لمحة عن الأسطورة
(فى الطفولة والجنون والإبداع والتصوف)
د. رفعت محفوظ
تعبر الأسطورة عن الوحدة الشاملة بين الإنسان والعالم، فالإنسان القديم أحس فى أعماقه أن حياته ترتبط بنظام الكون ولا تنفصل عنه وأن جذوره مغروسة فى الطبيعة،وجاءت الأسطورة كتعبير مباشر عن وحدة الوجود وعن حضور الإنسان المباشر فى العالم وعن وعيه بهذا الوجود. والفكر الأسطورى – فى نظر بعض المفكرين – هو أساس كل نشاط شامل وموحد للفكر الإنسانى، موضوعه دائماً الواقع الكلى والمطلق.
تفسير الأسطورة:
هناك وجهات نظر عدة لتفسير الأسطورة، سوف نكتفى هنا بالإشارة إلى أهمها .. فوجهة النظر الوجودية ترى أن الأسطورة لا يمكن تفسيرها بالرمز والتورية ولكنها تحتوى فى ذاتها على تفسيرها، والوعى الأسطورة يشمل الوحدة الأصلية للشعور والعالم، الوحدة السابقة على التأمل وانعكاس الذات على نفسها. أما التفسير المجازى فيعتبر الأسطورة قصة مجازية الهدف منها إخفاء معنى عميق لمنع نتسرب حقائق عظيمة إلى أيدى من يسئ إليها. والتفسير الرمزى يرى فى الأسطورة قصة رمزية تعبر عن فلسفة كاملة وجدت فى عصور قديمة. ولقد اعتبر فرويد – من منطلق التفسير النفسى – الأسطورة كشئ يعبر عن دوافع وقوى نفسية دائمة غير معترف بها، ولذلك أطلق على هذه الداوفع أسماء شخصيات أسطورية أغريقية، فى حين أن رؤية يونج للأسطورة،و هى من أعمق التفسيرات النفسية، ترى أن الأساطير العظيمة هى النماذج الأصلية “للاشعور الجماعى” أو “النفس الموضوعية”، حين نجد هذه الأساطير دائما وأبدا وإرادة عبر تاريخ البشرية وآدابها فى جميع أنحاء العالم، أنها تصور أعمق أفكار الجنس البشرى وأحاسيسه. أما المدخل الأنثروبولوجى لتفسير الأسطورة فيعتبرها نتاج تركيبات العقل البشرى المتناغمة، وبعد أن تأخذ الأسطورة مكانها بين مجموعة معينة نجد أنها تأخذ مكانها فى تركيبة عقلية محددة، وبناء على ذلك فأنه، فى النهاية، سوف تتجلى الأسطورة أكثر اتساقا من التاريخ.
بين الأسطورة والفلسفة:
يعتبر بعض المفكرين أن الفلسفة قد اكتشفت فى الأسطورة البناء الوجودى، والصورة الأصلية التى تعبر عن ارتباط الإنسان بالواقع والحياة، ويكون العلو الدينى حالا فى الواقع المحسوس وليس مفارقاً له.
وقد اعتبر بعض فلاسفة اليونان أن الأسطورة هى الحقيقة فى صورتها الرمزية، وعلى الفلاسفة أن يرفعوا الحجاب عن هذه الحقيقة الرمزية، فكأن الأسطورة تخفى الحقيقة، وتجئ الفلسفة لإظهارها. إذن فالوعى الفلسفى – عند البعض – نشأ عن الوعى الأسطورى، والفكر الأسطورى سابق على الفكر الفلسفى الذى حاول بقدر المستطاع أن يستقل عنه.
بين بعض المظاهر النفسية والطبنفسية والأسطورة:
1- فى مراحل نمو الطفل نجد أن وجه الشبه شديد بين تفكير الطفل فى هذه المراحل، وعلاقته بالعالم حوله، وبين التفكير الأسطورى،. فعلى سبيل المثال، فى مرحلة معينة يميل الطفل إلى إضفاء المشاعر والدوافع والقدرة إلى كل الأشياء – الجماد واللاجماد – وهو ما يسمى بالأنسنة Animism، وهو بذلك يعامل الجماد على أنه كائنات حية ويقيم معها علاقات عاطفية.. وهذه الظاهرة شديدة الشبه بالتفكير الأسطورى الذى لا يعرف جماداً، والإنسان فيه يعامل كل ما حوله معاملة “الصنف” لنفس “الصنف” ويقيم معه علاقة “الأنا” بالـ “أنت”.
