مقتطف وموقف
عن الإبداع والموقف الخلقى (والإلتزام)
المقتطف:
يقول أستاذنا د. حسين مؤنس[1]
”… ولا يقل هنا أحد: ولكن جريرا أبدع فى النسيب، والفرزدق تجلى فى الصورة والأخيلة، وعمربن أبى ربيعة تلألأ فى الغزل فأقول لك: والله ما كنا بحاجة إلى نسيب جرير إذا صدر عن قلب مريض، ولا إلى صور الفرزدق إذا طلعت من نفس هزيلة ولا إلى غزل إبن أبى ربيعة إذا جاء من قلب خلى جعل الحياة ضحكة وذيل إمرأة وخد أخري”
الموقف:
ونقف لنقول، بل نحن أحوج ما نكون إلى كل ذلك حتى لو صدر عن كل ما ذكر، وهذا المقتطف “وما حوله” يثير عدة قضايا فى آن واحد: القضية القديمة حول موضع الفن للفن أم للمجتمع والقضية الثانية حول علاقة سلوك المبدع الشخصى وموقفه الأخلاقى وربما السياسى بإبداعه والقضية الثالثة حول ثبات موضوع الإبداع، وخاصة فى الشعر ومعنى التناقض والتقلب عند الشاعر.
أما القضية الأولى فقد إستهلكت، حين سادت قيم إشتراكية مسطحة: رجحت كفة “الفن للمجتمع” حتى كاد يصبح الفن خطبا رسمية ونصائح وإرشادات تلبس ثوب جمال مصطنع، وحين راجع الناس فشل كل شيء (ومن بينهم مراجعات د. حسين مؤنس فى سلسلة مقالاته الأسبق فى نفس المجلة) كدنا نتبين – ضمنا – أن الإبداع لا ينبغى أن يقاس إلا بالإبداع[2]، فالإبداع دائما “للحقيقة” (لا للفن ولا للمجتمع، إلا فى المقام الثاني)، فهو “كشف” للداخل والخارج، أو للخارج “فى الداخل” إلى الخارج، وبالتالى فهو “إضافة” إلى مساحة الوعى أبدا، وبألفاظ أخري: إن وظيفة الإبداع الأولى هى هذه التنمية المثابرة للوعى المتجدد.. ومن ثم فلسوف يصب الوعى الحافز المثار فى فعل التغيير الحقيقى سعيا إلى حياة أعمق على مساحة أوسع: بما يشمل تغيير السياسة ونوع الوجود والدنيا أجمع، وحتى الإبداع العاجز صاحبه عن حمل مسئوليته لا يعجز “هو” عن أداء رسالته، والقلب المريض والنفس الهزيلة والقلب الخلى لا تفرز إبداعا أصلا، اللهم إلا إذا كانت هذه الصفات المعنية هى صفات أخلاقية لا جمالية، إذا كانت الأخلاق تقاس بمقاييس مفروضة على الوجود البشرى من خارجه، بناء عن موقف سياسي، أو عن قيم ثابتة لعرف شائع (خائف فى العادة)، وطوال المقال نشعر شجبا مطلقا لبنى معاوية حتى نتصور أن كل ما قال فيهم مدحا وما شابه لابد وأن يطرد من حقل الإبداع مهما كانت “طبقته” بين فحول الشعراء مثلا، ولا ندخل هنا فى مناقشة خطورة التوقف بتاريخ الإسلام المشرق حتى قبل “أمية” فحسب، فهذا زعم خطير إستدرجنا إليه من خلال محاولات تشويه خفية بلغت حد السرقة لإنجازات أمة عظيمة، رغم ظاهر فساد بعض حكامها، وحين كنا أطفالا كنا نحسب التشيع هذا ونستسهله، وحين إستمعنا لأول مرة إلى دفاع موضوعى عن بنى أمية ومن بعدهم[3] رفضنا أن نحرم أوهامنا، ثم رويدا رويدا إستطعنا أن ندرك كيف يجب أن نستوعب العصر “بكل ما هو” وليس بظاهر ما نميل إليه، ونقطة أخري: إذ يبدو أنه لا يصح أن نرفض المديح الذى أشتهر به الشعراء فى عصر يختلف عن عصرنا هذا، حتى لو لم يكن المادح يؤمن بما يقول، إذ يبدو – كما ظهر جليا فى مقال أستاذنا – أن المدح حينذاك كان بمثابة “أوراق إعتماد” الشاعر، ليقول بعد ذلك ما يريد أن يقول، لأننا لو انسقنا وراء التعميم المخل الذى يرفض عبقرية مبدع لمجرد أنه “إضطر” (أو غير ذلك) إلى مدح من لا نحب أو إلى إظهار ما نخفى عن أنفسنا، فقد نرفض فحولا هم بمثابة