إعداد: جون ليو
ترجمة: د. عماد حمدى غز
الموجز
يبحث الكاتب فى دقة واقتدار مختلف الجوانب للأزمة التى يعيشها الطب النفسى فى الحقبة الحالية. ويبدأ بتشخيص المرض (حالة الطب النفسي) على أنه قلق تصارعى مضاعف بالاكتئاب ناتج عن أزمة هوية، ثم يبدأ فى وصف الأعراض من حيث أن عدد الأطباء الخريجين الراغبين فى الاتجاه الى الطب النفسى يتناقص، مع هبوط آمال العامة العريضة فى أن يوفر الطب النفسى حلا شاملا لمشاكلهم، بالإضافة الى تكاثر قضايا التعويض ضد الأطباء النفسيين وعدم اتفاق الاطباء النفسيين أنفسهم على الخط الفاصل ما بين المرض والسواء، أو فى تعريف بعض الأمراض مثل الفصام، ثم يروى الكاتب قصة ازدهار التحليل النفسى بزعامة فرويد، وبدايات انحسار موجته فى الفترة الأخيرة نتيجة لعدم ثبوت نتائجه أو تفوقها، ونتيجة لارتفاع تكاليفه وطول مدته – ثم يعرض لمشكلة مستشفيات الأمراض العقلية المكتظة بعدد كبير من المرضى قليلى الرجاء فى الشفاء وحيث يقوم على خدمتهم عدد قليل من الأطباء قليلى الخبرة والحماس.
ثم يعرض الكاتب الى موقف الاطباء النفسيين من المهمة الثقيلة الملقاة على عاتقهم، والاتجاه المتزايد فيما بينهم للعودة الى جذورهم الطبية بدلا من اغتراب العلاجات المعاصرة مما أدى الى الزيادة المطردة فى استعمال العقاقير النفسية والتى تبشر بالخير فى بعض الأحيان وتهدد بتحويل الانسان إلى آله صماء فى آحيان أخري.
ويلخص الكاتب فى النهاية إلى أن حل المشكلة يكمن أكثر وأكثر فى الاتجاه الجديد لدراسة كيفية عمل المخ من خلال الكيمياء الحيوية والمثال على ذلك التقدم الذى يحدث فى فهم منظمات التوصيل العصبية، ويأمل أن كل ذلك قد يوفر الفرصة الكافية للطب النفسى لكى يثبت أقدامه ويخرج من حالة الاكتئاب التى انتابته فى الفترة الأخيرة.
****
اسم المريض: الطب النفسي.
السن: منتصف العمر
التاريخ: ولد فى أوروبا، وبعد شباب مريض بالولايات المتحدة سافر إلى فيينا وعاد بصفته الإبن المعجزة للدكتور فرويد. حصل على نجاح اجتماعى باهر لواحد فى مثل سنه الصغير، وأثر تأثيرا قويا على شركاء تأكبر سنا مثل: التعليم، والإدارة، وتربية الطفل والفن ، بالإضافة إلى قلة من الأصدقاء الخارجين مثل: علم الإعلان وعلم الجريمة.
الشكوى: يتكلم عن كثرة العمل، وفقدان الثقة بالنفس وعدم القدرة على الوصول إلى نتائج مثبته، يسمع أصواتا متصارعة من داخله، ويصر على أن الأصدقاء القدامى يضحكون منه خلف ظهره . . يوافق المريض على قول نورمان ميلر من الصعب أن تصل إلى القمة فى أمريكا، ولكن الأصعب أن تبقى هناك.
التشخيص: قلق تصارعى كلاسيكى (تقليدي) مع آلام النضوج، ضاعفها اكتئاب حاد، هى أزمة هوية مصحوبة بضلالات تعويضية بالعظمة وقدرة متناقضة على المواءمة. المريض غير متقبل للتحالف العلاجى ويظهر مباديء للاعتماد الزائد على العقاقير.
العلاج المقترح: يحتاج إلى دراسة أكثر
مستقبل المرض: معضل . (يشكل مشكلة)
كل يوم يمر وملايين الأمريكيين يتحدثون، أو يصرخون، أو يواجهون، أو يقفزون أو يرسمون ، أو يرقصون، أو يخلعون ملابسهم أو يدغدغون أجسامهم وهم يشقون طريقم سعيا للكفاية العاطفية، وهم فى ذلك يكونون عينات ضمن واحد أو أكثر من نحو مائتى نوع للعلاج، وعدد لايحصى من العلاجات الزائفة التى تساق حاليا فى الولايات بصفتها الدواء الشافى للتعاسة، أو القلق أو ما هو أسوأ ففى طرف من هذا المدى العلاجى نجد تلك التمرينات الوافرة فى مساعدة النفس مثل التأمل المتعالى (التجاوزي) والتغذية البيولوجية الإسترجاعية، وفى الطرف الآخر نجد التنقيب المنظم فى العقل مثل حركة إيست وفى وسط هذه الخطوات الصاخبة بحثا عن الرضا نجد جسد التخصص الطبى الممزق والذى كان يتمتع مرة باحتكار علاج وشفاء كل أمراض العقل. إلا أن الواضح الآن أن الطب النفسى لم يعد يتمتع بتلك الميزة، وهو أحد الأسباب التى تجعله الآن ممددا فوق أريكة العلاج.
إن أعراض مرض الطب النفسى واضحة للعيان، فالولايات المتحدة يوجد بها حوالى 27.000 طبيب نفسى ممارس بالمقارنة بـ 5700 طبيب نفسى فى عام عام 1950، إلا أن الإزدهار قد غاب الآن عن وردة العلاج الباسقة. فاليوم يتحول ما بين 4 إلى 5 فقط من خريجى كليات الطب إلى تخصص الطب النفسى بالمقارنة بنسبة 12% عام 1970 حتى أن أحد الأطباء يقول فى ذلك إن الطب النفسى بعيد الآن عن مجال الإثارة والجذب .
