نشرت فى الدستور
19-7-2006
…. يا هنود العالم الحُمْر، إغضبوا أو انقرضوا..!
كنت قد لجأت إلى ذلك النوع من التشكيل/القصصى، اعتقادا منى أنه أقدر على تحريك (تعتعة) الوعى إلى وجهته، دون وصاية محددة أو خطاب تقريرى، فرسمت تلك الصور/القصص التى لم تلق ترحيبا كبيرا من أغلب من يفضل التلقى السهل. كان المفروض أن أرسل هذا الصباح (الجمعة) تشكيلا جديدا عن عروسة (صنم) طفلة خسر أبوها كل ما جمعه من ذل الخليج فى البورصة، ثم غمرتنى أحداث أمس وأمس الأول، ففضلت أن أرسل صورة تشكيل آخر عن “جنين يتحدى أن يجهضوه أو يمسخوه أو ينسبوه لغير أهله”، ثم عدلت عن هذا وذاك، خجلا، حين وجدت نفسى محاطا فى غزة ولبنان حتى باب بيتى وداخل حجرة نومى بكل هذه الدماء، والأشلاء، والظلم، والقبح، والتشويه، والنكوص إلى أخبث صور الظلام التى مرت بها البشرية قاطبة. شككت فى جدوى القص وجدوى الشعر وجدوى الكتابة كلها فى هذه الظروف التى تحتاج نبيا يحمل سيفا لا قلما.
ماذا تجدى أية كتابة أمام هذه الجرائم بكل هذه العلانية وهم يدافعون عنها عبر العالم بكل هذه البجاحة؟ عدلت وحاولت أن أكتب مثلما اعتدت سالفا، ففوجئت بأنه ليس عندى فى هذه المسألة أكثر مما يقوله أى واحد فى أى مكان فى الصحف والمواقع، تبينت كيف يمكنك أن تقرأ نفس المقال بنفس الألفاظ تقريبا بغض النظر عن تاريخ المذبحة أو موقعها، ماذا يتبقى بعد كل تلك الكتابات؟ غضب يغلى داخل فروة الرأس؟ حزن يهرى القلب؟ شعور بالذنب أمام جثث الأطفال فنتصور أنه ما زال عندنا دم؟ ثم ماذا؟ لا شىء غالبا. العلامة الإيجابية وسط كل هذا الرص الكلامى هو هذا الشيخ نصر الله ورجاله، الخمسة أو الخمسة عشر الف مقاتل. أما الحكومات العربية، والموائد المستديرة، واجتماعات القمة، وتدبيج المقالات، والتوصيات الحكيمة بضبط النفس ونفس الضبط، والصرخات المواسية، والتنبيهات التحذيرية، والآراء التحليلية، فهى كلها لم تعد تصل حتى إلى مرتبة تحصيل الحاصل.
المواقف المتعاقبة (خاصة منذ أحداث 11 سبتمبر التى عرّت البرامج الإبادية الانقراضية) تتطلب منا أن نعامل ما يجرى باعتباره موقفا إنسانيا شاملا يتجاوز كل محلى، يمكن أن يكون هذا التفسير مدعاة لاتهامى أننى بتوسيعى الدائرة هكذا أهرب فى التعميم والتمييع، لكن ماذا أفعل إذا كانت رؤيتى تلزمنى بطرح ما يصلنى وأمرى إلى الله:
القوى الرجعية فى العالم كله – ظاهرة وخفية – ترعرعت وتفرعنت، حتى أحاط خطر الفناء بالجنس البشرى كله. مأساة الهنود الحمر انتهت بولادة هذه الدولة الهجين التى تهدد بإفناء كل البشر وهى على رأسهم. التاريخ لا يكرر نفسه، الهنود الحمر المعاصرون هم أكثر عددا من أن يبادوا مهما بلغت القدرة التدميرية للأدوات، مهما بلغ عمى العقول الخبيثة. الهنود الحمر الآن هم مليار مسلم، ومليار جائع، ومليار رافض، ومليار غاضب، ومليار منتظر، ومليار حزين، ومليارات أخرى كثيرة متكررة متداخلة. أسلحة الدمار الشامل المزعومة، لا تساوى شيئا إذا ما قورنت ببرامج الانقراض الانتحارى الغاشم، الصين بكل إنجازاتها التى كانت يمكن أن تنقذ العالم من احتكار أمريكا للطاقة والقوة والأسواق، لا تفعل شيئا مختلفا لإنقاذ البشرية، هما يتسابقان للاستيلاء على الطاقة والأسواق لا أكثر. نعم: مرحبا بجهود الصين بدلا من أن يستفرد بنا أحدهم، لكن علينا أن نميز بين الوسائل والغايات، وأن ننتبه إلى التحالفات الكمّية الاغترابية المحتملة.
الذى يجرى الآن فى العراق وأفغانستان، إلى فلسطين ولبنان، ثم سوريا ومصر، ثم السعودية والخليج، هو ما يُخطط له ليتم فى كل العالم. المسألة ليست فقط قضية أسر جندى احتل أرض غيره عشرات السنين، ولا هى حتى فى إزهاق أرواح عشرات فمئات الأطفال العزل فى مهودهم، وبجوار أسرّتهم، المسألة هى أن قانونا خطيرا يحكم العالم الآن يجعل الظلم عدلا، والاحتلال حقا، والقتل رحمة، والاستغلال مبدأ، والحرية فخّا.
برغم كل ذلك فإن جنينا يتولد فى رحم البشرية حتى لو كان العقم قد أصابها زمنا طويلا (التعتعة القادمة)، العالم لم يعد منقسما إلى شمال وجنوب، ولا إلى قوى تنويرية وأخرى ظلامية، ولا إلى غرب وشرق، ولا إلى مسلمين ومسيحيين وأديان أخرى، العالم الآن منقسم إلى انقراضيين فى مواجهة كل الإحيائيين، إلى موت يتعملق فى الحجم دون نبض، وحياة تتفجر فى كل تشكيلات النقد والإبداع.
علينا أن نتخلى عن الكسل العقلى، وأن نتواصل – عبر العالم- بما نفعل، ونحرّك، لا بما نقول ونصيح، فالألم الجارى أكبر من أن يوصف، وهو لا يحتاج أن يعلن بالكلمات، وإنما أن يكون وقودا لتغيير العالم قبل أن يغرقونا معهم فى غيابة العدم.