نشرت فى الدستور
13-12-2006
والله العظيم البنت معها حق !
(1)
قالت البنت لأبيها وهى تغلق الكراسة أمامها : “أنا لم أعد أفهم ما يريدونه منا بالضبط!!” ، تعجب الأب ورفع حاجبيه فى دهشة نصف نصف. مضت البنت، التى لم تتجاوز الثامنة، تكمل وكأنها لا تخاطبه “أنا لم أعد أفهم ماذا يريدونه لنا بالضبط!!، “رفع أبوها حاجبيه هذه المرة فى دهشة كاملة، وقال وكأنه يصيح: “ماذا تقولين يا بنت انت؟ من هم الذين يريدون منكم أو لكم؟ ما هذا الكلام الفارغ؟”، ثم أردف: “أرينى هذه الكراسة التى أغلقتِيها حالا، لابد أن بها ما أفسدك“، قال ذلك وهو يتقدم نحوها وكأنه يقفز، لم تنزعج البنت، بل وتقدمت تناوله الكراسة وهى تبتسم ابتسامة غامضة لابد أن يكتشف المدقـِّق حول زاوية فمها اليمنى أنها مزيج من الشفقة والحب والسخرية، لا يمكن أن تضبِط جرعة مزجهم إلا امرأة مجرّبة حول الأربعين. اختطف أبوها الكراسة وهو متأكد أنه سيجد فيها ما يطفئ دهشته، هزت البنت رأسها ببطء ومازالت نفس الابتسامة تتراقص حول فمها، لكن عينيها كانت تلمع ببريق تحفـُّزٍ ولد شقى يهم بتوجيه ضربة جزاءٍ ترجيحيةْ.
(2)
أخذ أبوها يقلب أوراق الكراسة وهو يبحث عما أفسد ابنته هكذا، ما هذا؟ الكراسة غير مسطرة، ولا هى حتى “صفحة، وصفحة”، الكراسة ورقها أبيض ناصع، لم يمسسه قلم، أغلقها لينظر ماذا على الغلاف فلم يجد أى اسم، أو علامة، أو تاريخ، قلّبها ثانية وكاد يقذف بها بعيدا كأن بها ما يمكن أن يلدغه، لكنه تراجع وتماسك، وأخفى خوفا لم تلحظه ابنته كما أنه بدوره لم يلحظ ابتسامة البنت التى تراجعت، وتغيرت واتسعت إلى ضحكة واسعة لشابة تخطت العشرين لتوها، شابة مليئة بالحيوية، والحب، والرغبة، والدفء، والطيبة، والإيمان، والجنس، لم يهدأ غضب الأب وإن نجح أن يخفى دهشته تحت بطانة سترته وهو يتقدم، ليسأل بهدوء : “كراسة رسم هذه يا حبيبتى؟” هزت البنت رأسها يميناً وشمالاً فوصلته إجابتها بالنفى، فأكمل. “إذن، كراسة ماذا؟”، قالت البنت ومازالت ضحكة الشابة الحيوية تملأ وجهها “هى كراستى“، قال أبوها: أعرف طبعا أنها كراستك، لكنى أسألك إن لم تكن كراسة رسم، فماذا تكون وصفحاتها كلها بيضاء هكذا“؟ قررت البنت أن تسحبه إلى ناحية أخرى وهى واثقة أنه لن يعترض:” كم الساعة يا أبى؟ أريد أن أنام ” قال وكأنه تخلص من كابوس ثقيل: “الحادية عشرة، ما الذى سهّـرك إلى هذا الوقت، هيا يا حبيبتى لتستيقظى مبكرا لتذهبى إلى مدرستك “، قالت البنت وهى تنصرف: “حاضر، تصبح على خير” ولم يسمعها وهى تتمتم ذاهبة إلى حجرة النوم “أذهب أفعل ماذا يا أبى؟ أنت لاتعرف الجارى”
(3)
أمسك الأب بالكراسة الخالية، وأخذ يقلب أوراقها البيضاء بهدوء، فى صفحتى الوسط، فوجئ بكلام مكتوب، بخط رِقْعَة فاقع السواد، فرح باحتمال حل اللغز. الكلام عن دورة حياة كائن لم تتحدد معالمه، بهدوء متسحِّب تشكلت من الحروف الرِّقعة السوداء صورة ظلت تتكثف حتى اتضحت، الرأس صغير تبرق من جانبيه عينان زجاجيتان ذكيتان بلا عواطف، لماذا إذن يصفونه بالغباء؟ يبدو أنه لم ينقرض، ثم ما هذا الذى يحيط بجسده من كل جانب هكذا؟ يبدو أنها حشرات زاحفة، لكنها غير متميزة أيضا. حل به يقين أنها حشرات سامة، وأن هذا هو السبب أن الحيوان يبدو بلا حراك، مشلول أو ميت، لا فـرق، قال لنفسه وهو ينظر إلى حجرة النوم: “وتقول أنها ليست كراسة رسم!!”.
(4)
عاد ينظر إلى الصفحتين المتقابلين وفزع حين انتبه إلى أن الدينصور يتحرك فى اتجاهه، وكأنه أفاق من سبات طال مليون عاما، لم يصدق، وألقى بالكراسة بعيدا، فأوقعت كوبا كان على المائدة، فانكسر، لم يلملمْ الزجاج، ولم يخَفْ أن تجرح شظايا الزجاج أحد المارة الحفاة. ارتد فجأة هاجِما على التليفزيون يستنقــذ به فاستجاب من لمسة واحدة. تصلب أمامه ونسى كل شىء، وظل يتنقل بين محطاته : روتانا موسيقى، روتانا كليب، روتانا زمان، “إقرأ”، دريم2، ART، CIA، KGB، FBI ، M16 ، MBC ، روتانا طرب ، ثم إلى الفضائية المصرية. أيها المخابرات وأيها الفضائيات؟
(5)
رفع رأسه ونظر حوله فدهش أن ضوء النهار يملأ الحجرة، التفت بسرعة إلى ساعة الحائط، يا خبر!!، الثامنة إلا ثلثا!!. قفز متجها إلى حجرة نوم البنت ليتأكد أنها ذهبت إلى المدرسة، وجدها مازالت تغـط فى نوم عميق. راح يتأملها طويلا، ثم مال على جبهتها بهدوء وقبـّلها خفيفا حفيفا، بحيث لايوقظها، ثم انصرف على أطراف أصابعه وهو يتمتم :
“معها حق، ……….. والله العظيم معها حق”