قراءة فى:
لـيـل آخــر
لـ د. نعيم عطية
يحيى الرخاوى
ليس اعتذارا ولكنه اعتراف، فانى لم أعدكتابة هذة القراءة رغم ما عن لى من آراء تتعلق اساسا باعادة الترتيب، الا أنى خوفا من التردد والعاب الوصاية: غامرت بنشرها “هكذا”، وعلى القاريء ان يفعل بها ما يريد، فهذا دوره.
***
مقدمة:
هذه هى المرة الثانية التى اتلقى فيها رواية يقدمها لى كاتبها باهداء يكرمنى فيه بطلب قراءتها كما أستطيع، أو حسب نص الاهداء الحالى:…. راجيا أن يقرا هذا النص بطريقته الخاصة… الخ ـويصر صاحب هذا العمل فى خطابه الموجز المرفق مع الرواية المهداة ان قراءتى… تتبنى مذاهب النقد السيكولوجي، وقد حاولت اكثر من مرة ان انفى هذا الزعم، ولكن يبدو انى فشلت فى ذلك، اما لانى فعلا اخدع نفسى خوفا من ان اصنف حيث لا احب، او ان الرسالة التى اريد توصيلها برفضى لهذا المنهج -كما هو شائع الان – لم تصل الى اصحابها بوضوح كاف، صحيح انى ارجع الى نظريات وأفكار واردة فى تراث العلوم النفسية، ومعاشة فى خبرة الممارسة الطبية النفسية الا ان هذا وذالك كما اوضحت فى اخر قراءة لى فى عمل نجيب محفوظ الاخير العددالماضيليسا سوى بعض مكونات قلمي. حيث قد انهيت قراءتى السابقة فى العددالماضى بالتاكيد على ان ما تقدم ليس نقدا نفسيا بالمعنى الشائع، ولكنه قراءة خاصة بما هو أنا… ولكن يبدو ان ماهو انا سيثبت فى النهاية انه ما هو نفسى (بتشديد الياء)[1] فامرى الى الله، دون تسليم بما يفرض على ما اكتب من تسميات.
والان: الى قراءة النص:
هو عمل قوى، ان جاز ان يوصف عمل روائى بالقوة آو الضعف، جعل يتحدانى وانا آمر به اثناء القراءة الاولي، ينتقى الكلمات، ويحدد النقط. ومساحات البياض بين الفقرات، وعلامات الترقيم بحيث لايدع لمثلى مجالا لافتراض تداع حر بالمعنى غير المسئول، ومع كل هذة الدقة المتحدية، فقد كان على آن اعكف عليه، وان آقابل تحديه بعناد يسمح لى بالاستمرار جادا متمهلا، وبانتهاء القراءة الاولى… وصلتني رسالة العمل بشكل ما، آو هكذا خيل الي، وثارت عدة آسئلة (قبل ان اعاود القراءة مرة ثانية ) تقول:
لمن كتب هذا الكاتب عمله هذا؟ ومن ذا الذى يستطيع ان يقرأ كما تمنى الكاتب، وكما تمنيت؟ وما دلالة آن تقدم الهيئة المصرية العامة للكتاب على نشره؟ وكيف ظهر هذا العمل فى هذا الوقت بالذات رغم كل شيء؟ ثم اخيرا:
الا تدل الاجابات المرجحة على هذه الاسئلة مجتمعة آننا نعيش فى عصر فكرى افضل مما نتصور، وآرقى مما نشجب؟.
ولم لا؟
فليفتح باب التفاؤل على مصراعية، ولتكن المسئولية متجددة متواصلة.
الجزء الاول: عرض وتقديم
الصعوبه والتعريف:
من الصعب الى درجة الاستحالة ان يوجز هذا العمل آصلا، فاذا تذكرنا احتمال انه-فى الاغلب – عمل غير شائع بين القراء[2] آو حتى بين الصفوة المفكرة.. لوجدنا انفسنا فى مازق لا خلاص منه الا بالمحاولة غير المحسوبة.
1- وبداية فهذه الرواية تكاد أن تكون رواية اصلا، فليس فيها حدث بالمعنى التقليدى، بل ليس فيها بطل فرد رغم آن كاتبها اسماها منولوج داخلى طويل[3]– لا لم يصلنى آنة منولوج وان وصلنى آنة داخلي،ولم يصلنى آنه طويل بقدر ما وصلنى أنه عريض فى تكثيف متشابك عنيد، حيث تفكك بطله الى عوالمه الداخلية حتى لم يعد فرد ا ثانية الا قرب النهايه، نعم داخلى، وآن تاخر الاعلان الصريح المباشر عن هذه الحقيقة الى ص (145)[4] ” لا شيء من الخارج، كل شيء من الداخل، لا شيء من الخارج ” لكن السائر فى الرواية طولا وعرضا لابد آن يكتشف هذة الحقيقه منذ البداية ص 6[5]..، آغلب الظن آننى على عمق كبير تحت سطح الارض ثم صفحتى (36، 37 ) أرأيتم كم نحن غير قادرين الا ان نحتمى بقشرتنا القرنيه، نتكور بداخلها، أما عن تفاصيل التفاصيل (والروايه كلها تفاصيل) فحدث عن السراديب والدهاليز والثقوب والوحوش والحشرات والشخوص والمطاردات بل والموت داخل الداخل دون حاجه الى ذكر آمثله والاسردنا الروايه كلها بلا نقصان. فيما ترى هل يصح بعد ذلك أن نطلق على هذه الروايه اسم تيار الوعى آو اللاوعى؟ وهل يصلح الاسم الذى اقترحناه بديلا لهذا وذاك تعدد مستويات الوعى[6]؟… ليكن.. رغم أن الاسماء فى مثل هذا العمل تحد.. ولا تفيد كثيرا.
والان، لنصنع من روايته حكاية:
2-الروايه تبدأ بتوقف الزمن (العادى) (تعطلت ساعتى ص5) مع بداية المحنه ليجد الراوى نفسه على عمق كبير تحت سطح الارض، وهذا التعبير بوجه خاص يعلن عندى عن الانتقال الى الوعى الغائر،[7] أو بالتحديد عن رفع الغطاء فاذا بالتحت يصبح هو العالم الكلمة: المحنة طوال الرواية، بل يكاد يؤرخ بها لسائر الأحداث باعتبارها الحدث الحاسم الذى لقى نفسه فيه، وهى تسمية ذات دلالة لأنها تشمل الأختيار، والنظر معا، أو قل هى تشمل امتحان وجودى عنيف نتيجة لما فرض على صاحبه من اعادة النظر، ويذهب الراوى يحكى أكثر فأكثر عن منطقة حركته الدائرية، وعن البحث عن خلاص بلا جدوي، وعن ضرورة اجتياز الهوة كل شئ يبدأ، كما انتهي، بهوة يجب اجتيازها (ص17)..
3- ثم ينتقل بعد ذلك بما يشبه الأسترجاع[8] محاولا أن يستدل: لماذا اضطر إلى خوض هذه المحنة، فيحكى أنه لم يولد الا ليعرف ويكتشف، والا لماذا ولدت (ص 43)، وأنه فى سبيل ذلك أعتنق “الحركة المعاشة” وليس مجرد ” “الحركه الموحى بها “ (ص46 ) الا ان حتم الحركه وديمومتها لم يمضيا به هونا على طريق الاكتشاف المبدع بالحكمة الرزينه بل ألتقيتا بة آبعد من كل شيء حتى حافة الجنون ذاته وبدا أنه قد يطيب له أن يدفع الثمن الغالى اذا لم يكن ثمة بديل الا خطيئة التوقف[9] “ان الهة الجنون ذات العينين الواسعتين والشعر الاشعث ترى ما هو ابعد مما تراه الحكمة ” (46) وهو يمضى فى ادراكه المبدع للاشياء كلها بانبهار متصل يعيد تخليقها.4- ولكنه يجر (بضم الياء ) الى خطيئة السعار التنافسى اليومي وبشجاعة يعترف ان هذا الانحراف هو مسؤليته “وحدى ارتكبت خطيئتى، كنت دائما اتعطش الى الفوز فى السباق كنت اريد دائما ان اسبق الجميع، ان اسبق كل شي، بل وان اسبق نفسى ” (ص51) وينبع هذا السعار منعدم الامان الغائر، الذى ادى حتما الى الوحده المطلقه، ثم الى التسطيح والاختباء حيث كانت الوسيله الاولى والارجح هى ”السباحه الخارجيه من اجل نشر الغطاء ” (ص54) فلتقم حيلة الكبت (واخواتها) ومكاسب النجاح بواجب الاخفاء المناسب حتى يستمر السعار مدفوعا باللاأمن، ولكن من يضمن ضبط الجرعه ” فقد يؤ دى الامر الى انتشار الظلام وانطماس الحقائق كلها ” (ص55 )، وقد كان
5- وفى محاولة انتحاريه للخروج: لاح الامن فى رحاب الاخرين حول فناجين القهوه “وعلى الفور بدأ السعار فى الجوف ينخفض” (ص 55 )
6- لكن يبدو انها كانت محاولة مجهضه او خادعة، أو انها حفزت الى مستحيل اخر: مزيد من المعرفه والكشف وليكن ما يكون، حقا انها محاوله انتحاريه،والذى يبدا لا يضمن اين تنتهى، وكشف الغطاء عما سبق تغطيته ( بالحيل والادراك المحدود ) لم يعد يكفي، ولابد من الوصول الى الحقيقه الاخرى او المطلقه، لكنها – على ضخامتها – لا منفذ اليها الا ثقب صغير ولابد ان يضيع هذا الثقب وسط المعاول التى تضرب فى الهواء وخلف الابواب التى لاتؤدى الى شيء ابواب وهميه.. وتحت قباب هوائية (ص 56)، زحمه السدادات واثار اعمال الحفر وينتهى البحث دون ان ينتهى الامل فيتزود الباحثون بآله البحث التى تقطع ولا تقطع (بضم التاء) ” بقعه لامعه من الضوء كالماسه الهائله” (ص 58)، وقد تكون هذه الماسه هى ما اسميته من قبل غريزه المعرفه[10]، التى تشير الى التوق الدائم الى مواصله الاكتشاف، والتى اذا نشطت وبدات فى عملها فلا راد لها الا الموت (بانواعه).
7- ويتوقف التسلسل من جديد ليرتد الروى الى اصل سابق مما قد يكون قد هيأ للمحنة، وهو من بعض مضاعفات الوحده واللآ أمان حيث يعلن الراوى كيف شعر (أو كان يشعر باستمرار) – حتى من ابنه – بآنه غير مرغوب فيه وهو يتعجله – مثلا – ليوصله الى المطار ( لتخلص منه هكذا استقبل لهفة ابنه على توصيله) من اجل نزهة يبيعك؟ احساس بأنك غير مرغوب، اخلاء البيت منك امر مبيت (ص 61 ) ويمضى وحدة باحثا عن بدائل، عن تلاهي، وعن صحبه فى السفر او فى غيرة، وعن نداء من الصيف المقابل، من أى اخر كان، ولكنه يمضى آبدآ فى انتظار ما لا يجيء (ص 67). 8- ويبدو انه قد تضافر نشاط بقعة الضوء الماسيه (غريزه المعرفه) مع الحركه الدائبة (حفزالنمو المتصل).
