حوار: حول بكارة الاكتشاف عن النقد واللغة ووحدة المعرفة
د. رضا عطية – التحرير
مقدمة:
يكتب الحوار هذه المرة فى صورة خطاب كامل ورد موجز، ونحن نحاول بذلك صيغة أخرى للحوار استوحيناها من خطابات النقد والرد عليها التى وردت فى العدد الماضي، ولعل هذه الصورة تعطى للضيف حقا أكبر مما كان يحظى به فى طريقة “التقطيع والملاحقة” التى كانت تظلمه اذ لا يستطيع بدوره ملاحقة الملاحق، والواقع أننا كنا نميل فى باديء الأمر إلى الرد بالطريقة القديمة لما حوى الخطاب من مديح كنا نود أن نعلن تحفظنا ازاءه منذ البداية، ومن حماس كنا نود أن نهديء منه أولا بأول، ومن مغالطات كنا نو أن نبادر بالايقاف حتى يظهر الرد بحوار الرأى “مباشرة”، لكننا -أملا فى عدل ما- رأينا أن نجرب هذه المحاولة مجددين مقدرين منتظرين رأى القاريء فى أى الصورتين يفضل الخطاب بالكامل فالرد، أم الصورة القديمة.
أولا: خطاب د. رضا عطية[1]
تحية طيبة من المنصورة حيث أتابع بفرحة الاكتشاف وبكارته سطور من مجلة الانسان والتطور يحدث هذا فى كل مرة ومع كل عدد وليس تقصيرا منى أو نسيانا عندما لا يستقر فى داخلى رأى ما حول المجلة، ولكنها قدرة سطورها – أى المجلة – وسطوركم أنتم بشكل خاص، على اعادة الاكتشاف مرة أخرى وتفجير الدهشة الطفولية ازاء ما يكتب ، والمسأله هنا ليست ثناء ولا اطراء ولا نقدا أيضا بل قل ربما هى تميل إلى النظرة النقدية – ان جاز – أكثر من ميلها لأيه رؤى أخرى – وحيث أننى لست فى مجال النقد الآ – فهذا ما لا أجيده – الا أننى أنتبه كثيرا إلى شيئين هامين كانا – كما أرى – سمتين – ليستا فقط لمواد المجلة عبر أعدادها – ولكنهما سمتان لعصر جديد مقبل – حيث لابد أن يقبل هذا العصر مختلف الملامح، متميز الأشياء والمفردات، قاطع التحديد بلا تداخل يستوعب الغث والسمين فى آن واحد كما خبرنا عن عصور سابقة بما فيها الأيام التى نعيشها … وسوف أتبع رؤيتى لهاتين السمتين بتعليق حول كل منهما، ومعذرتى للاطاله التى قد لا يسمح لها وقتك وسأحاول الايجاز.
* أما عن السمه الأولى وهى اللغة وأنت فى غنى عن تفصيل أهمية اللغة – فاننى أعرف أن ثمة علاقة بل شرطية قاطعة بين اللغة والأحرف كأدوات تعبير وبين مغزى ما تعنيه هذه الأحرف المتراصة (المضمون). وسوف أقول لك بصراحة مبلغ علمى أن العربية لم تعرف قبل السنين القليلة الأخيرة فى حياتنا هذه العلاقة، وان كنا جميعا – المهتمين والمبدعين – نظل نردد كالببغاوات أن هناك علاقة وثيقة بين اللغة والمعنى بين الشكل والمضمون … الخ وعندما يتوالى ويكثر ترديد مثل هذه العبارات (صحيحة المعنى فى الوقت ذاته) العبارات الاكليشيهية أو الموروثة، كان لابد أن تنشأ بالضرورة قوانين وشروحات ورؤى نقدية وعلوم …الخ لا تتجاوز حدود فهمها وتطابقها المستوى الذى وصلته أفكار المجتمع فى مرحلة معينه، بالمعنى الذى نفهمه – الأطباء – أننا We can’t elicit or diagnose what we don’t know وأرى أن التداخل الاجتماعى أو التداخل بين المراحل التطورية للمجتمع حيث توجد علاقات اقطاعية ورأسمالية بل وعبودية فى نفس الفترة التاريخية يستوجب بالتالى ليس فقط تعدد المعانى لصياغة واحدة بل يصح أن نقول – وجود أكثر من لغة