نشرت فى جريدة الوطن
12/11/2000
ويل للمطففين
آن الأوان أن نبتعد عن أفغانستان قليلا، لنجد أنفسنا وقد اقتربنا منها جدا.
المسألة هذه الأيام. الكيل بمكيالين، وأحيانا. عدم المصداقية.
لماذا لا نسميها بالاسم الأصلى الأقرب إلى لغتنا ووعينا.
“إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الغنى تركوه، وإذا سرق فيهم الفقير أقاموا عليه الحد”. ويعلمنا القرآن الكريم أنه (ويل للمطففين* الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون* وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون*) صدق الله العظيم. ويعلمنا شاعرنا (كما ذكرت سابقا) أن. “قتل امرئ فى غابة جريمة لا تغتفر، وقتل شعب آمن مسألة فيها نظر”.
نحن نعرف الحكاية من قديم، كما نعرف أن النسئ زيادة فى الكفر، يحلونه عاما، ويحرمونه عاما، نعرف كل ذلك قبل أن يتبين العالم أن هناك عدة قراءات للظاهرة الواحدة، وعدة قوانين للجريمة الواحدة، وعدة أحكام للإثم الواحد.
نبدأ من بعيد ونحن نقترب من نبض الألم ورائحة الدماء الزكية تسيل فى نهر الاستشهاد والبطولة حول القدس الشريف.
نتأمل معا بعض ما هو معروف ومعاد، لكنها تذكرة.
أولا: زعموا أن الديقراطية الغربية هى الحل، وحين حاولنا أن نستوضح الأمر، قالوا لنا إن الديمقراطية هى حكم الأغلبية، وأن أى صوت فيها يساوى صوت الآخر، بلا تمييز: العجوز الذى يبلغ من العمر تسعين عاما له صوت مثل صوت تشومسكى والست هيلارى كلينتون، لها نفس حق التصويت بصوت واحد مثل الست ماريكا شخلع، وكدنا نصدق ونحاول أن نحشر ممارساتنا الموازية فى ألفاظهم الشائعة، ثم أخذوا يعايروننا أن من يخرج عن ديمقراطيتهم بالذات، هو ليس ديموقراطيا، ولا متحضرا، ولا إنسانا ولا أى حاجة. أغلبهم لم يكلف خاطره أن ينظر فيما وراء هذه الديمقراطية من صفقات تحتية، وتربيطات ثللية، ومنافع مافياويـة ومذلة أمام من بيده القمر الصناعى، والتلفاز المقتحم حجر النوم طول الوقت، والذى يدار غالبا بأيد خفيه تشوه الوعى العدل قبل أن توجه الصوت الانتخابى. قلنا نأخذ بالظاهر حتى نجد البديل، وحاضر وطيب، وطيب وحاضر.
نفاجأ بعد كل هذا “التعظيم سلام” بما يناقض كل ذلك تحت مسمى يقال له حق النقض (الفيتو) فى مجلس الأمن التابع لمؤسسة اسمها الأمم المتحدة. المفروض أن هذه المؤسسة، تمثل كل الناس، كل الدول. لكنها مع وجود هذا الحق لم تعد إلا مجرد “ديكور” أو منبر خطابة أو مندى لنكت فيدل كاسترو وأمثاله.
نشأ الفيتو هذا فى ظروف خاصة عقب الحرب العالمية الثانية، توقيا لآثار أى خلاف مع الناس الكبار يمكن أن يشعل حربا عالمية تأتى على الأغلبية والأقلية والأخضر واليابس قبل أن ينتهى عد الأصوات الديمقراطية جدا.
انتهت الحرب العالمية، واستمرأ أصحاب هذا الفيتو المرعى. مضى نصف قرن ولم يفكر أحد فى أن هذا الحق قد انتهى عمره الافتراضي، كما زالت أسباب تنزيله، وأنه مخالف لأبسط قواعد الديمقراطية التى يدعونها، ثم إنهم راحوا يستعملونه بدون حياء، لا لمنع حرب عالمية، وإنما لفرض الغطرسة واستعراض القوة وحماية المغتصب، من أول منع تجديد مدة سكرتير الأمم المتحدة لمجرد أنه قال كلمة حق فى مذبحة قانا، وأنه لم يقدم فروض الولاء والطاعة للمدللة الأولى إسرائيل الملطخة أنيابها ومخالبها بدماء الأبرياء. التهديد باستعمال حق النقض هذا أدى إلى رفض تكوين لجنة لتقصى الحقائق فى جرائم إسرائيل، مجرد تقصى الحقائق غير مسموح به، فما بالك بإعلان الاتهام أو بدء المحاكمة،
هل تريدون – بعد ذلك – من تلميذ فى رياض الأطفال فى بنجلاديش، أو راعى غنم فى أواسط أفريقيا، أن يصدق حديثكم عن الديمقراطية.