ليوصلاه الى مآزق ” المناسب” رغم غرابه الوضع ” كانت الحركه الآن قد اوصلتك الى وضع وجدت فيه نفسك تتدلى وراسك الى اسفل، وهذا من أفضل الاوضاع على اى حال “ (ص 69 )، ومن هذا الوضع المقلوب يمضى الاسترجاع ( الفلاش باك ) الى تاريخ البشر، لا الفرد فحسب، فتعرض له صور مشابهة من الاساطير وغيرها لازمه ” فرط الحركه ونهم المعرفه”
9- لكن الراوى يكتشف ثانيه – وياللأسف – أنها مجردحركه تملا فراغنا (ص79 )، ففيم المغامرة؟ وفيم التوق؟ ان الانتقال ليس من الحيز الذاتى المحدود الى المطلق الكونى المتناغم وانما هو من صندوق من سجن الرحم الى سجن الحواس، او من وصايه الأم الى وصايه الناس…. الخ انفتح الصندوق فجاة، ودعينا للخروج الى صندوق اخر (ص 81 ) قد يكون ما اثار هذا الحدس هو نقله فعليه من طائرة الى أخرى أو من طائره الى مطار، لكن المعنى لا يخفي، بل انه قد عبر مباشرة عن ذاته المحدودة بتعبير الصندوق انت هذا الصندوق (ص29)
10- ويظهر أمل فى خلاص منظم آخر فليلجأ صاحب المحنه وشريد المتاهة الى القلم، يكتب فيبدع فيتواصل، فيكسر الوحده ويسعى الى المعرفه فى ان لا تستسلم وهل لك غير اوراقك وقلمك (ص85) ثم من اجل الخلاص فليكن قلمك وليس من اجل الجمال فحسب (ص86) هنا تظهر وظيفه الابداع ممثله فى اللجوء الى الكتابة للخلاص، ولكن الأمر لاينتهى بهذا الحل الوديع، فالابداع (الحق ) يفجر طاقات العدوان[11]، وفى نفس الوقت يروضها، ولكنه ليس بديلا عن مواصله البحث عن الحقيقه مهما بدا ثورا عصريا (86)
11- ويعود البحث من جديد، والركض والمطاردة، وترفض (بضم التاء ) قيم السعاده الظاهرة (الزائفة)، ويظهر البديل الحقيقى فى سعاده الجلد والمثابرة مهما أحزنتنا الرؤى وصدمتنا الحقائق أتعرفون ما السعاده حقا؟ هى ان تكون لديك القدره على الاحتفاظ بحزنك، رغم كل شيء على الاحتفاظ بحزنك شامخ الأنف، أبيا، (ص94)[12] ويلطف حدة الوحدة واللا أمن لمسات ذكرياتية من حنان الوالدين ويوصيه احداهما بما يدعم قراره الى طريق الخلاص الجديد.…تشبث بقلمك جيدا وباوراقك، ضمها الى صدرك ولا تترك الريح تخطفها منك وتذروها بددا (ص69، 97)
12- ومره اخري، لا يمكن ضبط الجرعة، فالابداع (الكتابة) يحتاج الى شحذ اداة الادراك الخلاق وحث حفز الحركه التوليفيه، ولكن لا هذا ولا ذاك يمكن ان يدار أثناء ممارسة فعل الابداع ثم يغلقا بعد ذلك كما كانا قبله، فالحس المتيقظ بافراط يلتقط كل شي، والنوم متعذر، والقلم لايمتص كل طاقه الحركة وتوفى المعرفة (ص102،101، 103 )، ويأتنس – مؤقتا ـ لصوت أغنيه حنون ويكاد يطمئن لخياله.
13- وتستسلم له احلامه او انثاه اما استسلامها فهو النعيم بعينه (ص107 ) فتملؤه القدرة بلا حدود وهل لها ان تقاوم سيدها وربها الريح فى شيء (ص108) ولكن …دائما لكن يتكشف الأمر عن حرباء قاتلة ملتهمة، وتختلط الصورة بين الوجة الآخر للأم الجافه العجفاء، وبين الزوجه او الرفيقة الخادعة وكلاهما يعلن الجوع غير المروى من اى مصدر، ولا حتى من الله أو من داخل الذات: قال احد الجالسين بالمقهى انه يكلم امرأ ته وقال جاره بل امه وقال آخر بل ربه و رابع قال انه يكلم نفسه (ص110) ولا منقذ الا اسفنجة مغموسة فى مداد يشرب منها وكأن المداد قد صار البديل عن اللبن المفتقد من الثدى الجاف (القاتل)، وماذا يفرز المداد الا الكتابة؟ فلتكن أنينا يملأ القلب شجنا، وليسجل على شريط، ولينتقل الى الناس، فيرتوى رضيع المداد اذ يغنى للآخرين لحن الحزن من فرط الوحدة والرؤية، واذا لم يرتو وهو يروى فليألف الصيام، ولتلتحم الضرورة بالارادة !! (ص111).
وهكذا يقاوم الفناء بأى مثابرة على الحركة: ولو بين هلاك وهلاك نتأرجح (ص 112)، بل انه يبرر الاقتتال فى سبيل رشفة بقاء (ص 113)، وهو الذى أفتقر الى طاقة العدوان فى بدء محنته (ص 36).
14 – ولكن يتضاءل جدوى هذا الحل أيضا ويبدو أن التسليم للضياع، أو الاختباء فيه، أمر لا مفر منه كل منا أضحى ذرة فى سحابة دخان، هذا هو البديل الذى كى ننجو: تحولنا اليه (ص 116)، اذن: فهو العدم أو شيء شبيه به، ولكن أين الحركة الدافعة والتوق المكتشف؟ وتقل قدرتنا على الاندفاع، فنفيض على الجانبين، ونتبدد فى هجير البادية (ص 117).
15 – لا.. لا !! ليست النهاية بعد، فمصدر الهلاك هو نفسه مصدر الخلاص، واذا كان الابداع بالكتابة لم يلق من يتلقاه مثلما ضاعت المياه فى هجير البادية فان التراجع والنكوص الدائمين ما زالا مستحيلين، والدفع الى الأمام قد أصبح حتما بلا بديل، اذ لم تعد ثمة أرحام تقبل أو تنتظر خرجت من رحم مات لحظة ولادتك، وحاضرك رحم يلفظك ويموت أيضا (ص 120)، والعجيب (ظاهرا) أن هذا الدفع الى المستقبل يتولد من حتم الموت الملاحق، وموت البنت هنا يشير – أيضا – الى أن المستقبل نفسه يصبح ماضيا يتبدد.
16 – ويلوح طيف خيالي، أو حقيقى حقيقة هى الخيال، بديلا عن العجوز العجفاء، وعن الجسد التراب، ولكنها (الطيف أنثي) تظل على مسافة، تحافظ على فضوله، وبالتالى على حبه، وتدعوه الى الآن بمحو ذاكرته، ولكن دون جدوي.
وتعود العزلة تفرض نفسها رغم كل محاولة انى اغرق، أقطع الروابط بالآخر، وأنفرد بالنفس فى صمت مطبق، أنا وأنت، منفى كل منا عن الآخر (ص 130) وبعد قليل ألبس القناع، لا للتجميل والأناقة بل لمنع الاتصال (ص 130) ويذكرنا ذلك بالمشكلة الجوهرية التى أعلنت فى بدايات الرواية: كنت دائما غير قادر على التلاقي (ص 22) وكأن الحلقة ستغلق أو تكرر نفسها: أسألك ما نهاية الليل؟ فكر. ليل آخر([13]) ؟ (ص 131).
17 – ويبدو فى الأفق حل أبسط، وربما أنجح، يتمثل فى العودة الى الوعى الهاديء المثابر بممارسة الأشياء الصغيرة واعطائها حق قدرها، فليشحذ الوعى فى اتجاه كل الحياة بما تتمثل فى أبسط صورها، وليكف عن الشطح فى اتجاه المطلق، وعن الانسلاخ، ولنتقدم اليهم لنقتحم الآخرين وجها لوجه بلا أعذار، رغم احتمال الطعن بل اننى أفتح صدرى وأقول: اضربوا هنا.. لا أريدها فى ظهري (ص 132).
18 – وبعد هذه المواجهة الشجاعة، يتخلص صاحبنا من تكثره وتعدده على حساب أى أحد، على حساب الابن والابنة (فى الداخل أصلا) وعلى حساب المرأة (وهو الأهم) آن الأوان تخرجى أيتها المرأة الشريرة من داخلي (ص 133)، فيتوحد، يصبح واحدا فقط، فقط، حتى لو كان هذا الواحد ليس هو، (بل هي المنتصرة)، المهم أن يرجع واحدا (ص 133).
19 – واذ تتحقق هذه الواحدية من جديد تظل الحقيقة منفصلة عنه، لكنها مواكبة راسخة فى صورة كيان دائم أبقى من كل فرد، مهرها غال، لكنها تستاهل، فصل بأكمله (فصل 16) (ص 135 – 142) وهى (الحقيقة) تتحدث وتتحدى وتتجاوز وتخلد، فهى تطهر فى أفراد، ولا يظهرها الأفراد!! وعندما تشارف النهاية لا تتعجلني، فعلى هناك ان اخلع نعلي، وان أتطهر من ادرانى ومنك، وذلك قبل أن أستريح لأمضى فى الطريق ابحث عن غيرك، ربما بعزم أشد، فالعود أبدي… (ص141).
20 – ويظهر الطفل المقدس أيضا بكل القوة والجبروت، وكأنه التكامل فيما هو الله، ويكاد المثال يغلب الواقع فالأحلام تخيف اليقظين (ص 144)، ويعلن أن المبدع ليس الا وسيلة لتجلى المطلق فيما يبدع. اتخذنى قلما واكتب بى أقوالك (ص 145).
21 – ولكن…!.
(نعم نفس اللكن).
تأتى النهاية ليولى الجسد (الفرد) صوب النهاية المحتومة (طريق أمة)، وتبقى الروح المطلق صانعة التجديد.
بعد هذا العدو اللاهث بين السطور والرؤي، قبل أن التقط انفاسى أقول عذرا، فقد كان على أن آقرأها – مع القاريء – بهذه العجالة التى لابد قد قفزت فوق تفاصيل غاية فى الأهمية، ولابد أنها تعسفت فى الاختزال، ولابد انها تطاولت فى التفسير، ولكنها قراءتى الأولى على أى حال، يقبلها القاريء أو لا يقبلها، بل يقبلها الكاتب أو لا يقبلها، ثم نبدأ فى اختيار بعض جوانب هذا العمل القوى الشديد التكثيف، كمجرد نماذج لوقفات نرجو معها أن تلقى بعض الأضواء عليه، أضواء تكمل – وربما تناقض – هذه الاحاطة الطولية السريعة، وهى مجرد عينات، ففى يقينى أن مثل هذا العمل يمكن أن تستغرق قراءته وتفسيره أضعاف حجمه، فسيظل بابه مفتوحا لكل مفكر سائح جاد متجدد.