تستخدم نفس المفردات – ولا أكتمك القول أننى ماركسى أثق فى الشرح والتفسير المادى للتاريخ مع تحفظات قلقة، أعود إلى ما أسميته تداخلا فى المراحل التاريخيه وبالتالى بين الأدوات التعبيرية تعيش حية أو نصف ميته مجتمعة فى آن واحد وما يمكن أن ينتجه ذلك من تغير المفاهيم بل المفهوم الواحد للقيم الاجتماعية كالشرف والضمير والعرض والكرامة والدين .. الخ وأنا أدعى أن مصر عاشت طوال حياتها ما بعد ظهور الاسلام، فى مولد ليس له صاحب يهب من بين المهرجين أو المتفرجين أو البهلوانات الذين يحيونه واحد يرى فى نفسه قدرة أو أحقية بامتلاك هذا المولد ( وهوب …. كرسى فى الكلوب …. وتتوالى الكراسى فى الكلوبات) ويستمر الموالدى فى غنائه بعد توقف قصير وتوالى الراقصة رقصها … وهكذا بعد أن يعبق هذا الفتوة صاحب المولد الجديد قليلا بنظام المولد واعادة ترتيبه وفق ما يراه ليس معنى كلامى هذا أن الأحداث سارت وفق الصدفة طوال تاريخ مصر ولكنها ان جاز القول العشوائية المنظمة: بنفس درجة تداخل المراحل التاريخية المختلفة وسواء المفهوم الواحد ونقيضه ربما ليس فقط على مستوى طبقة اجتماعية محددة ولكن حتى على مستوى الشخص الواحد … ما علينا من هذا لكننى قصدت من هذا التعقيب أننا فى السنين الأخيره شهدنا تحديدا للأشياء والمفاهيم بشكل قاطع والفضل كل الفضل للرئيس الأسبق عبد الناصر والسادات من بعده وأعتقد أن سمه للنظام الحالى أيضا بما مارسوه من قهر واذلال وبشاعة على شعب مصر بشاعة كان لابد معها من تبين الأشياء بوضوح فها هو القاتل وتلك السكين وهذا هو سبب الجريمة وتلك هى دماء القتيل وهذا هو مسرحها وهذا ابن القتيل، وتلك زوجته الخ، أعتقد أيضا بلغة السياسة ان هذا التحديد الذى فجرته لحظات الخوف من الانقراض البيولوجى الذى واجهه الشعب المصرى عبر العقود الثلاثة الأخيرة هذا التحديد كشف للناس والأدباء والمفكرين فى مقدمتهم عن أن الأشياء ليست كما يعتقدون وأن الدنيا شيء مختلف عن الذى كانوا يظنون كانت العقود الأخيرة بمثابة العصا الغليظة التى هوت على رأسنا جميعا لتجعلنا نفيق من الأوهام والتبريرات التى فرضها هذا التداخل الاجتماعى والتاريخى وبالتالى الأخلاقى بمعناه الواسع على عقولنا وحياتنا وعلى قدر ما كان لهذه العصا الغليظة من بشاعة وقسوة على قدر ما أعادت الأشياء إلى حقيقتها سيدى الفاضل إنه تحول كيفى هائل حدا بنا جميعا إلى اعادة اكتشاف بل وخلق ما لم نكن نجسر عليه … هذا الذى قصدته أن اللغة التى تكتبها مجلة الانسان والتطور هى على نفس الدرجة والعبقرية عبقرية اكتشاف المجتمع لذاته وتحديد المفاهيم فيه واعادة الاحترام إلى الأحرف المستهلكة والسطور الملاكة عبر أحقاب طويلة .. واللغة هنا كما أقصد يا سيدى الفاضل وككائن حى يتطور كانت أسرع الأدوات الاجتماعية فى تمثل هذا التطور الجديد بقى أن أقول لماذا الانسان والتطور وأنك تعرف الاجابة على ذلك …
حيث ان ما يكتب اآن فى كافة الصحف والمجلات، باستثناء الابداعات الأخيرة لكتاب الماستر والمجلات غير الدورية، هو من افرازات حقيرة أو بقايا افرازات سدنة التاريخ البائد كله هنا يكون انتباهى وادراكى لأهمية ما تكتبون وأعنى بشكل خاص كتاباتكم أنتم يا سيدي.
