نشرت فى الدستور
29-11-2006
ت ع ت ع ة
وبرغم الأسئلة التآمرية….،(قصة)
(1)
نظرت إلى السمكة وهى ترقص رقصة الموت معلقة فى طرف السنارة، ولم تبتسم، ولا هى أسِفت على الساعات التى قضتها تحاول الصيد بأقل قدر من المهارة. الهواء الذى يداعب شعرها يعاتبها على أمرٍ لا تدريه، قالت له تدافع عن نفسها: “إنها غير مذنبة، وأن المسألة ليست شخصية أبدا”. تماوجت خصلات شعرها أكثر مع هبات الريح المتزايدة حتى بدت الخصلات كأنها انتهزت الفرصة لتفر من فروة رأسها، وتفضحها. أرادت – ربما من باب التكفير – أن تعيد السمكة إلى رحم الماء الذى بدا متلهفا على استرجاعها، راحت تتابع رقصة السمكة وهى تتلوى فى يأسٍ صاخب.
كانت ما زالت أبعد عن الفرحة بصيدها. هى أقرب إلى الاحتجاج، وأعجز عن الفعل: لماذا يقتلون الأطفال فى بيت حانون؟ لماذا تستعمل الولايات الزفت حق الفيتو ضد لوم إسرائيل؟ لماذا يجمع ديك تشينى مزيدا من المال بمزيد من التجويع والدماء، وقلبه لا يحتمل نصف كعكة من التى تصنعها أمه، أو خسارة فى أهله؟ لماذا لا يتعلم رؤساؤنا من مهاتير محمد مع أنه أنجز ما لم ينجزوه، ولن ينجزوه؟ ولماذا يورطون أبناءهم فيما لم يختاروه منذ البداية، وغالبا هم لا يعرفون عنه شيئا؟ أليس من المحتمل أن يكتشفوا أن أطيب سنين حياتهم لم تكن على الكرسى؟ ألا تستحق المسألة التجربة؟
(2)
أحسّت بلمسة على كتفها فالتفت فإذا بالصغيرة تتمسح بها هامسة بأمرٍ ما، قالت لها “حالا يا حبيبتى، حين نرجع البيت سوف أشوى لك هذه السمكة الجميلة، تأكلين أصابعك وراءها”، نظرت البنت إلى فراغ السنارة وتعجبت، فأسرعت البنت بالتصحيح بأنها قالت لها “أنا خائفة”، وليس “أنا جائعة”، انزعجت الصيادة ولم تقل للبنت: وأنا أيضا خائفة يا حبيبتى، مثلك وأكثر. استمرت البنت لتعلن أنها تريد العودة للبيت لتلعب مع عرائسها، فهى تطمئن معها أكثر من اطمئنانها الآن وقد انصرف الجميع كلٌّ إلى صيده، حتى لو لم يصطد شيئا، دون أن يلتفت أحد إليها.
(3)
قالت لنفسها: إن البنت معها حق، أما هى، فهى تريد أن تركن إلى صدر عريض يحتويها بقوة حنون، تريد أن تضع رأسها على كتفه، ليس تماما، تريد أن يغوص رأسها الصغير فى ذلك المنخفض الخفيف أسفل كتفه الأيسر، تريد أن يلمس خدها شعيرات صدره الكثيفة الرمادية التى تسارع بالشيب الجميل قبل شعر رأسه. فجأة ، عادت تقفز إليها الأسئلة الخبيثة ذات الإجابات التآمرية” :
لماذا سرقوا منها الحلم؟ لماذا تخاف أن تتكلم فى الهاتف عن العدل؟ لماذا خان جورباتشوف العهد؟ ما الذى أخذه يلتسن معه؟ أيهما أقوى:عائلة روتشيلد أم عائلة روكفلر؟ من الذى فجر مركز التجارة العالمى؟ وكيف حصل بوتين على الحزام الأسود؟ اليمينيون يفدون إلى القاهرة كل صيف يعالجون من أمراض السياسة، والكذب، والقبليّة، والتخلف، والرئاسة، فأين يذهب المصريون للعلاج؟ ولماذا تحتج على صديقتها اللعوب وهى تحكى لها عن ذلك الخليجى البدين الذى تستجيب لدعوته ليلة بعد ليلة، وهى مطممئة لأنه عنين؟ مع أنها ليست منهن؟ ولماذا تحرص على صداقتها ما دامت تواصل الاعتراض على تصرفاتها هكذا؟ والألعن أنها تحرص على سماع تفاصيل الحكايات كلما التقتا؟
(4)
تذكرتْ كيف طالعها وجهه فى قناة الجزيرة مثل رأس البرص الذى طاردته خالتها حتى السقف إلى أن نجحت فى اقتناصه بفردة شبشبها البلاستيك. كانت فى الرابعة وكانت راجعة من الحضانة، رأت خالتها شديدة القسوة حتى خافت أن يكون مصيرها “هكذا” على يديها، اختلف الأمر الآن وهى تشاهد رأس البرص وهو يعلن حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها، لا بد أن خالتها كانت على حق، أخيرا فهمت السياسة الخارجية التى تحل غموض أحداث الطفولة أحسن من التحليل النفسى، فماله بالسياسة ذلك “البنى آدم” الذى يفهم البشر من حوله وكأنه يقرأ كتابا مفتوحا، حتى إذا كتبَ فى السياسة بدا متخلفا عقليا؟
(5)
نظرت إلى سنارتها وفوجئت أنها خالية من السمكة التى كانت ترقص رقصة الموت منذ قليل. هل نجحت السمكة أن تتخلص من السنارة المحكمة وتقفز إلى الماء أثناء غفوتها؟ هل لم يكن هناك سمكة أصلا مثلما ألمحت البنت الصغيرة؟ هل هى على الشاطئ حقا أم هى فى حجرة نومها؟
متى يأتى من يعترف بجمالها الخاص جدا، ويكون أهلا لصحبتها بقية عمرها؟ يأتى فتراه هى أيضا “كما هو”، فيصنعان معا، مع كل الناس، عبر الإنترنت وغيره، غدا ليس كمثله شىء، بل حاضرا “الآن”، حاضرا ماثلا يعجز أى وصف أن يحيط به.