الجزء الثانى: مسائل ومواقف
1 – تجربة أم حكاية:
توقفت فى العرض والتقديم عند صفة هذا العمل، وهل هو رواية أم غير ذلك، ويبدو أن صاحب العمل قد توقف مثلى فأعطى المحتويات اسما آخر كما أشرنا: هو مونولوج داخلى طويل، وهنا أكرر أن هذه الدراما الاحادية (الموندراما) هى تجربة معاشة أكثر منها رواية معادة، وأن بطلها ليس واحدا، وانما هو كل الآحاد والأشياء التى احتواها وانطلقت منه فى هذه التجربة، وهذا المدخل كان مدخلنا الى أفيال فتحى غانم، وبعض شخوص مجموعة رأيت فيما يرى النائم لنجيب محفوظ، وقد يظهر لأول وهلة احتمال التعسف فى تكرار هذه المقولة، ولكن يبدو أنى منشغل بها لدرجة تلح على أن أسعى لكى يشاركنى قبولها القاريء والكاتب على حد سواء، كما يحتمل أن تكون هذه المقولة – الآتية اصلا من ممارستى مهنتى ومن ذاتى معا – هى التى تجذبنى الى قراءة نص مثل هذا النص دون غيره، ولكن: ما باليد حيلة، هذا ما رأيته وأراه: تفكك صاحبنا فى محنته، فتوقف الزمن، وأغلقت الدوائر، وانطلق المحتوي، وحكيت التجربة، فكان هذا العمل، سواء كان اسمه رواية أو منولوجا أو أى شى آخر، المهم أن السؤال الذى يلح على فى كل مرة هو: كيف عاش كاتب مثل هذا العمل هذه التجربة؟ ذلك أنه من المستحيل أن ينسجها خيال كاتب، أو يؤلفها قلم عالم جامع مهما جمع، هى تفجر داخلى لا يعرفه الا صاحبه، ولا يسجله الا مبدع قادر عليه، وقد يتصور البعض أنى بهذا أصر دائما على أن يكون الراوى (البطل تجاوزا) هو الكاتب نفسه، وهذا صحيح من بعد بذاته، وهوأن الكاتب الذى أعنى هو والد العمل وحاضنته، وليس الكاتب الذى أعنى هو نفس ذلك الشخص العادى فى سلوكه اليومى المعلن، فهذا عمل من الأعمال التى يستحيل كتابتها الا لمن عاشها هو، أو عايش من عاشها باحتواء وتقمص كاملين، ثم أحسن نسيجها وتوليفها كما قدمها لنا فى هذه الصورة، اذ من أين له كل هذه الاحاطة بالداخل كما هو، نعم كما هو، ومن أين له استيعاب حقائق وطبيعة علاقات التركيب البشرى الغائر: بكل هذه الدقة التى لا يعرفها دارس النفس المنهجي؟ بل ان الدقة تتعدى المعروف الى اكتشاف ما يمكن أن يضاف الى علمنا عن النفس ([14])، ولو استسهلت الأمر – مثل زمان – لذهبت أضع تشخيصا مسطحا لبطل هذه الرواية وهو الاكتئاب، مستندا ابتداء الى ذكر عقارين (صفحة 126) ([15]) لا يعرفهما الا طبيب أو مريض يتعاطاهما، فهما من مضادات الاكتئاب الخاصة جدا وليسا من المهدئات الشائعة، ولكنى ارفض هذا القفز المسطح، وأصر على تناول التجربة بما تحوي، لا بما تسمي، فالمهم فى هذه التجربة أن التفكك الذى حدث للشخصية هو تكثر ومواجهة بين الكيانات التى دب فيها النشاط، وليس تناثرا واغترابا بين أجزاء الذات اذ تفرقت، والفرق هو الفرق بين تحريك وحدات التركيب البشرى نحو اعادة التنظيم فى الابداع أو النمو مارا بمحنه مفترقية ([16])، قد تسمى مرضا اذا أجهضت أو تدهورت، وبين التمزق السلبى العاجز فى شكل المرض من البداية، وهى محنة لأن بداية المسارين واحد، ولا يعلم الذى يبتلى بهذه التجربة الرائعة الى أى مصير سينتهي، وحين تتفكك الذات الى وحداتها ومحتواها: يصبح لكل شيء كيان حيوى نشط: حتى الجماد، حتى المجرد أو الزمنى (الموت ص 7، والليل ص 14)، وهذا ما يفسر هذه الوفرة الهائلة فى حركة العيون والناس وعناقيد النجوم والأبواب والأقبية والسراديب والدهاليز وكل شيء، كل شئ، كما يفسر العلاقة الحيوية بين هذه الوحدات المستعيدة نشاطها، فهى ليست فى حالة تجاور مرصوص بل هى مع بعضها علاقة مركبة تشمل الالتهام عوالم تتغذى على عوالم كى نحيا[17] (ص 8)
ووسط هذا الزحام المطلق تتضاءل الذات الاولى (التى كانت واحدة قبل المحنة)، فلا تعود هى مركز الكون فهى تكتشف أنها ليست.. سوى حصاة صغيرة ملقاة على شاطيء مترام لا يعرف له نهاية (ص 6) بل هى مجرد ذبابة وقعت بين أوراق ندية (ص 8) أو علبة صفيح فارغة فى جوف نعامة (ص8)، يحدث هذا كله نتيجة لاعادة النظر، لأن المعرفة القديمة (المحدودة) لم تعد تصلح لإضاءة الوعي، أنا فى ظلام (ص 9) والمعرفة الجديدة أشد من أن توضح الرؤية ضؤء باهر يغرقني (ص 9)، اذا فهو ليس بضوء ولكنه ظلام، ولكنه ظلام باهر (!!) لا ليس ضوءا. أين أذهب ! ضوء باهر. أنا فى ظلام. ظلام باهر (ص 9).
وتبلغ حدة الدقة فى وصف المحنة أن يختلط الداخل بالخارج بحيث يصعب التمييز والتفكك وتضاؤل الذات (القديمة) تصاحبه تعرية تجعل صاحبه عرضة للاقتحام والكشف دون استئذان، ودون تحديد مصدر الاغارة (ص 10)، وهولا يميز ما اذا كان هو بداخلهم ام أنهم هم الذين بداخله ربما كنت بداخلهم. ابتلعوني (ص 11)، هذه حقيقة أخرى لا يعرفها الا من يعيشها بلا نقصان.
هذا بالنسبة للتركيب وتداخل مكوناته، اما بالنسبة للحركة واتجاهها، فان الوقوف عند تعبير من بضع كلمات تتخللها شولتان وتنتهى بنقطة يجعلنا نحنى هامتنا احتراما لهذه التجربة، وشكرا لصاحبها، وتعاطفا مع ما عاشه بسببها، يقول: كل شيء يبدأ، كما انتهي، بهوة يجب اجتيازها (ص 17) ولو توقفت احكى عن هذه البداية المماثلة للنهاية، وعن طبيعة هذه الهوة فى مسيرة النمو، وعن وجوب اجتيازها ان كان للنمو أن يستمر فى دوراته، لاحتجت كتابا بأكمله يشرح ما فى هذه الجملة من دقة وعمق، وكما ذكرت فان ما تحويه مثل هذه الجملة من طبيعة قفزات النمو النوعية الحتمية[18]، والمشى على خيط الصراط فوق هوة الجحيم، ووجوب اجتيازها والا.. ليس واردا هكذا فى الكتب النفسية، فمن اين لصاحبنا به؟ نعم من أين؟ أرجو أن يصدقنى احد.
المهم، فانه بمجرد استتباب بداية هذه المحنة تبدأ – وفى نفس اللحظة – محاولات العودة (بلا طائل عادة)، اليس ثمة وسيلة؟ حبل طويل مثلا؟…… سلم نجاة؟… الخ (ص 12).
ومحاولات العودة تصاب عادة باحباط شديد متكرر، لأنها تمضى عادة فى عكس الاتجاه، ففى الوقت الذى يشعر فيه أنه ها أنا أصعد، اخرج باحثا عن مخرج (ص 13) لا يمارس الا الحفر (الى أسفل)
وتبلغ دقة معايشة التجربة أن نرى فى ذوبان الذات الفردية فى بحر الظلام، ولادة ذات أشمل، قادرة على أن تضيء الكون رغم جوهرها الذاتي المظلم، وهذه التجربة الدالة على امحاء الفردية على حساب الكيان الواحدى لصالح الذوبان فى الكون (نجما أو شمسا تضيئان وهما ظلام) هى من اخص صفات ما أسماه الكاتب المحنة، اذ ماذا يعدل الذات الفردية المحدودة مهما اضاء البديل الذائب فى الكون؟ ولكن بعد التجربة، يشك صاحبها فى ما كانته هذه الذات الفردية المستقلة، حين كانت جسما غريبا (مصدرا للشقاء) هل كان لشيء وجود يوما؟ (ص 133) والى هنا أتوقف عن المضى فى اثبات أنها تجربة معاشة وليست مجرد خيال منسوج، وهل الابداع، أى ابداع، الا تجربة معاشة بشكل أو بآخر؟.
وقبل ان انتقل الى الفقرة التالية أود أن أشير الى نجاح الكاتب – رغم موسوعية ثقافته التى تطل فى السطور وما بينها – أن يمنع فى أغلب الأحيان[19] وصاية معلوماته المسبقة على حدسه المكتشف.
2 – التكثيف والضمائر:
نقول انه الداخل، وانه: لا شيء فى الخارج، ونقول انه التفكك فالتكثر، دون التناثر والتمزق، فمن المتكلم؟ ومن المخاطب (بفتح الطاء)؟ ولمن ضمائر: هم، انتم، وأنت، وأنت (بكسر التاء)، ونحن؟ ان هذا العمل الجاد يتطلب من قارئه يقظة تقارب يقظة كاتبه، والا انقطع الخيط بينهما، ويبدو أن الكاتب قد قصد الى ما فعل، فما كان أسهل عليه أن يضع شرطا (بضم الشين) قبل نقلات الحوار، لكنه حوار داخلي، ليس استبطانا ولكنهما معايشة الداخل اذ تكثر نشطا، فهل خشى الكاتب لو حاورت الذوات المتكثرة نفسها بتحديد صريح أن ينسى القاريء أنه مونولوج؟ ربما، ام هل يثق الكاتب فى قارئه الجاد أن يبذل جهدا مقابلا، فيتم التواصل بأشرف ما تكون المعاناة؟ ربما، المهم أننى سأقوم بعرض مجرد أمثلة لهذا التحدى المبدع نتأمل فيها الدقة والألم جميعا:
(أ) تبدا الرواية بضمير المتكلم لم أعرف… أدركت أنني… نقبت.. دققت… الخ (ص 5).