هذه هى السمة الأولى التى كانت الانسان والتطور بفضلكم أسبق ادراكا واستيعابا لملامح العصر الآتى – عصر التحديد والعمق والوضوح – وهذا يقودنى إلى رصد السمة الثانية التى أرى لها من العبقرية ما كان لاعادة القدسية إلى اللغة العربية التى اهترأت.
أما عن السمة الثانية، فهى رصد وادراك وتحقيق هذه الوحدة الخفية بين الأشياء، والأشياء هنا هى العلوم بمعناها الواسع وقد أشرت إليها سيادتكم فى مقدمة العدد الأخير العدد 16 والذى يمكن عنونته ب وحدة المعرفة والتى أعتقد أيضا انها سمة العصر الآتى بلا جدال، وأسمح لى يا سيدى أن أقول عبارة د. طه حسين ان شعبا يتذوق الباليه، شعب لا يمكن أن يستعبد أبدا فى معرض حديثه حول شعب روسيا .. والعبادة كما ترى تعنى ما أرصده فى مجلتكم، والتى قد تحدو ببعض المسحطين فكريا أن يتهمونكم بالغموض حين تدركون وتعملون باتجاه هذه الرابطة – التى لم تعد خفية – بين أصول العلوم كلها، وله العذر فيما قال لكم وكما ورد بمقدمة العدد الأخير فهو لا يدرك أن العقلية التى تبدع عوليس مثلا فى الأدب لابد وأنها شاربه من نفس المسقة كما نقول فى الريف التى شرب منها من فككوا مكونات المادة المعقدة ومن أمكنهم تخليق المواد البروتينية الحية … الخ ألا وهى مسقة المنهج العلمى .. الذى لم نتشرف بالتعرف به فى تاريخنا المسموم من قتل .. وقصدت القول ومعذرة يا سيدى من هذه الاطالة عليكم، ان مجلة الانسان والتطور هى من هذا النوع من الابداعات الفكرية التى تعمل فى هذا الاطار ارساء روح المنهج العملى بما يستتبعه ذلك من مناقشة كل ابداع انسانى فى علاقته بمجمل العلوم الأخرى والسؤال الآن هل مثلا يمكن تجنب ما أسماه صديقنا بالغموض وفى رسالته إليكم، لكى يصل ابداعكم وخلقكم إلى أغلب قطاعات المثقفين ، ولا أقول الشعب، لتحقيق وتسويد هذه الروح العميقة فى التفكير والتأثير فى الملايين الضائعة المغيبة اللاهثة وراء لقمة العيش والتناسل فى أدنى صورة؟
سيدى الفاضل أعتقد أن هذا ممكن وأعتقد أنه موضع كلام آخر من جانبى أغلبه بلغة السياسة التى أدعى أن لى فيها رأيا متواضعا وأقول بلغة السياسة لأنه لا يمكن تحقيق ذلك بغير نضال سياسى يكون الوجه الآخر نحو تحقيق حفز الناس باتجاه الزمن الآتى الذى تحملون أهم سماته فى أحشائكم وعلى أقلامكم … وسوف أرجئه حرصا على وقتكم وربما لم يتح لى مناقشتكم من قبل فى مثل هذا الأمر الذى من الصعب نشره أو كتابته على صفحات مجلة أو كتاب وهذا ما يدعونى للارجاء لحين تمكينى من مناقشتك فيه والذى ما اتفقنا عليه بشأن وحدة العلوم والثقافات فالذى يفهم بهذه الكيفية ويسم العصر الآتى بسماته مبكرا لابد وأن لديه بشأن تحقيقه الكثير ولهذا السبب بالذات سوف أتطرق إلى نقطة وردت بمقالكم الافتتاحى وهى روح التشاؤم واليأس من فعالية الذى تكتبونه أو فعالية الكلمة، تقولون: وقد جاء انزعاجى من خفوت دور الكلمة فى عصرنا هذا مرتبطا أشد الارتباط بدور هذه المجلة، ومثلها، ومعنى استمرارها .. وأنا ممتليء غيظا وشعورا بالضآله والتحدى فى آن واحد .. أليس من العقل وبعد النظر أن نعرف حقيقة قدرنا فنصرف جهدنا إلى مجال الفعل المحدود مثلنا مثل غيرنا ممن يدرء أو لا يدري … (ناهيك عن كلمة ما) هى أوهام أقل ما يقال فيها أنها أوهام… الخ وذلك كبداية للانسحاب نحو برج القنوط العالي
