نشرت فى الاهرام
19-9-2005
… ولادة “مواطن”!
أهم رقم فى النتائج المعلنة هو إعلان نسبة الحضور 23%. هذا أول دليل على وعى المسؤولين بالواقع واعترافهم به (حتى لو كان اعترافاً نسبياً). المسألة ليست فى أن النسبة هبطت من حوالى 50% يوم الاستفتاء على المادة 76 إلى 23% يوم انتخاب رئيس الدولة من بين عدد من المرشحين، هذا الهبوط – فى رأيي- غير حقيقى، ذلك أننى، ومن خلال استطلاع الرأى العشوائى (الذى هو من حق أى مواطن له فرصة الاحتكاك بأنواع مختلفة من الناس) لاحظت أن الحرص على انتخاب رئيس الدولة، كان أكبر بكثير من الحرص على الموافقة على تعديل الدستور، إذن ماذا؟ أتصور أن القائمين على أمر الانتخابات بدأوا ينتبهون إلى أن ذكر الحقائق عارية هو أكثر فائدة لهم، وللناس، فكانوا أقرب إلى الحقيقة على أرض الواقع يوم انتخاب الرئيس عنهم يوم الاستفتاء على الدستور.
الرسالة التى وصلت للناس من خلال هذا الرقم بالذات (نسبة الحضور)، وأيضا من خلال النتائج الطبيعية (لا الهزيلة ولا المتواضعة) التى نالها اغلب المرشحين الآخرين (عدا الثانى والثالث) قد جعلت الناس يشعرون أن الجد جد، والهزل هزل، وأن المحاولة يمكن أن تستمر.
الطريق طويل، ولا داعى لتكرار حكاية طريق الألف ميل الذى يبدأ بخطوة، فالخطوات الأولى قد لا تعنى ما شاع عنها، وهى ليست بها أى ضمان لأى استمرار. أحيانا تتكرر الخطوات الأولى بشكل واعد، وكأن لها ما يليها، لكنها قد تظل دائما أبداً هى الخطوات الأولى، ليست بالضرورة سيرا فى المحل، وإنما تذبذبا فى الحركة البادئة ذهابا وجيئة، إلى ما لا نهاية.
قال لى شاب (عمره عشرون عاما) ذهب للانتخاب لأول مرة، قال لى أنه شعر أنه “مواطن” وأنه لم يكن يعرف معنى هذه الكلمة، ولا هو ذاق هذا الشعور من قبل. كلمة “مواطن” هذه لا تصنعها الأغانى الوطنية (المصريين اهمّة) ولا تصنعها دروس مقررات التربية القومية، ولا تصنعها الخدمات الحزبوطنية الشخصية، وإنما هى تتخلق فى وعى الأصغر فالأكبر من خلال قيمتين أساسيتين: الأولى: ممارسة العدل الذى يؤكد أن الجميع أمام القانون سواء، بما يشمل احترام حق الفرد أن يكون إنسانا يعامل نفس المعاملة التى يعامل بها إنسان آخر ولد معه على نفس الأرض، وحمل نفس صفة زميله المواطن الذى يحملها (ناهيك عن صفة الإنسان). الثانية: من خلال فرص المشاركة فى الرأى، ومِن ثَمَّ فى المسئولية، الأمر الذى يبدأ باحترام وتعميق معنى الانتخاب (هذا المعنى الأخير وصل إلى الشاب الذى أحدثكم عنه تلقائيا).
ليتحقق بعض ذلك: كم سنة نحن نحتاجها حتى تصبح هاتين القيمتين فعلاً يوميا راسخاً يمارس علانية وباستمرار، حتى يترسخ فى داخل وعى المواطنين ومن سن مبكرة إلى نهاية العمر؟ كم امتحان على الطالب أن يمر به منذ المرحلة الابتدائية حتى التخرج من الجامعة، ولا يجد فيه أن الغش هو القاعدة، وأنه متاح للبعض أحيانا، وللكل أحيانا… إلخ؟؟ كم تعيين فى وظيفة ينبغى أن يتم أمام عين الشباب، له أو لغيره، يلاحظ من خلاله أنه ليس فيه محسوبية، أو قل: أقل القليل منها؟ كم انتخاب حقيقى نزيه، على الناس أن يمارسونه وهم يشعرون أنهم مواطنون محترمون فخورون بالورقة التى يضعونها داخل الصناديق ليغيروا بها أحوالهم؟.
يمكن أن يكون الرد على هذه الأسئلة بعدد كبير جدا من السنين يجعل اليأس يتسرب إلى نفوسنا.
ولكن: هل يوجد سبيل آخر.
الزمن ضرورى، والممارسة الفعلية حتمية، والتفاؤل مسئولية، والخطوات الأولى ملتبسة ما لم نحسبها بشكل صحيح، ونتابعها بمسئولية متجددة.
هذا قدرنا، وعلينا أن نحمله ونمضى إلى مصيرنا الرائع.