(ب) قبل نهاية الفصل الأول يظهر ضمير المخاطب.. انتبه. ها هى الحقيقة… ستصبح انت ذاتك ضوءا… الخ (ص 15، 16)
والنقلة بين المتكلم، والمخاطب تشمل نقلة نوعية فى الموقف، ففى حينالمتكلم يشير الى الذات التى نسيت، أو أقصيت (!!) حيث القيت فى المحنة (مبنى للمجهول)، فان المخاطب (هنا) يشير الى الذات التى سوف تشرق فى المستقبل بعد أن تذوب فى الكون (الجميع)، ولنذكر دون تفصيل ان الحوار ليس بين هذه وتلك، فالذات الثانية لا تخاطبها الأولي، ولكن الذى يخاطبها هم نحن لا تسال من نحن، يكفى انك لن تكون القلق المكتوم الذى يصرخ فى طواحين المنفي (ص 16)،
وهنا يجدر الاشارة الى انه منذ الفصل الأول: والحل – رغم تذبذبه وفشله – يعلن نفسه، انه لاخلاص لازمة ال انا الا فى ال نحن، ولكن يا ترى هل يتم ذلك على حساب الأنا.. أم من خلالها وبها؟ لقد اهملت الرواية توليد هذا المسار، فحل محله بديل منفصل عن الذات، وعن النحن كما سنري.
(ج) الا ان الاشكال يتجسد حين يستعمل نفس الضمير فى مواقع اخري، ليشير الى شخوص اخري، فـ نحن التى استعملها مثلا فى الفصل الخامس (ص 50) ليست هى نفس ال نحن التى اشرت اليها حالا… كان لنا تصورنا للعالم…، نحن هذه ليست سوى أنا وهو يعمم خبرة النشأة حيث قد يجرى على غيره ممن هو مثله ما يجرى عليه اقول كان لنا تصورنا للوجود، كان لى تصورى للوجود (ص 50).
نفس الشئ يتكرر بالنسبة لضمائر المخاطب، والمخاطبة، فتتبدل الادوار باستمرار، بحيث يحتاج القاريء ان يراجع الامر مرة ومرات قبل ان يتبين من يخاطب من.
وقد يسال سائل، لماذا هذا العنت كله؟ الم يكن الأولى تحديد الشخوص – حتى ولو كانت داخلية مثلما فعل فتحى غانم فى الافيال أو محفوظ فى رأيت فيما يرى النائم..[20] وغيرها؟ والاجابة ليست سهلة، ولكن لنحاول: أولا: ان عدم التحديد هو من صلب طبيعة مثل هذه التجربة، واى اختزال للموقف قد ينتهى الى تشويه لا يحبذه المبدع. وثانيا: ان المبدع نفسه حين يصدق فى وصفه لا يستطيع أن يتبين تماما التحديد الذى يتمناه القاريء، وثالثا: ان المعاناه التى يعانيها القاريء خليقة بأن تفتح على كل قاريء بتفسير قد يختلف عن غيره، وقد يصدق تفسير اى قاريء اكثر من تفسير قد يختلف عن غيره، وقد يصدق تفسير أى قاريء اكثر من تفسير الكاتب أو الناقد، فيصبح العمل مسقطا لكل قاريء يبدع من خلاله نفسه كما يشاء- او كما يستطيع – الذى احذر منه حتى الرفض: هو هذا الاسم السخيف اللامعقول، فلا يسارع احدهم فيطلق على هذه المعاناة لامعقولا لأنه لم يعقله (يفهمه) بقياسات منطقه الثابتة الجامدة، فلا احسب ان كاتب هذا العمل قد أطلق كلمة واحدة أو وضع شولة واحدة أو نقطة واحدة الا بالتزام محسوب، فأى لامعقول هذا؟
3 – ادراك… و.. ادراك:[21]
من الصعب ابتداء أن تسلسل الاحداث (أعنى التغيرات – فلا أحداث) تسلسلا زمنيا على أى درجة من اليقين، فهذه المحاولة المحدودة بظروفها وظروفى تحتمل أى احتمال الا الجزم واليقين، فليسمح لى القاريء، وليعذرني، وليحاول:
هذا الداخل الذى تحدثنا عنه (والذى افترضنا أنه هو الرواية) من أين يأتي؟ ان له مصدرين أساسيين: موروث متكاثف متداخل جاهز للتفكيك واعادة التنظيم، ومدركات منطبعة متمثلة جزئيا أو غير متمثلة اصلا، (جاهزة ايضا للتفكيك، فاعادة التنظيم فالتفكيك… وهكذا.) – وهذا المصدر الاخير هو ما اعتنى به هذا العمل عناية مطلقة،[22] ولنبدا من البداية (كما حاولت تحديدها دون الزام) لنرى كيف كان موقف صاحبنا من استقبال العالم من حوله، وكيف كان ذلك تمهيدا للمحنة، وكيف تحورت هذه الوظيفة بالمحنة، وما المخرج المحتمل:
(أ) الادراك الخاص المبدع:
منذ الولادة – وربما لهذا ولد – وصاحبنا لا يكتفى بالمحسوس، ويصر أن يتساءل عن الما وراء وماذا وراء هذه السحب؟… وماذا وراء السماء يا ابي؟… وماذا وراء الفضاء ياأبى (ص44) وعادة ما تقابل مثل هذه الأسئلة بالرفض أو حتى القهر، فيساعد ذلك فى ضبط عملية الادراك فى حدودها الشائعة، ولكن الذى حدث هنا غير ذلك، فقد وافق الوالد على اذكاء نار التوق الدؤوب هذا الصبى سانذره لأسفار بعيدة (44)، ولهذه الموافقة دلالة خاصة فى حدوث المحنة[23] فيما بعد، المهم هنا أنه-بموافقة الوالد- أطلق لخياله العنان من ناحية (ص47) واخذ يدرب ادراكه على تشكيل محسوساته كما يريد ويستطيع، لا كما يفرض عليه فيستجيب (اكتشفت من معاينتى للأشكال المحيطة أوجه شبه وثيقة بين أشياء هى فى ظاهرها على غاية من الاختلاف والتناقض، السحب فى الصباح تتخذ شكل الحصي، والامواج بين الصخور شكل الأصداف والقواقع، والشمس عند الغروب نار موقدة، وردة حمراء كبيرة، مروحة من ريش ابيض غمس فى دم الوجود) (ص48) هذا شعر الكبار أليس كذلك؟ قل معي، نعم، لكنه هنا ادراك الصغير، انه لا يتخيل ويعيد التشكيل، ولكنه يكشف من المعاينة، وادراك بهذه الصورة لا يثبت الأشياء المدخلة الى وعينا فى مواضعها مثل سائر الناس، وأنما هو يعبيء الذات بمحتويات مستقلة نسبيا متحددة قلقة، لابد وأن تنتهز الفرصة فيما بعد لتستعيد نشاطها فى محاولة اعادة تنظيم وتركيب توليفات جديدة، ان هذا الاستقبال الخاص للوجود، هو الذى يحفز التصور الخاص: للوجود، فيهييء للمحنة (ولكنه ليس سببا لها وحده)، اليس هذا نص كلامه كان لى تصورى للوجود، وهو الذى أتى بى الى هنا، لكنى لا أعتقد أنه السبب الحقيقى فى محنتي (ص 50، 51).
(ب) سجن الادراك: ومحاولات القفز لتجاوزه
لكن المسألة لا تمضى هكذا، فالمحظورات متعاظمة عندما تقترب منها تنطلق صرخة، وربما أصابتك عضة، مثل شرك يطبق على ساق فريسة[24] (ص27)، لكنه لا يستسلم أبدا لأنه يعلم أن المسألة لا تقف عند هذا الحد كنت موقنا على الدوام أن الوجود غير محصور فى ادراكنا (ص35)، ويحاول القفز فوق الحواجز، لكننى كنت على الدوام لا أخرج، فما لم يكن مدركا، ما كان خارجا بالنسبة لى يصبح مع تقدمى اليه واكتسابى له جزءا من ادراكي، وهكذا يلاحقنى ادراكي، بل وكان ينمو ويكبر.. (ص35)…،… انى للأسف جثة تتضخم (ص 36)- وهو يعلن بهذا الوضوح أن احتواء الذات للوجود مهما كانت مبدعة وخلاقة؛ ليس حلا بل عبئا وهكذا رحت التقى بذاتى متضخمة بحجم الوجود كله (ص36) وهذا المآزق الخطير هو الذى يؤدى الى المحنة، وهو يدرك ذلك تماما حين يعاين حركة البندول ما بين ذاتى الصغيرة التى وددت أن أهرب منها (ص36) لأنها تلغى لا نهائية الوجود، وبين ذاتى الرحيبة رحابة الوجود كله (36) ولكنها ليست رحابة التناغم والحوار، وانما رحابة الاحتواء والالتهام والتضخم الفردي، فهى لا تعدو -رغم الرحابة- الا ان تكون جثة تتضخم، اذن: فهذا النوع الرائع من الادراك المتعاظم بلا حدود، هو فى النهاية خطر على حدود الذات… فهى المحنة.
ومهما تضخمت بما ادركت تحديدا فثمة ما بعد ذلك حتما، وتعبير الوجود كله هذا هو تعبير مضحك لا معنى له، وهو يعرف ذلك ولكننى كنت أقول لنفسي، وباصرار غير معقول أن يكون هذا هو كل شيء (ص 150) وتظل هذه المقولة هى محور الوجود وحفز السعى حتى نهاية الرواية ان ما هو موجود ليس كل الوجود (ص 150)، وهكذا نجد أن تعاظم الادراك كما أو حتى كيفا لم يحط بالوجود بل زاد العبء وهيأ للمحنة، ويبدو أن حدة الادراك لم تقتصر لديه على فرط الاحتواء وانما امتدت الى دقة الالتقاط لكل التفاصيل، من أول ملاحظة الشعيرات الدموية البنفسجية والزرقاء على الفخدين المترهلين (ص62) (حتى لو كان خيالا) الى رصد كل مايجرى حوله مهما بعدت المسافة، سواء فتح له باب على سلم الخدم (ص99) أم خطوات تجرى بالدور العلوي. صنبور بحمام الجيران الملاصق…. باب الشرفة يئن.. حتى حفيف الخف يلتقطه خفاها يزحفان على الأرض الخ (ص..1).
وهكذا لم يستطع صاحبنا أن يقفز خلف قضبان سجن الادراك، حيث كانت القضبان تتزحزح دائما أكبر قليلا من مدى القفزة، ولم ينفعه أن يرهق ادراكه بحدة الاستغراق والالمام بكل التفاصيل ربما أملا فى انهاكه فتجاوزه، ولم يكن بد من تمنى اغلاق أبوابه المفتوحة على مصراعيها لو لم يكن آذان؟ لو لم تكن لى عيون؟ لو لم تكن لى حواس وأعصاب؟ (ص 29)[25].
