الوفد: 13/6/2002
(يخافون لا يستحون)
لا أعرف كيف يقرأ الناس ما يفعله أبناؤنا وبناتنا الشهداء فى فلسطين، كيف يتابعون هذه الأحداث، كيف يشاهدونها، كيف يسمعونها. إن أيّا منا يستـطيع أن يتقمص بعض ما ألِف، أو قريبا مما ألِف، لكن الذى يجرى هكذا ليس مثل أىٍّ من ذلك. هذا حدث بشرى غير مسبوق، لا فى الحرب ولا فى السلم، حتى انتحار اليابانيين فى الحرب العالمية، حتى الموت حرقا للذات فى ميدان عام فى جنوب شرق آسيا احتجاجا أو قربانا، الذى يفعله أبناؤنا وبناتنا على أرض فلسطين بهذا الأسلوب الخطير، المؤلم الرائع، القوى الكريم الشجاع، البرىء، الجميل هو أمر آخر.
عشنا حتى رأىنا رأى العين ما لم يكن يمكن أن يختلقه خيالنا اختلاقا. إن الذى يموت فى حرب رسمية معلنة دائرة أثناء تلاحم أو مناورة، أثناء كر أو فر، إنما يموت بحسابات تقديرية قد تسمح له أن يعود مع المنتصرين، أو حتى أن ينسحب مع المرتدين، أما هذا الشاب وتلك الفتاة فى فلسطين فهما يعرفان أن اختيارهما نهائى، حتى لو لم ينجح أى منهما أن يصطحب معه ما تيسّر من الجانب الآخر، فإنه يفعلها بكل حسم وشرف وتضحية وإباء.
العجز عن التقمص
صعب علينا أن نعايش كل ذلك بحجمه وعمقه ونحن جلوس على المكاتب. فى مقال سابق، نبّهت إلى أن عتبى وتعجبى من موقف أهل الغرب يتوجه أساسا إلى الشخص العادى فى المنازل والشوارع والمكتبات والمدارس ودور العبادة والعمل. أبديت عتبى على هؤلاء أكثر من سخطى على قادتهم، وأكثر من غضبى من رؤسائهم. أخذت عليهم أنهم لا يفكرون أصلا فى هذا الشاب أو الفتاة الذى تنازل عن كل شىء بعد أن أيأسوه من كل شىء. هم يركزون فقط على من اصطحبهم من أبرياء دونه شخصيا. حتى الذين راحوا يتظاهرون معنا مؤخرا، أو يعطفون علينا، هم يتظاهرون تعاطفا مع ناسنا الذين اجتاحتهم آلة الحرب الإسرائيلية مؤخرا بلا جريرة، ، لكنهم أبدا لا يتعاطفون مع بناتنا وأبنائنا الذين يعلّموننا هذا المعنى الجديد للكرامة الإنسانية، وللموت الأبى، وللاستغناء عن الحياة بهذه البراءة الطاهرة الجسور.
كنت ألوم الغربيين المتحضرين (أو الذين يزعمون ذلك) ولا أفهم كيف سلّموا عقولهم ومشاعرهم لإعلام ظالم مأجور، كنت أتعجب منهم كيف لم يسمح لهم وعيهم الإنسانى بتقمص شبابنا وهم يزفون أنفسهم إلى الموت بهذه البطولة غير المسبوقة، لم أسمع من أغلبهم أنهم ترحموا عليهم فى نفس الوقت الذى يترحمون فيه على الضحايا من الجانب الآخر الذى يقتلنا قادته فى دورنا بشكل مضطرد معلن ، بقرارات وزارىة مسبقة .