وفى الحقيقة، فإن الطب النفسى يبدو فى مواقف الدفاع على كل الجبهات، فقد بدأت بعض المجموعات الخاصة والتى تحمل أسماءاً مثل التحالف من أجل المرضى النفسيين تمطر المهنة وممارسيها ومستشفياتها بنفس ينوع قضايا أخطاء المهنة التى تنتشر مثل الوباء فى باقى مجالات الطب. ويبدو أن الكثير من الأطباء النفسيين يريد أن يترك علاج العصابى العادى (وهو ذلك الإنسان القلق والقادر على الإستمرار فى نفس الوقت) إلى الاخصائيين النفسيين أو المعالجين الهواه، فالبرغم من كل شيء، يبدو أنه لايوجد هناك ما يدعو بعد الحصول بشق الأنفس على شهادة الطب ( وهو مالا يحتاجه الأخصائى النفسي) لأن يجلس الطبيب لكى يثرثر بتعاطف ويقول للمريض ما مفاده أنك تقسو على نفسك ولكن إذا كان الطب النفسى نوع من العلاج الطبى لماذا لايستطيع ممارسوه أن يزودونا بنتائج يمكن قياسها ومقارنتها، نتائج تشبه تلك التى يمكن الحصول عليها من الأطباء الآخرين.
ويقر الأطباء النفسيون بأنفسهم أن منتهم كثيرا ما تأخذ من الكيمياء الحديثة ما هو مليء بالجعجعة، والتشوش، والألغاز، بالإضافة إلى القليل من المعلومات الحقيقية الثمينة.
وقضية باتريشيا هيرست مثال نمطى للحرج، فإن مجموعة من الأطباء النفسيين البارزين أوضحت بثقة أن هيرست كانت مريضة بينما أصرت مجموعة أخرى على أنها لم تكن كذلك .
ويبدو من جانب آخر أن الطب النفسى بالنسبة لأولئك الراديكاليين، والمطالبين بمساواة المرأة بالرجل، وممارسى الجنسية المثلية، ما هو إلا عميل نذل آخر للأوضاع الراهنة. فمنذ أكثر من قرن من الزمان أوضح طبيب نفسى مرح أن العبيد الذين كانوا يحاولون الهرب من أسيادهم يعانون من جنون الهرب أو مرض الهرب بعيدا كيف يتأتى إذن للعامة أن يعرفوا على وجه التحديد ما إذا كان طب نفس القرن العشرين لازال يعيد فكرة أو أشباه فكرة جنون الهرب ولكن فى صور أكثر تعقيدا.
وكما هى العادة فإن الأطباء النفسيين هم أقسى من ينقدون أنفسهم فيصر توماس زاس ، وقد ظل طويلا أكثر أولئك المفوهين إزعاجا لزملاء مهنته، يصر على أنه لايوجد شيء ما يمكن أن يسمى المرض النفسي، ولكن توجد فقط مشاكل طبيعية فى ممارسة الحياة، وأما أ. فوللر توراى ، وهو أيضا طبيب نفسى من أعضاء حركة مناهضة الطب النفسى فهو مستعد للإقرار بأنه توجد بعض أمراض المخ القليلة مثل الفصام، ولكنه يقول أنه يمكن علاجها بحفنة من الأدوية التى يمكن إعطاؤ ها بواسطة الممارس العام أو الطبيب الباطنى، وهو يكتب إن الطبيب النفسى أصبح زائدا عن الحاجة، فقد ترك واقفا بحقيبة خاوية بين أولئك الناس الذين يعانون من مشاكل فى الحياة وأولئك الذين يعانون من مرض فى المخ. وعلى النقيض يثق الشاعر والطبيب النفسى الاسكتلندى ر.د. لانج فى أن الفصام خبرة حقيقية وأنه مفيد بالنسبة للإنسان ويشرح لانج إنه نوع من الصفاء مشابه لخبرة تعاطى العقاقير المهلوسة، وهو أرقى بكثير من الخبرة العادية.
وحتى أولئك الممارسين الذين يسيرون طبقا للنهة العام ليسوا متأكدين من أن الطب يمكنه الفصل ما بين العاقل والمجنون، ففى تجربة معينة وضع د.ل روزينهان من ستانفورد ثمانية متطوعين عقلاء، أحدهم طبيب نفسى مبعثرين فى عنابر الطب النفسى الخاصة والعامة عبر البلاد وطلب منهم أن يتصرفوا طبيعيا، واكتشف كثير من زملائهم المرضى بسرعة أن المتخفيين الثمانية كانوا عقلاء لأن أولئك المرضى المدعين ظلوا يكتبون الملاحظات . إلا أن الأطباء أعضاء هيئة العلاج لم يكتشفوا ذلك أبدا. ويقول روزينهان إن أى عملية تشخيصية يمكن أن تتضمن بهذه السهولة أخطاء هائلة من هذا النوع لايمكن أن يعتمد عليها.
وكما هو واضح تماما فإن الطب النفسي، وخصوصا التحليل النفسي، يعانى حاليا حالة شديدة من حالات شجن منتصف العمر. ومهما كان ما حققته الحركة الفرويدية، فإنها أثارت الامال بعنف، وأعدت المسرح لتلك المبالغات النرجسية فى ذاتية الحقب الحالي، ونشرت فكرة أن علم العقل كان على شفا الإطاحة بكل أمراض العقل بعيدا. إن الطب النفسى قد أطرى بصورة مفرطة هكذا يقول الطبيب النفسى والمؤلف روبرت كولز ثم جاء وقت ضياع الإنبهار، ليس فقط من المرضي، ولكن بالطبع أيضا من المحترفين ويضيف روبرت مايكلز رئيس عياة ومستشفى باين ويتنى بمركز كورنيل الطبى إن الحماس العام للطب النفسى منذ عشرين سنة ماضية كان مبنيا على تفسير ماجن للطب النفسى إن نظرية فرويد المعقدة فى العقل، والتى تخطف الأبصار، وهى أيضا أحد الإنتصارات العقلية العظيمة فى كل العصور، جاءت فى الوقت الذى كان فيه الطب النفسى الأمريكى لا يفعل أكثر من تخزين المجنون وإجراء عملية عش الوقواق الجراحية البدائية لقطع أحد فصوص المخ أحيانا. ورغم أن معظم مفكرى أوروبا ظلوا غير متأثرين بفرويد. فإن جيلا من أتباع المعلم معظمهم من اليهود، هربوا من هتلر وحكم النازي، ونشروا الإيمان على مدى واسع فى الولايات المتحدة وجذب هذا الإيمان بالتحليل أولئك الموسرين، الذين يمكنهم تحمل نفقات العلاج وغوى الطبقة المثقفة التى سحرت برمزية ودهاء تلك الرحلات الموضة إلى اللاشعور.