(ج) تغير الادراك (بعد الانهاك)، بدايات المحنة وبعدها:
وقد تحققت الأمنية، ولكن بشكل معكوس، فبدلا من أن تغلق بوابات استقبال الخارج، فتحت على مصراعيها للداخل، بالاضافة الى فتح مخارج الانقاذ ([26]) التى بلا عدد، ولا يعود الادراك يتبع نفس القوانين التى تمليهاالذات الواحدة ذات المداخل الحسية المقننة، فيتغير نوع الادراك، يبدأ بالشك فى ادراك الذات لا تثق بالمرأة… تظن أن ثمة خطأ،… وتقول أنه لست أنت ذلك الذى ينظر اليك متعجبا… كل ما هنالك أن الأوثان التى تقيمها المرايا امام ناظريك تخدعك (ص 131،130)، وأعتقد أن هذا التغير بدأ يدب قبل مفاجأة المحنة، وكان من ارهاصاتها ثم ظهرت المحنة بصورة خاطفة.،……… كان كل شيء حولى قد تغير… المكان مختلف تماما عن كل الأماكن التى عرفتها (ص25)، ويختلط الداخل بالخارج، وتفتر حدة الادراك أحيانا (ص 13)، وتتخلق تعيينات من مجردات ([27]) الليل كتلة هشة باردة…… رأيته بعينى اللتين سيأكلهما الدود، كم وددت أن المسه….(ص14).
وأعتقد أن هذه الأمثلة تكفى فى موضوع الادراك، وهى تدلل من جديد أن الرواية خبرة على أعلى مستوى من الصدق والدقة، وأنها تخطت المعلومات المتاحة من هذه الظاهرة كما يعرفها الكافة فى الاوساط العلمية، ومع ذلك فليست دلالتها هى ما أظهرت من جوانب فى تطور الظاهرة فى الطفولة والصحة والمحنة، وانما دلالتها فيما ترتب عليها من أزمة وجودية، ومفترق طرق على مسار النمو والتطور والتناثر والنكوص، ودلالتها الأهم فى اظهار أنه من المحتمل أن يكون هذا هو المسار الذى يحدث لكل من يقع فى هذه المحنة، ولكن دون وعى أو قدرة على تسجيله بكل هذه الدقة والحذق والأمانة.
4- الجسد فى مقابل الروح:
فى عمل مثل هذا العمل يغامر برسم أبعاد محنة التفكك والحفز والمراجعة، لابد وأن نواجه المشكلة الأزلية عن العلاقة بين الشيء المتعين كمجال لهذه الخبرة (الجسدية) وبين الطاقة المتفجرة المتجاوزة لهذا الشيء المتعين (الروح)، أو… أو التى تلبس هذا الشيء المتعين بعض أو كل الوقت، فحين تتفكك الذات الواحدة الى مكوناتها، ولا يعود ما يمسك الواحدية فى كل ظاهر، تبرز ثنائية الوجود المحتمل، وحين تتجول الطاقة بلا ارتباط واحدى مسيطر، يستقبلها الوعى (أو بعض الوعي) استقبالا خاصا ومتعددا، وكذلك يوحى التعدد بانسلاخ وعى ما (أو طاقة ما) عن وعائها فينفصل الجسد أو يدمغ كأنه سجن أو كائن غريب أو وجود مادى ترابى ودوني، أو ما الى ذلك، لكنى افتقدت السعى الى اعادة الواحدية على مستوى أرقى ينجذب بمحاولة تجميع جديدة للطاقة المتناثرة نحو تكامل ما فى كيان ما -هذا ما حاولت أن أتصوره وأنا اتابع معركة صاحبنا داخل جسده وخارجة، فى رحاب الكون ومنفصلا عنه، وقد بدا لى أنه – ربما لتكوين دينى مسبق أو عقائدى طاغ – لم يسمح لخبرته أن تعيد النظر فى معتقداته، فكان الجسد معظم الوقت سجنا ودنسا بشكل ما، وظلت الروح معظم الوقت أملا وسموا بشكل ما، وان اضطرفى مواقع قليلة أن يصالح ما خاصم، الا أن ذلك لم يدم كثيرا.
ويبدو أن صاحبنا قد أدرك المشكلة منذ البداية، رغم أنه لم يحلها وهذا طيب، أو حلها بالفصل التعسفى بينهما، وهذا غير ذلك.
(أ) اعلان المشكلة: الوعاء، والمحتوي:
الروح بلا جسد أمر لا يمكن التفكير فيه، ولكن عدم رؤية الوعاء لا تنكر وجوده، فالوجود بلا وعاء ليس موجودا (ص41).
وهاكم البداية، فهو يستبعد وجود روح بلا جسد، ولكن يبدو أنه يميل فى أغلب اجتهاده الى أن يرى أن الروح هى وعاء الجسد ليس العكس كما يخطر على البال لأول وهلة[28] وهو يستنتج أن ثمة روحا ما دام ثمة جسد، ان كان ثمة وجود !! فحتى نص تصويره للمشكلة: قد أعلن اسبقية الروح ودوامها، ولكنه أقدم مرة أخرى على اعلان نوع من تكامل محتمل أؤ مأمول لا ترهق نفسك بما لا قبل لك به، فجسدك هو بيت الله، أجعله كذلك (ص 90) وهنا يصبح الجسد هو الوعاء، أو هو الاداة التى يستعملها الله ليحقق بها الخير ويقدم الخدمات، ولكن من الواضح ان الله الذى يحل فى الجسد أو يستعمله كأداة ليس هو الروح الخاص وانما هو الروح المطلق[29].
(ب) حتم الفصل:
ورغم هذه المحاولة المحورة فالفصل يظل واضحا بين ما هو روح وما هو جسد، والخصام يتصاعد حتى النهاية، ففى الصفحة قبل الأخيرة (ص 150) يعلهنا صريحة أنها ليست دموع عقل أو عاطفة أو ضمير تلك التى تذرفها، أنها بكاء جسد، عليك أن تقتله حتى تظفر بهدوء البال، وتخلوا الى ما هو انسانى حقا…،… فترقى الدرجات صاعدا ثم يخاطب الروح منفصلة انهضى أيتها الروح العظيمة، انفخى فى الاحداث من انفاسك، وعلى صورتك جسميها (ص 152،151) – فالروح عنده هى التى تجسم الوجود فى الجسد حتى نهاية النهاية.
وهو يمضى يصم الجسد كلما سنحت الفرصة بذلك وهو الجسد الدنس، وددت لو تطايرت فى الفضاء ذراته (ص 118).
وكذلك شيء دنس. جسد مستباح يتقيأ أجسادا أخري (ص 130). وفى نفس الوقت لا يفتأ أن يحاول أن يطلق للروح العنان ومن ذا الذى يستطيع أن يحد الروح؟ (ص 44).
وأعتقد أن هذا الفصل- بالنسبة لي- كان من أصدقها، أو لانه أضعف فهو أصدق، فما عاشه صاحبنا حكاه، ولم يحاول غير ذلك، فهل يا ترى يصح ما أتصوره من أن عقيدة ما قد حالت دون أكمال خبرته الى منتهاها؟ من يدري؟.
يبدو أن صاحبنا قد أرهق من سجن الجسد بقدر ما أرهق من سجن الادراك الحسي، وأكثر، وان كان فى معركته مع سجن الادراك قد انتهى الى فتح المنافذ جميعا فاختلط كل شيء بكل شيء، فقد عايش معركته مع سجن الجسد[30] بصعوبة بالغة وتحد محيط. فى هذا العالم الرحيب، الضئيل فى الآن ذاته،… المصنوع من لحم وعظم والياف وبشرة ناعمةتارة، خشنة تارة… ومع كل المحظورات والممنوعات والنواهى والمستحيلات تصبح الرقعة المسموح لك بها متناهية فى الصغر، فتعمل فى نفسك الرغبة فى التمرد وفى كسر الاشارات، جحيم لا يطاق. كرهت جسدي (ص 27) – ومن هذه الكراهية- مع العجز والجهل (بالجسد) والخوف منه، لم يكن بد من حل الانسلاخ عنه بالوصم فالقتل، لاطلاق روح ما الى أعلى ما اقتل الجسد حتى تتقد فى الأعماق جذوة الروح (ص51) ويبدو أن الجنس- ولن أعود اليه بوجه خاص- كان مرتبطا بالجسد بصورته الترابية هذه أكثر من أى احتمال آخر (مثلا: ص 124)، حيث لم يشغل الجنس الحيز المتوقع فى مثل هذه التجربة وما قبلها، كما لم يظهر له جانب ايجابى أصلا، فلم يؤلف بين أجزاء، ولم يحفز تواصلا، ولم يشمل حتى دفعا الى الشبق الحياتى اللذي، أما العدوان فيستحسن أن نفرد له فقرة مستقلة.
5- عن العدوان:
وموقف صاحبنا من العدوان شديد التداخل والتذبذب، فهو قد اعترف قرب نهاية المحنة بضرورته للبقاء تأجيل الموت يوما أو حتى ساعة أمر جدير أن تراق فى سبيله دماء (ص 112) ولكن يبدو أنه لم يعترف بذلك الا بعد أن طالت الرحلة وشبع مطاردة، وكاد يتلاشى ابتلاعا، وبعد أن كاد يهلك من الجوع والعطش الى الرى من العلاقة بالآخر (التلاقي).. لنقتل الآن من أجل لحظة ارتواء… الجفاف موت، وموت يموت فلنقتل (ص 113)، هذا فى الخارج; ولكنه منذ البداية كان قد اعترف اصلا بأنه كى يحيا فلابد أن تتغذى عوالم على عوالم (ص 8).