أبهجنى يا سيدى ان تلك لم تكن الا مجرد حالة من حالات الوعى لم تنتقل إلى حيز التنفيذ وقد كان لدى انطباع مسبق قبل تكمله مقالكم ان هذا الهاجس لن يأخذ طريقه فمن كان له هذا الادراك والعمق الشديدين فى فهم الحياه وطبيعة الأشياء المستقيمة – مثلكم – يكون خياره محدودا – ومسئوليته كبيرة ومطلقة تجاه ما يعرفه وهى مسئؤلية المعرفة، يبقى أن أذكر بعض الأشياء التى تعرفها جيدا – وسأبدأ – ومعذة مرة أخرى للاطاله – بواقعة بسيطة حين سألنى صديق – عندما أدركنى اليأس فى نشر ديوان شعر لى – سؤالا محددا . ترى كم قصيدة فى الشعر العربى يمكن اعتبارها علامة فى تاريخ الشعر – قلت له: بالطبع لن تتجاور المائة قصيدة، قال أقل من ذلك بكثير، ويكفى أن يكون لك شرف اضافة قصيدة من هذا النوع … ربما انطوى رده على محاملة، لكن الحقيقة يا سيدى اننى أدركت أن الابداع الذى يحمل فى أحشائه سمة الخلود ويأخذ على عاتقه صعوبات البداية وارساء الأسس للجديد الأتى – ومجلتكم من ذلك النوع – لابد بالضرورة ألا تتجاوز فعاليته وانتشاره حدود المثقفين والمهتمين طالما الأمر يتعلق بالبداية وهذا ليس عيبا ولا ميزة انه حقيقة بل والأهم فى رأى ان هؤلاء المثقفين أنفسهم فضلا عن أنهم محتاجين إلى تظبيط أفكارهم ورؤاهم التى كون الموروق أغلبها – فضلا عن ذلك فهم أداه التأثير والفعالية الأساسية بين الجمهور والعامة وأنصاف المثقفين فى التبشير بالآتى وحمل مشاعلة وهذا الأمر ليس مسألة أشهر ولا سنين أنها مرحلة تاريخية تترك خلالها الجماهير – بحسها التجريبى – ان تلك المشاغل مشاغلها، وان هذا الطريق لا مندوحة عنه بل هو طريقها .. أقول ذلك وأنا مدرك ان قدر عمق واضافية وتبشيرية كتاباتكم ليس مبررا – وذك غير وارد- لأن يكون معدل توزيع المجلة عاليا .. مبلغ علمى وأنا أرصد نسب التوزيع فى المجلات والجرائد الراقية – أنها لم تتجاوز الألف نسخة فى أحسن الأحوال ولن أقول لك ما تعرفه يا سيدى يكفى أن يكون هناك خمسمائة شخص يفهمون ما تكتبه مجلتكم .. يكفى أن يكون هناك خمسمائة رائد لمرحلة تنويرية جديدة تطل من الهشيم ونفايات تاريخ مزرى لكى يصنعوا الآتى – الذى سوف يكون ..
سيدى الفاضل .. معذرة لهذه الاطالة، وأتمنى أن يتسع وقتكم لاكمال بعض الذى أسقطته من خطابى هذا لتمكينى من تحقيق مزيد من الفائدة والاثراء لأفكارى .. يبقى شيء أن اشارتكم العابرة لموضوع ملعب الطواريء هذا والذى أرى أنه موضوع آخر ووجه هام جدا من أوجه الكتابة والذى سيثرى – الكلام فيه – من أفكارنا جميعا بل واطلاق عقال الشعب المصرى كله نحو حياة أرقى .. أرى أنه يحتاج إلى مزيد من الكتابة والتأصيل كضرورة لتحقيق فعالية الكلمة التى أشرتم إليها ..
سيدى الفاضل .. مرسل إلى سيادتكم قصيدة بعنوان علامة العشق أرجو أن تجد لها مكانا على صفحات مجلتكم الراقية، وهى تتعلق بانتفاضة شعبنا فى يناير والتى أرجو ألا تعوق نشرها أسباب سياسية.
لكم التحية كل التحية والتحيات الطيبة.