يا حضرات المطففين: إما أن تلغوا حق الفيتو هذا، وإما أن تؤجلوا الكلام عن الديمقرطية، أو على الأقل أن تترفقوا فى المعايرة بقلتها، يرحمنا و يرحمكم الله
ثانيا: زعمو أنه فى الدولة العصرية. لا مكان للدين فى السياسة ولا مكان للسياسة فى الدين. قلنا وجهة نظر، ثم رحنا نفكر. فعلى أى أساس رشقوا هذا الخنجر المسموم فى بؤرة وجودنا هكذا؟ كيف يتفق هذا الزعم مع تأسيس دولة حديثة على أساس أسطورى أقرب إلى الخرافة، وهو يلبس مسوح الدين عينى عينك؟ ثم رحنا نتابع كيف أن هذه الدولة الطفيلية يتوقف أداء حكوماتها المتتالية على رضا هذا الحاخام المبجل، أو على تمويل المدارس الدينية التى تعمق ما تتصوره كتاب الله بعد أن لعبوا فيه وزيفوه، سرا وعلانية، إلى أن تكف المدارس الدينية عندهم عن تلقين أطفالهم الكراهية والحقد والاحتقار لكل من هو على غير دينهم، إلا أن تتوقف الأحزاب الدينية عندهم عن المشاركة فى صنع القرار السياسي، بشكل مباشر أو غير مباشر، فلا مجال لمناقشة مسألة نفى علاقة الدين بالدولة أصلا أيها المطففون.
النموذج الثالث: زعموا أيضا، ثم أكدوا أن “الحرية هى الحل”، وراحوا يعلمونا أن الحرية غير الديمقراطية، هى أشمل وأصعب، ودون الدخول فى تفاصيل نظرية دعونا نسلم بزعمهم أن الحرية هى أن تقول ما تشاء وتفعل ما تشاء وتقتنى ما تشاء، وتعتقد ما تشاء، بشروط معينة، أفادهم الله. قلنا نستزيد.
(1) قالوا: حتى لا نتشاجر مع بعضنا البعض – فإن حرية كل منا تنتهى عند بداية حرية الآخر. بدا الكلام حلوا لا غبار عليه، فحريتنا – حسب كلامهم تنتهى عند بداية حريتهم، وحريتهم تنتهى عند بداية حريتنا، يا زين ما قالوه.
لكن الأسبق أقدر، والأقدر أسرع، فراح هو يمد حريته أولا، ونحن ننتظر إلى أن ينتهى لنعرف المدى الذى ستمتد فيه حريتنا، الله ينور عليه، لكنه لم يتوقف، يده كانت طويلة وظلت تطول أكثر فأكثر، ونحن ننتظر، وهى تطول، ونحن ننتظر، وهى تطول ونحن ننتظر. هو لم يكذب لكنه لم يتوقف. وهو لا يكف عن التلويح لنا أننا سوف نستعمل حريتنا جدا، و أنه لا بد أن يتوقف عندما يشعر أنه اصطدم بحريتنا، حسب القاعدة، ونحن ننتظر، فلا هو اصطدم ولا نحن بدأنا. وشربناها.
هذا نوع آخر من ألعاب المطففين: تضع قواعد اللعبة، وتعلن بأمانة أنها تسرى على اللاعبين جميعا، لكنك لا تضع قاعدة من الذى يبدأ اللعب، ولا متى يتوقف، أو لماذا، فتظل قواعد اللعبة يتحكم فيها من بدأ ولم يتوقف، ودمتم.
(2) فالوا أيضا: إن الحرية أن يقول كل واحد ما يشاء، وأن يعلن رأيه فى حديقة الهايدبارك، أوعبر الإنترنت، أو على ورق مطبوع عليه رقم إيداع، أو بدون رقم إيداع؟ وأخذوا يدللون على ذلك بما يمارس عندهم من إعلان احتجاجات، وقبول شذوذ عقائدى، وشذوذ سلوكى كما تشاء، حتى بلغت غاية الحرية الاعتراف بأديان جديدة وطقوس وصلت إلى حد الانتحار الجماعى كله حرية فى حرية، قلنا حلال عليهم
لكن حين تجرأ بعض الباحثين الثقات فبحث فى إمكان تعديل “بعض” تفاصيل مسألة وجود أفران هتلر المزعومة لليهود دون غيرهم، فعلها وهو يدعم بحثه بالوثائق والحجج وشهادة الشهود. فزعوا فزعا لا حدود له، وحاكموا، وصادروا، وهددوا بالقتل، ونددوا بالرأي، واتهموا كل من اقترب من هذه الخرافة بمحاولة التصحيح أو التوضيح، اتهموه بالتعصب والمعاداة للسامية والتخلف، وزيادة على كل ذلك بأنه لا يفهم فى الحرية. أباحوا إنكار الله ولم يسمحو بإنكار (أو تعديل صورة) الهولوكوست.