وخلال الأربعينات والخمسينات علت أسهم التحليل النفسي، مولدة تفاؤلا حول قدراته ، فاق تفاؤل نفسه بكثير، وأما المعلم فكان يعتقد بطبيعة الحال أنه قد توصل إلى اختراق أكيد ولكنه اختراق مصيره إلى التعديل بواسطة اكتشافات أخرى بعضها بيولوجى والبعض الآخر كيميائي. وقد قال فرويد أن التحليل النفسى لا يمكنه أن يصنع إلا القليل لذوى المرض الخطير مثل الفصاميين والذهانيين الاخرين، وحتى الكثير من العصابين يجب ألا يتوقعوا إلا القليل أكثر من تحويل التعاسة الهستيرية إلى عدم الرضا المعتاد الشائع وحتى هذا قد لايمكن الوصول إليه إذا كان المريض متقدما فى العمر، وموغلا فى حالته .
ويشير المحللون النفسيون الفرويديون على وجه الخصوص والذين يكونون 10% فقط من الأطباء النفسيين فى الولايات المتحدة، إلى عدم الرضا المشترك عن الإنكماش الذى تلى فرويد، ذلك أن العلاج الحديث الفرويدى مصمم خصيصا لأولئك الذين لا يعانون من أمراض شديدة، وهى بالضبط نفس الفئة التى تحولت فى اتجاه العلاجات الشائعة السريعة .
وقد وجدت الجمعية الأمريكية للتحليل النفسى فى مسح أجرى عام 1976 أن متوسط عدد المرضى تحت العلاج لدى المحلل الواحد هو 4.7 بالمقارنة بـ 6.2 فى الحقبة السابقة. كما قلت أيضا عدد الطلبات المقدمة لمؤسسات التدريب الفرويدى ، وحينما تقدم المحلل النفسى هيربرت هندين مدير مركز الدراسات النفسية الاجتماعية فى مرنتروز بنيويورك منذ جيل مضى إلى عيادة كولومبيا للتحليل النفسى الذائعة الصيت بهدف التدريب والبحث كان من ضمن 120 طالبا يتنافسون من أجل 9 أماكن ، أما الآن فهو يقول بأنهم يكونون محظوظين لو حصلوا على اثنى عشر متقدم لشغل نفس العدد تقريبا من الأماكن .
وفى التحليل النفسى الفرويدى الكلاسيكى يقابل المريض المحلل لمدة ساعة ما بين ثلاث إلى خمس مرات فى الأسبوع لكى يستلقى على الأريكة المشهورة التى لا يمكن الفكاك منها، وسواء تحدث المريض عن المشاكل أو مخاوف أو ترك نفسه للتداعى الطليق، أى مرددا لأى أفكار تأتى إلى العقل ، فإن النظرية هى أن مصاعبة اللاشعورية سوف تشق طريقها تدريجيا إلى فكرة الشعوري، أما المحلل فهو بصفة عامة سلبى وصامت، لا يقدم نصائح ويتحدث فقد لكى يحث المريض لكى يكشف الأجزاء الثمينة من الدهاليز الداخلية للعقل.
والمفتاح إلى الشفاء الفرويدى هو الطرح حيث تستبدل شخصية أساسية فى خلفية المريض، عادة ما تكون أحد الوالدين، بشخص المعالج – وبمرور الوقت تعود خبرة العواطف المعاقة ويحرر المريض نفسه من الماضى .
ويبدو أنه بعد مرور أربعين عاما على وفاة فرويد فإن كفاءة طريقته فى العلاج مازالت محل خلاف، حتى بين الأطباء والأخصائيين النفسيين، الذين يقبلون فى نفس الوقت نظرياته واكتشافاته بصورة عامة.
وكمثال فإن عينة من مناقشات هيئة للعلماء مقرر لها أن تجرى فى مدينة نيويورك الشهر القادم سوف تتركز على: نتاج العلاج النفسى: فائدة، أم ضرر أم لاتغير ؟، ويذكر المحللون عادة عادة الثلث المعروفة: فمن بين كل المرضى يشفى الثلث فى النهاية، ويحصل الثالث الثانى على درجة مأمن العون، أما الثلث الأخيرة فلا يمكن مساعدته على الإطلاق .
والمشكلة هى أن معظم العلاجات ومن ضمنها بعض العلاجات البدائية، تدعى لنفسها القدرة على إحداث بعض التحسن فى ثلثى مرضاها. ويعترض الناقدون بأن الكثير من المرضى يذهبون للتحليل بعد خبرة مؤلمة، مثل الطلاق أو موت الحبيب وبالتالى متجهون إلى التحسن لا محالة حينما يزول أثر الصدمة.
وقد بينت إحدى الدراسات أن تحسنا يظهر فى أولئك الذين ظلوا فى كشوف الانتظار للتحليل النفسي، وقد يرجع ذلك إلى مجرد اتخاذ القرار البسيط بالاتجاه للعلاج.