ثانيا: رد التحرير
أهلا سيدى وصعبا – نزلت أهلا وحللت صعبا، وسوف أحاول أن أصيغ ردى مركزا ما أمكن، وفى فقرات، ليأخذ شكل الحوار (المحور) فى هذه الصيغة الجديدة:
1- نشرنا خطابك رغم ما فيه من مديح، وكنا قد آلينا على أنفسنا ألا ننشر مديحا أصلا، ولكنا وحدنا أنه من العدل أن ننشر بعضه لتتوزان الكفتان، وما يهمنا اثباته لك مما أقر عيوننا أكثر من مديحك هو متابعتك لنا بفرحة الاكتشاف وبكارته رغم أن هذه هى السنة الخامسة، فشكرا فعلا.
2- تعجبت بعد ذلك لدرجة عدم الفهم حين قلت أن خطابك هذا .. ليس ثناء ولا اطراء ولا نقدا أيضا فهو كل ذلك، فلم تنكره؟ ثم عدت مباشرة تقول ربما يميل إلى النظرة النقدية اذن فهو نقد بشكل ما!! ولكنك أدرفت لفورك – وحيث أننى لست فى مجال النقد، فهذا ما لا أجيده، وركزت بعد ذلك بين ما ركزت على اللغة، ألا تعذرنى سيدى فى أن أفهم موقفك أنك لا تريد أن تدمغ نفسك بمنهج نقدى محدد، وفى نفس الوقت أرفض هذه اللغة الفضفاضة التى تحذرنى – بعد اذنك – من بقية جزمك.
3- رغم موافقتى لك على أن حاضرنا ليس هو ما يرحب بمثل هذه المجلة، فأنا لا أميل إلى تكرار أحلام المستقبل بعصر جديد، حاضرنا صعب جدا .. جدا، وستعرف صعوبته أكثر وأنت تتعامل معه أكثر، وستعرف خطورته حين تكتشف كل سلبياته تحت جلدك أنت شخصيا، مهما لبست العكس ظاهرا، ولكن كل هذا لا يبرر التحليق فى آفاق المستقبل، فنحن لا نكتب الا لواقعنا هذا، والغد يأنى كما نصنعه الآن، لا كما ننتظره مختلف الملامح … الخ.
4- نعم يا سيدى قد أكون فى غنى عن تفصيل أهمية اللغة فهى مشكلتى الأزلية، ولكن – وعذرا – يبدو أنك لست فى نفس الدرجة من الحذر الذى أعانية (راجع الفقرة 2) وكيف لا وأنت تطلق الأحكام بكل هذا الحسم والجزم .. ان العربية لم تعرف قبل السنين القليلة الأخيره فى حياتنا هذه العلاقة (تعنى العلاقة بين اللغة والأحرف كأدوات تعبير وبين مغزى ما تعنيه هذه الأحرف المتراصة، (المضمون) – هكذا؟ العربية بكل تاريخها؟ ما أقسى حكمك وأبعده عن التاريخ رغم قربه من بعض الحاضر، اسمح لى يا سيدى أن أطلب منك مراجعة دور العربية فى تاريخ العرب، اذ هو أكبر من كل تصور، وفى تصورى انه لم يرتبط تطور أمة بتطور لغتها، مثلما ارتبطت أمه العرب بلغتها، ناهيك عن دور حفظ القرآن الكريم لهذه اللغة حفظا لم تحظ به أيه لغة أخري، أما ما آلت إليه حالا، فقد يبرر حماسك وتعميمك دون وجه حق.
5- لم أفهم بنفس القدر ما تعنيه من أن مصر عاشت طوال تاريخها – ما بعد ظهور الاسلام – فى مولد .. الخ، هل تعنى أن ذلك يمتد منذ دخول الاسلام مصر حتى الآن؟ وهل يفهم من ذلك ضمنا أن الاسلام كان من بين أسباب ما تقول؟ أنا لا أريد أن أورطك ولكن – وصدقنى – أريد أن أفهم، ولم أستطع – سيدى – أن أربط بين تعدد المعانى للفظ الواحد بما يقابل تعدد المراحل التطورية للمجتمع وتداخلها فى نفس الفترة، (رغم صدق كل ذلك) وبين ما قفزت إيه من استنتاج، مع أنى كنت أتوقع أن تكون علاقتك باللغة – وأنت من وصفت نفسك والتزامك بما وصفت – هى علاقة أوثق، وفى تصورى أن عمل جارودى فى هذا المجال فيما يتعلق بنظرية المعرفة والمادية الجدلية هو عمل يستأهل المراجعة فى هذا المقام، وربما كذلك بحث ستالين فى اللغة (وهو بحث لم أقرأه مباشرة، وان كانت الاشارة اليه غالبة فى العمل الأول) .. وأعتقد أنك ستحدد نفسك أكثر وستربط ما بين المقدمات والتوالى أوثق، اللهم الا اذا كان القصور فى فهمى شخصيا، فعذرا من جديد.