إن أولادنا وبناتنا الأبرياء، ذلك الشباب الغض، لم يذهبوا إلى مقهى فى شارع الشانزلزييه فى باريس أو فى حى جرينتش فى نيويورك أو فى الهايد بارك فى لندن ويفعلونها، إنهم فعلوها على أرضهم وأرض أجدادهم، وسط ناس ليس لهم الحق أن يلمسوا ترابها دون إذن، فعلوها بعد أن فاض بهم الكيل، بعد أن أُرغمواهم أو أشقاؤهم وشقيقاتهم أو آبائهم وأمهاتهم أن ينطرحوا على وجوههم حتى تلتصق بتراب أرضهم وأيديهم معقودة فى بعضها خلف رؤوسهم ، همستْ لهم الأرض: أن “لا”، “لن يكون”، نادتهم إلى حضنها ورحّبت بمن يصطحبون معهم، قالت لهم إن البقاء فوقها دون كرامة لم يعد يستأهل. قبّلوا الأرض وهم فى هذا الوضع وعاهدوها، قرروا فى هذه اللحظة أمرا فى معنى حياتهم ووظيفتها. وحين راحوا ينفذون هذا الأمر الذى واعدوا تراب أرضهم عليه وجدوا العسكر الذين وقفوا على رؤسهم يحولون دون أن يأخذوا بثأرهم، دون أن ينتقموا لكرامتهم منهم دون غيرهم، وجدوا الأسلاك الشائكة، والمدافع المشهَرة، والأرض الملغومة والإهانات المستمرة، تلفتوا حولهم وتذكروا أن هؤلاء العسكر ما فعلوا هذا، ثم ذاك، إلا لأن لهم رئىسا قد أمرهم بذلك، ثم تذكروا أن هذا الرئيس لم يشغل منصبه هذا إلا لأنهم وأهلهم انتخبوه، وأنهم يعيدون انتخابه وتأييده مع كل استطلاع رأى طول الوقت، (يا لفضل الديمقراطية التى تحدد الجانى الحقيقى والمحرّض !!!)، من خلال كل ذلك قرر هؤلاء الشباب مضطرا أشد الاضطرار وآلمه، أن يدخل خصما فى معركتهم الانتخابية لعله يحوّل بما يفعل تلك الأصوات الانتخابية عن هذا الرئيس القاتل لهم ولنا . لاحت لهم هذه الوسيلة كأنها سوف تجعل هؤلاء الناس يفكرون كيف يأتون برئيس آخر يحترم الحياة (حياة ناسه أولا، من ثَمَّ : حياة ناسنا على أرضهم خالصة لهم).
لا تصيبن الذين ظلموا خاصة
” واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة:” هذا ما ينبهنا إليه قرآننا الكريم لنتحمّل مسئولية حتى الظالمين منا والسفهاء. إن المحنة التى يتعرض لها هؤلاء الإسرائيليين الأبرياء (رحمهم الله فعلا، وهو الرحمن الرحيم) هى رضاهم، ثم استمرار رضاهم، عن رئيسهم هذا الذى انتخبوه بمحض إرادتهم (شكرا مرة أخرى للديمقراطية). إن أولادنا وبناتنا الأبرياء لم يشاركوا فى فتنة انتخاب هذا الرئيس وتفويضه للقيام بكل هذا القتل وهذا الظلم، ومع ذلك فهم يدفعون الثمن أولا وقبلا. لكن، والحق يقال، نحن العرب الأحياء الكبار قد اشتركنا ضمنا فى هذه الفتنة بتقاعسنا، وكسلنا، وخَطَابَتِـنَا، وعجزنا، وتسليمنا أمورنا لأسياد لم يحترموا ولا يحترمون مجرد وجودنا بشرا مثلهم أو مثل عدونا. أنا قد ألتمس العذر لنا ونحن نتململ من حمل أخطاء حكامنا نظرا لقلّة الديمقراطية !!! لكن أولادنا لم يستطيعوا ولا يستطيعون ولا ينبغى أن يستطيعوا صبرا. إنهم راحوا يستغفرون لنا، وينبهون الناخب العدو بكل شجاعة وإصرار بما ينبغى أن يفعل. إنهم يحذرونه ألا يعيد انتخاب من يعرض كل هؤلاء الأبرياء على الجانبين لمثل هذا الخطر.