ومنذ بدايته ابتلى التحليل النفسى بتفرده الطبقى فمعظم مرضاه من الطبقة الوسطى أو العليا، وحتى فى يومنا هذا فإن 2% فقط من مرضاه من غير البيض. ويقول المحللون أن العلاج يكون أكثر ما يكون مؤثرا لصغير السن، المتكيف بكفاءة ذو القدرة اللفظية ، الذكى والناجح ، ويستحسن أيضا أن يكون المرء غنيا. وتكلف ساعة التحليل النفسى ( والحقيقة أنها حاليا ما بين 45 إلى 50 دقيقة) ما بين عشرين ومائة دولار بمتوسط خمسين دولارا أو 12.000 دولارا فى السنة للخمس جلسات الأسبوعية من العلاج التى أوصى بها فرويد. ومن منطق قبول الواقع الاقتصادي، فإن معظم المحللين الأمريكيين يرون مرضاهم مرة أو مرتين فى الأسبوع فقط والبعض بدأ يؤكد على علاج أكثر تحديدا وقصير المدى لتقليل النفقات أكثر، ومن ضمن هؤلاء نجد الفرويدى جود مارمور، وهو رئيس سابق للجمعية الأمريكية للطب النفسي، يوصى بعلاج قاصر على 20 إلى 30 جلسة حيث يترك المحللون دورهم السلبى لكى يواجهوا المرضى أكثر ويعجلون من الشفاء. ويشير مارمو إلى أن فرويد كان يشكو من أن بعض خبرات التحليل تبدو وكأنها لن تنتهي، وتجعل المريض معتمدا عاطفيا على المحلل، ويقول إن الكاديلاك قد تكون سيارة رائعة فى قيادتها، ولكنه من غير الاقتصاد أن تقول أننا مكرسون لشراء الكاديلاك لكل شخص فى مجتمعنا.
ويقرر شرفرت فريزير (وهو أستاذ فى كلية طب هارفارد ورئيس الأطباء النفسيين فى مستشفى ماكليان فى بلمونت بماساتشوستس) أنه لايوجد مرضى تحت التحليل بمستشفاه ، وفريزير نفسه، وهو حامل لبطاقة التحليل النفسى يرى مرضاه لفترة تطول أو تقصر حسبما يراه مناسبا، البعض لفترة قد تنقص إلى 15 دقيقة والبعض الآخر لفترة قد تطول إلى ساعتين ونصف ، وقد تمضى شهور بين الزيارات ولكنه يقول حينما نتقابل فإن هؤلاء الناس يبدأون العمل (يقصد العلاج الجاد ) إن هذا النوع من التخفيف للعقيدة الفرويدية هو فعلا متقدم ومنتشر ويعتقد بعض الناقدين أن التحليل النفسى الكلاسيكى سوف يندثر قريبا وفى دراسة 1976 التى أجرتها الجمعية الأمريكية للتحليل النفسى ظهر أن 70% من مرضى التحليل النفسى كانوا يتلقون فى وقت التحليل نوعا أو آخر من أنواع العلاج الأخرى وحيث أنه لايوجد اتفاق حول ما يمكن أن يفيد، فإن الفرويديين بالإضافة إلى الفرويديين الجدد، والأخصائيين النفسيين، والمستشارين ، والمعالجين غير المتخصصين كلهم اتجهوا بصورة متزايدة إلى الإتجاه الانتقائى مقترضين أجزاء أو قطعا من أساليب بعضهم البعض . وحتى فى المستشفيات التى مازالت تتسيدها نظريات فرويد، فإن الأطباء المقيمين يحصلون على تدريب أكثر بكثير فى الأمراض العصبية والكيمياء الحيوية، والتنويم وتعديل السلوك من تلك الحقائق التقليدية مثل تفسير الأحلام .
هذا الخليط العلمى قد يدل على خبرة خلاقة كبيرة أو مجرد خلط مضطرب، أى نوع نوع من المراهنات القابلة للتراجع بشأن ما سوف يكون عليه العلاج الساخن فى الثمانينات من هذا القرن. إلا أن الطب النفسى يبدو واثقا من شيء واحد، إنه لايريد أن يتحرك فى اتجاه العلاجات الزائفة بالرغم من أنه يستفيد أحيانا منها ويقول بول دارونا، وهو طبيب نفسى من ميامى إن بعض العلاجات الشائعة تخلق فرصا للعمل من خلال استثارة الأشخاص أو الاحتكاك بهم فينتهى بهم المطاف إلى العلاج الفردى ولكن على الرغم من ذلك فإن الكثيرين من الأطباء النفسيين يشعرون بقلة العمل، لأنهم كثيرا ما يؤدون نفس وظائف الأخصائيين الاجتماعيين، أو الممرضات، وغيرهم من المحترفين. ولا يعنى ذلك أن أولئك المحترفين لا يقومون بخدمات جليلة للمرضى النفسيين، ولكن أحدا منهم لم يضطر لأن يتحمل 4 سنوات من التعليم الطبي، أو إقامة طويلة فى العنابر النفسية، والحقيقة أنه خلال الستينات وبداية السبعينات فإن الكثيرين من الأطباء النفسيين وضعوا مسافة فيما بينهم وبين الطب المنظم ، مقتربين أكثر نحو الأخصائى النفسى والأخصائى الاجتماعي، وباقى علماء الاجتماع أكثر من زملائهم الأطباء . وحقا فإن الطب بالنفسى بدا خجلانا من أصوله الطبية، مفضلا أن يرى نفسه كنظام أرق وأكثر إنسانية. ومع ازدهار الطب النفسى تكونت تلك الأسطورة التى تقول أنه يمكنه أن يشفى تلك الأمراض الإجتماعية الخطيرة مثل إدمان العقاقير، والانحراف والجريمة حتى أن بعض الأطباء النفسيين صاروا يتعجبون مما يجعل أخصائيون العقل يذهبون إلى مدرسة الطب لكن كل هذا قد تغير، وأصبحت العبارة الممثلة للاتجاه الحالى هى فلنعد ادراجنا إلى جذورنا الطبية وعلى الأقل فإن سببا من أسباب هذا الاتجاه هو محاولة الطب النفسى لأن يسترجع رداء الاحترام ، فى الوقت الذى يخلط فيه العامة بينه وبين الدجل والشعوذة . والأطباء النفسيون أصبحوا أكثر تحفظا فهم يزدادون اقتناعا بأن مهنتهم قد لاتجد الإجابات للمشاكل السياسية والاجتماعية العميقة، وأنه يجب عليها أن تقتصر على الحصول على نتائج يمكن قياسها ومقارنتها مع المرضى الحقيقيين. وتوجد الآن ضرورة معاصرة وهى أنه يجب على الأطباء النفسيين أن يصبحوا لاعبى فريق مجيدون، بحيث يساعدون المتخصصين فى التخصصات الطبية الأخرى فى أداء التزاماتهم تجاه المرض، والواقع أن الكثير من المستشفيات الآن تتضمن أطباء نفسيين مستعدين للاستشارة فى كل نوع من المشاكل التى يواجهها الأطباء ومرضاهم، ويقول فى ذلك الطبيب النفسى دانييل أسيموس من باسادينا بكاليفورنيا الآن هو الوقت بالنسبة لنا الذى يجب أن ندرب فيه الأطباء النفسيين لكى يصبحوا واعين وموجهين بالناحية الطبية، حتى يساعدوا أفرادا أكثر، ليس عن طريق العلاج المباشر معظم الوقت، ولكن عن طريق معاونة وتقديم المشورة والنصح للمهن الأخري.
