما تتمثل فى السعى المتواصل من أجل نمو الخبرة الإنسانية إلى مستويات أرقى ومتسامية.
وتنعكس المفاهيم والقيم السابقة كتطبيق حى فى ممارسات العلاج النفسيى الإنسانى التى تقوم على أساس ظاهراتى ( فينومينولوجى ) يعطى أهمية أساسية للخبرة الإنسانية المباشرة…. ويسعى إلى تعميقها فى اتجاهات المسئولية والإختيار الحر والإحساس بالذات … ثم المسيرة بها فى طريق تطور ونمو يهدف إلى مساعدة الفرد على أن يصير أفضل صيغة ممكنة لذاتة … وهو هدف مفتوح النهاية وغير محدود.
بعــد
لقد كان العرض السابق محاولة لتقديم تصور عن الملامح الرئسية لعلم النفس الإنسانى ولعله ينجح بدرجة معقولة فى تحقيق هذا الهدف، إلا أننى أعتقد أن الصورة المقصود نقلها لن تكتمل فى تجسيدها لأبعاد هذا الموضوع- شمولا ووضوحا- إلا بعد تقديم عرض أكثر تفصيلا لإسهامات عدد من رواد هذا الإتجاه، وهو ما سنحاول تحقيقه فى مرات قادمة.
المراجع العربية
1- سفرين ف . ت. (1965) “وجهات نظر إنسانية فى علم النفس” ترجمة: د. طلعت منصور، د. عادل عز الدين، د. فيولا الببلاوى ( تحت عنوان: علم النفس الإنساني) القاهرة 1978- مكتبة الأنجلو المصرية.
2- بوجينتال ج. ف. (1963) علم النفس الإنساني: مدخل جديد” ( المرجع الأول ص 20- 33).
3- روجرز ك. ر. (1955) ” أشخاص أم علم: تساؤل فلسفي” (المرجع الأول: ص 225 – 234)
4 ـ (1965) “مكانة الشخص فى علم جديد للعلوم والسلوكية” ( المرجع الأول: ص 515- 542)
5- ماسلوا. (1957) “فلسفة علم النفس: الحاجة إلى علم ناضج عن النفس الإنسانية” (المرجع الأول: ص34- 56)
6- البورت ج.و. (1961) “النمط والنمو فى علم النفس” ( المرجع الأول: ص57 – 77)
7- تيمرلين م. ك. (1963) ” عن الإختيار والمسئولية فى علم النفس الإنساني” (المرجع الأول: ص106- 132)
8- هيزنبرج ف. (1958) ” الفيزياء والفلسفة: دور علم الفيزياء الحديث فى النمو المراهق للفكر الإنساني” ( المرجع الأول: ص280- 287).
9- اوبنهيمر ر. (1956) “المطابقة فى العلمى !” (المرجع الأول ص288- 291).
المراجع الانجليزية
- Sutich, A.J.&vich, M.A. (1969) Readings in Humanistic psychology. New York: The free press.
- Rogers,C. R.:(1969) Toward a science of the person. In sutich,A.J. and vicch,M.A (eds.) Ueadings in Humanistic Psychology.
- Maddi, S.R. & costa, P. T. (1972) Humanism in Personlology: Allport, Masliw and Murray. Chicago, New York: Aldine, Atherton, Ine.
- Frankl,N. E. (1969) self transcendence as a human phenomenon. In sutich, A.J. and vich,M.A.(eds.) Readings in Humanistic psychology.
1- فرين (1965) – أنظر المراجع
1 هييتزنبرج (1958) – انظر المراجع
1 أوبنهيمر (1956) – انظر المراجع
1 1- بوجينتال (1965) أنظر المراجع
1 ماسلو (1957) – انظر المراجع
1 انظر المراجع –Rogers (1963)
[1] يشير هذا إلى المفاهيم الجديدة للطبيعة الحديثة التى تجاوزت المفاهيم المحدودة للهندسة الإقليدية ذات الثلاثة أبعاد[2] انظر المراجع – Maddi & Coata (1972)[3] – الارتباط بين ما هو قيمة وما هو هدف أو غاية ارتباط عضوى لا ينفصم.. فالإنسان يختار قيما: ويسعى إليها كأهداف، والمسئولية تتناول علاقة سلوك الشخص بقيمه التى اختارها كغايات.
[4] – ماسلو (1957) – انظر المراجع.[5] – انظر المراجع – frankl (1966)[6] – ماسلو (1957) – انظر المراجع[7] – روجرز (1965) – انظر المراجع[8] – بتمرلين (1963) – انظر المراجع[9] – ماسةو (1957) – انظر المراجع