نبذة: عن تدريب الأطباء والدور الوقائى للوزارة الصحة وتعرية ألعاب شركات الدواء ونقد العلاج على نفقة الدولة.
الأهرام: 25-3-2002
وزارة الصحة: خدمات أم إنتاج ؟
بمناسبة التجديد الذى حدث فى وزارة الصحة يجدد السؤال الماضى بما إذا كانت هذه الوزارة هى وزارة للخدمات أو الاإنتاج، وفيما منتقدم بملاحظات نرجون أن تكون موقع دراسة أواهتمام السيد الوزير:
أولا : نذكر الوزير، وأنفسنا، أن صحة المواطن هى رأس مال الوطن. وبالتالى فإن وزارة الصحة هى من وزارات الإنتاج أكثر منها للخدمات، هذا أمر يجعل العناية بالصحة استثمارا يحتاج إلى تعديل موقفنا من ثروتنا البشرية وكيفية الانتفاع بها.
إن ثروة مصر الحقيقية هى فى ناسها من أول العامل البسيط الذى يسافر إلى الخارج ويعمل ضعف العمل (16 ساعة يوميا) ليرسل لأهله ما يعولهم، ولمصر ما يعينها من عملة صعبة، حتى المواطن العالم الذى تتاح له فرصة فى الداخل، وأكثر فى الخارج، فيتفجر إبداعه ليضيف لنا ما يتناسب مع التعريف الأرقى للصحة المتكاملة. يضيف ما يحسن به أداءنا، ويوجه اقتصادنا، ويعمر أرضنا، ويرفع رأسنا.
إن التعريف الذى أقرته منظمة الصحة العالمية يشير فى مجمل معناه إلى أن الصحة ‘.. ليست هى انتفاء المرض، واختفاء الأعراض’، وإنما الصحة الإيجابية هى تكامل الأداء وإطلاق القدرات نفسيا واجتماعيا وبدنيا.
ثانيا: إن اعتبار المواطن الصحيح هو الوحدة الأساسية المنتجة يجعل مهمة وزارة الصحة الأساسية هى الوقاية قبل العلاج. رغم أن هذه بديهية قديمة إلا أن ما طرأ على الحياة المعاصرة من عوامل إمراضية جديدة مثل التلوث، والاغتراب : تلوث البيئة وتلوث الوعي، واغتراب العمل، واغتراب الانتماء، كل ذلك يجعل مهمة الوقاية غير قاصرة على التطعيم، والإرشاد الصحى وتنظيم الأسرة، وإنما هى تمتد إلى التعامل مع كل العوامل الإمراضية الأحدث من أول سحابة الدخان حتى نقاء مياه الشرب مرورا بحوادث الطرق حتى نصل إلى الإسهام فى أن يكون لحياة المواطن ‘هدف ذو معني’. إن الحياة بلا هدف أو معنى هى بمثابة إهدار لطاقة الفطرة السليمة، وهذا ضد الصحة.
ثالثا: إن الأمراض النفسية – رغم تخصصى فيها – ليست أهم الأمراض، وإن كانت من أهم الأمراض. لكن الخطر والخطأ أن نتعامل مع الأمراض النفسية كمبرر لتفسير السلبيات على طول الخط، أو أن يكون الاهتمام بها دافعا للتخلص من المشاعر الضرورية المؤلمة الحافزة لمواجهة الحياة الصعبة. إن الرقم الذى أورده الأستاذ صلاح قبضايا فى كلمته من أن عدد المكتئبين فى مصر قد تخطى ثلاثة ملايين ونصف مكتئبا يحتاج قراءة صحيحة قبل أن نندفع للتركيز على معلومة إجمالية تحتاج للمراجعة.