وبالعودة إلى ارتداء الرداء الطبى مرة ثانية، فإن الطب النفسى يأمل أيضا فى أن يبتعد عما يسميه أسيموس صورته الغريبة. وكما يوضح أسيموس وجهه نظره فإن الأطباء ينظرون إلى زملائهم أطباء النفس نظرة تقليدة بصفتهم سلالة غريبة من البشر اختارت هذا التخصص لكى تحل معوقاتها الشخصية بقدر ما تحاول مع تلك المعوقات الخاصة بمرضاهم .
أما الأكثر سوءا فهو بعض المفاهيم الخاطئة لدى الرأى العام عن الطب النفسى ومن ضمنها تلك الفكرة الكاريكاتورية أن كل الطب النفسى وليس التحليل التقليدى فقط يتم على الأريكة . ولمدة سنوات كان ينظر إلى الأطباء النفسيين على أنهم بارونات الطب اللصوص . وفى الحقيقة فإنه بالمقارنة بباقى الأخصائيين فإنه يقفون فى مكان متواضع نسبيا على متدرج الأجور (متوسط الدخل السنوى 47.565 دولارا) بعيد جدا عن الجراحين (73.245 دولارا) ويزيدون بمقدار ضئيل عن الممارسين العموميين ( 47.438 دولارا).
والأكثر خطورة هى تلك النظرة الحالية للأطباء النفسيين الذكور على أنهم يستعملون مرضاهم الإناث استعمالا جنسيا. ورغم أن هذا السلوك هو خرق صريح للآداب الفرويدية والتى تحرم أى اتصال بين المريض والطبيب، وذلك دون أن ننسى قسم أبى قراط ، فإنه توجد بوضوح بعض النيران خلف الدخان.
ففى فلوريدا فقط إتهم تسعة أطباء نفسيين فى العام الماضى بالسلوك الجنسى المعيب خلال العلاج، وفى استطلاع رأى قريب لخمسمائة طبيب نفسي، وجدت مجلة طبية أن نسبة مدهشة، (حوالى 19%) قالت أنها توافق على العلاقة الجنسية بين الطبيب والمريض فى ظل ظروف خاصة، ومن الواضح فى هذا الشأن أن العلاقات الحميمة فى العلاج تجعل كلا من المريض والطبيب أكثر عرضة جنسيا منه فى العلاقات الحرفية الأخري، ولكن مثل هذه الحماقات الباعثة على الأسى موجودة أيضا فى كل أفرع الطب.
وإذا كان الطب النفسى يحاول أن يغير صورته التى فقدت بعضا من بريقها، فإنه أيضا يغير من مواقفه. ففى الستينات كانت حركة الصحة النفسية من أجل المجتمع هى أحد مشاريع الطب النفسى المفضلة ، ومضت هذه الخطة لتوصيل الخدمات الطبنفسية إلى المحرومين منها متضامنة مع اتفاق غير معلن بين الأطباء النفسيين أن مستشفيات الدولة المركزية يجب أن تفرغ من كل مرضاها، فيما عدا الحالات ذات الداخل المرضى الصلب والذى يجعلها عسيرة وخطيرة فى نفس الوقت . وقد كانت المستشفيات فى ذلك الوقت مكتظة وممولة تمويلا قليلا فى معظم الولايات ومما جعل الفكرة أكثر إلحاحا أنه لم يكن بإمكان المستشفيات أن تفعل إلا القليل أكثر من تخزين المرضي، أما أولئك الذين استجابوا للعقاقير الحديثة المضادة لذهان فكان يمكن اطلاق سراحهم إلى عائلاتهم ومعالجتهم كمرضى خارجين. وتحت تأثير قانون مراكز الصحة النفسية بالمجتمع فى عام 1963 ، أقيم 647 مركزا محليا لعلاج تلك الحالات الموجودة خارج المصحات، كما كان من ضمن أهداف هذه المراكز الوصول بالعلاج قليل التكاليف إلى باقى الجمهور، خصوصا الفقراء .
وفى الوقت الذى كان للخطة جوانب ناجحة، فإنها أتت أيضا بمشكلات جديدة ، ويقول روبرت مايكلز منذ ثلاثين عاما مضت كانت المستشفيات تقوم بـ 75% من العلاج الطبنفسى . أما اليوم فإن 75% منها يجرى فى نطاق العيادة الخارجية وهذا تقدم ولكن 40% من إجمالى أسرة المستشفيات فى الدولة يشغله المرضى النفسيون، وعدد المرضى العقليون فى دور الرعاية، والسجون، ومحال الإقامة مفردة الحجرة مازال عاليا، ويقول جون تالبوت من مستشفى باين ويتنى لقد حولنا التعداد المريض عقليا فقط، ولم نقلل منه وبدلا من التفريغ فإن المستشفيات المركزية مازالت مزدحمة بنفس الأسلوب ولكن مع وجود نسبة أكبر من المرضى الذين لم يستجيبوا للعلاج، والكثيرون من أولئك الأشخاص سيئى الطالع، يعانون من الفقر، أو العجز أو الوحدة، أو عدم وجود أى مهارات اجتماعية أساسية بالإضافة إلى مشاكلهم العقلية ، مما يجعلهم غير قادرين على العيش فى العالم الخارجي،. ويبدو أن الحافز لتفريغ المستشفيات قد وصل إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه ; فمعدل إعادة الدخول قد ارتفع من 25% فى عام 1960 إلى أكثر من 65% اليوم وهو ما قد يدل على أن عددا أكثر مما ينبغى قد أطلق سراحه، وحوالى نصف أولئك الذين أطلق سراحهم يعيشون الآن وحدهم ، بدون الدعامة الأسرية التى يظن الأطباء النفسيون أنها أساسية بالنسبة لقدراتهم على الأداء ويقول تالبوت إن هؤلاء المرضى المساكين مفككين ، إنهم لا يستطيعون التعامل مع البيروقراطية ، إنهم لا يستطيعون المواءمة.