وكان حينذاك قد تفكك ونشطت عوالمه الداخلية، وبدأ يحس بالحاجة الى اعادة الواحدية على حساب عوالم تقدم قربانا لعوالم أقوى من أجل العودة واستمرار البقاء، وفيما عدا هذين الاضطرارين فهو ينكر عدوانه أصلا، أو بتعبير أدق هو يفتقده حتى يعلن بصراحة عجزنا عن العدوان: كان يجب أن نعرف أننا لا نصلح أن نعادي… فليست لنا أشواك نتسلح بها، ولا أنياب مسنونة، ولا قرون تبقر، ولا فكوك تقبض، ولا كلابات تعض، ولسنا بقادرين على أحداث صدمات كهربائية تسحق مثل سمك الرعاد،… ولا الاتيان بلغات محكمة تعتصر حتى الموت… الخ (ص 36)، وهو يتحسر اذ يعدد كل هذه الأسلحة التى كان يتمتع بها اجدادنا وكأن الأولى بنا،، ونحن الأرقي، أن كنا قد احتفظنا بها، لأنها هى هى وسيلتنا الى أن نتواصل، وقد اقتطعت جملة فى بداية هذا المقتطف لأعود اليها الأن حتى أربط العداوة بالصداقة، وبالتالى ابين (كيف بين) ان العجز عن الأولى هو عجز عن الثانية، أكرر: كان يجب أن نعرف أننا لا نصلح أن نعادي، ولا حتى أن نصادق، فالعداوة مثل الصداقة، عبء أكثر مما تحتمله امكاناتنا– وهو فى هذا يتقدم خطوة أشجع من تخليه عن الجسد لحساب الروح، فيقترب أكثر من تاريخه الحيوي، ويعترف بأجداده، على أنى لم أتبين بين تفكك عوالمه حيوانات مفترسةكثيرة، وان كانت الحشرات والهوام والأشياء والشخوص قد ملأت أغلب الساحة، قد كان يحاول أن يتجنب اثارة هذه المنطقة (المفترسة) بكل وسيلة لا شيء هناك. لا توغل. هذا أقصر التيه، والثور قد يفترسك، اللون الأحمر فى أعماقك قد يثير الوحش، قد يوقظة فيك (ص 86)، وحين استيقظ كان ثورا عصريا، وحين همت بأن تلقى نفسها من على قمة الجبل، كان الثور يجرى ويلهث، والغبار بفعل حافرية يثار، راح فى الهاوية عنها يبحث (ص 87)، اذن، فحتى الثور حين يسمح له بالحركة لم ينطح أو يقتل بل راح يثيرغبارا ويبحث عن رفيقته، كل ذلك فى الداخل بداهه، اذن، فمازال العدوان مطلوب أن يستحضر، مع وقف التنفيذ، لكن ثمة عدوانا آخر قد سمح له بالظهور طوال الرواية، وهو ما يمكن أن أسميه العدوان بالالتهام، أو العدوان الأنثوى[31] فم واسع؟ معدة تمددت حتى أصبحت شفافة، وأنا بالداخل أنا علبة صفيح فارغة فى جوف نعامة؟ (ص 8) وكذلك: ربما كنت بداخلهم، ابتلعونى ؟ ربما (ص 11) وفضلا عن أن نوع العدوان الذى يعترف به، بل ويقبله، هو العدوان الالتهامى الأنثوي، فان ثمة علاقة بين أنثى ما، لعلها صورة الأم البشعة (أمنا الغولة) فى خياله مذ كان طفلا، فهو حين اعترف (ص 113) بحتم الاقتتال من أجل البقاء، بديلا عن جفاف الموت، عاد فورا يعترف بأنها (هي) قد أصبحت مستحيلة، جسدك غطاه الشوك، ونيتت لك أنياب ومخالب (ص 113) ومع ذلك ظل يحبها، ويريد أن يقترب منها حتى لو كان فى ذلك موتي (ص 113) كل ذلك يقبله ولكنه لا يطيق الكراهية المعلنة، وفى موقع آخر يكاد يعترف بأخري تحل محل أمرأة أقدم وفى نفس الوقت تمارس نفس العدوان مع فارق طفيف هو المصارحة، حيث تقول هذه بصراحة: لكننى لا أخافك. أتحداك وألتهمك. أمتصك مثلما تمتصنى (ص 127) الفارق هنا هو أنه يمتصها هو الآخر الا أن هذا- أيضا – لا يكتمل، وعموما، فهو اذ تراوده نفسه أن يستسلم لهذا الاقتراب المقتحم، يشك، اذ يتذكر الجنة (أمه) القديمة التى طرد منها، ويخاف أن يكف عن المقاومة فاذا به قد ألقى الى أنياب مفترسة، لكن يبدو أن مقاومته لم تكن افتراسا بل ربما هربا على الأرجح لم تكن على الدوام مفترسا (ص 126)، واذا يتحرك هذا الاحتمال يلجمه بالقهر المفرط الذى يضاعف الاكتئاب فيصرخ طالبا الحبوب المضادة له (ص 126) وهو فى النهاية لا يجد سبيلا للعودة الى الواحدية الا باخراج هذا العدوان المحتوى (بفتح الواو) من داخله، مهما كانت النتيجة نقصا أو انشقاقا دون توليف أو تمثل، آن الأوان أن تخرجى أيتها المرأة الشريرة من داخلى (ص 133) خلاصة القول: ان صاحبنا ليس عدوانيا رغم علمه بحاجته الى العدوان وعجزه عنه، وهو هارب، واذا كان ثمة عدوان فى الداخل فهو نتيجة لأمه الغولة التى تقمصها واحتواها والتى لم يستطيع أن يتخلص منها الا فى النهاية بهذا الانسلاخ الذى قد يحقق الواحدية، ولكن على حساب أيقاف الحوار واجهاض المسيرة وكف التكامل.
6- الحقيقة: الله:
فجأة، وجدت نفسى فى الفصلين الأخيرين (16، 17) أمام درجة من المباشرة وفرط فى التجريد لم أتوقعها، ولم أحبهما، وقد أكون مخطئا، ولكنى جربت أن أبحث عن وجه آخر للأمر عدة مرات، وبالذات بالنسبة للفصل (6) ولم أنجح، وقد تصورت أن الكاتب قد كتب موضوعا تحت عنوان: الحقيقة تتحدث عن نفسها، علما بأن هذه الحقيقة التى ظهرت ككيان مثالى هاتف، هى مفهوم مجرد غامض يقع وراء مدى الحركة الرائعة التى وعدت بها المحنة طوال الرواية، ورغم كل ما قالته هذه الحقيقة عن نفسها وخلودها وعنادها وبقائها وأصالتها، فهى لم تقنعنى لابماهيتها، ولا بكيفية استخلاصها من هذه المحنة، ولعل هذه هى النتيجة الطبيعية للحل الذى ارتضاه المؤلف – أو بطل الرواية – فى نهاية الفصل (15)، والذى سبق أن أعلنت تحفظى تجاهه فى أكثر من موضع فى هذه الدراسة، و هو نفسه قد اعترف ضمنا أنه حل مبتسر، فهل قد أخرج المرأة الشريرة: من داخله وكأنه أخرج كل شيء آخر، طلبا للواحدية المنقوصة من جديد، وبالتالى حرم نفسه من فرصة التكامل والولاف والتمثل والنمو، وهو يعترف بذلك فورا حين يعلن وصل طريقنا الى النهاية. آن للحوار أن ينتهي، آن الأوان أن يختزل (ص 133)، فان لم يعد حوار فماذا يبقى الا كيان قزم ناقص، لابد أن يسعى الى دعم من خارجه، وهنا تظهر الحقيقة أولا فى الفصل (16) تطلب مهرها، وهو نفس صاحبنا كلها (ص 136)، ثم تدع له كل ما عدا ذلك، وماذا بقى بعد ذلك؟ ويختلط هذا المفهوم الحقيقة بمفهوم الله بشكل متداخل حتى يمكن أن يحل الواحد محل الآخر بسهولة، ففى (ص 137) تقول المتحدثة وستكون لى مطواعا، قل فحسب (لتكن مشيئتك) ولن أنجيك من الأشرار فحسب، بل لن أدخلك فى تجارب لا تقوى عليها أيضا ( ص 137) ويكاد النص المقدس يطل من السطور مباشرة، ويمضى بقية الفصل على هذا النمط الذى ينزع من صاحبنا دوره وايجابيته، بل ومزايا محنته… سأمنحك القوة فكل شيء أعد سلفا أنا الوحى وأنت الذى تمسك بالمعول (ص 140) حذار ألا تتبعني وينتهى الفصل باعلان خلود الحقيقة / الله، بعد فناء الفرد ذى الأدران، ومن عجب أن الله هو الذى يعلن أن الحاجة الى تحقيق الذات لا تفنى وكأنه هو الذى يحقق ذاته فى الأفراد، وليس: أن الأفراد هى التى تتحقق ذواتهم بالتكامل اليه.
ورغم هذا الاحباط الذى أصابنى – صوابا أم خطأ – ومع احترامى المطلق للأمانة بالقصور، فانى أقلب فى البدايات فلا أعثر على مشكلة الحقيقة والسعى الى الله بهذه الصورة المنشقة الا قليلا، بل لقد كان السعى دائما الى التلاقى مع الآخر، الى الوجود الآصل، الى التكامل الداخلي، الى الـ نحن، الى التوق المعرفي، الا أنه يبدو أن الانهاك قد غلب الرحالة، فاختصر الطريق هذا الاختصار الذى أفزعني، ولنرجع قليلا الى الوراء قبل أن نواصل الى الفصل (17) لنجد أن هذا الحل بسلبيته كان معروضا منذ البداية... حتى اذا تراجعت، فأين ستذهب؟ خطوة الى الخلف مثل خطوة الى الأمام لن تغير من عزلتك شيئا… ستسمع صوت الحقيقة، وعليك أن تصمت… عليك أن تسكت كل ما حولك حتى يتدفق بداخلك كفيض ربانى، الصوت الحق، ويتخذك معبرا.. الخ (ص 18).
اذن، فثمة سبق اصرار على هذه النهاية، ويبدو أن البحث كان جاريا طول الوقت فى هذا الاتجاه، أعنى اتجاه الايمان التسليمى المنشق، وليس فى اتجاه الولاف التكاملي، هل حقا تبحث عني، كما أبحث عنك ؟ ها أنا أصعد. أصعد الى أجواز الفضاء، لألتقى بك، وأتلقى عونك ورحمتك (ص 33) خطاب صريح الى الله بصورته التى ظهر بها فى النهاية، ولكننا نجد وقفة مختلفة بعض الشيء فى موقع آخر، وقفة فيها شجاعة سمحت بالعتاب وبعض الحوار الى الله دائما أصلى، من شيء واحد أشكو، لماذا، لماذا يا ربى خلقتنى الى هذا الحد قاصرا؟ ثم لأنه يحبنى يدفعنى الى الجنون فأتمزق ؟ لماذا لا يضع يده على قلبى ، ويدخل السكينة الى نفسى ؟ (ص 96)، ولكن التسليم فى النهاية كان للمنتقم الجبار الملاك الوديع فى آن، الطفل المقدس مفترس الأشرار فى آن، ولكن على حساب الذات وتلقائيتها واستقلالها، بل على حساب العالم الخارجى اختفى من أمامى العالم الخارجى، وأغمضت عينى، أطبقت جفنى ، ورحت أتأمل بانبهار، أتأمل الحقيقة ( ص 146) أى حقيقة تلك التى يتأملها صاحبنا مغمض العينين؟ وتمضى الابتهالات فى صدق وخشوع حتى النهاية أتعس لحظاتى عندما أشعر أنك تخليت عنى (ص 147)، ومرة أخرى يأتى النداء الحافز للتسليم اترك كل شيء واتبعنى (ص 149) ولكن يبدو أن ثمة ايجابية خلاقة تطل من جوف كل هذا التسليم، فأن من يترك كل شيء بوعى مختار، سوف يجد كل شيء بابداع متجدد، سيصبح خالقا كالخالق، أو مع الخالق، لأن العالم لم يتخلق بصفة نهائية، بل هو ينتظر منا أن نساهم فى خلقه أن ما هو موجود ليس كل الوجود، أن كل ما هو كائن ليس كل ما يمكن أن يكون ( ص 150) ومن ذا الذى يستطيع أن يولد من غير الكائن كيانات جديدة الا أن يكون خالقا مشاركا؟؟ ضع يدك فى يدى وسنجعل المحتمل حقيقة، فأنا بى ميل أن أصبح حقيقة ( ص 150 ).
فلو أن الأمر كذلك، ولو أن الحقيقة / الله هى ما يتخلق من اللاكينونة، هى الرحلة من الاحتمال الى الواقع، اذن لأطل الحل الولافى التكاملي، لكنى أشعر أنى بهذا الالتماس أعتذر – ناقدا – عن كل صراحة الفصلين الأخيرين – نصا – ولا أظن أن هذا من حقى مهما أحببت العمل وصدمتنى نهايته، فلتكن الخبرة التى وردت فى النص فى حدودها، ولتتوقف قراءتى عند حدودها كذلك.