أعضاء حسنا الفكرى عبر التاريخ (مثل المتنبي) أو أمرؤ القيس – غير من ذكر المقال)، أما تقلب الشاعر قديما من مديح نفس الشخص إلى ذمه فهو أمر قبيح فعلا بقيم عصرنا الخلقية (إن كان ثمة قيما خلقية حقيقية فى عصرنا)، ولكنه قد يكون غير ذلك فى عصر آخر، تقاس فيه الأفعال و “شروط البقاء” و “حق القول” بمقاييس أخرى والشاعر بالذات، وهو يعيش القهر الداخلى لحتم القول، والجوع المطلق لمن يسمعه: (يقبله أو يرفضه: سواء)، قد يدفع أى شيء، نعم أى شيء، فى سبيل أن يقول فيسمع (بضم الياء)، فإذا قلنا (من منطلق أخلاقى محدود) أن هذا ليس هو المثل الذى ينبغى أن يحتذيه أبناؤنا مثلا، وافقنا على ذلك، لكن من الذى جعل وظيفة الشاعر هو أن يحتذى فى سلوكه؟؟ الشاعر وعى متحرك، وإكتشاف مغامر، ونغم متجدد، والباقى هو وظيفتنا نحن، ولو أخذنا أمثلة من الشعر المبدع الثائر الذى قاله من شجبهم المقال لما إنتهى “الموقف”، ولكننا نكتفى بأن نذكر بأن الشجاعة (مثلا) ليست فقط فى موقف الخوارج السياسى والدينى (وإن كانوا من أشجع الشجعان)، وإنما هى أيضا وربما قبلا، فى الخروج عن المألوف “إلى أعلي” (وأحيانا إلى أسفل، فالأسفل قد يؤدى إلى الأعلي)، وعمر بن أبى ربيعة حين يعلن “حاجته” لأن تستبد به “هند” ولو مرة واحدة.
”وإستبدت مرة واحدة إنما العاجز من لا يستبد”
لا يعلن ضعفه أن خنوثته بحاجته إلى إمرأة قوية تقول “لا” أو تأمر أو تقتحم (بكسر الحاء)، وإنما يعلن شجاعته التى ظهرت فى قدرته على إعلان طفولته الداخلية وأنوثته المبدعة التى لا تكتمل العلاقة الخلاقة فى الحب والجنس والإبداع إلا بالإعتراف بها “كجزء من كل” وليس كبديل عن مظهر عكسها، ومن ذا غير شاعر “يجرؤ” أن “يعلن” ذلك، ومن يهدهد ضعف الرجال المختبى فى مبالغات قسوتهم المدعاة أن لم يكن هو الشاعر، وقد تصل هذه الشجاعة ببعض الشعراء إلى التضحية بحياتهم فى سبيل كلمتهم، كما كانت نهاية بشار بن برد وغيره كثير.
ومن أسف أن هذا الموقف الأخلاقى الجامد قد إمتد إلى ما ينشر من تراثنا التليد، فحذفت من أغلب الدواوين ألفاظ وشطورا وأبياتا تحت عنوان “حذف ما يخدش الحياء”، حياء من يا سادتي؟، أن تسمية الأشياء بأسمائها لا يخدش إلا حياء الأطفال الذين شوهناهم بخوفنا، ولا يستقيم معنى أو تبلغ رسالة إلا إذا قال صاحبها قوله بلفظه الأصلي وعلينا نحن أن ندرب حياءنا لنرتقى به فنعرف أنه لا يخدش الحياء إلا “القبح” و “الإفتعال” و “التعصب”، أماأن نصبح أوصياء على نص ما جاء فى تراثنا العظيم، فهذا ما أعتقد أنه لا يحدث فى أى أمة تحترم نفسها وتاريخها وتنمى خلقها كما ينبغى أن ينمو= فى إتجاه “الحقيقة” أبدا.
إذن – مع الإعتذار لأستاذنا الكريم وليسمح لنا بالإختلاف – فنحن فى أشد “الحاجة” إلى كل هؤلاء ومثلهم وغيرهم، بكل ما هم، ولا ينبغى أن نفرط فى بيت شعر واحدا (مثلا) قاله أحدهم فدفع ثمنه مغامرة وتحديا، فأضاء به عقلا وأفسح وعيا، حتى لو لم يقل غيره سوى مئات من قصائد المديح والهجاء والتهريج وما إلى ذلك (مما هو ليس كذلك تماما).
[1] – أكتوبر، العدد 373 – الأحد 18 ديسمبر (كانون أول) 1983 “المفكر والمتسول والنديم والمهرج والمعلم” ص 28.
[2] – أفضل هنا – وفيما بعد – إستعمال كلمة الإبداع عن كلمة “الفن” وإن تبادلا بعد مذكرا أن ثمة فرقا لا وجه لتفصيله حالا.
[3] – من أستاذنا محمود محمد شاكر مثلا.