6- أشكرك على رفض التحديد القاطع للمفاهيم الذى فرضه علينا الميثاق (الديكور) مرة، وحكاية كبير العائلة مرة أخري، وأرجو منك، ولك، أن ترفض تحديدات أخرى بديلة ظهرت فى كلامك رغم قوة رفضك لها.
7- لم ينم إلى علمى – سيدي- هذا التحول الكيفى الهائل الذى تتحدث عنه، صحيح أننا نكتب بلغة آملة فى ذلك ولكن أن يكون هذا التحول قد حدا بنا الى اعادة اكتشاف بل وخلق ما لم نكن نجسر عليه… فهذا ما أحلم له ولا أراه، فأين هو؟ فى مجلتنا المتواضعة المتهمة بالغموض؟ لا يا سيدي* لسنا الا همسة عابرة تحاول اقناعنا بأنه ليس أبشع من الصمت مدعى الحكمة الا اليأس مدعى بعد النظر، هذا كل ما فى الأمر، ولا ييئسك أى من هذا منا أو منك، لكن الأمور تكون أكثر فاعلية فى حجمها الموضوعى المتواضع.
8- مرة أخرى أتحفظ تجاه التعميم القائل … حيث أن ما يكتب الأن فى الصحف والمجلات ..، ……، ….، هو افرازات حقيرة أو بقايا افرازات سدنة التاريخ البائد كله بالله عليك – سيدى – ألا تعذرنى حين أتعجب لهذا كله وأنت الماركسى – كما تصف نفسك – حيث كنت أتوقع ألا يكون التاريخ – لديك بوجه خاص – بائد كله، وان كنت أفهم أن تدمغ ما يكتب (كله) فى كافة .. الخ بهذا الذى قلت، ولا أوافقك عليه، فالأمر يحتاج إلى وقفة تحمل أكبر مما تتصور، فقد أرفض مقالا بأكمله لأستاذنا زكى نجيب محمود ينشر فى الأهرام، ولكنى قد ألتقط فى نفس المقال سطرا واحدا مضيئا يغير من موقف فكرى كنت أحسبه ثابتا، فأفرح به فرحة تعرفها أنت (راجع بداية خطابك) وأنام شاكرا له عطاءه رغم رفضى لكل ما عدا ذلك.
9- ولكنى أرى تناقضا آخر قد يفسر الرفض بالجملة و الاندفاع بالقسوة فأنت تصف العصر الآتى عصر التحديد والعمق والوضوح – وحتى أتجاوز هذا التناقض أتصور أن هذا التحديد الواصف للعصر القادم ليس هو التحديد المرفوض فى أول المقال، أما العمق فنعم، وأما الوضوح فهذا أمر يختلف عليه، وقد خشيت يا سيدى من فرط حماسك أن ينتهى بنا الأمر من رفض تحديد وصى قاهر إلى قبول تحديد بديل ساحق ولتنظر حولك لأصدقاء فكر وتحاول أن تقيس – دون تعميم – المساحة التى تتحرك فيها أفكارهم ودرجة المرونة اللازمة لتخطى التحديد الجاهز، لتدرك معى صعوبة الموقف برمته، فلا تستسهل الانضواء تحت فكر جاهر بديلا من معاناه الخلق المستمرة.
10- أرفض وصفك لمن يتهمنا بالغموض بالمسطحين، اذ ان هؤلاء الأصدقاء لهم عذرهم، كما أنهم يدفعوننا إلى ما نريد، فضلا عن أن الحوار بالاختلاف هو الدفع الحقيقى لاستمرار هذه المجلة، وكل واحد من حقه أن يفهم إلى المدى الذى يستطيعه، أو يريده، وأن يصف (ما بعد ذلك) بالغموض، ونحن ننتظره فى المحطة القادمة دون احتجاج أو رفض يمنعه من مواصلة السير، ودون غرور يدفعنا إلى مضاعفة السرعة.