إن نصيحة الجالسين على المكاتب أن يقتصر الأمر على العسكريين منهم هى نصيحة تقابـَل برد بسيط يقول ” يا ليت!!”. إن هذا الانتقاء المفضَّل – قتل العسكريين- تعذّر على شبابنا حتى الاستحالة مع أنهم ما زالوا يفضلونه بدليل عملية مجدو الأخيرة جنوب حيفا (13 عسكريا من 17). إن قتل المدنيين اضطرارا هو الوسيلة التىبقيت أمامهم مرغمين . إن الله لن يغيّر ما بالعدو حتى يغيّروا ما بأنفسهم بأن يتبينوا من ينفعهم من الرؤساء ممن يضرهم. إنهم هم الذين يستطيعون أن ينصّبوا على رأسهم رئيسا وحكومة تمكنهم من إكمال وجباتهم فى مطاعم البيتزا، والتمتع برقصهم فى ملاهى القدس الغربية وتل أبيب، وفى نفس الوقت سوف يسمح هذا الرئىس القادم أن يتمتع الطفل الفلسطينى باللعب فى الشارع أمام بيته الذى لم يهدم، وأن يقطف حبة يوسفى من بيارة أبيه التى لم تجرّف.
ونحن أيضا لا نحسن التقمص
إذا كنت قد نحيت باللائمة على الإنسان الغربى (قبل سياسته ورؤسائه) لأنه عجز عن تقمص أبنائنا وبناتنا الذين يعلموننا معان أخرى للحياة والموت، فقد تبينت مؤخرا أن المسألة صعبة على الجميع وعلينا ضمنا. فهمت أن ذلك إنما يرجع لفرط هول ما يمكن أن نشعر به إذا ما حاولنا أن نمضى بالتقمص حتى عمق حقيقته، ولا يقدر على القدرة إلا الله. تأكد لى ذلك وأنا أقرأ آراء كتاب أفاضل كان من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: مجدى مهنا، ومحمد سلماوى، وصلاح عيسى، ولكلٍّ منهم – على اختلاف مشاربهم – موقفه الأبىّ الفاهم المجتهد المشارك.
لاحظت أن الثلاثة دون استثناء لا يرفضون العمليات الاستشهادية من حيث المبدأ، على أساس أنها أولا: رد فعل، وثانيا، اضطرار مطلق، وثالثا: إعلان يأس، ورابعا: إنذار إلى العدو أننا نملك القدرة على الاستمرار إلى آخر فرد حى. لكنهم بعد أن يتحفّظوا بكل هذه المقدمات (وأحيانا يستدركون بها قبل إنهاء المقال) يقدّمون النصائح والتحفظات مثل : ضرورة حسن التوقيت، ولزوم تكامل التنسيق، مع التوصية العاقلة جدا بالحرص الشديد على كسب الرأى العام العالمى…إلخ.
“الذى يده فى الماء ليس كمن يده فى النار”، و”الذى على الشاطئ شاطر”، هذا ما كدت أبدأ به مقالى أو أعنونه به، لكننى عدلت عن ذلك لأن المسألة ليست كذلك بالضبط. إننا، ونحن على شاطئ الاستشهاد، نحاول أن نعلم أساتذتنا من الشباب العوم وهم يحذقونه أكثر منا ألف مرة، لكنهم يتمادون إلى وسط البحر إلى حيث لا عودة، وهم يطاردون الحيتان قبل أن يلتهمنا “موفى بيك” الأحدث.
ردود مبدئية
قبل أن أعرج إلى تفصيل أنواع الأبرياء القتلى، برغم رفض قتلهم جميعا، سوف أحاول الرد على بعض التساؤلات وأن أناقش جانبا من التوصيات التى يقدمها هؤلاء المخلصون من النصحاء.