(3) قالوا لنا كذلك: إن الحرية لكى تصبح قيمة عظمى و مقدسة لا بد أن تبدأ من الطفولة، ولابد ألا يتدخل الأب أو الأم فى حرية أبنائهم أو بناتهم، فإذا فعل فليكن فى منتهى الرقة والدماثة وخلال الطفولة الباكرة فحسب، أما إذا بلغ الفتى أو الفتاة سن المراهقة فمن مبادئ الحرية أن يشرب ما يشاء، ويدخن ما يشاء، ويضرب (حقنا) كما يريد، وعلى الوالد أو الوالدة أن يقوما بنصحه من بعيد لبعيد، وبطريقة مهذبة جدا، ماذا وإلا نال الواحد منهما ما لا يحب، ذلك أنهم يعلمون الأطفال منذ سنى الحضانة كيف يستنجدون بالسلطة إذا تدخل أحد الوالدين فى حرية أى منهم.
يدخل الوالد على ابنته ذات السبعة عشر ربيعا فى بيته، وهو مازال ينفق عليها، فيجدها تمارس حريتها مع صديقها الحر، وليس عليه إلا أن يحترم حريتهما، فإذا تدخل كذا أو كذا من باب الاحتجاج أو الاعتراض، فإن من حقها أن تستدعى له البوليس، هذا فضلا عما يلحقه من تحقير باعتباره رجلا متخلفا وهمجيا وكلاما من هذا. حلال عليهم.
لكنهم ينصحوننا أن نحذو حذوهم حتى نكون متحضرين. مع أن أبناءنا لا يحرجوننا إلى هذه الدرجة و الحمد لله، فهم لا يعرضونا لهذا الاختبار الحرج.
ثم تقوم انتفاضة القدس، ويثور أطفالنا وشبابنا وشاباتنا يطلقون صيحة الكرامة، ويمدون أيديهم الطاهرة ترمى حجرا رمزا بسيطا لرفض الذل وإعلان الإباء.
بدلا من أن ينتبهوا إلى ما يرتكبون من جرائم يستعر منها الحيوان، راحوا يتكلمون عن “وقف العنف من الجانبين”، والتطفيف هنا يأتى من القياس غير المتكافئ، وبالمساواة بين أمور لا تصلح فيها المساواة: إذ راحوا يساوون بين إلقاء حصاة من نبلة، وبين إلقاء دانة من دبابة، وأيضا بين صرخة امرأة تضرع إلى الله أن “واقدساه” وبين قصف صاروخ من مروحية على عربة مدنية.
ثم تمادوا فى استعمال ألعاب اللغة للتضليل، فراحوا يتحدثون عن مائتى قتيل أغلبهم من الفلسطينيين، وهو تعبير يوحى بأنها حرب فيها ضحايا على الجانبين، مع أن أمانة العدل تقتضى تعديل الخبر إلى. “كلهم من الفلسطينيين المدنيين إلا أربعة أو خمسة إسرائيليين”.
وفيما يختص بالحديث عن المطففين فى مسألة الحرية، فإنهم راحوا يتهمون أهل شبابنا الساعى لاستعادة كرامته وكرامتنا، بأنهم لا يمنعون أولادهم وبناتهم من الخروج إلى الشوارع، ناسيين الدروس التى علمونا إياها و هم يمنعون الآباء والأمهات عندهم أن يتدخلوا فى حرية أبنائهم وبناتهم فى ممارسة الحب فى البيت، وفى ممارسة الشذوذ فى الشارع، وفى ممارسة السكر فى النوادى وغير النوادى، ثم يطلبون منا نحن، وهم يعطونا دروسا فى الحرية، أن نتدخل فى حرية أبنائنا لمنعهم من أن يشعروا بعزة الوجود، وحق العيش بما أكرمهم الله به من حياة، وهم يولدون من جديد وسط بحور الدم فى قدس الاستشهاد. ياه! ما كل هذا؟ (ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليوم عظيم).
وإلى أن يهديهم الله برحمته، أو ينتقم منهم على أيدينا بغضبه، علينا نحن، ألا نقبل الكيل بمكيالين، لأنه ظـلم بين، والله نهانا أن نظلم أو نظلم، فلم نعد نملك حتى أن نستسلم إذا ما أخلصنا الطاعة، وإلا فنحن شركاء فيما يلحق بنا.