11- نعم: النضال السياسى هو الوجه الآخر لكل ما نفعل، الا أن ثمة حقائق قريبة، ومخاوف قائمة، وقيم متغيرة، تلزم كل من يهتم جادا بمستقبل هذه الأمة، ومسار انسان العصر أن يعيد حساباته جذريا ذلك أن كل نضال سياسى ايجابى ثورى يحقق أغراضه متعجلا، أو بوساطة كوادر سلطوية عليا (جيشية أو حزبية) لابد وأن يجهض نفسه مهما احتفظ بلافتات شعاراته، وقد تعلمنا (أو ينبغى أن نكون قد تعلمنا) أن الاعداد المتواصل بالابداع المتفجر، والتقدم الدائم، والحوار المتصل .. الخ هم أوجب ما يجب على فريق جاد من محبى هذه الأمة والانسان، فى نفس الوقت الذى يتحرك فيه الوعى السياسى فينمو ويتواصل ويتكاثر ويتعمق ليغير ما قد جهز للتغيير، وليس عندى قياسات تحدد حسن التوقيت، أن التاريخ لا ينتظر مراسيم مسبقة الاعداد من مفكر أو زعيم، ولكن حسن الحسابات تجعلنا لا نطمئن إلى انتفاضة عشوائية، ولا نفرح بمظاهرة تحطيمية، ولا نجرى وراء حركة مباركة نقحم عليها ثورية لم تستطع أن تستوعبها.
سيدي: أسمع ردك قبل أن ترسله أو تعلنه، وأفرح بالاختلافات لأتعلم أكثر، وأرجو منك – ولك – مثلما أعاني.
12- اطمئنك يا سيدي، فقد أصبح التوقف غير مطروح أصلا كاختيار واع، ونحن يقرؤنا ما يناهز الألف، ويتحملون ما نحاوله، ولكن الخطر كل الخطر يطل حين لا نجد المادة المتفقة مع ما نحاوله من أقلام متنوعة، فيضطر التحرير أن يملأ الفراغ كما لاحظت فى هذا العدد، هنا تصبح المجلة مرتبطة بفرد أو أفراد، ولابد أن تتوقف: لا لاستنفاد أغراضها أو اعلان يأسها، وانما لفشلها فى جذب أعداد أكبر من المعقول المشاركة، فلا تنسنا سيدى .. والا ..
13- وأخيرا : قرأنا قصيدتكم، وهى تمثل مدخلا رائعا لتوليف بين ما هو عاطفى فردى راق، وما هو انتماء ثورى نابض، وقد تأجل نشرها (أو قد يعد عن نشرها حسب قرار لاحق) لا لأسباب سياسية كما قد تتصور – ورغم الاختلاف – وانما لأسباب فنية (ان صح التعبير) فقد كان الوقت ضيقا لاستشارة من يحذق ضبط البحور أكثر مني، ومن يقرر معى مكانها بين الشعر والنثر والكتابة الطليقة، وحتى يحين ذلك أرجو أن تقبل عذري، ولعلك اذا تتبعت ما ننشر، سوف تعرف أن لهذه المجلة موقفا فيما هو شعر، اذ يصعب تماما أن يوصف بهذا الوصف ما يتنازل عن الايقاع حتى لو تفجرت الصورة ونبض تشكيل الكلمات، لكنه يقع تحت ما أسميناه الآن الكتابة الطليقة وقد سبق أن نشرنا منها الكثير على صفحات المجلة، تحت تحذير ليس شعرا لكن قصيدتك تتراوح بين هذا وذاك، وهذا بعض ما جعلنا نتردد فاذا سمحت أن اقتطف ما هو شعر جيد كنوع من تحية اقدوم أذكر من قصيدتك قولك:
للعشق صبيه
يتفتح فيها رحم يناير عودا بالأحلام
بشرى يا أيام البهجة .. يا بنت الألام
أو حين تقول: يا همس العشق السري
أخرست نباح وكالات الأنباء
شكرا يا سيدى
وعذرا
ولا تنسنا ..
[1] – كلية طب المنصورة – نائب زائر .