نشرة “الإنسان والتطور”
الأربعاء : 11-5-2016
السنة التاسعة:
العدد: 3176
ولن أكف عن مراسَلَتِك حيثما كنت…(1)
علاقتى بمحمد شعلان هى علاقتنا بمصر، بالأرض، بالإنسان، به، بدأت وأنا معيد بكلية طب قصر العينى، وهو طبيب مقيم بقسم الطب النفسى، ثم استمرت حين رحل إلى أمريكا، فانتهزت فرصة وجودى فى فرنسا، وتراسلنا بانتظام يربطنا الحنين إلى بلدنا، وأداء الواجب، أو أداء الممكن، وكلما طالت مدته هناك زاد ارتباطه بمصر، فاقتربنا أكثر حين ابتعدنا.
هذا ما حكيته شعر منذ نيف وثلاثين عاما:
يَامَا قُـلْـنا ويامَا عِـدْنَا، ويَامَا أحْلامْنا خَـدتـْـنَا،
كـنّا بنخطط ونرسم، فى الرمال نِبْنى بيوتنا.
صاحبى سافرْ. خُـفـْنا نـِنْـسـَى،
قلنا نكتب حلم أيّـامنا اللى جايّةْ.
والكلام فوق الورق: بيخطــط الدنيا اللى هيّهْ.
حِلْمِنا بالعدل كان دايما شاغلنا،
والوَلاَيَا والغلابَا كانوا وصْلةْ حب بينّا.
كل خلق الله تـَـبَـَعْـنَـاَ.
نشترى حتى اللى باعْــنـَا.
والسّمــاحْ، …. والمِلاح،
والشهاداتْ، والنجاحْ.
كل ده، قال و”احنا بــره”،
يعنى: بالحِـلم المسرّة.
حين لاحت لى إرهاصات أن شعلان على وشك اتخاذ قرار هجرة دائمة، فزعتُ، ورفضتُ، وصارحتُه بذلك، وقد أعدت تفاصيل هذه المصارحة شعرًا فى نهاية هذا الديوان حين قلت:
يا طير يا طاير فى السما رايح بلاد الغُربْ ليه؟
إوعى يكون زهقك عماك، عن عصرنا، عن مصرنا،
تقعد تلف تلف كما نورس حزين،
حاتحط فين والوجد بيشدّك لفوق،!
إلفوق فَضَا، الفوق قَضَا..
وعاد شعلان حين سمحت له ظروفه بالعودة، و يبدو أننى تصورتُ أننى كنت أحد أسباب عودته، ولكن هذا كان مبالغة منى غالبا، فقد كان ارتباطه بناسنا، وطين أرضنا، أصيلا شديدا طول الوقت.
(2)
قلت له: دى بلدنــا أوْلى،
ناسْنـا واخْدينها مِقاوله.
صبْر، والشغلِ ”عَلاَوْلــَـه”.
حَنّ قلبه وجانى طاير،
بالبشاير.
بعد عودته استمرت المحاورات على مستويات متعددة، عملية، ومهنية، ومادية، وتجريبية، وإبداعية، لكن ظلت العلاقة الثنائية بينه وبينى محورية، وأساسية معظم الوقت، وكانت الأمور قد تكشفت عن مصائب السياسة، وتضليل الإعلام، وتشويه المهنة، وتمادى الظلم والاغتراب، لكن لم تتبين لنا سُـبلا عملية للإسهام فى التغيير العام، وإن كنا لم نكف، أو نتراجع عن المحاولات، فرادى، وأصدقاء،
(3)
قلنا يالله نغوص سوا فْ طين أرضنا،
واحدة واحدة نـِجْتِهِدْ على قدّنا.
وابتدينا من جديد،
حَطّ إيده ف إيدى، قلنا مش بعيد.
صاحبى راجع “حُرّ خالص”،
والكلام جاهز وهــــايص.
صاحبى لابس عـمّة خضره
بس يرطـن مالشمال، أقكار لِـبُكره،
مش على بالـُـه اللى جارِى،
فى الزوايَا، فى التُّرَب، ولا فى الحواري.
هّوه هوّه؟ ولا جانى حد تانى؟
قلت اجرّب،
قلت أقرّب،
ما لقيتوشْ. مالقيتْشى نفسِى،
قلت جوعِى بْيِعْمٍى حـسِّى.
ولم نيأس، وتواصلتْ محاولاتنا للقرب، وكان ينعتنى بكونفوشيوس فأرد: عندك يا “لاو تسو”:
بسْ برضُهْ فْضِلـت ادَوَّرْ،
قلت أبص ف عينُه أكترْ:
وبدأت المسافات تتسع، لم ننتبه بدرجة كافية، أو فى الوقت المناسب أن علينا أن نكف عن الأمل فى إبداع أنفسنا والناس بالكلمات والنوايا الحسنة.
حاولنا باقترابنا من بعضنا البعض، ومعنا بعض الأصدقاء أن يكون عائد ذلك رِيًّا لبذورنا ولبذور البشر الجافة من حولنا، الجاهزة للإنبات لو وصلها تواصلنا بهم إليهم، أعتقد أن الأمل كان يتجسد فى هذا الاتجاه كلما التقينا أو حاولنا، أو هكذا كنت أحلم:
مش يمكن نشرب شفطة حب بدال الجوع ما يغَرّقنا؟
مِش يمكن شوفْنا لْــنَاسْـنا يفوّقنَا؟
واستمرت المحاولة بلا كلل أو ملل، وباضطراد متدرج، مع محاولة مزيد من الرؤية، ما أمكن ذلك، حتى لا نهرب من بعضنا البعض إذا زادت الجرعة، لكن يبدو أن الإحباط كان يظهر ويلح، لكن ظللت أحاول، وهو يحاول، حتى تباعدت المسافات دون أن نتباعد، ورحت أتهم نفسى أكثر من أن ألومه :
قلت أشوفُه، ماظْــْـلموشْ،
دُخْـت تدويرْ، مالْقيتوشْ،
قالُوا جوُه،.. لسـَّهْ حبَّــهْ
قلت أدخلْ، حـبّة حـبّة
(5)
مش يمكن كان نِفسى أرمى حِملى عليهْ؟
مش يمكن جوعى صوّر لى حاجات مش فيهْ؟
مش أحسن أبص على اللى بيجرالى من جوّهْ؟
مش يمكن يطلع كل ده :”أنا” مش “هوّه”..
مع السلامة يا محمد،
ولن أكف عن مراسلتك حيثما كنت.
(1) نشر الحوار بجريدة مبتدا قبل الخبر، الخميس: 5-5-2016