وهناك ظاهرة أخرى عند الأطفال وهى أن الكلمة أو الفكرة (رمز) تساوى الفعل (حدث واقعى)، والرغبة تساوى تحققها فى الواقع، وما قد يترتب على ذلك من إحساس النصر أو الزهو أو إحساس بالذنب. أيضاً فى مرحلة معينة لا يقيم الطفل حدوداً واضحة بين الخيال والواقع والحلم والحقيقة .. كل ذلك من سمات التفكير الأسطورى الذى لا يميز بين الرمز والمرموز إليه، ولا يميز بين الأحلام والأوهام والرؤية العادية، ولا بين الأحياء والأموات، والجزء فيه يقوم مقام الكل. كما أن الصفات والأفكار المجردة تتجسد أيضا.
كذلك يمكن القول بأن نوع الإدراك الموجود لدى الأطفال الصغار والذى يسمى “بالحاسة السادسة” Extrasensory Perception هو إدراك “قبل – لفظى” يعيننا على فهمه تصور قيام علاقة مباشرة بين الطفل والعلم كتلك العلاقة الموجودة فى الحياة الأسطورية. وبصفة عامة، فإن مقارنة العمليات المعرفية Cognitive Processes عند الأطفال فى مراحل نموهم الأولى والتى يطلق عليها – إجمالا – العملية الأولية Primary Process thinking بالتفكير الأسطورى سوف توضح لنا وجود الكثير من أوجه الشبه، وتعيننا على معرفة نوع العلاقات والارتباطات فى كل منهما.
2- فى بعض حالات الجنون يفقد صاحب الخبرة الجنونية حدود ذاته التى تكونت خلال مراحل نموه المختلفة، ويتفجر بداخله الينبوع الأصلى للحياة متصلا ينبض الكون من حوله .. إذن فهى الحياة الأسطورية المعبرة عن انغماس الإنسان فى قلب الوجود فى صورة غير متميزة بعد …. وبالرغم من رحلة الإنسان الطويلة منذ أن بدأ انفصاله التدريجى عن الطبيعة حتى وصل إلى درجة شديدة من الاغتراب عنها والاغتراب عن جوهر ذاته .. بالرغم من ذلك فإن نقطة البداية اللامتميزة ما زالت كامنة فى أعماقه كما أنها قادرة على أن تستعيد نشاطها بهذه الصورة الجنونية الفجة .. وبتعبير آخر، فإن التركيبة المخية الأسطورية الأولية عادت تعمل فى اندفاعة شديدة فعوقت نشاط كل التركيبات المخية اللاحقة فى سلم التطور الإنسانى.
فى مقابل تلك الخبرات نجد وصف بعض المرضى النفسيين لمظاهر الاغتراب عن الذات وعن العالم المحيط، وما يحسونه نتيجة لذلك من “خواء” و “فراغ” وفقدان “لمصدر الحيوية والطاقة” فى داخلهم وفقد علاقاتهم “بأجسادهم نفسها” كل ذلك قد يصل إلى حد الإحساس “بعدم الوجود” أو “الموت” أو فقدان “الحياة الحية”. هذه المظاهر المرضية يمكن رؤيتها على أنها النقيض لما تعبر عنه الاسطورة من علاقة الإنسان الحميمة بالوجود ومعايشة الحياة والإحساس بنبضها فى داخله. وبناء على ذلك هل يمكننا القول بأن فرط التجريد والتجاوز لدرجة فقد الصلة التامة بالمستوى البيولوجى فى داخل مثل هؤلاء المرضى، وهو ا لمستوى المقابل للمستوى الذى كان يعيش به الإنسان حياته الأسطورية الأولى: قد نتج عنه فقدانهم لعلاقاتهم الحيوية بذواتهم وأجسامهم والكون من حولهم؟!
وفى بعض حالات الجنون الأخرى نواجه بمنظومة محكمة من الأفكار والاعتقادات الضلالية التى لا تخضع للمنطق العادى، وهذه المنظومة الضلالية لو احسنا الاستماع إليها لوجدنا أن وجه الشبه كبير بينها وبين منطق وتركيب الأسطورة، فى حين نجد أنها بعيدة كل البعد عن عالم المنطق والواقع العاديين .. وقد تعيش هذه الضلالات (الأسطورية) جنبا إلى جنب مع التفكير المنطقى العادى فى الشخص نفسه.