أولا: نحن لن نكسب الرأى العام العالمى لا بالتوقف عن العمليات الاستشهادية، ولا بسماع الكلام، ولا بتغيير مناهج تدريس ديننا فى حدود توصياتهم “البريئة”، ولا حتى بتسليمهم المسجد الأقصى مع مخصوص، ولا بالرضا بدولة رمزية بلا جيش، وبحكومة يعيّنونها بمعرفتهم. إن الرأى العام العالمى- مع كل احترامنا وشكرنا للمتظاهرين والمشاركين بصدق – لا يفهم، ولن يفهم إلا لغة النجاح والتفوق والقوة، ونحن نملك مقوماتها – رغم كل شىء (صدّقونى ودعونا نحاول). إن الناس لن يحترموننا أو يكفوا عن قتلنا أو استعمالنا على المدى الطويل إلا إذا تيقنوا أن عندنا ما يمكن أن نضيفه بإبداعنا ما هو نحن، مما ينفعهم لتحسين نوع حياتهم (وحياتنا) وتغيير طبيعة تواجدهم فيها. (هذا وارد، وإلا فلا معنى لأى شىء نحاوله)
ثانيا: إن التوقف عن هذه العمليات لن يغير استراتيجية العدو المتمثلة فى تحقيق كل من: الاستعمار ، والاستغلال، والطرد، الاستعباد، واستعمالنا أسواقا لمنتجاتهم، وعبيدا للأعمال القذرة التى ارتقوا عنها أفرادا بدخلهم المتزايد. إن توقف عملياتنا قد يدفعهم إلى إعادة ترتيب خطوات تكتيكهم دون التنازل عن استراتيجيتهم
ثالثا: إن الاستشهاد بما قاله أحمد بهاء الدين سنة 1971 هو قياس غير صحيح، وهذا ما سوف أنهى به هذا المقال بعد أن نستعرض معا أنواع الأبرياء .
تعريف البرئ
تطالعنا وسائل الإعلام والتواصل كل يوم بما لا يمكن تفسيره بالمنطق االسليم الذى اعتدنا أن نميز به بين الخير والشر، بين البرئ والمجرم، بين الجانى والمجنى عليه. إن التركيز على رفض قتل الأبرياء من الإسرائليين دون الفلسطينيين إنما يلزمنا أن نراجع كيف يميزون بين برئ وبرئ. يبدو أنه حتى الأبرياء أصبحوا يحتاجون إلى تعريف وتصنيف.
إن قتل أى برئ أيا كان، من أى لون أو جنس أو دين ، عدوا كان أو صديقا، قربانا أو خطأ، هو من حيث المبدأ أمر مرفوض تحت أى تبرير. هو مرفوض بكل القوانين وكل الشرائع ورغم كل التبريرات. لعل أهم رفض وأكثره دلالة هو ما جاء فى قوله تعالى “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد فى الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا” هذا التحديد لتعريف البرئ هو الأقوى والأشمل. البرئ الضحية هو المقتول “بغير نفس أو فساٍد فى الأرض”، والآية الكريمة تحدد بوضوح أن قتل واحد له هذه الصفة (بغير نفس أو فساد فى الأرض) هو قتل لأكثر من ستة مليارات على وجه الأرض حالا على أقل تقدير.
يا سادتى يا أهل الغرب الكرام: إن هذه الآية الكريمة التى تحدد تعريف البرئ، وتقدّس الحياة، وردت فى كتاب كريم اسمه “القرآن” ، وهو كتاب دين اسمه “الإسلام” . وذلك لسيادتكم للعلم وإعادة النظر ما أمكن!!!!
الأرجح عندى أن شبابنا المستشهد لم ينسوا هذه الآية وهم يقدمون على ما يفعلون ؟ إننى أتصورهم يستغفرون لأنفسهم، ولمن يصحبونهم معهم، إننى أتصورهم وهم يعتذرون لضحاياهم بأنهم وأهلهم الذين انتخبوا رؤساءهم القتلة هم الذىن اضطروهم إلى هذه النهاية، إننى على يقين أن هؤلاء الأبرياء الإسرائيليين (وهم كذلك بلا شك) هم ضحايا مثل قاتليهم تماما، الجميع ضحايا الفيتو الأمريكى، وضحايا شطح بعض الأصولية الإنجيلية الجديدة فى الولايات المتحدة، وضحايا التفسير الأعمى لتراث أكثره مقول بالشبهة أو التشكيك، ثم هم قبل ذلك وبعد ذلك ضحايا لأطماع قوى سرّية تسوق العالم إلى الخراب، كما تقود الجنس البشرى إلى الفناء، لمجرد الحصول على مزيد من القوة والمال.
إن هؤلاء جميعا، ومعهم أبناؤنا الشرفاء الشجعان، هم الذين يدفعون ثمن تصرفات الذين انتخبوا من راح يقتل الأنفس على الجانبين، مباشرةً بقتل أبريائنا، وهو مسئول بالتالى عن قتل أبريائهم كرد فعل اضطرارى. يقتلنا فى بيوتنا وعلى مكاتبنا، كما يقتلهم فى مطاعمهم، وعلى مكاتبهم، القاتل واحد وإن اختلفت الخطوات والوسائل.