وللأسف فإن الكثيرين منهم قد تحولوا الآن إلى التجول فى الطرق بدون هدف يصيقون ويخيفون المواطنين، حتى أن بعض المجتمعات ، حتى تلك الليبرالية مثل الجانب العلوى الغربى من مانهاتن، والتى أغرقت بواسطة الآلاف من المرضى الذين خرجوا من المؤسسات العلاجية قد بدأت ترفع أصواتها بالغضب، ويقول مستشار مانهاتن أنتونيو أو ليفييرى وهومصلح ليبرالى إن التخلص غير المميز من المرضى العقليين يخلق مشاكل أقليات جديدة فى المدن، إن هذه السياسة لا معنى لها وقد بدأ الأطباء النفسيون فى المشاركة فى هذا الاهتمام فهم يخافون من أن العدد المتزايد من الفصاميين والذهانيين الآخرين المطلق سراحهم خصوصا فى المدن قد يتحولوا إلى مشكلة سياسية متفجرة .
أما مراكز الصحة النفسية للمجتمع فلها مشاكلها الخاصة فالتمويل قليل، والهدف الذى يتضمن الحصول على عناية قليلة التكاليف يبدو وهما، وطبقا للتقديرات المختلفة فإن زيارة كل مريض تتكلف ما بين 40.35 دولارا وهو رقم أكبر من الممارسة الخاصة وذلك من أجل علاج أقل فى النوعية بصفة عامة، ويقول آلان ستون وهو أستاذ القانون الطب النفسى فى جامعة هارفارد إن العناية الجيدة بالأفراد لا يمكن أن تتم بصورة أقل فى النفقات إلا من خلال تخزينهم ، وهو ما كنا نفعله من قبل .
وفى نفس الوقت فإن مستوى العناية فى المستشفيات المركزية يزداد سوءا وبصفتها مراكز تخزين للذين لا يرجى فيهم أمل ، فإن المستشفيات تعتبر أهدافا سهلة لتشريعات الولايات التى تهدف إلى الاقتصاد فى النفقات وأيضا فإن عددا أقل من أطباء الدرجة الأولى يفضلون العمل حيث احتمالات الشفاء بعيدة إلى هذه الدرجة، والأطباء النفسيون الأجانب وبعضهم غير مرخص قد تجمعوا فى هذه المراكز، والكثيرين بالتأكيد يؤدون عملا كفؤا عظيما، وكمثال فإن الأطباء الذين يتحدثون الأسبانية قد تمكنوا من تقديم مستويات أعلى من الرعاية للمرضى من أصل أسبانى . وعلى الرغم من ذلك فإن النوعية الإجمالية لهؤلاء الأطباء الأجانب قد أثارت صخبا من أجل تشريعات يصدرها الكونجرس يمكنها أن توقف من دخول أجانب قليلى التدريب، وإذا حدث ذلك فإن المؤسسات المركزية سوف تترك بعدد أقل من الأطباء النفسيين وبمستوى أدنى وقد يصبح هذا كارثة ، إذ أنه حتى مع وجود أولئك الأطباء الذين تدربوا فى الخارج فإن الرسمين يقدرون أن الدولة سوف ينقصها 9000 طبيب نفسى فى عام 1980 أما حاليا فتوجد 3.200 وظيفة خالية لأطباء نفسيين فى المستشفيات المركزية وتوجد الآن صورة حديثة لحركة إصلاح القرن التاسع عشر التى كسرت مستشفيات المجاذيب القديمة، فالمستشفيات المركزية واقعة الآن تحت تأثير الهجوم من جانب جماعات تكونت لتدافع عن حقوق المرضى العقليين من بينها أقارب الفصاميين البالغين من كاليفورنيا ، والمؤيدين للمرضى العقليين فى سياتل وقد قامت هذه الجماعات برفع قضايا متهمة هذه المستشفيات بأنها ليست أكثر من جحور للثعابين . ويقول المحامى روبرت بلوتكين والذى يعمل فى مشروع قانون الصحة النفسية بواشنطن العاصمة، والممول تمويلا خاصا إن الأحوال فى هذه المستشفيات مذهلة فى جميع الأحول مع وجود أطباء لم يحصلوا على التمرين الكافى ويصفون عقاقير لا يعرفون عنها شيئا إلا من خلال أوراق شركات الأدوية.
ومثل الكثيرين فى حركة الإصلاح يعتقد بلوتكين أنه لايجب أن يعطى المرضى عقاقير أو تقيد حركتهم أو حتى يلمسون بدون موافقتهم على ذلك مالم تقيم المحكمة وليا يحمى المريض من الطبيب الذى يعالجه. ولكن الأطباء النفسيون لا يتطلعون باستحسان الى موقف يتضمن إعلان الحقوق ، لمرضى مضطربين ، قبل إلقائهم فى سترة المجانين . ويحذر ألفين بواسنت، الطبيب النفسى من هارفارد من أنه إذا رفض مريض الدواء وكان عنيفا ويحطم المكان فإنه يمكنك أن تتعرض لقضية إذا أنت أعطيته دواء مناسباً، أو حتى لو قيدوته بوضعه فى غرفة منفردة، فماذا إذن يمكنك أن تفعل؟ وبنظرة أكثر تفاؤلا يعتقد بعض الأطباء النفسيون الآخرون أن المكاسب التى يمكن لحركة حقوق المرضى الحصول عليها سوف تجبر الولايات على سد الاحتياجات المادية الملحة فى مستشفياتها العقلية ، ويقول مايلزشور المشرف العام على مركز بوسطن للصحة النفسية بماسا تشوستس إن مستوى العناية الذى تفرضه المحاكم هو أحد الدفاعات القليلة التى لدينا ضد المادة رقم 13 .