بين الأسطورة والتصوف:
قد يكون من الغريب أن نحاول رؤية وجه شبه – من زاوية معينة – بين الوجود البشرى فى مرحلته الأسطورية وبين الوجدو البشرى فى حالات التصوف.. فإذا تذكرنا أن الأسطورة تجعل الذات تشارك فى الموضوع، والموضوع يشارك فى الذات, والإنسان يتمثل الوجود على صورته، ويفسر الواقع تفسيرا حيويا، أى أن الأسطورة هى التعبير المباشر عن وحدة الوجود، وأن التصوف حالة من حالات الإنسان التى يتواصل فيها مع حقائق الوجود ويصفى إلى كل شىء فى الكون، ويصل إلى جوهر ذاته، ويصبح كلا موحدا موجها جميع أبعاده إلى منطلقها الأول، لو تذكرنا ذلك قد يتضح لنا وجه الشبه.
ولكن ذلك هو وجه الشبه بين “البداية” و “النهاية” بالرغم من بعد الشقة بينهما .. هو وجه الشبه ما بين “القبل” و “والبعد” على طريق التطور البشرى .. وهو وجه الشبه ما بين حالة “اللاتمايز” Undifferentiation وحالة الولاف” Synthesis فى مسيرة النمو المبدع . . الوجود الأسطورى هو بداية المطاف، والتصوف الايجابى هو نهايته، وما بينهما يقع تاريخ الإنسانية وشرف المعاناة .. الأسطورة الفجة هى جنة ما قبل الوعى، والتصوف هو جنة الوعى الفائق.
كذلك تجدر الإشارة هنا إلى أنه فى الأسطورة يكون العلو الدينى خالا فى الواقع المحسوس وليس مفارقا له، وفى التصوف لا تدرك الأشياء بمعزل عن اتصالها بالله، وتكون حياته المتصوف مظهرا تتجلى فيه الألوهية، وبين هذا وذاك تقع أنواع ودرجات التدين المختلفة من حيث مدى معايشة هذا الاتصال، فى حين أن الإلحاد، كما يراه بعض المفكرين، هو “النظرة إلى الأشياء على أنها مستقلة عن أصولها وغاياتها ومعانيها”.
أهمية دراسة الأسطورة:
دراسة الأسطورة هى دراسة جزء أصيل من الملحمة الإنسانية، تدلنا على عمق التراث الذى يملكه الإنسان فى داخله، وتوقظ لدينا الصلة الأصيلة بالكون، وعلاقة التناغم والانسجام معه، ومن هذا المنطلق فإن إهمالها فى عصرنا الراهن – بحجة أى إدعاء – هو إهمال لجذور تاريخ الوجود الإنسانى، ويمكن اعتبار دراسة الأسطورة (الوجود البشرى فى مرحلة الأسطورة) كدراسة مسودة الوجود الإنسانى وما يحتويه من علاقات كونية وبذور النشاطات الإنسانية المختلفة التى تمايزت واتضحت معالمها على مر العصور، وقد يتضح لنا من دارسة تلك المسودة أبعادا فى لغز الوجود الإنسانى أكثر ثراء من نتائج الدراسات العقلية الوضعية للوجود الإنسانى الحالى وما يعانيه من تجزئ كيانه.
ويكتسب هذا النوع من الدراسة أهيمته وفائدته الكبرى إذا وضع فى إطار اللغة البيولوجية أو “لغة المخ البشرى”، حيث ترى هذه اللغة أن المخ البشرى هو “مجموعة أمخاخ” أو تركيبات مخية متعاقبة فى تصاعد “هيراركى” تمثل مراحل تطور الإنسان، والإطار المقابل لهذه اللغة – على المستوى النفسى – هو رؤية التكثر أو تعدد الذوات – أو الشخوص – أو “حالات الأنا” داخل الإنسان الفرد الواحد.
