الافتتاحية
-1-
السنة الخامسة، وبعد
كتب علينا الاستمرار، وهو امتحان لنا ويلح علينا القراء فى أن نزيد من جرعة ما يناسب تخصصنا فيما هو “علم” فيما هو “نفس”، وهذا الدور شديد الاغراء، سواء للمفتى فيه أو لطالب الفتوى منه، الا أننا – كما كررنا مرارا – لا نستطيع أن نتبوا مقعدا للفتوى حيث لا وجود له أصلا، اللهم الا بشأن وصف بعض جزئيات السلوك، ولكن يبدو أن الناس قد أنهكوا أو يئسوا من أن يخوضوا بحار النفس – كل على حدة – بأدوات المعرفة والمعاناة معا، فلما سمعوا عن “علم” يقول فى “النفس” وعن “طب” يداويها، ذهبوا يدفعون أقساط التأمين (ضد مخاطر المعرفة الذاتية) الى شركات وهمية (شبه علمية)، لا تفتأ تفرط فى “الاعلان” و “الوعود”، وقد حاولنا ألا نكون كذلك، ولا يعنى هذا أننا ضد التخصص فى فروع علوم النفس، بل ان الهواة قد أساءوا الى هذه العلوم والى موضوعها اساءات أضرت ضررا أكثر من المغالاة التى يقترفها “المحترفون” بالافراط فى الفتوي، ولا نزال نذكر هواية أستاذنا العقاد للتحليل النفسى (والغدد الصماء . بالمرة)، فنحترم موسوعيته ونرفض مغالاته وشططه وتعميماته شبه المنطقية، فاذا كان هذا العملاق الراحل لم يسعفه نهمه المعرفى أو ذكاؤه الموسوعى فى أن يقول كلمة لها مصداقية مقبولة فى هذا المجال، فلا مفر من أن يقوم “أصحاب الشأن” بمسئوليتهم نحو من يريد أن يعرف عن نفسه، وعن نفوس الغير دون أن يضطر الى الدراسة المنهجية أو الى الاستشارة (المرضية)، وهكذا نجد أننا نعود لنحاول – دون ضمان لاستمرار – أن نقوم ببعض هذه المسئولية أكثر فأكثر.
-2-
فيجد القاريء فى هذا العدد جرعة من الموضوعات التى تتناول التخصص بشكل أو بآخر، فالحديث عن الأسطورة يفتح صفحة جديدة لمعرفة “النفس” من خلال الحس الجماعى والوعى الشعبى التاريخي، ثم التعريف برائد من رواد علم النفس الانسانى (ماسلو) يذكرنا بموضوع علم النفس الانسانى الموجز لنفس الكاتب فى أول عدد من هذه المجلة، ثم يأتى تناول مشكلة التداوى النفسى بالعقاقير وما يصحب الافراط فيه، ونشاط شركاته المشبوهة فى تشويه مفهوم ما هو انسان تشويها لا يقتصر على مجال علوم النفس والطب النفسى فحسب، بل يكاد يتعداه الى الاسهام فى جريمة تدهورية عامة، ينبغى الانتباه الى آثارها المدمرة.
-3-
وتهب علينا من جديد نسمات الشباب متلاحقة فنستقبل ضيفة حيية باسم “هالة” (فقط)، وهى شابة ترفض التسليم وتغامر بالمعرفة: حتى تنسج قصة قصيرة تصرخ بها فينا فتخترق (صرختها) كل من لا يزال يحس ويأمل.
كما يعود طبيبنا الشاب (سيد حفظي) الذى كان له فضل التعرى الشجاع، فى الأعداد الأولى ليحدثنا عن “الانتشار” فى مقابل “التشتت”، ويتحدث محمد يحيى عن “الأشياء” والـ “هناك” بما نعهده فيه من توق معرفى لاهث متلاحق مما يضطره الى الغموض والاثارة معا.
-4-
ويصلنا أكثر من خطاب يؤكد أن دائرتنا تتسع بهدوء مطلوب، فيكتب لنا حسين أبو الحمايل (الطالب) عن خبرته الذاتية فى تخطى أزمة عنيفة من خلال القراءة والتحدى والمثابرة على تغيير نمط حياته السلبى الذى فرض عليه قبل أن يتولى بنفسه قيادة ذاته، وهو يرى أن ما ينشر فى المجلة يمكن أن يكو ن وقاية وهداية لمن مثله دون حاجة الى المخدرات الدوائية أو الاعتمادية العلاجية، ويعود الصديق محمود عباس ليؤكد تحوله من قاريء كشكول الى قاريء ثقافة جادة بفضل ما نثابر فى محاولته، فنشكره مرة أخري، ويكتب لنا أحمد سعد محمد سعد كلاما كثيرا فيه مدح كثير (متحفظ عليه من جانبنا) ومع ذلك نعتذر عن نشر المادة (الشعرية) التى أرسلها الينا، والتى تصورنا – ربما خطأ – أنه مدحنا من أجلها، والتى نرجو منه أن يراجعها كثيرا ..، وأن يقرأ كثيرا، وأن يكتب مرارا، ثم نلتقى .. أو لا نلتقي، ويا حبذا دون مديح، فنحن نحتاج الى من يرتفع بما ننشر بالاسهام الجاد المعاني، أكثر مما نحتاج لمن يصفق لما ننشر على ما فيه من قصور.