إن أكثر شكاوى الطب النفسى شيوعا هى أنه مطالب بأن يفعل أكثر وأكثر بدرجة أقل وأقل من الإمكانيات. وطبقا لمختلف التقديرات فإنه يوجد 4 ملايين أمريكى متأثرين بمرض عقلى خطير، والكثيرين منهم لا يحصلون على علاج على الإطلاق والحقيقة أن الأطباء النفسيين لديهم كل الأسباب التى تجعلهم يبدون فى كآبة شديدة. يقول تاليوت: نحن نحتاج إلى مال أكثر لكنا لانحصل عليه . . هذا هو الأمر ببساطه ثم يضيف: كل مرض آخر مثل السرطان، ومرض الكلى وارتفاع ضغط الدم له جمهور من الأنصار ، ولكن المريض العقلى المزمن ليس له جمهور كل يريد لهم أن يختفوا، أسرهم ، والصحافة وحتى المهنة الطبية .
وحينما يواجه الأطباء النفسيون هذه الأعباء الكاسحة فإنهم أحيانا يحلمون بطريق سهل للخروج من هذا المأزق: الشفاء السحرى فى صورة عقار أو مادة كيماوية رخيصة لكل مرض عقلى ابتليت به البشرية . ولكن حتى الآن فإنه لم يحدث تقدم واضح فى هذا الاتجاه على الرغم من أن الاحتمالات تبشر بالخير، وفى هذا الصدد فإن الأطباء يجدون نجاحا كبيرا فى استخدام عقار الليثيوم للسيطرة، إن لم يكن الشفاء، من الهوس والاكتئاب ، ذلك الاضطراب الكلاسيكى الذى يتكون من تذبذبات شديدة بين تسابق الأفكار وتبادل السرور واليأس العميق.
وأيضا فإن العلاج بالعقاقير كان ومازال عملا أساسيا لتهدئة المرضي، فالمهدئات مثل الفاليوم والليبريوم تفيد فى الإقلال من القلق والتوتر ولكنها قد تتداخل مع التفكير وقد تصير هدفا للتعود. أما مضادات الاكتئاب المسماه ثلاثية الحلقات فإنها فعالة بصورة متزايدة ولكن لها أيضا آثارا جانبية ضارة . أما العقاقير القوية المضادة للذهان مثل الثورازين فإنها تفيد فى التعامل مع الفصاميين والذين يتميز سلوكهم بالهلاوس واضطراب التفكير الشديد، بالإضافة إلى الأشكال الأخرى من الاضطراب العقلى الشديد. وبينما تؤدى هذه الكيماويات إلى عودة سريعة إلى الحالة الطبيعية أو على الأقل إلى سلوك اجتماعى مقبول فى بعض الحالات فإنها أيضا تعمل كمكبلات كيميائية فهى تهديء الفصامى ولكنها كثيرا ما تحوله إلى ما هو ليس أكثر من آلة أو مسخ غير قادر على الفعل أو الإرادة . وكما يوضح الأخصائى النفسى ستيفن ماتيس من مركز بحوث ميلمان فإنه بينما يتضاءل القلق الحركى واضطراب الفكر فى المريض الذى يأخذ العقاقير فإن العقاقير تفعل القليل جدا فى تحريك المريض اتجاه الشفاء أو مساعدته فى عمل علاقة مع الآخرين ويقول ماتيس إنه لشيء محزن ولكن الفصامى الذى يتناول العقاقير نادرا جدا ما يجد الدافع لأن يفعل شيئا ذو نتاج حقيقى.
ورغم أن العقاقير المتوفرة مازالت بسيطة أو بدائية ، فإن العمل الرائد فى مجال بحوث المخ قد يؤدى إلى أنواع جديدة مذهلة. وقد ظهر اكتشاف جوهرى حينما حدد الباحثون ما يعرف باسم مستقبلات الأفيون بالمخ أى تعيين الأماكن المحددة فى المخ والنخاع الشوكى حيث تعمل تلك العقاقير مثل الأفيون والمورفين. بالإضافة إلى بعض الاكتشافات الحديثة التى تفتح المجال لاحتمال تصويب العقاقير الصناعية نحو مستقبلات محددة، وربما تسمح بإنتاج عقاقير الجسم الداخلية التى تساعد فى إبقاء الأشخاص الطبيعين كما هم. يقول سولومون سنيدر، وهو طبيب نفسى وأخصائى عقاقير فى جامعة جونز هوبكنز” لقد خرج الطب النفسى كنتيجة لعلم العقاقير النفسية من موقف متخلف خلف العلوم الطبية الأخرى إلى موقف الصدارة، لقد أصبح لدينا طبا نفسيا جديدا تماماً” ويتركز الكثير من هذا الطب النفسى الجديد حول الفصام، أكثر الأمراض العقلية إحداثا للعجز وأكثرها مدعاة للحيرة ، حيث تتنافس عشرات النظريات فى تفسيره . والنظرية السلوكية الرائدة مستوحاة من مفهوم الأنثروبولوجى جريجورى باتيسون للرابطة المزدوجة والتى تؤكد أن الفصام ينشأ من جرعة مستمرة لفترة طويلة من التعليمات المتعارضة والمتناقضة، مثلا حينما تقول الأم للطفل ألا يأكل الحلوى بينما تجزيه دائما حينما يفعل ذلك. إلا أن دراسات التوائم المتماثلين والأطفال المتبنين التى أجراها عالم الكيمياء الحيوية سيحور كيتى تقترح بشدة أصلا جينيا (وراثيا) للفصام ، وطبقا لكيتى فإن الخطأ المتضمن فى حامض الديزوكسى ريبونيوكلييك ، وهو الجزيء الرئيسى فى الجينات قد يمكن نقله بواسطة الفيروسات، وعلى أى حال فإن أبحاث علم العقاقير الحديثة قد باتوا يعتبرون الفصام مجموعة مختلفة من الاضطرابات الوظيفية مثل السرطان وليس مرضا واحدا. وفى الفصام نرى ان العامل المؤثر المشترك هو المخ، ويعتقد كثير من العلماء أن موصلا عصبيا، أو حاملا كيماويا لإشارات المخ يسمى الدوبامين هو المتهم الأساسي.