ومن هذا المنطلق يكتسب المنهج الأنثروبولوجى لدراسة الأسطورة أهيمته حيث يرى اتساق مجموعات الأساطير المختلفة تعبيرا عن أنها نتاج تركيبات عقلية (مخية) متتابعة فى سلم تطور العقل (المخ) البشرى، وكذلك يتضح لنا مدى عمق مدخل يونج فى رؤيته لعلاقة الأساطير المختلفة بعناصر “اللاشعور الجماعى” أو “النفس الموضوعية” وهى القاسم المشترك الأعظم بين جميع البشر.
ودراسة الطفولة، مع استخدام المناهج المناسبة لعمق الدراسة، هى – من منظور معين – دراسة مستويات المخ المتوارثة، ودراسة المستويات البيولوجية الوجودية التى أنتجت فى الأزمان القديمة الأسطورة واعتقدت فيها، وكان تفكيرها أسطوريا وعلاقتها بالوجود علاقة أسطورية، ويتضح لنا من خلال هذا النوع من الدراسات مدى علاقة الأنتوجونى (تطور الإنسان الفرد) بالفيلوجينى (تطور الإنسان كنوع). ودراسة الجنون بهدف التعرف على إمكانيات وعمق الوجود البشرى، تضعنا وجها لوجه أمام ما نحاول طمسه والاغتراب عنه فى داخلنا من مستويات بيولوجية وعلاقات كونية ورثها إنسان العصر الحالى عن جدوده الذين عاشوا الأسطورة. ودراسة الإبداع فى الذات (النمو النفسى وقمته التصوف) هو دراسة عملية تلاحم وتكامل وصهر تلك المستويات – التى عايناها فى مراحل الطفولة والجنون – مع المستويات الأحدث من المخ البشرى والوجود الإنسانى وذلك لعلم ولاف جديد، ودراسة الإبداع فى مجالاته المختلفة هو دراسة لنتاج عملية الانسجام، والتناغم الداخلى الذى يحدث بين مستويات الوجود داخل الشخص المبدع مع التعبير عن ذلك بلغة تواصلية.
والآن، كيف نستطيع فى عصرنا الحالى أن نعمى عن رؤية تلك الشواهد التى تدل على مدى أبعاد الوظيفة الإيجابية للاسطورة فى عالمنا المعاصر؟! هل تغنينا العقلية الوضعية حينما تتجاهل الأبعاد المتعددة للوجود الإنسانى عن مثل هذه الوظيفة الإيجابية؟! ولو كان ذلك كذلك فلم كل هذا الاغتراب الذى تعانى منه الحضارة نتاج هذه العقلية؟
خلاصة القول …
يمكننا اعتبار الفكر الأسطورى نتاج تركيبات (تنظيمات) مخية هى من مكونات مخ كل إنسان فرد، ووجود هذه التركيبات المخية هو المسئول عن وجود واستمرار الأسطورة بين جميع الشعوب، وعن كونها تعيش فى وجدان هذه الشعوب .. وعندما تستعيد هذه التركيبات المخية نشاطها بصورة بدائية فجة يكون نتاج ذلك هو الجنون .. ولكن فى حالة استعادة النشاط وهى ما زالت تحت سيطرة التركيبات المخية الأحدث وهى فى تبادل معها وتوافق ونتاج مشترك، فإن ذلك يؤدى إلى النمو المبدع الذى يظهر نتاجه فى الذات وفى الإنتاج الأدبى والفنى والعلمى بأنواعه المختلفة.
المراجع
1- ما قبل الفلسفة. تأليف هـ. فرانكفورت، هـ. أ. فرانكفورت، جون أ. ولسون، توركيلد جاكوبش. ترجمة جبرا إبراهيم جبر. منشورات مكتبة الحياة – فرع بغداد.
2- أساطير إغريقية. الجزء الأول – أساطير البشر. تأليف د. عبد المعطى الشعرواى. القاهرة – الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982.
3- الأساطير – دراسة حضارية مقارنة. تأليف الدكتور أحمد كمال زكى. بيروت – دار العودة، الطبعة الثانية، 1979.
4- الفكر الفلسفى. تأليف الدكتورة نازلى إسماعيل حسين. كلية الآداب – جامعة عين شمس، 1982.
5- ما يعد به الإسلام. تأليف روجيه جارودى. ترجمة قصى أتاسى وميشيل واكيم. دمشق. دار الوثبة، 1982.
6- دراسة فى علم السيكوباثولوجى (شرح: سر اللعبة). تأليف د. يحيى الرخاوى. القاهرة – دار الغد للثقافة والنشر، 1979.