ليس كل قتلٍ للأبرياء سواء
بدا لى الاستشهاد باعتراض أحمد بهاء الدين سنة 1971 على خطف الطائرات آنذاك أكبر مغالطة وردت فى كل ما قرأت . بدأها الأستاذ القدير صلاح عيسى، واحتج بها الأستاذ الأديب محمد سلماوى، ولا أذكر أن الأستاذ مجدى مهنا أشار إليها تحديدا.
لا يوجد مجال فى هذا المقال، وقد قارب على الانتهاء، لتعداد كل أنواع قتل الأبرياء ، لذلك سوف أكتفى بذكر تعريفات عامة مع إشارة خاصة إلى رأى بهاء الدين. وفيما يلى ما حضرنى من أنواع قتل الأبرياء، بما يجعل ما يقوم به شبابنا نوعا متميزا تماما :
(1) القتل بلا محاكمة : وهذا ما دأب عليه الإسرائليون فى الفترة الأخيرة ، وهو ليس جديدا عليهم منذ قتلوا برنادوت، حتى رابين وأبو على مصطفى، ثم سلسلة التصفيات الأخيرة. كيف يصدر الحكم بالإعدام لمجرد رصد نيّة الإسهام فى تحرير الأرض أو الحفاظ على الكرامة، يصدر الحكم من مجلس وزراء دولة عصرية، فى بلد لا يقر عقوبة الإعدام أصلا!؟
(2) القتل بالنيابة : مثل قتل الأبرياء فى أفغانستان نيابة عن بن لادن الذى لم يثبت حتى هذه اللحظة أن أدلة تجمّعت تكفى لمجرد إحالته للمحاكمة.
(3) القتل بالجملة (على الماشى)، مثل حصد الناس بالآلاف من أول هيروشيما حتى فيتنام. (الدمار الشامل!)
(4) القتل العشوائى: مثل قتل القرويين الجزائريين الذى اعتدنا عليه حتى كدنا ننساه، هذا قتل يؤرقنى أكثر، فهو غير مفهوم لى حتى الآن، وفى انتظار تفسير لاحق سوف يظل رفضه من أقوى ما أرفض فى هذا الصدد. أنا لا أعرف لماذا لا يهتمون به نفس الاهتمام ؟ هل لأن أبرياءنا لا يستأهلون؟حتى لو كان قتلانا منّا فينا، فالأمر قبيح جدا.
(5) القتل للتطهير العرقى من أول الهنود الحمر حتى البوسنة، ثم فلسطين.
(6) القتل بالإهمال مثل حادث قطار الصعيد مؤخرا.
(7) القتل الرمزى : مثل حادث 11 سبتمر، حيث كان الرمز هو التنبيه على التهديد بانقراض الإنسان إذا ما تمادى فى استسلامه لقوة مالٍ أعمى، وسلاح ظالم.
نوعان آخران على طرفى نقيض
كل هذه الأنواع تحتاج إلى تمييز وتفصيل لاحق، لكن ما يهمنى فى هذا المقال هو تحديد أن ثمة نوعين، غير كل ما ذكرنا، يقعان على طرفى نقيض، ومع ذلك وضعا فى سلة واحدة. النوع الأول: هو ما تناولناه سابقا من أول المقال، وهو ما يقوم به شبابنا من قتل الأبرياء اضطرارا، وهو الذىفصّلناه وبررناه وميزناه طوال هذا المقال، أما نقيضه فهو قتل الأبرياء البعيدين أصلا عن مكان ومجال الصراع، وأكبر مثال لذلك هو قتل السائحين فى حادث الأقصر، ثم قتل بعض الضحايا مع خطف الطائرات.