ومن المعروف للباحثين أن الجرعات الزائدة من عقاقير الأمفيتامين المنشطة للمزاج، والتى تزيد بدرجة كبيرة من كمية الدوبامين فى المخ قد تحدث أعراضا ذهانية مطابقة لتلك التى تحدث فى الفصام. وتشير الدراسات الحديثة أيضا إلى أن مخ الفصامى يتميز بنسبة زائدة من الدوبامين تقدر بـ 5% أكثر من غير الفصامي، بالإضافة إلى ضعف عدد مستقبلات الدوبامين، وهى الأماكن التى تحدث فيها القفلات فى الجهاز العصبي، وثمة أسلوب فى التفكير ينظر إلى أن بعض الأشخاص يولدون بمستويات عالية من الدوبامين ، وأنه يوجد مثير بيئى ربما أحد أزمات الحياة، يؤثر بطريقة ما ليعد المسرح لحدوث الفصام. إلا أنه يوجد رأى ينمو وهو أن هذا المرض كيميائى الأصل تماما ، ويقول ماتيس سأكون مندهشا لو أن البيئة الأسرية كان لها أدنى الأثر فى ذلك .
أما الأجيال الجديدة من باحثى الطب النفسى فقد بدأت تشتبه فى أسباب مماثلة فيما يتعلق بالاكتئاب ، أكثر الشكاوى النفسية انتشارا ، وبالتأكيد فإن الاكتئاب البسيط أو الوجوم المؤقت قد يكون رد فعل طبيعى لخبرة غير سارة فى الحياة اليومية، ولكن النوع المرضى من الاكتئاب قد يكون كيميائيا عصبيا تماما، ويقول لارى ستين وهو أخصائى عقاقير نفسية من معامل وايث إن المخ الطبيعى قادر تماما على التكيف. وقد يمر بفترة بسيطة من الاكتئاب حينما تشير الأحول إلى الأسوأ ولكنه يرتد حينما تتحسن الأمور مرة ثانية أما الاكتئابى الشديد فيحتمل أنه يعانى من التغيرات البيولوجية التى طرأت على ماكينة المشاعر الطيبة داخله.
أما هؤلاء الذين يخشون أن البحاث الجدد سوف يرجعون كل العواطف والمشاكل الإنسانية إلى جزيئات وذرات الكيمياء فإن الدكتور فردريك جودوين، رئيس شعبة العلوم الحيوية النفسية فى المؤسسة القومية للصحة النفسة، يحمل لهم رسالة مهدئة إن كيمياء العقل البشرى موجودة ولكنها تعمل كرد فعل لمؤثرات البيئة ويشير جودوين برفق إلى أن أبحاث المخ لم تنتج بعد أى علاجات جديدة للمرض العقلى ، وفى الواقع فإن النتيجة الأولية الوحيدة المتوقعة من البحث هى الاتفاق بين مضادات الذهان ومضادات الاكتئاب على التخلص من الآثار الجانبية، ويحذر روس بالديساريني، وهو طبيب نفسى وأخصائى فى الكيمياء الحيوية فى مركز بحوث ميلمان أن الشفاء الكيميائى مثله كمثل التحليل النفسى وطب نفس المجتمع قد يفرط فى بيعه ويقول إننا لن نكتشف أسباب ووسائل شفاء الأمراض العقلية فى المستقبل القريب.
وعلى الرغم من ذلك فإن البحوث كانت مؤثرة بدرجة كافية لبدء حركة مسرعة فى اتجاه علم العقاقير النفسية، حتى أن أشخاصا ذوى ألقاب مثل أخصائى كيمياء حيوية، أو أخصائى بيولوجى نفسي، أو أخصائى علم وظائف الجهاز العصبي، أو أخصائى العقاقير النفسية قد بدأوا يجتذبون الأموال الفيدرالية القليلة المخصصة للتمويل، وبدأوا يحلون محل الأطباء النفسيين التقليديين كأساتذة كرسى فى أقسام الطب النفسى بالمستشفيات . ويبدو أن المجال يعرض الآن ما كان الطب النفسى يصبو إليه خلال السبعينات، أى الخبرة العلمية المتمكنة، والدعامات الطبية والهروب من الذاتية المؤلمة للعقل البشري.
سوف نتعلم أن نفكر فى أنفسنا وفى شخصياتنا بصفتها أوركسترا من الأصوات الكيميائية داخل رؤوسنا هكذا يتنبأ أرنولد ماندل أستاذ الطب النفسى فى جامعة كاليفورنيا فى سان دييجو سوف يصبح الطب النفسى أكثر التخصصات الطبية فى الدقة العلمية ، ولايعتمد على الاطلاق على الأحكام غير الموضوعية . ويعتقد جاك بارشاس أستاذ علم العقاقير النفسية فى ستانفورد أن الاستثمار الحديث لهذا المجال يكافيء معادلة اينشتين الثورية التى تقول بأن الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء ، ويقول إن اكتشاف المنظمات العصبية قد يثبت أهمية على قدم المساواة بالنسبة للإنسانية مع تلك المعادلة، نحن على أعتاب عصر جديد. وهو عالم جديد شجاع من العقاقير المتحكمة فى العقل، فطبقا لبعض الأبحاث وقبل مضى الكثير، سوف يمكن أن نحقن أو نستخلص كيماويات للحصول على أى شكل مرغوب من أشكال السلوك سواء كان طبيبا أو مريضا.
وبدون شك فإن هذه الطرق المستمدة من الكيمياء الحيوية والتى تتفتح سريعا سوف تلقى بقدرات مرعبة فى أيدى الأطباء النفسيين، وبالطبع فإن عقاقير المستقبل المأمولة قد تخلق كابوسا، إلا أنه فى وجود الأيدى القادرة وتحت سيطرة وفحص الرأى العام فإنها ليست بحاجة إلى ذلك. وعلى أقل تقدير فإن العقاقير قد تعطى الطب النفسى الأدوات الصلدة الجديدة التى تمكنه من التخلص من حالة الاكتئاب الحالية التى تنتابه وتحقق الآمال العريضة التى كان يتوقعها فرويد وأتباعه بحق له.