رابعا : إن فضل وزراء الصحة الواحد تلو الآخر على العناية بالصحة النفسية بالذات هو فضل لا يـنكر. لم يقصر واحد منهم. لا بد أن نعترف بذلك دون أى ربط مع ظروف ذهاب أو بقاء أى منهم. إن التركيز على سلبيات الذين ذهبوا – ونحن لا نعرف تفاصيلها – ليس عدلا إذا تم على حساب إنكار الإيجابيات. إنه من أول ما ثارت مشكلة احتمال إزالة مستشفى العباسية للأمراض النفسية أيام الأستاذ الدكتور على عبد الفتاح، حتى تمام تجديدها وتطويرها فى عهد الأستاذ الدكتور إسماعيل سلام، والصحة النفسية تنال حظها و’زيادة’. بل إن هذه الزيادة قد بلغت حدا مرفوضا فعلا. ذلك أنه -ربما من باب التعويض- قد تم الاهتمام بفخامة مبنى مستشفى العباسية مثلا (لدرجة توفير التكييف المركزى !! لمرضى ليس فى منازلهم مروحة عادية، هذا إن خرجوا أصلا إلى منازل تؤيهم أو إلى أهل يحتملونهم !!) حتى فخامة الواجهات الرخامية، ومتطلبات الفندقة الترفيهية الأخري. لا شك أن كل هذا هو من باب احترام المريض النفسى مهما بلغت حالته. لكن ذلك لم يمش موازيا للاهتمام الأهم بالتأكيد على أمور أنفع جدوي، وأكثر وفرا، وفى نفس الوقت أعمق وأبقى فاعلية مثل (1)التدريب الحقيقى لهيئة المعالجين وليس للأطباء فقط (2) تحديد نظام لخروج المريض قبل دخوله، أو لحظة دخوله، حتى لا تستحيل المستشفيات النفسية بعد عدة شهور إلى مخازن للبشر الذين تزداد إعاقتهم بإزمان إقامتهم، مهما تعاطوا من عقاقير (باهظة الثمن عادة). (3) التأهيل الحقيقى للمرضي، ليس بتزجية الوقت فيما يسمى العلاج بالعمل، ولكن بإعدادهم لاستعادة إنتاجيتهم الفعلية والإبداعية والاجتماعية….إلخ
هذه مجرد عينة تنبه إلى أن المسألة ليست مجرد زيادة فى ‘أعداد’ الأطباء و’مبانى المستشفيات الفائقة الرفاهية’، ولكنها فى تغيير مفهوم الصحة والتأهيل، لإحياء معنى للحياة فى الفرد والمجتمع، فيتخلق موقف نابع من ثقافتنا المتميزة، لاستعادة إنتاجية الإنسان المريض مع تحقيق راحته فى نفس الوقت.
أما الاهتمام بإزالة الاكتئاب والقلق بالمعنى الذى تروج له شركات الدواء، تخديرا، أو ينصح به مدرس طيب، أو صحفى نابه، أو واعظ ورع شفقة وتصبيرا، فهذه جهود تحتاج إلى ‘دراسة جدوي’، حتى لا تكون المسألة فى النهاية ‘ترويجا للتبلد’ مهما حسنت النوايا.
خامسا: إنها فرصة لوزير الصحة الجديد أن يعيد النظر فى مسألة ‘العلاج على نفقة الدولة’ فى مقابل الاهتمام بـ ‘العلاج المجاني’. وهما ليسا مترادفين . ‘العلاج المجاني’ كان هو الأصل ‘لجماعة المواطنين’ فى المستشفيات العامة للدولة سواء مستشفيات وزارة الصحة أو المستشفيات الجامعية. أما العلاج على حساب الدولة فهو إجراء لعدد محدود من الأفراد فى نهاية النهاية، حتى لو بلغ عدد هؤلاء الأفراد عدة آلاف، فهو موقف فردى استثنائي، يحظى به فى الخارج -غالبا وليس دائما- كل الواصلين والموعودين، ويحظى به فى الداخل أغلب المتصلين ذوى الواسطة وبعض الصابرين
وأخيرا: فإن من أصعب ظروف تعيينكم يا سيادة الوزير، ما تمر بها مصر (مثل سائر الدول النامية) من تهديدات لصناعة الدواء الوطنية. شركات الدواء يا سيادة الوزير، وأنت سيد العارفين، هى ‘اللوبي’ (قوة الضغط) السياسى الثانى فى أمريكا، (كادت تصبح اللوبى السياسى الأول لولا هيجة الحروب الأخيرة التى احتفظت لشركات السلاح بالمحل الأول) . إن الأدوية المحلية، وحتى الأدوية العالمية التقليدية الرخيصة تختفى لصالح الأغلى (مئات الأضعاف) دون أن يكون الدواء الأغلى هو الأكثر نفعا. إن شركات الدواء تمثل الآن أعتى القوى الاحتكارية المندمجة فيما يسمى الشركات العابرة للقارات تحت شعار العولمة وما شابه.
إننى على يقين -يا سيادة الوزير – أنك ستجد سبيلا لحل هذه المشكلة، ليس فقط فى مجال الطب النفسي، وإنما فى كل فروع الطب. إن مبدأ عدم زيادة سعر الأدوية الذى تضطر الوزارة أن تلتزم به طول الوقت يبدو وكأنه رحمة بالمرضى (مثل مبدأ عدم زيادة الإيجارات القديمة) لكن النيتجة العملية ليست فيها نفع للمرضى أصلا ( ولا للسكان الجدد ولا لأصحاب المساكن القديمة) . إن قرارا شجاعا بتحريك أسعار الأدوية القديمة النافعة جدا، ولو عدة أضعاف، ولو بأسماء تجارية جديدة سوف ينقذ ملايين المرضى الذين لا يجدون العلاج المجانى فى المستشفيات الحكومية أصلا، ولا يستطيعون شراء الأدوية الحديثة.
وفقكم الله – سيادة الوزير- وحفظ لمصر ثروتها البشرية، صحيحة، منتجة، مبدعة، صابرة.