أما الخطاب المطول الذى جاءنا من د. رضا عطية من المنصورة، فقد كان يحمل من الجدية وتعدد الآراء ما رأينا معه أنه يحتاج لرد قد يصلح لمادة حوار هذا العدد، فكان ذلك بصورته الجديدة.
وأخيرا، فقد تلقينا خطابا هاما من الأديب الحكيم د. نعيم عطية، يعلق فيه بكرم على مجلتنا المتواضعة، وبالذات فيما يخص ما أسماه: قراءة المادة النفسية فى بعض الأعمال الأدبية الكبيرة “… مما يثرى النصوص الأدبية التى تضعونها موضع التحليل والدراسة، اذ تتغلغلون بذلك الى مواطن جمالية وانسانية، قد تكون خافية حتى على الأديب الذى يفرز النص” ثم يهدينا مشكورا آخر أعماله المنشورة (ليل آخر).
”لنقرأها” بذات الطريقة، ونفاجأ بعمق هذا العمل وتحديه، وفى نفس الوقت نستجيب للدعوة رغم ضيق الوقت ما بين وصول الخطاب ومثول العدد للطباعة (بضعة أيام) لكنها فرصة لم نرد أن تفلت منا حتى لو كان بعض ثمن العجالة هو القصور والتقصير معا، فعذرا وأهلا.
-5-
وتضطرب الدنيا من حولنا بالمفرقعات والصدام الدامى وضياع الفكرة المحورية التى ينتمى اليها ناسنا العرب فى محنتنا المحيطة من كل جانب، ونخجل من عدم المشاركة، ونعجز – بنفس العذر – عن المشاركة، اللهم ألا بهذه الكلمات والاصرار على الأمل.
وفى المقابل تشرق فى أفق الفكر مجلة “أدب ونقد”، تعد ببعض ما نأمل، وتقول فى عددها الأول كثيرا مما يبشر ويثير، وان كنا لا نتفق كثيرا مع افتتاحيتها من أن التخبط فى السياسة والفساد فى المجتمع والخراب فى الضمائر هى أسباب الركود العقلي، فلعلها كانت ولا تزال أسباب اثارة التحدى كما يثبت ظهور هذه المجلة، فان الذى نحرص عليه أكثر فأكثر هو أن تظل المساحة التى تتحرك فيها الكلمة فى تزايد، والقدرة على نشرها فى الامكان، رغم كل خراب وفساد وتخبط، ونحن نسعد بهذه المجلة الجديدة القديمة فى آن[1]، ونحييها ونفرح بها لأكثر من سبب، فهى أولا تعلن دورا ثقافيا هاما للحزب السياسى كما ينبغي، بعيدا عن نشاط التنمية الشعبية الحائم حول الشبهات، وهى ثانيا توازن بين الوصاية الحكومية المحتملة وبين التلقائية الشعبية الضرورية، وهى ثالثا تطمئن أمثالنا أن حركة الفكر تتقدم فى اتجاه التطور والابداع، وقد تدفعنا – ضمنا – الى ترجيح كفة العناية بتخصصنا أكثر فأكثر فى مجلتنا المتواضعة هذه، وخاصة اذا تحقق الأمل الذى وعدت به الشقيقة الجديدة فى أن ترحب بـ “احتكاك الأفكار، وتصارع المناهج والرؤي” الأمر الذى “يحيى الأصيل ويجعله أكثر تألقا وأقوى أريجا، ويميت الطفيلى والمتسلق”.
أهلا وسهلا ودعاء بالاستمرار، وأملا فى التحمل، وتطلعا الى الخلق والحوار.
-6-
وبعد، ثانية.
فاذا كنا قد استطعنا أن نستمر “هكذا” حتى بدأت السنة الخامسة، واذا كان صوتنا قد وصل متسحبا الى “هنا” و “هناك”، فاننا أحوج ما نكون الى من يشاركنا، ويتحمل معنا ما التزمنا به، ولا نشك أن مزيدا من العقول اليقظة والضمائر الواعية تحتاجنا بقدر ما نحتاجها.
فلا نهاية للأمل فى التلاقى .. ولا جدوى من اللهفة.
[1] فهى تذكرنا بمجلة الكاتب بشكل ما.