ثالثا: اشارات أخرى
قلت فيما سبق أن هذا العمل قوى متحد، وأعلنت عجزى عن أن ألم به فى هذه القراءة المبدئية، وكنت أنوى أن أكتفى بهذا القدر الذى يعلن عمقه وأصالته، ولكنى رجحت أنه من الأمانه والفائدة معا أن أشير الى الموضوعات التى كانت خليقة بأن تكمل الرؤية، وأرجو أن أوفق فى أن أوجز الاشارة ما أمكن حتى لا تخرج الدراسة عن حيزها المحتمل، واليكم بعض ذلك:
العزلة ، واللاتلاقى :
بدت لى المشكلة المحورية بالنسبة للعلاقة بالآخر – كما توقعت – هى العجز عن التلاقى، وقد أشرت اليها سابقا، لكن صاحبنا قبل عزلته بشجاعة المبدعين، بل واعتبرها هى هى سبب حياته المتجددة الخلاقة بالعزلة مت، وبالعزلة أحيا، أرأيت ؟ ما يميت يحيى أيضا . هذه أغلى اجابة (ص 24)، ولن أدخل فى تفاصيل الفرق بين عزلة و عزلة، وموت وموت، ولكنى أكتفى بأن أذكر بأنه فى النهاية لم ينتصر على عزلته بالآخرين بارساء علاقة مبدئية مع فرد حميم يمثلهم ويكون بابا اليهم، ولا مع ما هو نحن جميعا بما هو فينا مشترك، ولكنه لجأ الى الاستناد الى مطلق الحقيقة والاعتماد على دعم الوحى – دون الناس على ما يبدو.
المحنة والفرصة:
كانت محنة، وليست مرضا، وهذا ما حرصت على الالتزام به طوال القراءة، هى تعلن حتى من بدايتها: نجاة ما وليس فقط أنهيارا ما كيف نجوت دون جميعا ؟ كنت معهم بعد منصف الليل ، وفجأة نجوت، لم أدر شيئا عندما جاءت الكارثة (ص 13) وفى المحنة، بعد سقوط القيود القديمة، يظهر فضلها فى اعطاء فرص جديدة من بينها التلقائية والاختيار أما الآن فى محنتى فانى أعتمد على ارادتى وحدها … بدأت أحب محنتى ( ص 20) وأحيل القاريء الى بقية النص من جهة، والى ما سبق الاشارة اليه فى هذه الدراسة من كيف أن المحنة – رغم كل شيء – هى مفترق طرق.
الموت والبعث:
فى مثل هذه المحنة، يختلط الموت بالعبث وكأنهما يحدثان فى ذات اللحظة، والمرعب أن البعث لا يتبين ابتدأ، فمن أين بالأمان ابتدا؟ والهوة التى تبدأ كل شيء، وينتهى بها كل شيء كما بدأ، هى التى تضع الشاطيء الآخر فيما بعد أفق الرؤيا، ومن ثم فالرعب حتمي، وهو يعلن ذلك صراحة أنك الآن تموت لتولد من جديد (ص 16) وكذلك ما يميت يحيى أيضا… … لم تكن الهوة قبرا (ص 24) وما دام الخلط بهذا التداخل، وما دام الشاطيء الآخر، يقع بعد أفق الرؤية، فلا بديل عن ... المغامرة ؟ هذا هو البعد اللامحدود لجهود الذين يريدون أن يفلتوا من الموت (ص 40).
الحزن .. والسعادة :
ظهر الحزن قويا شريفا طوال الرحلة، حتى ليصدق القول فى أنه ينبغى أن يخجل من يسمية اسما مرضيا، حتى لو تعاطى صاحبنا حبوبا ضده، وفى مقابل ذلك شجب صاحبنا السعادة الزائفة، فى شكل الضحكات الفارغة والمجاملات الكاذبة والرفاهية الحسية العابرة ولا بأس أن نكرر هنا: أيها السعداء أنى أحتقركم ، أتعرفون ما السعادة حقا ؟ هى أن تكون لديك القدرة على الاحتفاظ بحزنك رغم كل شيء، على الاحتفاظ بحزنك، شامخ الأنف أبيا (ص 94)، وكذلك تشبث باحزان قلبك (ص 96) ثم وتحت الأقدام يشاركنى اله الزلازل صارم القلب : حزنى (ص 98) وقد سبقت الاشارة الى أن هذا النوع من التفكك يستتبعه فرط الوعى وعمق الرؤية : ومن ثم : الحزن الكريم، ثم يتوقف مسار طاقته بعد ذلك على طريقة تمثله وتوجيه دفعه، بل أنه على نفس القياس قد أعلى من قدر القلق الحائز وعرف المتعة به كما عرف بالحزن السعادة … اتعرف ما المتعة؟ أن تشعر كل لحظة أنك فى خطر، حتى يضحى القلق آفتك; ، وخلاصك وقدرك : (ص 127).
الأب والأم والزوجة (والابنة):
على غير ما نتوقع لمن فرضت عليه هذه المحنة بكل ما صاحبها من تفكك، لم نسمع عن المعركة الأصلية فى احدى مرات الاسترجاع (الفلاش باك) التى تفسر لنا أن ما (= من) أدخل قسرا الى مستودع الذات من كيانات للأب بوجه خاص: كان مقحما لا يقبل التمثل، وبالتالى كان عاملا ضمنيا فى تسهيل التفكك فالمواجهة (مما تتصف به مثل هذه المحنة) – وبالعكس كان الأب حبيبا رحيما شخص حبيب ، ضحى من أجلى فى سالف الأيام (ص 19) واستمر أثر هذا الموقف فاعلا يحد من اندفاعه الى مزيد من التطرف استجابة لـ الدموع التى تسيل على خديه رجاء منه أن يخفف ابنه من ايغاله فى المجهول، هذا الوالد نفسه كان مصدر الدفء والدعم… أمسك بيده الكبيرة ، كانت دافئة لينة ( ص 43)، كما كان مصدر الحفز والأمل سانذره لأسفار بعيدة (ص 44)، بل مصدر الفرحة والمشاركة وتنمية الخيال فى صنع عروسة ورق تطير فى سماء أبى قير أحب أن أرى الفرحة فى عينيك، يا ولدى (ص 45) – اذن، فلا معركة، بل هو الدعم فى الطفولة، والسند فى المحنة.
فهل هى الأم؟ هل هى التى كانت تمثل الحرمان والقمع بأحد وجوهها الخفية؟ أحسبها كذلك، فقد كان موقفها مائعا تجاه طاقات ابنها المتفجرة التى وقع عليها الأب بالمواقفة – ربما بالرغم منها – وحين ظهرت ثانية كانت كالذاهلة فى مرضها لكنها نبهته – فى ذهولها – ثم ظهرت بشكل مباشر أو غير مباشر فى صورة المانعة الحياة أحضان الجدباء ليس فى الجوف رحيق بل حطب أعجف جفاف ، جفاف (ص 109)، ومن هنا والخلط واضح – وربما مقصود – بين الأم التى لم ترضع ابنها ما يحييه، وبين الزوجة أو الرفيقة التى لم تمنح نفسها طوعا ( ص 110، 119 ) انظر مثلا: أقف أمامك عارية بكل ما فى من قسوة وفتنة ولن تنالنى ( ص 128) حتى كانت الخائنة فى النهاية فى شكل الزوجة هى بؤرة المعركة بعد غياب الأم الأخرى فى غيابة الذهول، ولكن الصورتين متداخلتان أبدا، والأنثى العجفاء الواعدة المانعة هى المصب الوحيد لخيالات القتل والموت، فقد خيل الى انها الساحرة المتفحمة (115)، وأنها الغول الذى أهلك (ص 119) (رغم أنه قد ينقذ – ولا ينقذ )، وهى الصورة التى تهدد بتكرار نفسها ( ص 120)، واخيرا فهى المرأة الشريرة (فى داخله) التى بخروجها يتوحد وهو لا يدرى أنه بذلك يستقطع، (ص 133) – وفى كل هذه المواقف تظهر الأم وراء الزوجة أو بالعكس وحتى الابنة التى ذهبت بالموت، كانت تمثل صورة ثالثة معكوسة لنفس العلاقة، نفس الأمل، نفس الوعد، لكن الموت الجسدى الفعلى اختطفها، دون مناسبة، هذا ما وصلنى من تداخل كاد يقنعنى اعتسافا أن صاحبنا لم يكن فى حياته من أمرأة سوى أمه، حتى خيالاته حول أحياء ابنته كانت تختلط بخيالاته حول عودة زوجته ثم تنتهى به الى اسناد رأسه الى… الى جوار رأسها (أمه / زوجته / ابنته) ( ص 122) ومن هنا تضاءل دور الجنس حتما فى التواصل والجذب الى الواقع الحى الثري.
الكلمات، والقلم، واللغة، والوجود:
صاحبنا له علاقة خاصة بالكلام والكلمات، سواء حين يستعملها بطريقة خاصة ومحددة أو حين يحكى عنها، وقد سبق أن أشرت الى تلك الدقة المتناهية التى يلتزم بها فى التعبير لدرجة الاهتمام الأمين بعلامات الترقيم ومساحات البياض، كما لاحظت أنه يكثر من استعمال تركيب تعبيرى خاص، لم يكن مألوفا لبصرى أو سمعى فى الأعمال الروائية أو الأدبية عامة، وهو أنه كثيرا جدا ما يؤخر الفعل بشكل يلفت النظر، كذلك كثيرا جدا ما يبدأ العبارة بنفى، أو جر ومجرور، بما يسبب التوقف للتأمل قبل الاستمرار، ولا أستطيع أن أحصى عدد المرات التى فعل فيها ذلك، ومجرد أمثلة تشرح ما أعنى قد تكفي، وللقاريء أن يتحقق من أحقيتى فى ظني. مثلا: … لا ظلام سوف يكون /… ومع موجه ها أنت تذوب (ص 16 ) / بعينين مفتوحتين تنظر الى (ص 19) / من أشباح الخرائب أطلب المشورة (ص 22) / بالعزلة مت وبالعزلة أحيا (ص 24) / لا أحد جاء، لا صوت سمعت، لا أحد يجيء (ص 64)، ويظل هكذا حتى النهاية ولأورد بضعة أمثلة أخرى قرب نهاية الرواية على سحابة سترانى حملتك (ص 138) / وباختيارك تذوى (ص 139) / والى اكليل الشوك تسير (ص 144) / ولا من الموت تهاب (ص 144)، واعتقد – ربما خطأ – أن هذا الأسلوب قد يشير الى غلبة صياغة فى لغة أخرى ربما قديمة، ربما مقدسة، حتى ليكاد يشعر قاريء العربية – قبل أن يعتاد أسلوب أديبنا هنا – أنه أمام كتاب مترجم أو مقدس بشكل ما، وأعترف أنى لم أبذل جهدا فى التحقق من ظنى هذا بالرجوع الى مظان ذاكرتى فأنا بعيد عهد بما خيل الى أنه مصدرها، وأن كنت أستشهد فبكلمة الكتاب لأن ظلال المساء امتدت (ص 5) أو بما ورد فى الفصلين الأخرين مثل أن تهبنى نفسك، أما بعد ذلك فكل شيء مباح، ومتاح فى هذه الدنيا، وفى الدنيا الأخرى أيضا (ص 136)، أو: لن أنجيك من الاشرار فحسب، بل أن ادخلك فى تجارب لا تقوى عليها (ص 137)، لن تطلب منى خبزا فالقمك حجرا ([32]) (ص 137) ثم الكلام عن الرحمة لا الذبيحة (ص 125، 137) كل ذلك جعلنى أرجح مدى تأثر الكاتب بلغات أخرى من ناحية، ولغة مقدسة من ناحية أخري، وبديهى أن هذا لا يعيبه، بل قد يميزه، شريطة ألا يحول دون انطلاقه، ولكنى اذ تتبعت هذه الدلالات الى فكره، رجحت – كما ذكرت قبلا – أن يكون قد غلب على ابداعه – قرب النهاية – ما حال دون اطلاق عمق خبرته الى منتهاها دون وصاية عقائدية، وبألفاظ أخري، فأنه اذا كان الأسلوب قد تأثر الى هذه الدرجة، فهل يكون الفكر قد تأثر – بالقياس – الى درجة مقاربة؟
وفى نفس الاتجاه لا حظت أن أسلوب الكاتب الطليق المتعمق، المتحدى التشكيلي، قد انتقل فى الفصلين الأخيرين الى أسلوب مباشر، تجريدي، فيه من الصيغ الواعظة والوعود المثالية ما كاد يفقد المحنة فضل أصالتها.
