نبذة: مقال: بمناسبة عيد ميلاد (نجيب محفوظ 91) والكاتب يكتب فى هذه المناسبة طوال عشر سنوات على الأقل، ويمكن جمع هذه المقالات، وفيه يعرض مدى تواضع الأستاذ، واستمرارية تلمذته وفرط تفاؤله، ويقظة انتباهه.
الأهرام: 16-12-2002
يا شيخنا الجليل لا تقلق أكثر
هو لم يعد فى حاجة إلى مزيد من الثناء أو المديح، ولا إلى مزيد من التكريم أو التقدير، ولا إلى مزيد من التهنئة أو الاحتفال، هذا رجل مصرى مؤمن محب بسيط رائع، يمكنك أن تقرأ فيه ومنه أيا من: مصر، أو القاهرة، أو الحارة، أو تاريخك، أو نفسك إن كنت قادرا على أن تكتشف ذلك الجزء من نفسك الذى وهب هذا الرجل كل حياته وقلمه ووقته لكى تكتشفه فى نفسك لنفسك. إن نجيب محفوظ استطاع، ويستطيع، أن يسرقك لنفسك، إذا ما دفعت ثمن مغامرة أن تقرأه بمستوياته المتعددة. يسرقك لنفسك كما تحسبها. فتكتشف بقيتك إلى كـلك، فتجدك فى رحاب طريقك إلى ربك.
كلما حل عيد ميلاده، أشعر بنوع من الخجل نتيجة لتقصيرنا دون الوفاء ببعض ديننا إليه، نحن لا نستطيع أن نرد بعض بعض فضله ؟
هذا الرجل يحمل هم الناس طول الوقت، طول العمر. كان تدفق الإبداع يخفف عنه بعض ذلك، لكن صعوبات السن، وآثار الحادث الغادر، لم تترك له إلا هذه المساحة المحدودة التى تشرق فيها أحلام فترة النقاهة بين الحين والحين. هذا فضلا عن إعادة تخليقنا بحضور جميل مباشر، نحن المريدين من حوله. شيخنا الجليل يعلمنا يوما بعد يوم كيف نحب الحياة كما أحبها، يعلمنا ذلك وهو يمارسها بكل ما تبقى له من قدرات، الله أعلم كيف يحافظ عليها بجهاد العاشقين، ويقين المؤمنين. فأين نحن من ذلك؟
ليس مطلوبا أن نبحث عن معنى للحياة، بل المطلوب هو أن ‘نخوض تجربتها’. فى أعياد الميلاد يحتد السؤال فى اللاوعى عما إذا كنت قد خضت تجربة حياتك أم ما زلت تحوم حولها. ربما ينشأ اكتئاب هذا اليوم من الحيرة أمام هذا السؤال، ومثله، أو من الإجابة السلبية (..عدت يا يوم مولدى، عدت أيها الشقي) . نجيب محفوظ خاضها بالطول وبالعرض، أعطى ما عنده، وما زال حريصا -بكل ما امتحن به من صعوبات – أن يواصل العطاء. حتى حينما تعذر عليه مؤخرا أن يواصل تسجيل وإبداع أحلام فترة النقاهة، لم يتردد فى أن يكتبها فى خلايا دماغه، حتى تتسير الظروف فيستطيع أن يكتبها بيمناه التى استعاد بعض قدرتها بإرادة لم أر مثلها أبدا.
رسالته التى تصلنا ليست فقط فيما يقول، أو ما يكتب، ولكنها أيضا فى كيف ينصت، وكيف يسمع، وكيف يتلقى. كنت أقرأ له -حسب طلبه- مقالا صدر لى مؤخرا فى مجلة ‘سطور’، عن ‘الثمن الغالى لتطور الإنسان’، وأنا أشعر بالإشفاق عليه لطول المقال، وربما صعوبته. بعد أن انتهيت منه اعتذرت له عما كبدته من مشقة الاستماع، فإذا به يؤكد لى أنه تابعنى بتركيز كاف. ثم بعد أن ناقشنى فى بعض ما ورد فيه أردف ‘ما تنساش إنك بتقرا لتلـميذ فلسفة’ !!! . حين نسيت على المائدة ونحن ننصرف أوراق مقال آخر أكثر كثافة وتعقيداعن: ‘الإيقاع الحيوى بين الحركة والسكون’ أشار إلى الأوراق وهو يمزح قائلا ‘شيل الكتاب اللى نسيته’. فهمت من تعليقه الرقيق هذا أنه يريد أن ينبهنى أن أميز الفرق بين كتابة المقال، وكتابة الكتاب.
ياه !! هذا الرجل..، .. ما أجمل هذا الرجل !!
لعل أفضل تهنئة يمكن أن نقدمها له فى عيد ميلاده هى أن يتشجع كل منا أن يخوض تجربة حياته برغم كل شيء. هذا هو السبيل الوحيد الذى يطمئنه أننا استوعبنا دروس تجربته. لعله يقلل من ‘قلقه على مصيرنا أكثر من أى وقت مضي’ (أخبار الأدب 8-12-2002).
لو أن كل من يحب هذا الرجل، وكلنا كذلك ، يزيد من عمله الجاد أكثر، ويسمح لوعيه أن يتسع أكثر، فيقترب من ناسه ثم كل الناس أكثر، ليتحمل مسئولية تجربة حياته أكثر، لكان هذا أعظم ما يمكن أن نقدمه لهذا الشيخ، الجميل، دائم الدهشة متدفق الحيوية شبابا وحبا وإبداعا.
لتطمئن ياشيخنا الجليل. مهما طال الزمن فسوف تنتصر الحياة ويزدهر العدل .إننا بفضل صبرك علينا، وعلى الزمان، وبفضل ما يزرعه فينا وجودك، وما يحركه إبداعك فى وعى كل الناس، قادرون على أن نرجح كفة العمران ضد الخراب، ونحارب من أجل العدل ضد الجبروت. ونستمر بالرغم من كل شيء. ودليلنا هو ‘أنت’ كما ‘أنت’، هكذا، ودائما. أطال الله عمرك.
نحن ندعو بذلك لأنفسنا وللناس أكثر مما ندعو به لك ، يا أيها الرجل الجميل.