لست أعرف كيف غاب عن هذا العقل السياسى المرن (صلاح عيسى) الفرق بين خطف الطائرات واستشهاد أبنائنا فى فلسطين هكذا. إن خطف الطائرات عمل جبان أصلا، ومنذ البداية، فالخاطف لا يضحّى بنفسه بهذا اليقين الرائع والحاسم، بل إنه أحيانا يكون مبتزا يطلب مالا أو فدية، وقد يكون أرقى قليلا فيطلب مطلبا عادلا (أو هذا ما يبدو له كذلك) مثل إطلاق سراح زملاء أو الإفراج عن زعيم ، ثم إنه لا يقتل ضحاياه فورا (وهذا قد يكون أقسى إنسانيا) فهو يروع أبرياء، بعيدا عن ساحة الصراع الأصلى، بما هو أصعب من القتل، لقد انتبه بهاء الدين إلى ذلك بنص ما اقتطفه صلاح عيس كالتالى”..رهائن تلك العمليات – فى الأغلب- مواطنون مدنيون مسالمون ينتمون إلى جنسيات مختلفة من الشرق إلى الغرب، لا شأن لهم بالصراع ، وليسوا طرفا فيه،”
إذن بهاء الدين قد حدد اعتراضه على رفض التضحية بمن هم “لا شأن لهم بالصراع” وليس معنى ذلك أنه – أو غيره، أو ربنا – يوافق على قتل الأبرياء الذين هم طرف فى الصراع، نقيض ذلك هو ما يقوم به شبابنا من الاضطرار لقتل أبرياء لإبلاغ رسالة من بقى من أهلهم على قيد الحياة، رسالة تقول: “عليكم أن تسلموا قيادتكم – بالانتخاب – لمن يرحمكم منا إذ يرحمنا مما ورّطكم فيه” .
إنهم يخافون لا يستحون
إن الذى أخرج إسرائيل من جنوب لبنان هن أمهات الجنود الذين كنّ يثكلن فيهم الواحد تلو الآخر دون أن تظهر أى علامات على نهاية منظورة، فانسحب الإسرائليون مرغمين فىثانى حرب حقيقية (الأولى انسحابهم من سيناء بعد أكتوبر). إن أولادنا يضعون الكرة فى ملعب الناخب الإسرائيلى، وهم يثبتون له فشل شارون فىحماية الأبرياء منا (الذين يفجرون أنفسهم) وهم يصطحبون أبرياءهم .
الاختيار أمام الناخب الإسرائىلى واضح ويزداد وضوحا مع كل قتيل برئ : إما أن ينتخب له رئيسا وحكومة تكون قد تعلمتْ من درس مصر بالسلام، ومن درس لبنان بالحرب، ومما يجرى الآن، وإما أن يدفع الجميع الثمن. بكل أسف. من منا يريد أن يفقد ظفر شاب من الذىن شرّفونا أخيرا بفتح هذه الصفحة فىتاريخنا المرهق بصفحات من نوع آخر؟ من منا لا يتمنى للهائصين عندهم فىمطاعم البيتزا أو مراقص اللهو أن يكملوا بالهناء والشفاء بيتزتهم ، ورقصتهم، ويعودوا لذويهم كما يعود أبناؤنا الأبرار على أرضهم إلى ذويهم بكرامة وشرف؟
نعم ولكن
إننى أحترم كل من يدعو إلى إعادة النظر فى التوقيت والتنسيق دون رفض مبدإ الاستشهاد، لكننى أذكّره أن المسألة ليست بهذه المباشرة، وأننا لسنا فى حرب نظامية، وأن الإسرائيليين لم يفوا بأى عهد قطعوه نتيجة لتوقف هذه العمليات ولو مؤقتا، وأن الذىحرّك وسيحرك أى شىء هو عدد من يفقدون من بشر، و حجم ما سيخرب لهم من اقتصاد، لا أكثر ولا أقل، وكل ما عدا ذلك باطل وقبض الريح. خذ مثلا عملية “مجدو” الأخيرة جنوب حيفا، تصوّر البعض أن توقيتها سوف يضر بزيارة الرئيس مبارك لأمريكا، فى حين قدّرتُ أن العكس صحيح، فهى ورقة يلوّح بها الرئيس – ولو بطريق غير مباشر- : أن على راعى الإرهاب الإسرائيلى السيد “بن بوش”(على غرار “بن لادن”) أن ينقذ مثل هؤلاء الضحايا، وهم أكثر من كل من مات منهم فى حرب 1967، وينقذنا معهم بالمرّة، بالإسهام فى تحقيق العدل والسلام الحقيقيين، وإلا :
كلّه من هذا مهما كان الثمن.