نشرت فى جريدة الوطن
14/2/2001
… وما فيها حظ لمختار
كنت قد بدأت كتابة مقال هذا الأسبوع عن ”التراث الشعبى والوعى الشعبى” فى مقابل “العولمة والبرمجة”، وكانت الفكرة هى أننا لا يمكن -حتى لوأردنا- أن نستسلم هكذا ببساطة لهذا الطوفان من المعلومات البراقة والجاهزة التى تغمرنا من الأقمار الصناعية وشبكات الإرسال. إن الإنسان هو تاريخه، ليس تاريخه المكتوب، وليس التاريخ الذى مضى، لكنه تاريخه الذى تحمله خلاياه هنا والآن، وكذلك تاريخه الذى حفظه تراثه الشعبى، والذى يتجلى فى وعى الناس، كل الناس، قبل وبعد هذا الطوفان من المعلومات.
إن كان المتاح للإنسان الآن من معلومات عن طريق ما يسمى الشفافية والتواصلية يعد بالملايين، فإن ما يحمله من معلومات فى خلاياه، وخياله، ووعيه الجمعى، والفردى، يعد بالمليارات، ولا تفضيل لهذا على ذلك، لكن هويتنا هى نتاج تفاعل هذا بذاك، ولا يصح أن نهمل مليارات المعلومات الغائرة فينا لصالح الانبهار بالملايين الواصلة إلى ظاهر وعينا.
الساعة الرابعة صباح الأربعاء، الفجر لم يؤذن بعد، إذاعة لندن تسهر حتى الصباح لتخبرنا ما يعرفه مسبقا أى طفل فى السابعة دون حاجة إلى تغطية طول الليل، كل العالم يعرف خيبة باراك إلا هو، الراقص على السلم لا يفقد المشاهدين أعلى السلم وأسفله فحسب، ولكنه يفقد توازنه. المهم: سمعت خبر فوز شارون. الخبر حين يكون متوقعا جدا، يصبح ماسخا جدا، لكن هذا الخبر- تحصيل الحاصل- جاءنى وأنا فى رحاب التراث الشعبى والوعى الشعبى، فقفزت إلى وعيى عدة أمثال شعبية بمناسبة كتابتى عن أهمية التراث الشعبي. أهلنا سبقونا وقالوها ليشاركوننا المحن ونحن نكرر حكمتهم المركزة فى كلمات مخترقة فى جمل مختصرة، سمعتهم يقولون تعقيبا على الحدث: “مالـعن من سيدى إلا ستى”، وأيضا (بعد التحوير) “من “زفتة” لــ “طوبة” يا قلب ما تحزن”. لكن القلب يحزن ، ويتوجع ، ويتحسر. امتناع عرب 1948 عن التصويت كان طبيعيا، ماذا كان يمكن أن يفعله إخواننا العرب فى الناصرة - مثلا - وقد سجنوا فى جنسية لم يختاروها، ولا هم فخورون بها. قفزت إلى من التراث أبيات إجارة السموأل لمن لجأ إليه:
فقال ثكـل وغدر أنت بينهما فاختـر وما فيهما حظ لمختار فظل غير قليل ثم قال له أقتل أسيرك إنى مانع جارى على الرغم من القراءات اللاحقة والمشكـكة فى تفاصيل هذه الحادثة، فنحن نردد هذه الحكاية وهذه الأبيات فخورين بقيمنا العربية التليدة مثل إجارة المستجير. تقمصت الناخب العربى فى إسرائيل وهو يمتنع عن الذهاب للمشاركة فى هذا الاختيار الذى ليس له فيه خيار. هل هناك أى اختيار حين يكون التفضيل هو بين من قتلـــنى، ومن سيقتلنى، وجدتـنى أردد البيتين السابقين “بعد تحديثهما” كالتالى:
فقال: وغد ونذل أنت بينهما فاختر وما فيهما حظ لمختارفظل غير قليل ثم قال له: يكفى خداعا وإنى لازم دارى لزم العرب فى إسرائيل (ولا أقول العرب الإسرائليين) دورهم، أو هم ذهبوا إلى صناديق الانتخاب ووضعوا الورقة بيضاء تعلن سخطا صامتا حزينا، وماذا كان يمكن أن يفعلوا غير ذلك. لم يترك هؤلاء المتغطرسون أية فرصة لأى أحد أن يأمل فى أى منهم خيرا. الأمل الباقى لنا هو فى الله وفى أنفسنا ، فماذا نحن فاعلون.
ليس أمامنا إلا تجرع كأس الألـم حتى الثمالة، الإفاقة أصبحت فرض عين لا فرض كفاية، تسمية الأشياء بأسمائها هو بداية الجهاد الأكبر المتصل. ينبغى أن نسمى الهزيمة هزيمة، والاحتلال احتلالا، والطرد طردا، وهدم الدور إبادة، وتجويع الناس تطهيرا عرقيا. الهزيمة فى جولة من جولات الصراع ليست نهاية المطاف. الخدعة الكبرى ليست فى سرقة الأرض، وتدنيس المقدسات، هذه انتهاكات ظاهرة للعيان، هذا إجرام سافر. الخدعة الكبرى هى فى اللعب بالألفاظ والعقول والوقت تحت مسميات غامضة، خدعنا أنفسنا حين أسمينا الهزيمة نكسة، ونسمى احتلال الأرض: “مشكلة الشرق الأوسط”، ونسمى قتل أولادنا، وإذلال رجالنا، وتجويع أسرنا، “تهديد عملية السلام”، ونسمى زحفنا لاستجداء شبر من أرض، أو شكل دولة بلا سلاح ولا خارجية نسمى كل ذلك: “تحريك عملية السلام”، ثم نسمى إيهود باراك رجل السلام، ونتحدث عن الحمائم ولا نكتشف أن هذه الكلمة ربما اشتقت من “حمم جهنم”، لا من “حمامة السلام”!
بعد الحزن، والألم، والحسرة، نحمد الله على كل حال. إن الذى يصبرنا هو أن نتذكر الشهور الأربعة الأخيرة. كان باراك على قمة السلطة، يقتل أطفالنا، ويهدم منازلنا، ويجوع ناسنا. إنه لا يستأهل أن نأسف عليه ولا ثانية حتى لو كان خليفته هو الشيطان نفسه.
ماذا يمكن أن يفعل شارون أقذر من هذا أو أقسى، ليكن فى جعبته مزيد من الدم، فعندنا ما يكفى من الشهداء، إنها دعوة صريحة للجهاد بكل أشكاله. إننا ندخل امتحان الجهاد الأكبر، امتحان الانتصار للحق والحياة، إن أى واحد منا يفرط فى ثانية واحدة من وقته، أو يستسهل قيد أنملة فى أدائه، لا يمكن أن يرتفع إلى المسئولية التى لا بد أن تصلنا من انتخاب هذا الوحش المكشر عن أنيابه. لا أشك فى أن الجولة الأخيرة هى لصالحنا لو أحسنا الرؤية، وأتقنا الفعل، ومارسنا قبول التحدى الحضارى المستمر والمتجدد بالإبداع، والتحديث، والاختلاف الإيجابى، والمثابرة التى ليس لها نهاية.