على أن كاتب العمل ينتقى كلماته بالتزام رائع يحتاج الى دراسة تفصيلية فيما بعد، منى أو من غيري، ولأضرب مثلا باستعماله لكلمة ماس ( ص 53، 58، 143) أو كلمة صندوق (ص 29، 79، 81، 97) وغير ذلك كثير كثير والدلالات مختلفة ومتداخلة معا. على أن وعى الكاتب بالكلمات الأخرى الكلمات التى لا تأتى الا بالكلمات، وفى النهاية ترتفع حولنا تلال من الكلمات ، مثل أكوام القمامة ( ص 30 ) كان دائما وعيا يقظا احال هذا الصرح من اللاشيء الى منظور عيانى يطير، ويدور، ويفترش، ويداس.
ومع ذلك فقد كان القلم، والكتابة هما طريق خلاصه طول الوقت، وقد سبق أن أظهرنا أن القلم كان وسيلة ابداعه التى امتصت عدوانه ايجابيا من ناحية، وأملته فى تلاق على مستوى آخر من ناحية أخري.
خاتمة:
ثم أوقف قراءتى هنا، حتى عن بقية الاشارات عن: الرحمة، والذبيحة، والمرأة، والقبر، واستيعاب التناقض، والعجل، والبقرة والثور، والأشياء الصغيرة، والسراديب، والدهاليز، والحفر، والصعود، وتعدد الوعى فتخثره !!. لنعود اليها أو لا نعود فيفعل غيرنا ما ينبغى أو يتسلمها التاريخ أمانة غالية فى عنقه، ولكننا نخلص على كل حال الى خلاصة ما، تقول:
مثلما فى الحياة كان فى الرواية: أمل متفتح، نهم معرفي، طاقة متفجرة، ابداع واعد، اندفاع خلاق، وحدة مسنونة، رفض ضمني، آمال مجهضة، تحايلات مرحلية تنجح فى التأجيل، ثم عذر استسهالى ممن وثق فيهم وخاصة من العجفاوات، فهي: المحنة: فالرعب، والأمل، والموت البعث، والبداية.
ويتحرك كل شيء فى كل اتجاه، وتلقى حبال النجاة فى أى اتجاه، وينجح الابداع – بالكتابة – فى التسكين مؤقتا، ولكن: تنسحب الأرض من تحت الأقدام، وتوقف المسيرة بحلول تنزل من فوق، وتفرض واحدية زائفة، تمت بالقص لا بالتكامل، وتصدح ترانيم فى معبد خاو من الآخرين – اللحم الدم – رغم الأمل فى احتمال استمرار العطاء فى اتجاههم، بفضل تسليم مطلق ووحى واعد!!
ولا نستطيع أن نحاسب راو عن صدق عجزه كما ذكرنا، ولكننا نرفض وصاية معتقده على ابداعه، ولو أن الرواية انتهت عند نهاية الفصل الرابع عشر، لترك لكل منا طريقه بحسب ما وصله، ولما نقصت شيئا، بل لعلها قد تجاوزت ما تصوره الكاتب واجبا عليه، حين ترفق بنا خشية أن يتركنا حيث لم يستطع هو أن يصبر عليه.
وبعد
فهل نملك الا أن نقول: هذا هو؟.
[1] – تناولت فى بحث مستقل نقد المنهج النفسى فى النقدو أرجو أن تتاح له فرصة النشر قريبا فى موقع آخر غير هذه المجلة.
[2] – بالمقارنة مثلا بالعملين السابقين اللذين تعرضت لهم مؤخرا لفتحى غانم ونجيب محفوظ
[3] – ليس فى عنوان الغلاف ولكن فى العنوان الفرعى تحت “المحتوى” ص 153.
[4] – قبل النهاية بست صفحات فحسب.
[5] – لكنها الصفحة الثانية فى النص.
[6] – رفضت قبل ذلك تسمية هذا النوع من الأدب: لا باسم تيار “الوعى ولا “اللاوعى” واقترحت اسم تيار “الوعى الآخر” أو تعدد مستويات الوعى” وأحسب أن هذه النقطة تحتاج إلى ايضاح، فالوعى “العادى” ليس له تيار طليق ينتج هذا الأدب حيث هو محكوم بالادراك الحسى والوظائف النفسية النمطية، واللاوعى لا وجود له إلا ان أصبح وعيا بشكل ما، أما تعدد مستويات الوعى فهى التى تعنى اثارة اكثر من مستوى من النشاط الوجودى فى تداخل وتكثيف وتوليف وصراع وتبادل ومحاولات اعادة التسلسل ناجحة ومخفقة حسب مقتضى العلاقات التركيبية الجديدة.
[7] – حتى التعبير العامى الشائع عن القرين تحت الأرض، أو اخذنا (أحسن منا) التى نقع عليها تحت الأرض: لها نفس الدلالة.
[8] – ما يسمى “الفلاش باك” تعريبا.
[9] – كانت عقيدتى تعلى الدوام أن ليس ثمة هناك إلا خطيئة واحدة: هى أن تقول لنفسك لن أذهب أبعد من هنا (ص 46).
[10] – العدد السابق من هذه المجلة ص 112 وما بعدها.
[11] – انظر أصلا: الرخاوى (1980): العدوان والابداع: مجلة الانسان والتطور يوليو (49 – 81)
[12] – قارن العدد الماضى فى قراءة “رأيت فيما يرى النائم” ص 117، ص 118 بوجه خاص.
[13] – العنوان
[14] – لهذا سبق أن اسميت مجموعة قراءتى “التفسير النفسى للأدب” وشرحت ما أعنى بذلك فى موقع أخر.
[15] – نوفوريل، تريبتزول.
[16] – التقط الكاتب هذا الاحتمال حين تساءل ص 13 “هل كان ثمة مفرق طرق غابت على رؤيته”؟ ونعنى بمفترقيه أنها فى مفترق طرق بين الابداع والنمو والجنون، ص: 43، 44، 161، 199، 346، 523، 742، 809. دار الغد للثقافة والنشر. القاهرة
[17] – لاحظ: كى نحيا، فالاتهام هنا ليس موتا ولكنه حياة.
[18] – هذه القفزات قد تسمى أحيانا فى التاريخ الحيوى، وأحيانا أقل فى التاريخ الفردى: طفره.
[19] – كانت تفلت منه أحيانا بعض مثل هذه الوصاية، مثل: “لانقوى على التخلص من آفة القياس وتشبيه الأشياء الجديدة بالقديمة وتقريبها منها” (ص 13)، ومثل “التحمت فى ذلك بالضرورة ارادتنا” (ص 111).
[20] – أوردت هذين المثالين لقرب تناولهما فى هذه المجلة: العدد السابق، وقبل السابق.
[21]-انما أعنى هنا كلمة Perception والتى تترجم حرفيا الى ادراك حسي حسب الرأى الغالب، ولما كان ثمة ادراك متجاوز للحواس Extrasensory Perceptio ، فان اضافة كلمة حسى لم تعد تتصف بالدقة، ولكن أصل لفظ ادراك بالعربية لا يعنى تماما ما يقصد باللفظ الاصلى بالانجليزية، فالمعنى اللغوى اللغوى الأساسي: يشير الى معنى اللحاق: أدراك الشيء: لحق به، أو بلغ وقته وانتهي، وعند القانونيين يشير الى التمييز بمعنى النعقل وحسن التفكير، وأشير أنا به هنا الى الوظيفة النفسية التى نتعرف بها على العالم عبر الحواس أساسا ومتجاوزين لها أحيانا وحتى نصل الى اتفاق مانع لهذا الخلطوجب التنوية.
[22] – وان كان قد أشار إلى بعض آثار التراكيب التاريخية الأخرى بدرجة أقل.
[23] – انظر بعد فى فقرة “الأب والأم” ص (51).
[24] – الكلام هنا يدور أساسا اكتشاف الجسد، ولكنه يصلح للتعميم.
[25]– تصورت لوهلة أن هذه الكلمات جاءت فى الفصل المعنون بـ بوابة الألم ولكنى تبينت أنها نهاية الفصل التالى وعنوانه حيث الظلمة أكبر، ورغم ذلك فما زال التعليق الذى خطر ببالى هو الأرجح.
[26] – بلا انقاذ محتم.
[27] – التعيين النشط active concretization
[28] – بل لقد أشار الى صعوبة تحقيق ذلك العكس (ان الجسد وعاء الروح) عند صاحبنا فى موقع لاحق ص 151: أم أنك أرضي، ترابي، يبكى فيك الطين فيلوثك، ولا تستطيع أن تشكل منه وعاء لمتطلبات ضميرك أو روحك….
[29] – يمكن أن يرجع بعض ذلك إلى تأثير “هيجل” بشكل ما.
[30] – يستحسن الرجوع إلى كل صفحة (27) فى النص، عدا السطرين الأولين.
[31] – راجع الرخاوى (1980) “العدوان والابداع” الانسان والتطور، عدد يوليو: (ص “77” خاصة).
[32] – أثناء مراجعة ما كتبت، قلت أجرب الرجوع إلى مصادر تلك، فتحقق بعض ما حسبت من هذا المثال كعينه، حين وجدته قد كثف بين آيتين مقدستين: قد أكلت الرماد مثل الخبز، فكان لهم اللبن مكان الحجر، ولم أرد أن أكرر التجربة، لأن دلالة الملاحظة قائمة حتى ولو لم أجد هذه لدرجة الواضحة من التأثير الشخصى المسبق.